محادثات طابا وفرص السلام الضائعة

بقلم ممدوح نوفل في 25/08/2001

على أمل استعادة ثقة بعض العرب وأنصار السلام من الإسرائيليين، وافق باراك، على مضض، على استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين في ظل الانتفاضة “استمرار العنف الفلسطيني”. وتكرست قاعدة جديدة للمفاوضات، تم المزج فيها بين إجراء المفاوضات داخل الغرف واستمرار المواجهات في الشوارع “الانتفاضة” في آن واحد. وكان واضحا للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي انهما سيتوجهان إلى طابا لاستكمال مفاوضات كامب ديفيد، وان “أفكار” الرئيس كلينتون ستكون نقطة الانطلاق. في حينه، أدلى رئيس الأركان الإسرائيلي “شاؤول موفاز” برأيه في أفكار الرئيس كلينتون، وانتقدها يوم 10/1/2001(19) أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست. واعتبرها حسب أقواله “تلحق الضرر بالقدرة على توفير الأمن والدفاع عن الجبهة الداخلية الإستراتيجية لإسرائيل”. وطالب موفاز بإجراء تغييرات في أفكار كلينتون، تضمن؛ تغيير نطاق المنطقة التي ستنقل للفلسطينيين، وإيجاد مناطق عازلة يمنع فيها تحرك جنود فلسطينيين مسلحين. وتأمين سيطرة كاملة لإسرائيل على المعابر الخارجية بهدف المراقبة ومنع إدخال وسائل قتالية إلى داخل الدولة الفلسطينية. وقال موفاز : من الملائم أن تظل “الأغوار” بكامل مساحتها تحت السيادة الإسرائيلية. وأبدى تحفظا على عدم تضمين مقترحات كلينتون مسألة محاربة الإرهاب الفلسطيني. واقترح التدرج في الجدول الزمني وأن يصار إلى إطالة فترة تنفيذ الاتفاق الذي سيتم التوصل إليه. وان يمنح الأمريكان دورا قياديا في القوة المتعددة الجنسية المقترحة. وأن يؤخذ بالحسبان كل الدروس المستخلصة منذ بدء الانتفاضة، مثل عدم إحباط السلطة الفلسطينية للهجمات الإرهابية وغياب التعاون الأمني…
أما شارون زعيم تكتل اليمين فقد أدلى، في تلك الفترة، بحديث بصحفي اعتبر عدم احتلال مدينتي نابلس وأريحا مجددا تنازلا مؤلما. وقال ؛ “اتفاق أوسلو لم يعد قائما. كانت القاعدة هي أنه منذ توقيع هذا الاتفاق ستحل كل الخلافات حول مائدة المفاوضات لا بواسطة العنف. ومنذ بداية العنف يدير باراك مفاوضات تحت النيران”. وأضاف: ” وبصورة هي الأوضح إن اتفاق أوسلو مات ولم يعد قائما”. وبشان التنازلات الإسرائيلية قال؛ “عندما أتحدث عن تنازلات مؤلمة فإنني أقصد بذلك عدم احتلال نابلس وأريحا وسواهما من جديد. هذا في نظري تنازل مؤلم جد، لأن كل هذه الأماكن هي مهد ميلاد الشعب اليهودي، وأنا لا أعرف شعبا في العالم تنازل عن كنوزه التاريخية إلا إذا هزم في الحرب ونحن لم نهزم بل انتصرنا”.
إلى ذلك، رفضت السلطة الفلسطينية فكرة إبرام إعلان مبادئ بدلا من اتفاق وضع دائم واضح وشامل. وصدر يوم 10/1/2001، بيان رسمي حول الموضوع جاء فيه(20)؛ ” في الأسابيع الأخيرة ترددت اقتراحات تدعو الفلسطينيين وإسرائيل إلى تحويل جهودهما نحو إعلان عام للمبادئ والأطر العريضة التي سيبنى عليها اتفاق مفصل مستقبلا. إن الحقوق التي يسعى الشعب الفلسطيني إلى ضمانها.. بالإضافة إلى تجربتنا السابقة، تضطرنا إلى رفض هذه الصيغة.. إن المطلوب في هذه المرحلة المتقدمة من العملية السلمية هو تطبيق قرارات الأمم المتحدة، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال اتفاق تفصيلي يفرض التزامات واضحة على الأطراف ويضع الآليات لتطبيق الالتزامات”.
وأصدرت حركة الجهاد الإسلامي بيانا يوم 7/1/2001، (21) انتقدت فيه اللقاءات الفلسطينية الإسرائيلية وركزت نقدها على اللقاءات الأمنية. وقال البيان؛ ” إننا نطالب الاخوة في السلطة بوقف هذه الاجتماعات ووقف كل أشكال المفاوضات مع العدو وعدم الاستجابة للتهديدات والضغوط الأمريكية الصهيونية”. وبرغم هذه المواقف مضى ابوعمار نحو عقد الاجتماعات في طابا.
بعد التشاور استقر الرأي على أن يترأس ابومازن وبيريز الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي، ونشأ إشكال داخل حزب العمل حول الموضوع، واعتبره شلومو بن عامي مساسا بقدراته وتعديا على صلاحياته كوزير للخارجية. إلا أن اعتذار ابو مازن عن ترأس الوفد الفلسطيني، بسبب اعتبارات خاصة، حل هذا الإشكال. وترأس “احمد قريع” ابو علاء رئيس المجلس التشريعي، الوفد الفلسطيني. وضم الوفد أقطاب لجنة المفاوضات ياسر عبد ربه وصائب عريقات ونبيل شعث ومحمد دحلان، رافقهم طاقم واسع من الخبراء في شتى المجالات، وعدد من المستشارين القانونيين. وترأس شلومو بن عامي الوفد الإسرائيلي وضم الوفد؛ يوسي ساريد والجنرال شاحاك والوزير يوسي بيلين والمحامي جلعاد شير، وكان الأخير أقواهم باعتباره الممثل الشخصي لباراك، ولم يتردد في القول انه المخول. واحتفظت القيادة المصرية بدور المسهل للمفاوضات، ولم ترسل وفدا على مستوى عال. وخلقت تركيبة الوفد الإسرائيلي أجواء تفاؤلية في صفوف الوفد الفلسطيني، إذ لم يجتمع يوما في جولات المفاوضات السابقة، في إطار وفد واحد، مثل هذا العدد القيادي النوعي من رموز السلام في إسرائيل.
وفي يوم سفر الوفد الإسرائيلي إلى طابا، تعمد باراك إطلاق تصريحات متشددة كرر فيها لاءاته الشهيرة، التي أطلقها قبل قمة كامب ديفيد، وفهمها الجانب الفلسطيني إنها موجه بالأساس للناخب الإسرائيلي، ولا علاقة لها بتوجيهاته للوفد المفاوض.
إلى ذلك، شنت المعارضة الإسرائيلية اليمينية، في تلك الفترة، حملة قوية ضد باراك، وضد التنازلات التي ينوي تقدينها للفلسطينيين. واتهمته بخرق الأعراف والتقاليد البرلمانية في إسرائيل، وشككت في شرعية مفاوضات طابا، باعتبار حكومة باراك لا تملك تفويضا من الكنيست، وتقوم بمهمة تصريف الأعمال وليس اكثر بعد تحديد موعد الانتخابات. وتدخل رجال القضاء والقانون الإسرائيليون لحل هذا الإشكال، واصدروا فتاوى خلاصتها؛ التمييز بين صلاحيات الحكومة بإجراء المفاوضات وبين التوصل إلى الاتفاق وتوقيعه. وأكد القانونيون إن أي اتفاق توقعه حكومة باراك ليس ملزما للحكومة الجديدة التي تفرزها الانتخابات القادمة، إلا إذا طرح الاتفاق على الكنيست الحالية أو على الجمهور ونال موافقة أغلبية أحدهما.
