المبادرات والتحركات الدولية المطروحة وسبل التعاطي معها

بقلم ممدوح نوفل في 12/11/2001

تحدث الرئيس بوش في الأمم المتحدة وخارجها عن حل للنزاع يتمخض عن قيام دولة فلسطينية، تتعايش مع دولة إسرائيل ضمن حدود آمنة ومعترف بها، فهم أن رسمها يتم طبقا لقرارات الأمم المتحدة. وحث الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي العودة إلى طاولة المفاوضات. واجمع أقطاب الاتحاد الأوروبي الذين اجتمعوا في لندن يوم 4/11/2001على ان المفاوضات هي السبيل الوحيد لحل النزاع العربي الإسرائيلي “وان قيام دولة فلسطينية في أقصر وقت ممكن ضرورة ملحة” لاستقرار أوضاع الشرق الوسط ، وأكدوا أهمية “ضمان أمن إسرائيل وان تكون الدولة الفلسطينية مسالمة وقابلة للحياة وذات سيادة”.
وقبل هذا الكلام الأمريكي الأوروبي عن الدولة الفلسطينية، طلبت الإدارة الأمريكية من جميع أطراف النزاع العربي الإسرائيلي عدم التشويش على توجهاتها لمحاربة الإرهاب الذي هاجمها في عقر دارها يوم 11 أيلول/ سبتمبر2001، وأصابها في الصميم ودمر مقر البنتاغون ومركز التجارة العالمية. وأوحى الرئيس بوش وعدد من أركان إدارته لعدد من الزعماء العرب والعالم أنهم بصدد تنشيط دور الإدارة في رعاية عملية السلام وتحريكها. وطلب من عرفات رفع وتيرة عمله لمكافحة الإرهاب، ومن شارون سحب قواته من أحياء المدن الفلسطينية التي احتلتها بعد اغتيال رحبعام زئيفي في 17/10/2001.
الى ذلك تباين أهل المنطقة في قراءة هذا التحول في السياسة الأمريكية وفي التفاعل معه. بعض أطراف النظام السياسي العربي وضمنه تيار مؤثر في السلطة الفلسطينية يرى فيه مؤشرا لحركة دولية قوية الإدارة الأمريكية نحو حل شامل للنزاع العربي الإسرائيلي خلال فترة قصيرة، وتجريد الإرهابيين الإسلاميين من سلاحهم الرئيسي. وبعد زيارة رئيس الحكومة البريطانية توني بلير قطاع غزة تصور أنصار هذا الرأي ان هناك مبادرة أمريكية أوروبية تقوم على فرض حل دولي للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي. واعتبروا نقد بوش علنا مواقف شارون ومطالبة إسرائيل سحب قواتها من المدن الفلسطينية مؤشرا على ذلك. ويعتقدون ان تمرد شارون على إرادة الإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي وتأجيل زيارته لواشنطون وبريطانيا يزيد الرئيس بوش وزعماء الاتحاد الأوروبي تصميما على المضي قدما في توجهاتهم. وفي غمرة التفاؤل دعا رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني “ابوعلاء” إلى استثمار هذا التحول بسرعة والإعلان عن قيام دولة فلسطينية على الأرض التي احتلت عام 1967وعاصمتها القدس.
ويدعو أصحاب هذا الرأي إلى التجاوب مع الموقف الأمريكي ـ الأوروبي وعدم الإنجرار وراء استفزازات شارون وأركان المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. ومواصلة الالتزام بوقف إطلاق النار من جانب واحد بشكل صارم ومنع أي طرف او مجموعة فلسطينية من القيام بعمليات عسكرية ضد أهداف مدنية داخل إسرائيل. ومعاقبة كل من يخالف قرار القيادة بهذا الشأن حتى لو أدى الأمر إلى التضحية بالوحدة الوطنية التي صنعتها الانتفاضة، وبالانتفاضة ذاتها خاصة أنها تحولت، من وجهة نظرهم، إلى نمط من العقاب الذاتي.