وفي سياق رده على الحملة واتهامات مرشح اليمين “شارون”، تراجع باراك عن مواقفه بشأن تسوية قضايا الحل النهائي كما طرحت في كامب ديفيد، وبخاصة مسألتي السيادة الفلسطينية على القدس العربية ومنطقة الحرم القدسي الشريف، وإخلاء معظم المستوطنات في الضفة والقطاع. وعاد باراك وتمسك بالسيادة الإسرائيلية على ساحات المسجد الأقصى “جبل الهيكل”، وتحدث عن إخلاء بعض المستوطنات المعزولة فقط.. واستشهد بواحدة صغيرة معزولة في منطقة جنين شمال الضفة. في حينه، تعامل الوفد الفلسطيني مع تصريحات باراك مرة أخرى على أنها دعاية انتخابية، ومطروحة من باب الاحتياط في حل فشل المفاوضات. خصوصا وان الاتصالات التمهيدية بين الطرفين بينت استعداد الجانب الإسرائيلي المضي قدما، والتقدم أكثر من الشوط الذي قطعه في قمة كآب ديفيد. ولاحقا بينت مجريات المفاوضات في طابا، وأطروحة الوفد الإسرائيلي المفاوض، موقفا مختلفة عن أطروحة باراك في وسائل الإعلام.
في منتجع طابا عقد الوفدان الفلسطيني والإسرائيلي جولة ماراثونية من المفاوضات استمرت أسبوعا كاملا، عقدوا خلاله سلسلة طويلة من المباحثات الثنائية. ومنذ البداية، وقبل دخول الطرفين صلب المواضيع المطروحة على جدول الأعمال، تعمد الوفد الإسرائيلي، وبخاصة رئيسه شلومو بن عامي، إشاعة أجواء متفائلة جدا. في حينه، تعامل بعض أعضاء الوفد الفلسطيني مع تصريحات بن عامي، المتفائلة، على أنها تعبير رغبة في التوصل الى اتفاق، آخرون قدروا إنها استمرار في الدعاية الإعلامية، لكنها موجه، هذه المرة، بالأساس إلى الناخب الإسرائيلي المحبذ الوصول إلى السلام مع الفلسطينيين بأسرع وقت ممكن.
وأظهرت مناقشات الجولة الأولى في طابا، ومفاوضات أخرى سرية جرت في قناة موازية، أن ما طرحه الرئيس كلينتون في قمة كامب ديفيد بشان الدولة والأرض واللاجئين والاستيطان والحدود كان موافق عليه إسرائيليا. ووافق الجانب الإسرائيلي في طابا، حسب رواية أعضاء الوفد الفلسطيني، على الانطلاق في بحث موضوع الأرض من حدود 1967. وأبدى استعداده للانسحاب من نسبة تصل إلى اكثر من 97% من الأراضي الفلسطينية التي احتلت في العام 1967، وضمنها منطقة الغور بالكامل وضمنها شريط البحر الميت. وان يتم تعويض الجانب الفلسطيني بأراضي، من أرض إسرائيل بحدودها في العام 1967، تعادل من حيث المساحة والقيمة ال 3% التي ترغب إسرائيل بتجميع المستوطنين فيها وضمها إليها. وفهم الجانب الفلسطيني، حسب رواية “د نبيل شعث” أن مساحة الدولة الفلسطينية سوف تكون، بعد التبادل، أكبر من مساحة الضفة وقطاع غزة في العام 1967، باعتبار قيمة الأرضي الفلسطينية “في الضفة” المقترح ضمها لإسرائيل تفوق قيمة الأرض الإسرائيلية المقترحة كتعويض، خصوصا الواقعة شرق “حالوتسا” وشمال قطاع غزة. ووافق الجانب الإسرائيلي في طابا، أيضا، على أن تقام على الأرض التي سيتم الانسحاب منها دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، ولها حدود رسمية وواضحة تماما مع دولة إسرائيل، وان تضم المساحة المعوضة للدولة الفلسطينية. وان يكون لهذه الدولة، بحدودها ومساحتها الجديدتين، سيطرة كاملة على معابرها الدولية مع كل من الأردن ومصر.
ووافق الوفد الإسرائيلي من حيث المبدأ، حسب رواية أعضاء في الوفد الفلسطيني، على إخلاء قرابة120ـ 125 مستوطنة تشمل؛ جميع مستوطنات قطاع غزة دون استثناء، وجميع مستوطنات الأغوار الفلسطينية، وجميع المستوطنات المحيطة بمدينة نابلس، والواقعة بينها وبين مدينة رام الله، وضمنها مستوطنات كبيرة مثل مستوطنة “بيت ايل” الكبيرة التي تتواجد فيها مؤسسات الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية. وإخلاء أيضا مستوطنة “كريات أربع” المجاورة لمدينة الخليل والبؤرة الاستيطانية القائمة داخلها، وكذلك مستوطنة “قدوميم” القائمة بين نابلس وقلقيلية، مقر قيادة الإدارة المدنية لشمال الضفة الغربية. إضافة إلى عدد آخر من المستوطنات الصغيرة ومتوسطة الحجم. وأصر الوفد الإسرائيلي في طابا على تجميع المستوطنين في ثلاث تجمعات استيطانية رئيسية هي: تجمع غوش عتصيون بين مدينتي بيت لحم والخليل ويفصلهما عن بعضهما البعض. وتجمع مستوطنات أرائيل القائم جنوب غرب مدينة نابلس وبين مدينتي قلقيلية وسلفيت. ومستوطنة أرائيل ذاتها وهي مدينة كبيرة يزيد عدد سكانها عن 20 ألف، تفصل منطقة رام اللة عن منطقة نابلس، وتعزل تماما منطقتي قلقيلية وسلفيت بعضها عن بعض، وتفصلهما عن باقي المحافظات الفلسطينية الأخرى. وتمسك الجانب الإسرائيلي أيضا بالاحتفاظ بمجموع المستوطنات المحيطة بمدينة القدس الشرقية وداخلها. وأصر على الاحتفاظ بمستوطنة “مدينة” معاليه أدوميم التي يزيد عدد سكانها عن 20 ألف نسمة وتشرف على البحر الميت. وضم هذه المستوطنة الكبيرة لإسرائيل وربطها بمدينة القدس يعني فصل جنوب الضفة الغربية، “محافظتي بيت لحم والخليل” عن وسطها “رام الله والبيرة وقراهما”، وعن شمالها ” نابلس جنين طولكرم قلقيلية سلفيت طوباس”. وأصر الوفد الإسرائيلي أيضا على ضم مستوطنة “جبعات زئيف” التي تفصل مدينة القدس وضواحيها عن مدينتي رام الله والبيرة من جهة الغرب، وتفصل هاتين المدينتين عن عدد كبير من القرى الواقعة غربهما، وتفصلهما أيضا عن منطقة اللطرون كاملة.
وأبدى الجانب الإسرائيلي استعدادا أوليا لتعويض الفلسطينيين ومبادلتهم مساحة أرض تقارب مساحة التجمعات الاستيطانية الثلاث، وان تنطلق العملية الحسابية من احتساب مساحة الضفة وقطاع غزة بحدودهما قبل احتلالهما في حرب حزيران من العام 1967. وتمسك الجانب الإسرائيلي بمحطات الإنذار المبكر التي وردت في “أفكار كلينتون”.
وبشأن وضع مدينة القدس اقترح الجانب الإسرائيلي ان تبقى المدينة بشقيها الشرقي والغربي مدينة مفتوحة، وأن لا تقام أسوار وحواجز بين القسمين. ووافق على أن تكون “القدس الشرقية” عاصمة للدولة الفلسطينية، وان تخضع جميع الأحياء العربية داخل وخارج أسوار البلدة القديمة وضمنها منطقة الحرم القدسي الشريف إلى السيادة الفلسطينية الكاملة. وأصر على ترتيبات تحفظ لإسرائيل سيادة على الأحياء الاستيطانية المبعثرة داخل أحياء القدس العربية، داخل السور وخارجه. وان يمنح حق الإشراف بصيغة ما على ما تحت الحرم بما لا يمس السيادة الفلسطينية على الحرم وساحات، ويضمن عدم القيام بحفريات تحته. وتمسك الوفد الإسرائيلي بسيادة إسرائيلية على الحوض المقدس وضمنه المقبرة اليهودية الواقعة خارج أسوار المدينة القديمة وعلى أجزاء صغيرة من حي الأرمن داخلها، بدعوى ملكيتها وتداخلها مع الحي اليهودي .
أما بشأن اللاجئين؛ فقد اعتمد الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي أساس للمفاوضات، ما ورد في “ورقة الأفكار الأمريكية” التي قدمها الرئيس كلينتون للمفاوضين من الطرفين في آخر لقاء عقدوه. وقام يوسي بيلين في لقاءاته الثنائية مع الوزير نبيل شعث بتوضيح مفهوم إسرائيل “للأفكار الأمريكية” حول اللاجئين وفصلها أكثر، ووافق على أن ينص الاتفاق حول اللاجئين الفلسطينيين على اعتراف إسرائيل بحقهم بالعودة إلى “ارض فلسطين التاريخية”، شرط أن يكون مفهوما أنها لا تشمل أرض إسرائيل في حدود العام 1967. وتقتصر عودتهم على المناطق الخمسة التي حددتها ورقة كلينتون “الأفكار الأمريكية” وهي ؛ 1) أراضي الدولة الفلسطينية “الضفة وقطاع غزة”. 2) أراضي إسرائيلية تنقل إلى دولة فلسطين ضمن تبادل الأراضي، ويقام لهم فيها مساكن “مدن”. 3) الدول المضيفة للاجئين في الوقت الراهن. 4) توطين من يرغم منهم في دول أخرى يتم نقلهم إليها. 5) عودة بضع آلاف منهم إلى إسرائيل في إطار لم الشمل وبنود إنسانية أخرى، ونقل عن بيلين إمكانية استيعاب 70ـ100ألف لاجئ في عشر سنوات. وان يضع هذا الحل حدا نهائيا، اي إنهاء”، جميع مطالب اللاجئين، واعتباره ترجمة نهائية لقرار الأمم المتحدة رقم 194المتعلق بعودة اللاجئين وتعويضهم.
ورفض الجانب الإسرائيلي اقتراح رئيس الجانب الفلسطيني نبيل شعث إدراج عائدات “صندوق أملاك الغائب” وفوائده البنكية خلال نصف قرن ضمن مستحقات اللاجئين بالتعويض، باعتبارها عائدات ناتجة عن استثمار أملاك اللاجئين أرضا وعقارات. وادعى بأنها أنفقت بقرارات حكومية وظفت في نقل واستيعاب المهاجرين اليهود من الدول العربية وسواها. وكرر يوسي بيلين اقتراح الرئيس كلينتون في قمة الكامب “ورقة الأفكار الأمريكية” تشكيل صندوق دولي لتعويض اللاجئين الفلسطينيين تساهم فيه إسرائيل بسخاء ومسئولية، أسوة بالدول الغنية الأخرى. ووافق الوفد الإسرائيلي على وجود قوات دولية تشرف على تنفيذ الاتفاق الذي يتم التوصل إليه بين الطرفين، وان تقوم بمهمة الفصل بين الدولة الفلسطينية ووكلا من دولة إسرائيل والأردن ومصر، على أن تمنح هذه القوات صلاحيات محدودة يتفق عليها، تتعلق بمراقبة المعابر ومنع تهريب السلاح..الخ
بعد هذا الشوط المثمر من المفاوضات توجه الوفدان الفلسطيني والإسرائيلي في عطلة نهاية الأسبوع “السبت” للتشاور مع قياداتهم في غزة وتل أبيب، حيث يصر الإسرائيليون اليهود على توقف العمل وضمنه المفاوضات في هذا اليوم “شبات شلوم”. وحمل كلا منهما إستخلاصاته التي دونها في محاضره الخاصة، وحمل معها مجموعة الأسئلة التي طرحها الطرف الآخر على طاول المفاوضات.
بعد عودة الوفد الفلسطيني من طابا إلى غزة قدم ابو علاء تقريرا إجماليا إلى أبوعمار، وقدم باقي أعضاء الوفد الأساسيين تقاريرهم المتعلقة بمجالات التفاوض التي تخصصوا بها. إلى ذلك دعا ابو عمار القيادة الفلسطينية إلى اجتماع عاجل للاستماع للوفد. وفيه تصرف كل عضو في الوفد كوفد شبه مستقل عن الآخر، واتسمت تقاريرهم بالتفاؤل والإيجابية. ووافق ابوعمار على عودة الوفد بذات التركيبة إلى طابا لاستكمال المفاوضات. وشدد على بذل محاولة للتوصل إلى اتفاق نهائي كامل وشامل، وإذا تعذر ذلك لسبب وآخر، أ‏ن يتم صياغة محضر رسمي “ملخص موسع” يوقعه الطرفان، يتضمن تلخيص ما تم التوصل إليه في وثيقة رسمية واعتمادها بمثابة اتفاق رسمي. وبالرغم من أجواء التفاؤل التي أشاعها الوفدان الإسرائيلي والفلسطيني بعد الجولة الأولى من مفاوضاتهم، ظل ابو عمار يشكك في إمكانية التوصل إلى اتفاق، مستندا إلى مجريات القناة السرية الموازية. لاسيما انه كان يعتبر مجريات المفاوضات في هذه القناة أدق في تحديد الموقف الإسرائيلي، وتحديد موقف باراك النهائي، خاصة وأنها تجري برعاية شخصية من باراك ابوعمار.
وكما استمع ابوعمار إلى وفده استمع باراك إلى تقارير وفده، وكرر باراك، بعد ذلك، علنا تمسكه بوحدة مدينة القدس كعاصمة أبدية لإسرائيل وبالسيادة على منطقة الحرم “جبل الهيكل”. ورفض باراك عودة اللاجئين إلى إسرائيل بأية صيغة كانت، وعاد وتحدث عن القدس بشقيها مدينة موحدة وعاصمة إسرائيل كخط احمر. وكان مفهوم أعضاء الوفد الفلسطيني تصريحات باراك العلنية بأنه يخاطب بالأساس للجمهور الإسرائيلي المتطرف والمتدين قبل التوجه إلى صناديق الانتخابات أقل من عشرة أيام.
وبعد أقل من 36 ساعة عاد الوفدان الفلسطيني والإسرائيلي بذات التركيبة لاستكمال مفاوضاتهما. وتبين للوفد الفلسطيني في أول جلسة أن الوفد الإسرائيلي لا يحمل إجابات على الأسئلة الفلسطينية التي طرحت في الجولة الأولى. وفي المقابلات الصحفية تغيرت لهجة رئيس الوفد الإسرائيلي “بن عامي” المتفائلة وبدا أكثر تحفظا من قبل، وأشار في أحاديثه العلنية إلى صعوبة التوصل إلى اتفاق حول كافة القضايا خلال أقل من أسبوع. وتحدث عن ضرورة استكمال ما تم إنجازه بعد الانتخابات. وكان حديثه موجه أيضا للناخب الإسرائيلي بأمل إعادة انتخاب باراك رئيسا للوزراء ومنحه فرصة استكمال حل القضايا القليلة التي لم ينجز حلها. وأسر يوسي سريد، واكثر من عضو في الوفد الإسرائيلي، لعدد من أعضاء الوفد الفلسطيني، ان تعليمات باراك للوفد تتمثل في استكمال المباحثات مدة أقل من أسبوع وتأجيل صياغة الاتفاق إلى ما بعد ظهور نتائجها.