وبالمقابل، سخفت القوى الوطنية والإسلامية في بيانها الصادر يوم 4/11/2001، الحديث عن تحوّل في السياسة الأمريكية. واعتبرت حديث الرئيس الأمريكي بوش حول قيام دولة فلسطينية “ذر للرماد في عيون العرب وبعض الفلسطينيين لخدمة أهداف تشكيل التحالف ضد ما يسمونه الإرهاب”. وأكدت “قيادة الانتفاضة”، وضمنها حركة “فتح” وحزب “فدا” المشاركين في السلطة، على انه “لا يجوز ان نخدع أنفسنا ونحن نشاهد الانحياز الأمريكي السافر لإسرائيل، وتجاهل اعتبار أمريكا بعض القوى الفلسطينية منظمات إرهابية”. ولفتت نظر الجميع إلى معارضة إدارة بوش إرسال قوات مراقبين دوليين إلى الأراضي الفلسطينية. ودعت السلطة إلى التمسك بموقف حازم و”إعلان التعبئة العامة لمقاومة الاحتلال”.
لا شك في أن تباين أطراف النظام السياسي الفلسطيني في تقييم طبيعة المرحلة، بعد زلزال 11 أيلول/ سبتمبر وتحديد أشكال النضال الملائمة، أمرا طبيعيا. خاصة ان المرحلة الجديدة شديدة التعقيد ولا تزال في طور التشكل والتكوين. ولا أحد يعرف بالضبط الخطوة الأمريكية التالية على هزيمة “الطالبان”، وكيف ستترجم إدارة الرئيس بوش تصنيفها عددا من الفصائل والأحزاب الفلسطينية والعربية تحت بند منظمات إرهابية يجب تجفيف مصادرها المالية.
وأعتقد ان المبالغة والتطير في قراءة التحول الذي طرأ على السياسة الأمريكية، والسياسة البريطانية الملحقة بها، يلحق أضرارا واسعة بالمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني ويقود إلى رسم توجهات سياسية خيالية. والشيء ذاته ينطبق على الموقف الفلسطيني الذي يرفض فهم المرحلة الجديدة التي دخلتها العلاقات الدولية بعد زلزال 11أيلول/سبتمبر.
صحيح ان حديث الرئيس بوش عن السلام في الشرق الأوسط وقيام دولة فلسطينية موجه بالأساس للإعلام لتضليل الرأي العام العربي والإسلامي، وليس لحكومة شارون للالتزام به وتنفيذه. خصوصا انه لم يقرن بآلية عمل تحوله إلى سياسة ملموسة وجدول زمني ملزم، وخلى من أي ترتيبات عملية تختبر المواقف. لكن الصحيح أيضا ان موقف السلطة المرحب بالحديث الأمريكي الأوروبي عن الدولة الفلسطينية، وإصرارها على حل شامل لإنهاء النزاع ومطالبة البعض بإعلان الدولة فورا، لا يحل الإشكال السياسي الكبير الذي تواجهه الحركة الفلسطينية منذ 11 أيلول/ سبتمبر وحتى الآن. والشيء ذاته ينطبق على موقف القوى الوطنية والإسلامية “قيادة الانتفاضة” المشكك بالنوايا الأمريكية والداعي لاستمرار الانتفاضة والمقاومة حتى جلاء الاحتلال. فاعلان قيام الدولة من جانب واحد يعقد العلاقة الفلسطينية الأمريكية المعقدة أصلا، ولا أحد يضمن اعتراف الدول الأوروبية، بها أو حصولها على اعتراف ذات العدد الذي اعترف بها عند إعلانها أول مرة في العام 1988في الجزائر. وأظن أن عدم اعتراف أمريكا وأوروبا بها يفقد الإعلان الجديد قيمته، خصوصا ان الإعلان الجديد لن يحدث أي تغيير الوضع على الأرض أو في حياة الناس بدون اعتراف إسرائيل بها. ولا أفق لوصول قوات دولية تفصل بين الدولتين وتمكن الفلسطينيين ممارسة سيادتهم على الأرض.
إلى ذلك، يخطئ من يعتقد ان الإدارة الأمريكية والدول الأوروبية مستعدة للدخول في صدام مباشر حكومة شارون، وإلزامه بحل شامل وعادل لقضايا القدس واللاجئين والاستيطان والحدود. لقد حمل توني بلير إلى واشنطن بعد لقاء لندن تصورا أوروبيا لمبادرة مشتركة تعيد الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى طاولة المفاوضات، وتساعدهما في تسوية النزاع وحل هذه القضايا المعقدة، لكن بلير وزعماء الدول الأوروبية فوجئوا بإصرار بوش وأركان إدارته على التفرد برعاية عملية السلام على المسار الفلسطيني الإسرائيلي والمسارات الأخرى. ناهيك عن رفض حكومة شارون علنا قيام الاتحاد الأوروبي بدور رئيسي في حل النزاع.