حاول الجانب الفلسطيني توثيق مواقف الطرفين في وثيقة رسمية، وصياغة نصوص نهائية أو شبة نهائية للقضايا التي تم الاتفاق عليها في كل المجالات، وتجميع القضايا المختلف حولها وتوقيعها من قبل الجانبين. لكن الجانب الإسرائيلي رفض الاقتراح الفلسطيني بناء على توجيهات باراك، وأصر على الخروج من محادثات طابا من دون اتفاق ومن دون ملخص معتمد. ولم يتم من ناحية رسمية وملزمة تحديد النقطة التي توقفت عندها هذه المفاوضات، في كل قضية من قضايا الحل النهائي، باستثناء ما سجله كل طرف في ملفاته الخاصة، خصوصا وان الجانب الإسرائيلي لم يقدم للجانب الفلسطيني وثائق رسمية.
واتفق الطرفان، بناء على طلب الوفد الإسرائيلي، على إنهاء المفاوضات بمؤتمر صحفي مشترك، وان يعودا، بعد الانتخابات مباشرة، لاستكمال ما لم ينجز، إذا فاز باراك في الانتخابات. وقبيل المؤتمر الصحفي بساعات أشاع بعض أعضاء الوفد الفلسطيني أجواء متفائلة، بلغت حد قول ياسر عبد ربه، أحد أعضائه الأساسيين، للصحفيين انتظروا مفاجئة كبيرة سارة. وانشغلت أوساط سياسية فلسطينية رسمية وصحفية كثيرة في ذلك التصريح وحاول الجميع معرفة طبيعة المفاجئة، وانتظر جميع المراقبون المفاجئة لكنها لم تقع.
في يوم 28/1/2001 عقد رئيسا الوفدين ابوعلاء وشلومو بن عامي مؤتمرا صحفيا بحضور كامل أعضاء الوفدين(22)، وحرصا على إظهار تفاؤلا كبيرا دون الدخول في التفاصيل. وتلا كلا منهما تصريحا مقتض لم يتضمن مواقف محددة. وأجابا على أسئلة الصحفيين، وتعمدا تكرار الحديث عن الشوط الذي قطع في طريق التوصل إلى اتفاق. وصدر بيان مشترك عن المفاوضات سلم لوسائل الإعلام، لم يتضمن مواقف ملموسة حول مجريات المفاوضات ونتائجها المحددة، جاء فيه؛ ” أجرى الوفدان خلال الأيام الستة الماضية مفاوضات عميقة وجادة.. وكانت المفاوضات لا سابق لها لجهة الأجواء الإيجابية والإعراب عن الرغبة المشتركة لتلبية الحاجات الوطنية والأمنية. ونظرا إلى الظروف وضغط الوقت تبين أن من المستحيل التوصل إلى تفاهم بصدد جميع القضايا بالرغم من التقدم الجوهري الذي تم تحقيقه في كل المسائل التي نوقشت”. وحدد البيان القضايا التي تم تناولها في المحادثات، لكنه لم يحدد طبيعة التقدم في أي منها، ولم تتم الإشارة أين توقفت، ولم يعرضا أي خريطة على الصحفيين توضح ما تقدم. وقال البيان: ” إن الطرفين يعلنان انهما لم يكونا في أي وقت مضى اقرب إلى التوصل إلى اتفاق”. وتعهد الطرفان “بإعادة الأمور إلى طبيعتها والعودة إلى وضع أمني مستقر على الأرض..”
وغادر الوفدان طابا عائدين إلى غزة وتل أبيب. وقدم الوفد الفلسطيني تقاريره إلى ابوعمار قبل بضع ساعات من مغادرته قطاع غزة إلى مدينة دافوس لحضور “المنتدى الاقتصادي العالمي” الذي يشارك فيه عادة شخصيات تتمتع بنفوذ اقتصادي دولي. وكان لتلك التقارير أثرها في الخطاب الذي ألقاه ابوعمار في المنتدى. وفاجئ ابوعمار شمعون بيريز، وشن هجوما شديدا ضد باراك وسياسته العنصرية الجارية ضد الشعب الفلسطيني. خصوصا وأن الوفد الإسرائيلي رفض في طابا عمل ملخص عن الذي دار في المحادثات. وكان بيريز ألقى قبل ابوعمار كلمة ودية اتجاه الفلسطينيين. وتوترت الأجواء بين الرجلين، وشن باراك وأنصاره هجوما ضد رئيس السلطة الفلسطينية. ودخل الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي مرحلة جديدة بعد هذه المفاوضات الهامة والمنتجة.
وبصرف النظر عن الأسباب الحقيقية التي دفعت باراك إلى إنهاء مفاوضات طابا دون وثيقة رسمية تبين حدود مواقف الطرفين بصورة رسمية، فإني اعتقد أن الطرفين تعرفا في طابا على الحد الأدنى والأعلى لمواقف الطرف الآخر في قضايا الحل النهائي وخصوصا: القدس الأرض، اللاجئين، المستوطنات، والحدود. وأظن أن الجنرال أمنون شاحاك اقترب من الحقيقة وكان صادقا حين قال لأعضاء في الوفد الفلسطيني قبل مغادرة طابا “إن ما طرح عليكم في طابا لن يستطيع زعيم إسرائيلي تجاوزه”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قطعة ثانية حول الموضوع
مقدمات أثرت في مفاوضات طابا
على أبواب الانتخابات الإسرائيلية اعتقد أركان حزب العمل وقادة اليسار في إسرائيل أن التوصل إلى اتفاق جديد مع الفلسطينيين هو السبيل الوحيد لتخليص باراك من تخبطه، والبقاء في كرسي رئاسة الحكومة الذي لم يستكمل الاستمتاع بالجلوس فيه، ويخرج قيادة الحزب وقوى اليسار من الورطة الكبيرة الذي حشرهم فيها. وتصور أركان الإدارة الأمريكية وقوى إقليمية ودولية عديدة أن عقد مثل هذه الصفقة كفيل بمساعدة باراك في تقديم عرضا مميزا يعجب جمهور السلام الإسرائيلي ويكسبه أصواتا انتخابية، تكفي لإنقاذه من الفشل، ويجنبهم الاضطرار لاحقا إلى التعاطي مع شارون زعيم المتطرفين.
وتحت ضغط حاييم رامون ويوسي بيلين وآخرون في قيادة حزب العمل تحدث باراك عن إمكانية عقد اتفاق انتقالي مع السلطة الفلسطينية، يقوم على تـأجيل حل قضيتي القدس واللاجئين مقابل تأجيل إنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. علما أن باراك ظل على امتداد سنوات طويلة إبان خدمته في الجيش وفترة وجوده القصيرة في رئاسة الوزراء، يعارض الاتفاقات المرحلية التي وقعها رابين. وسبق واعترض، خلال رئاسته هيئة الأركان، على تنفيذ المرحلة الثالثة من اتفاق أوسلو التي تعطي الفلسطينيين سيادة كاملة على جميع أراضي الضفة وقطاع غزة، باستثناء ما يتعلق بقضايا الحل النهائي. وانتقد خلال تلك الفترة اتفاق “واي ريفر”(1) الذي وقعه نتنياهو، لأنه يعتمد الخطوات المرحلية لإنهاء النزاع. ويعتبر باراك نقل مزيد من الأراضي للسلطة الفلسطينية يعزز موقفها على الأرض وفي المفاوضات دون مقابل. وكان يتبنى مساومة خلاصتها: تنفيذ المرحلة الثالثة من اتفاق أوسلو مقابل حل مشكلتي القدس واللاجئين. ومن يراجع كتاب “باراك الجندي الأول” يفهم خلفية تكوينه الفكري وموقفه في هذا المسالة(2).
في حينه، أسرعت القيادة الفلسطينية إلى رفض البحث في صفقة تأجيل إنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي مقابل تأجيل حل قضيتي القدس واللاجئين. وبلّغت باراك، عبر قنوات الاتصال الخاصة، إصرارها على حل قضايا الحل النهائي دفعة واحدة. ولم تسمع لبعض الأصوات القليلة التي اعتبرت الاقتراح خطوة تقرب الشعب من حقوقه، وتحسن الموقف الفلسطيني في المفاوضات، وتسهل حياة الناس على الأرض(3). وأكد أعضاء بارزون في القيادة، يتحملون مسئوليات رئيسية في المفاوضات، “ابومازن وابوعلاء وياسرعبدربه وصائب عريقات” في تصريحات علنية، رفضهم القاطع تأجيل قضيتي القدس واللاجئين في إطار حل انتقالي جديد. وتحدثوا مطولا حول سلبيات التأجيل وسلبيات تجربة سنوات المرحلة الانتقالية، ووصفوها بأنها كانت مرة ومؤلمة، ولم تساهم في حل النزاع، وعقدت العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية. ولم يفكروا في قيمة هكذا اتفاق في الصراع في حال فوز شارون في الانتخابات.
إلى ذلك، طوى باراك اقتراحه بسرعة، وفقد الفلسطينيون فرصة اقتناص اتفاق ينص على تحسين أوضاعهم في الصراع، وانتزاع وثيقة تعزز مواقفهم في المفاوضات اللاحقة، كخطوة على طريق تحقيق أهدافهم الاستراتيجية. ونسي المفاوضون الفلسطينيون أن قيادة م ت ف وافقت على دخول عملية السلام وهي مدركة تماما أن الحلول المرحلية قدر لا بد منه، وأنها مقبلة على تقديم تنازلات مؤلمة في إطار الحل النهائي. وكان همها الأول من اتفاق أوسلو وما تلاه من اتفاقات أخرى تحسين أوضاع الشعب الفلسطيني بالتدريج، وتطوير الحلول المرحلية قدر المستطاع، وتقليص حجم التنازلات المطلوبة إلى أدنى حد ممكن.
واعتقد أركان القيادة الفلسطينية أن تأجيل حل قضيتي القدس واللاجئين يتسبب بضياع الحقوق الفلسطينية في هاتين القضيتين. خصوصا ان الجانب الإسرائيلي سعى منذ إطلاق عملية السلام إلى تجنب بحثهما، وبذل جهودا ضخمة وانفق مبالغ طائلة للاستيطان في القدس وتغيير معالمها. وتأجيلهما يعني انه سوف يضاعف الاستيطان في القدس ويخلق وقائع على الأرض يصعب تجاوزها، ويقود أيضا إلى توسيع الهوة بين القيادة واللاجئين داخل وخارج الوطن. ويولد انقسام خطير بين الداخل والخارج. ولن تستطيع القيادة تبرير هكذا موقف أمام الناس. وسوف تتهم من المعارضة على أنها ضحت بحقوق اللاجئين من أجل دولة على أرض الضفة والقطاع، والتأجيل يوفر أرضية خصبة في صفوف اللاجئين لتقبل هذه الأفكار.
علما أن الوقائع التاريخية بينت لجميع لفلسطينيين في الداخل والخارج أن تأجيل حل قضية اللاجئين نصف قرن من الزمن لم يفقد أصحابها حقوقهم. وفي مفاوضات الحل النهائي دبت الحياة وعادت وكأنها قضية حديثة العهد. وبينت أيضا ان بقاء القدس تحت الاحتلال اكثر من 30 سنة لم يضعف حق الفلسطينيين بالمطالبة باستردادها، باعتبارها جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية التي احتلت في العام 1967، وينطبق عليها قرار مجلس المن رقم 242. واعترفت إسرائيل بصيغة وأخرى بذلك. وعادت القضيتان، بعد كل هذا الزمن الطويل، إلى الحياة، وتصدرتا واجهة المفاوضات في كامب ديفيد. وظهرتا وكأنهما قضيتين حديثتي العهد، لا يمكن للسلام ان يتحقق دون حلهما. واضطر باراك وأركان حزب العمل بعد هذه الفترة الطويلة إلى الاعتراف في قمة “الكامب” الثلاثية بمعظم حقوق الفلسطينيين فيهما، ووافقوا على أن يكون الجزء الشرقي من القدس الموحدة عاصمة للدولة الفلسطينية.
وتحركت الإدارة الأمريكية وعدد واسع من دول السوق الأوروبية على أبواب الانتخابات الإسرائيلية بقوة لنجدة إيهود باراك، وسلطت ضغطا شديدا على رئيس السلطة الفلسطينية، وطالبته مساعدة باراك في مواجهة شارون. ورفع زعماؤها شعار؛ أوقفوا الانتفاضة وأنقذوا باراك واقبلوا عرضه الثمين، وامنعوا شارون من تولي دفة الحكم في إسرائيل..الخ. ولم تسمع القيادة الفلسطينية تلك النصائح، وصمدت القيادة الفلسطينية في وجه الضغوط الخارجية، وتمسكت بموقفها وأصرت على متابعة مفاوضات الحل النهائي ولم تفكر تجزئته. وقررت التحرك في الحقلين الدولي والإقليمي انطلاقا من أن لا مصلحة فلسطينية في تقديم تنازلات جوهرية من أجل إنقاذ باراك واعتبار ذلك مجازفة سياسية غير مضمونة. خاصة وان التنازلات المطلوبة لإنقاذه تخترق المحرمات الوطنية والقومية والإسلامية، وتمزق وحدة الشعب الفلسطيني، وتصل حد التفريط بحقوقه الوطنية التي أقرتها الشرعية الدولية. ورأى أركان القيادة الفلسطينية أن ضعف باراك في الكنيست لا يوفر الحد الأدنى لتنفيذ أي اتفاق يتم التوصل إليه قبل الانتخابات، وفوزه في الانتخابات لا يعني التزامه بالتنفيذ. وقللوا من قيمة الوصول لمثل هذا الاتفاق، وانه يوفر للفلسطينيين سلاحا تستخدمه القيادة في معاركها السياسية والدبلوماسية اللاحقة، خصوصا إذا فاز شارون في الانتخابات.
وبعد إلحاح شديد من الرئيس كلينتون شخصيا وافق ابوعمار على استئناف المفاوضات في واشنطون وبدون تحديد جدول أعمالها، وعقد العزم على الصمود من جديد وتكرار تجربة كامب ديفيد إذا اقتضت الضرورة ذلك. والتقى ابو عمار في نيويورك يوم 6/9/2000، على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، وكان اللقاء عاصفا. ورفض ابوعمار أطروحة اولبرايت تقديم تنازلات تساعد باراك في مواجهة شارون وتمكّنه من الفوز في الانتخابات. وتمسك بموقفه في لقائه بالرئيس كلينتون خلال تلك الزيارة.
إلى ذلك، رفضت القوى الوطنية الإسلامية “قيادة الانتفاضة” استئناف المفاوضات من جديد، واعتبرت الأمر محاولة أمريكية مكشوفة لإنقاذ باراك في الانتخابات، وتعطيل صدور قرار من مجلس الأمن الدولي، بشأن إرسال قوات دولية لحماية الشعب الفلسطيني. وتصورت هذه القوى أن معركة الإطاحة بشارون سوف تكون أسهل من الإطاحة بباراك ونتنياهو، والنجاح في الإطاحة به يقنع المجتمع الإسرائيلي بان لا مناص من الاعتراف بالحقوق الفلسطينية كاملة وكما أقرتها الشرعية الدولية. وأصدرت قيادة الجبهة الديمقراطية بيانا يوم 9/12/2000 حددت فيه موقفها، ودعت المجلس المركزي إلى اتخاذ الخطوات لإعلان قيام دولة فلسطين على الأرض وقال البيان(4)؛ ” إن وحدة شعبنا الميدانية حول شعار استمرار الانتفاضة ينبغي أن تكرس بجملة من الخطوات العملية على المستوى السياسي والتنظيمي وذلك من خلال بناء اللجان الشعبية، والالتزام بقرار مقاطعة كل البضائع والسلع الإسرائيلية، وقف كافة المفاوضات العلنية والسرية إلى أن يتم بناء شروط تفاوضية جديدة، والإسراع في دعوة المجلس المركزي لاتخاذ الخطوات الضرورية لإعلان سيادة دولة فلسطين”.