ويمكن الجزم بان رفض القيادة الفلسطينية الدخول مجددا في البحث في حلول انتقالية مرحلية، يعني بقاء الوضع الفلسطيني على ما هو عليه حتى نهاية عهد شارون وخروج حزب الليكود من السلطة. وهذا الأمر قد يستغرق بضع سنوات، حسب تقدير شمعون بيريز وأركان حزب العمل. خاصة أن حزب العمل ممزق، ويبدو انه لن يتخلص من آثار الهزيمة التي ألحقها به باراك في الانتخابات الأخيرة قبل الذهاب إلى الانتخابات الجديدة في عام 2003. ولا جدال في أن الأخذ بوجهة نظر القوى الوطنية والإسلامية كما جاء في بيان 4/11/2001، يلحق أضرارا واسعة بالمصالح الوطنية، وخصوصا انه لا يصلح لاشتقاق مهام عمل في الحقل السياسي. وإذا كان البعض يخشى وقوع الفلسطينيين في فخ عملية احتيال ونصب سياسي إسرائيلية أمريكية، فان تسخيف التحركات الدولية والدعوة للتصادم مع الإدارة الأمريكية، في وقت يحاول الجميع تجنب شرها، يزيد في عذاب الناس في الضفة والقطاع.
أعتقد ان حماية المصالح العليا للشعب الفلسطيني بعد زلزال11 أيلول/ سبتمبر، يتطلب حنكة سياسية ومرونة سياسية تستند الى صلابة مبدئية. والتعامل بواقعية مع الوضع الدولي الجديد الذي نشا، والتعاطي إيجابا مع التحركات الدولية، وطرح مبادرة سياسية فلسطينية جديدة . تتجاوز الحديث العام عن الالتزام بعملية السلام والتمسك بالثوابت الوطنية، وإدانة الإرهاب الذي يستهدف المدنيين ويسعى لتحقيق أهدافه بالقوة. وان تتضمن تصورا متكاملا لحل نهائي متدرج للنزاع في إطار جدول زمني مترابط. صحيح ان لا أفق لتحقيق تقدم جدي في حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي في عهد شارون، وان المبادرات والأفكار الأمريكية المطروحة وهمية، إلا أن الصحيح أيضا أن طرح هكذا مبادرة يساهم في انتزاع زمام المبادرة من الثنائي بيريز شارون، ويجعل التصور الفلسطيني، لا الإسرائيلي، موضع بحث ونقاش في حقل السياسة الدولية، ويوفر للأصدقاء والأشقاء العرب أداة ملموسة تساعدهم في تحركهم في هذا الحقل لنصرة الموقف الفلسطيني.
وبجانب هذه المبادرة أعتقد ان هناك حاجة ملحة لإعادة ترتيب أوضاع “البيت الفلسطيني”. وإعادة تقييم حالة الانتفاضة وتفاعلاتها في الحقلين الداخلي والخارجي. وتأمل، بعين موضوعية واقعية، طبيعة الوحدة الوطنية التي صنعتها، خصوصا ان هذه الوحدة ظلت شكلية ولا تقوم على أسس سياسية واضحة. والناس في الضفة والقطاع يجمعون على ان الانتفاضة كحركة شعبية لم تعد موجودة، وحل محلها أشكال من العمل العسكري بعضه ألحق أذى بمصالحهم. وفي كل الأحوال يمكن اعتبار قيام بعض الأطراف الفلسطينية بإعمال تؤدي إلى فرض توجهاتها على الآخرين أمرا غير مقبولا، ويتنافى مع ابسط قواعد الديمقراطية، خصوصا إذا أدت إلى توريط الأغلبية بمواقف لا تنسجم مع قناعاتهم. وليس من حق أي فصيل او مجموعة القيام بعمليات عسكرية تستهدف مدنيين إسرائيليين داخل إسرائيل، وتسهل وصم النضال الفلسطيني المشروع بالإرهاب. وتظهر المناضلين الفلسطينيين وكأنهم ناس معقدون “إنتحاريون” يائسون يقتلون من أجل القتل.