ورأت القوى الوطنية والإسلامية “قيادة الانتفاضة” في شارون آخر رصاصة في خرطوش اليمين، ودعت الشعب إلى إضراب عام يوم 19/12/200 “احتجاجا على العودة إلى دوامة المفاوضات العبثية”. واعتبر بيانها(5)؛ ” الحلول التي تمس بالثوابت الوطنية المتمثلة بحق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة، باطلة ومرفوضة من شعبنا وانتفاضته المباركة”. وطالب بعضها تجميد جميع اللقاءات والاتصالات مع حكومة باراك بانتظار نتائج الانتخابات الإسرائيلية. وندد متظاهرون في الانتفاضة بتجدد المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وهتفوا في مسيراتهم المعتادة : يا مفاوض يا وزير/ لا تستهتر بالجماهير، يا مفاوض يا وزير/ الحساب كبير كبير/ من الشهداء والجماهير. يا مستوطن يا محتل / الانتفاضة بدها تظل. الشعب وحده المسئول الانتفاضة على طول. يا شعب ردد وقول/ الانتفاضة على طول. شعبي تحدى شعبي ثار/ والدولة هي القرار.
وفي تلك الفترة أدلى حزب الله برأيه في الوضع داخل الأراضي الفلسطينية،(6) وطرح أمينه العام “الشيخ نصر الله”، في مؤتمر صحفي عقده يوم 22/12/2000 في بيروت، رؤيته للانتفاضة ودورها في الصراع مع إسرائيل. وعدد ثمانية إنجازات كبيرة حققتها الانتفاضة منها استنهاض الأمتين العربية والإسلامية وإحراج الحكام العرب والمسلمين، ووقف التطبيع مع إسرائيل وتعميق النزاعات داخلها. وأنها كسرت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر كما فعلت المقاومة اللبنانية في تحرير الجنوب. وقال: “استطاعت الانتفاضة تجميع شمل الفلسطينيين وان توحدهم كقوى إسلامية ووطنية، مسلمين ومسيحيين، في داخل فلسطين وخارجها لم يسبق له مثيل خلال العقود الماضية”.
وخاطب الشيخ نصر الله كوادر ومناضلي فتح وضباطها ومسئوليها وقواعدها الشعبية قائلا لهم: ” انتم أولا، قبل حماس والجهاد والقوى الوطنية، تتحملون مسئولية إلاهية وأخلاقية وتاريخية تجاه مواصلة الانتفاضة والحفاظ على الوحدة الوطنية، ويجب أن تفرضوا على قيادتكم أن لا تأخذ شعبها من جديد إلى صحراء التيه والضياع والسراب والأوهام”. وتباين موقف كوادر فتح وكوادر القوى الوطنية والإسلامية البعض رحب بها آخرون اعتبرها تحريض ضد القيادة الفلسطينية.
كلينتون طرح أفكارا متقدمة في وقت متأخر.
يوم 19/12/2000 استأنفت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في واشنطن على مستوى الوزراء. وتشكل الوفد الإسرائيلي من وزير الخارجية شلومو بن عامي وجلعاد شير مدير ديوان رئيس الوزراء باراك، وضم الوفد الفلسطيني ياسر عبد ربه وصائب عريقات ومحمد دحلان وسميح العبد. وبعد مفاوضات مكثفة سادها روح إيجابية، كما قال الطرفان، أعلنت الإدارة الأمريكية ان المفاوضات حققت مزيدا من التقدم في حدود الصلاحيات المخول بها الوفدين. وعشية أعياد الميلاد أعلنت انتهاء المفاوضات بسبب عطلة الأعياد وحاجة الوفدين إلى التشاور مع قياداتهم.
وقبل مغادرة الوفود دعا الرئيس كلينتون يوم 23/12/2000 أعضاء الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي إلى لقاء مفاجئ، حضره وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت ومستشاره لشئون الأمن القومي ساندي بيرغر، وأعضاء فريق السلام دنيس روس، أرون ميلر، وروب مالي. وفي اللقاء تلا الرئيس كلينتون على الوفدين أفكاره لحل القضية الفلسطينية وإنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي(7)، عرفت لاحقا “بأفكار الرئيس كلينتون”. لخص فيها كلينتون مفاوضات الطرفين خلال عهده الطويل حول سبل إنهاء النزاع، وبخاصة ما تم في قمة كامب ديفيد الثلاثية وبعدها، وقدم كلينتون أفكاره للوفدين بطريقة دراماتيكية حسب رواية الوفد.
وحسب المصادر الفلسطينية فقد تلا كلينتون أفكاره في جو حزين وكئيب، واستغرق20 دقيقة في تلاوتها ورفض بعدها إجراء نقاش حولها. وحسب رواية أعضاء في الوفد الفلسطيني، وما جاء في نص الوثيقة بعد توزيعها، منح كلينتون إسرائيل في قضيتي الأرض والاستيطان مكاسب وامتيازات كبيرة تتعارض مع قرارات الشرعية الدولية وبخاصة القرار رقم 242. وتنسف إمكانية قيام دولة فلسطينية موحدة ومترابطة جغرافيا. وتقسم الضفة الغربية إلى كنتونات، وتعرّض عشرات ألوف الفلسطينيين لهجرة جديدة. وقال: “استنادا إلى ما سمعته، اعتقد أن الحل ينبغي أن يكون بحدود أواسط التسعينات في المئة، بين 94ـ96% من أراضي الضفة الغربية في الدولة الفلسطينية. وينبغي تعويض الفلسطينيين عن بقية الأراضي من قبل إسرائيل بتبادل للأراضي من 1ـ3% بالإضافة إلى ترتيبات متعلقة بالأراضي مثل ممر آمن ودائم بين قطاع غزة والضفة. وينبغي للطرفين أن يدرسا تبادل أراض مستأجرة لتلبية احتياجات كل منهما. ويتوجب على الطرفين أن يطورا خريطة تنسجم مع المعايير التالية: تجميع 80% من المستوطنين في كتل استيطانية، تأمين التواصل الجغرافي للمناطق الفلسطينية، تقليص المناطق التي سيتم ضمها إلى الحد الأدنى، وتقليص عدد السكان الفلسطينيين المتأثرين بذلك إلى الحد الأدنى”. ولم يفسر الرئيس كلينتون سبب انتقاص حقوق الفلسطينيين في النسب المقترحة لتبادل الأراضي.
وبشأن الأمن: تجاوب الرئيس كلينتون مع مطالب إسرائيل الأمنية على حساب أمن الفلسطينيين دولة وشعب. وأشار الى ضرورة وجود دولي لا يمكن سحبه إلا بموافقة متبادلة على أن يتولى مراقبة تطبيق الاتفاق. وقدر أن الانسحاب الإسرائيلي سيتم تنفيذه على مدى 36 شهرا. ومنح إسرائيل حق الإبقاء على “وجود عسكري صغير في مواقع ثابتة في غور الأردن خاضعا لسلطة القوة الدولية لمدة 36 شهرا إضافية. وأعطى الجيش الإسرائيلي حق إقامة محطات للإنذار المبكر في الأراضي الفلسطينية، وقال: ” ينبغي لإسرائيل أن تحتفظ بثلاث منشآت في الضفة الغربية مع وجود فلسطيني في هذه المنشآت، لغرض الارتباط والاتصال، وهذه المحطات ستكون عرضة لإعادة النظر بعد 10 سنوات”.
وحول إعادة الانتشار الإسرائيلي في الأغوار في حالة الطوارئ، قال: “اعتقد انه لا يزال يتعين عليكم أن تطوروا خريطة للمناطق والطرق ذات الصلة”. وبشأن تسليح الدولة الفلسطينية، قال” حسب فهمي فان الموقف الإسرائيلي هو انه ينبغي تعريف فلسطين باعتبارها دولة “منزوعة السلاح”، بينما يقترح الجانب الفلسطيني دولة “ذات تسلح محدود”. وكحل وسط اقترح كلينتون وصفها بـ “دولة مسلحة”، وقال “وهذا سيكون منسجما مع حقيقة امتلاك فلسطين قوات أمن قوية. وستكون هناك قوات دولية لأمن الحدود وأغراض الردع”. وبشأن القدس واللاجئين قال: “لدي إحساس أن الفجوات المتبقية تتعلق بصياغات اكثر مما تتعلق بحقائق عملية”. وطرح مبدأ عام لحل مسألة القدس يقوم على “ان المناطق العربية تكون فلسطينية والمناطق اليهودية تكون إسرائيلية، وهذا ينطبق على البلدة القديمة”. والتطبيق العملي لهذا المبدأ يؤدي حتما إلى تحويل أحياء القدس العربية إلى عدد من الجزر غير متصلة ببعضها البعض ومعزولة عن بقية المدن الفلسطينية. وحث كلينتون الطرفين على تطوير خرائط لخلق التواصل الجغرافي لكلا الطرفين، علما بأنه يعرف استحالة خلق هذا التواصل مع بقاء الكتل الاستيطانية الأساسية ودون الإجحاف بحقوق الفلسطينيين في أرضهم.
وفيما يتعلق بالمسجد الأقصى “جبل الهيكل”، منح الرئيس كلينتون إسرائيل سيادة تحت الحرم القدسي الشريف وأخرى على الحائط الغربي، دون تحديد مفهوم هذه السيادة الغريبة الفريدة في التاريخ، أو طول الحائط، وقال: “اعتقد أن الفجوات بين الطرفين لا تتعلق بالإدارة العملية بل بالقضايا الرمزية للسيادة وبإيجاد وسيلة لإظهار الاحترام للمعتقدات الدينية لكلا الطرفين. اعرف أنكم ناقشتم بعض الصياغات وأضيف إليها صياغتين أخريين تضمنان السيطرة الفعلية للفلسطينيين على الحرم وسيادة إسرائيلية على الحائط الغربي والمساحة المقدسة لدى الديانة اليهودية”. وتضمن الصيغة الأولى “سيادة فلسطينية على الحرم وسيادة إسرائيلية على الحائط الغربي وقدس الأقداس الذي يعتبر جزءا منه”. واشترط كلينتون التزام صارم من كلا الطرفين بعدم القيام بعمليات حفر أسفل الحرم أو وراء الحائط. أما الصيغة الثانية فنصت على “سيادة فلسطينية على الحرم وسيادة إسرائيلية على الحائط الغربي وسيادة عملية مشتركة على قضية الحفريات اسفل الحرم ووراء الحائط إذ ستتطلب موافقة متبادلة قبل أن تجري أية عمليات حفر”. واقترح مراقبة دولية لتوفير الثقة المتبادلة.
وبشان تصوره لحل قضية اللاجئين قال الرئيس كلينتون : “اشعر بان الخلافات تتعلق بدرجة كبيرة بالصياغات وبدرجة اقل بما يجري على مستوى عملي”. وأضاف “أعتقد أن إسرائيل مستعدة للاعتراف بالمعاناة المعنوية والمادية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني نتيجة لحرب 1948، وبالحاجة إلى تقديم مساعدة المجتمع الدولي في معالجة المشكلة”، واقترح إنشاء لجنة دولية لتنفيذ كل الجوانب التي تنجم عن الاتفاق على التعويض وإعادة التوطين وإعادة التأهيل. وأشار الرئيس كلينتون في كلمته إلى أن الفجوة الأساسية، كما يعتقد، تدور فقط حول كيفية التعامل مع مفهوم حق العودة. وأعطى تفسيرا خاصا لقرار الأمم المتحدة رقم 194المتعلق بحق اللاجئين في العودة والتعويض. وأيد ضمنا رفض حكومات إسرائيل لهذا القرار ولاية إشارة إلى حق اللاجئين في العودة إلى بيوتهم وأراضيهم في إسرائيل وتعويضهم، وترى في ذلك تهديدا لأمن إسرائيل وطابعها اليهودي.
وأشار الرئيس كلينتون في كلمته إلى أن المبدأ المرشد للحل هو اعتبار الدولة الفلسطينية نقطة الارتكاز للفلسطينيين الذين يختارون العودة، ولم يستبعد قبول إسرائيل بعض اللاجئين كمواطنين. وقال:” اعتقد إننا نحتاج إلى تبني صياغة بشأن حق العودة توضح أن ليس هناك حق محدد في العودة إلى إسرائيل نفسها لكنها لا تلغي تطلع الشعب الفلسطيني للعودة إلى المنطقة”. واقترح كلينتون بديلين: “أ) يعترف الجانبان كلاهما بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى فلسطين التاريخية أو، ب) يعترف الجانبان كلاهما بحق اللاجئين في العودة إلى وطنهم. وسيحدد الاتفاق تنفيذ هذا الحق العام بطريقة تتوافق مع الحل القائم على أساس دولتين”. وحدد خمسة مواطن محتملة للاجئين: “1) الدولة الفلسطينية 2) مناطق في إسرائيل ستنقل إلى فلسطين ضمن تبادل الأراضي 3) إعادة تأهيل في الدول المضيفة 4) إعادة توطين في دولة ثالثة 5) الإدخال إلى إسرائيل”. وأعطى أولوية للاجئين في لبنان بناء على حديث سابق مع ابوعمار. وطلب كلينتون اعتبار هذا الحل المقترح هو تنفيذ للقرار194 المتعلق باللاجئين الصادر عن مجلس الأمن الدولي في العام 1948.
وبشان إنهاء النزاع قال: ” اقترح أن يعني هذا الاتفاق بوضوح إنهاء النزاع بين الطرفين، وان يضع تنفيذه حدا لكل المطالب”. وأشار إلى إمكانية تنفيذ الاتفاق الجديد بقرار من مجلس الأمن الدولي وذكر مسألة الإفراج عن المعتقلين. وختم الرئيس كلينتون حديثه مخاطبا الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي: “هذا هو افضل ما أستطيع عمله، اطلعوا زعيميكم وأبلغوني ان كانا مستعدين للمجيء إلى هنا لإجراء مناقشات على أساس هذه الأفكار. إذا كانا مستعدين فسأقابلهما الأسبوع المقبل كلا على انفراد، وان لم يكونا مستعدين فسأكون قد مضيت في الأمر إلى ابعد ما أستطيع. هذه هي أفكاري، إذا لم تقبل فإنها لن تزول عن الطاولة وحسب وإنما تذهب معي أيضا عندما اترك منصبي”.
لاحقا ألقى الرئيس كلينتون خطابا في “منبر السياسة الإسرائيلي” في نيويورك، وكرر تصوره لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وفصل أفكاره التي طرحها على الوفدين في كامب ديفيد، وعالج بعض الغموض في بعض نقاط أفكاره. وأعلن انه سيوفد مبعوثه الخاص دنيس روس إلى المنطقة يحمل معه مشروع اتفاق إعلان مبادئ يستند إلى أفكاره التي طرحها على الوفدين. وجاء في خطابه: “لقد مررنا خلال أكثر من ثلاثة أشهر بدورة مفجعة من العنف كلفت مئات الأرواح وأثارت الشكوك..، وأيا كان ما سيحصل خلال الأسبوعين الباقيين من ولايتي أعتقد ان من الملائم أن أتحدث هنا..(8)”. وتحدث عن ما الذي يجب ان يفعله الفلسطينيون. وبشأن ما يجب ان يفعله الإسرائيليون قال؛ “على الإسرائيليون ان يفهموا انهم يتسببون ببعض المشاكل أيضا. إن المشروع الاستيطاني وبناء الطرق الالتفافية في قلب ما يعلمون أصلا انه سيكون جزءا من الدولة الفلسطينية لا يستقيم مع التزامات اتفاقيات أوسلو.. وهذه الأمور تجعل من الصعب على الفلسطينيين أن يصدقوا احترام التعهدات التي قطعها الإسرائيليون”. وبشأن بنود الحل أكد كلينتون؛ “لن يكون حل حقيقي للنزاع من غير دولة فلسطينية سيدة قادرة على البقاء. تتكيف مع متطلبات الأمن الإسرائيلي.
لم تتأخر الحكومة الإسرائيلية في الرد إيجابا على مبادرة كلينتون وأرفقت موافقتها من حيث المبدأ ببعض التحفظات التي وصفتها بأنها لا تمس جوهر الأفكار. ورأى كثير من المراقبين والمحللين السياسيين المحايدين ان أفكار كلينتون تتضمن جديدا ذو قيمة كبيرة وتصلح كأساس يمكن البناء عليه لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. ولم يكن رأي أعضاء الوفد الفلسطيني الذي سمع هذه الأفكار وحملها إلى غزة يختلف عن هؤلاء المراقبين. لكنهم جميعا شككوا في قدرة أفكاره على شق طريقها إلى حيز الوجود. وتساءلوا عن سبب تأخر كلينتون في طرح هكذا مبادرة قيمة، لاسيما وأنها بحاجة إلى مزيد البلورة والإنضاج وليس لديه الوقت كاف لذلك. أما القيادة الفلسطينية فكانت ولا تزال مقتنعة تماما أن ما طرحه كلينتون ليست أفكاره الخاصة، وإنها أفكار إسرائيلية نوقشت تفاصيلها بين الطرفين قبل تقديمها للفلسطينيين.
وبعد عودة عريقات وإخوانه إلى غزة ناقشت القيادة الفلسطينية بحضور الوفد المفاوض أفكار الرئيس كلينتون. وتباينت وجهات النظر حول الموقف منها. واستغرب ابوعمار عدم طرح الرئيس كلينتون هكذا مبادرة في الكامب خلال القمة الثلاثية، ورفع الاجتماع قبل حسم الموقف من الموضوع، وقال؛ لدينا وقت لدراسة أفكار كلينتون والرد عليها. وكان موقف أركان القيادة والمفاوضات الأساسيين أميل إلى رفضها، وان يقدم الرفض بصيغة نعم ولكن. ولم يستطع عريقات ودحلان وسميح العبد الصمود في الدفاع عن قناعتهم المؤيدة لأفكار كلينتون وتراجعوا عنها تحت سيف الإرهاب الفكري وخشية ان يتهموا بالتنازل عن الحقوق.
يوم 11/1/2001 أدلى فيصل الحسيني عضو اللجنة التنفيذية، مسئول ملف القدس، بحديث لجريدة الحياة اللندنية أوضح الموقف الفلسطيني من أفكار كلينتون، وقال؛” إن الاقتراح الأمريكي بالنسبة إلى اللاجئين ينطوي على إنكار حق عودتهم إلى مدنهم وقراهم..”(9). وأضاف إذا أردنا حل قضية اللاجئين جذريا فيجب على إسرائيل أن تعترف بمبدأ حق العودة. ونحن نريد أن نوضح أن من الممكن أن تحل قضية اللاجئين دون المساس بالوجود الإسرائيلي”. أما بالنسبة للقدس أشار الحسيني إلى ان هناك قضيتين: الأماكن المقدسة والاستيطان في القدس الشرقية، وأكد ان التفاوض بشأن القدس يجب ان يتناول القدس بأكملها شرقا وغربا.. وأي بحث “يجب ان ينطلق من كل ما هو في الجانب الشرقي هو تحت السيادة الفلسطينية. وما هو في الجانب الإسرائيلي تحت السيادة الإسرائيلية. وعن الأماكن المقدسة قال ” ان كلينتون يتحدث عن سيادة فلسطينية على حائط المبكى لكنه لا يتحدث حائط المبكى الذي هو حائط البراق، وإنما عن الحائط الغربي.. ماذا يعني كلينتون بالحائط الغربي. فحائط المبكى مساحته 58 مترا، اما الحائط الغربي فمساحته 400 متر، ومجمل امتداده على سور المسجد الأقصى، وهذا أمر خطير”. وأكد ان الفلسطينيين لن يوافقوا على امتداد المكان الذي يصلي فيه اليهود لتصل إلى حائط البراق وجدران المسجد الأقصى وأساساته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قطعة ثالثة حول الموضوع
في طابا اقترب الطرفان من الحل ولكن..
بعد التشاور استقر الرأي على أن يترأس ابومازن وبيريز الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي، ونشأ إشكال داخل حزب العمل حول الموضوع، واعتبره شلومو بن عامي مساسا بقدراته وتعديا على صلاحياته كوزير للخارجية. إلا أن اعتذار ابو مازن عن ترأس الوفد الفلسطيني، بسبب اعتبارات خاصة، حل هذا الإشكال. وترأس “احمد قريع” ابو علاء رئيس المجلس التشريعي، الوفد الفلسطيني. وضم الوفد أقطاب لجنة المفاوضات ياسر عبد ربه وصائب عريقات ونبيل شعث ومحمد دحلان، رافقهم طاقم واسع من الخبراء في شتى المجالات، وعدد من المستشارين القانونيين. وترأس شلومو بن عامي الوفد الإسرائيلي وضم الوفد؛ يوسي ساريد والجنرال شاحاك والوزير يوسي بيلين والمحامي جلعاد شير، وكان الأخير أقواهم باعتباره الممثل الشخصي لباراك، ولم يتردد في القول انه المخول. واحتفظت القيادة المصرية بدور المسهل للمفاوضات، ولم ترسل وفدا على مستوى عال. وخلقت تركيبة الوفد الإسرائيلي أجواء تفاؤلية في صفوف الوفد الفلسطيني، إذ لم يجتمع يوما في جولات المفاوضات السابقة، في إطار وفد واحد، مثل هذا العدد القيادي النوعي من رموز السلام في إسرائيل.
وفي يوم سفر الوفد الإسرائيلي إلى طابا، تعمد باراك إطلاق تصريحات متشددة كرر فيها لاءاته الشهيرة، التي أطلقها قبل قمة كامب ديفيد، وفهمها الجانب الفلسطيني إنها موجه بالأساس للناخب الإسرائيلي، ولا علاقة لها بتوجيهاته للوفد المفاوض.
إلى ذلك، شنت المعارضة الإسرائيلية اليمينية، في تلك الفترة، حملة قوية ضد باراك، وضد التنازلات التي ينوي تقدينها للفلسطينيين. واتهمته بخرق الأعراف والتقاليد البرلمانية في إسرائيل، وشككت في شرعية مفاوضات طابا، باعتبار حكومة باراك لا تملك تفويضا من الكنيست، وتقوم بمهمة تصريف الأعمال وليس اكثر بعد تحديد موعد الانتخابات. وتدخل رجال القضاء والقانون الإسرائيليون لحل هذا الإشكال، واصدروا فتاوى خلاصتها؛ التمييز بين صلاحيات الحكومة بإجراء المفاوضات وبين التوصل إلى الاتفاق وتوقيعه. وأكد القانونيون إن أي اتفاق توقعه حكومة باراك ليس ملزما للحكومة الجديدة التي تفرزها الانتخابات القادمة، إلا إذا طرح الاتفاق على الكنيست الحالية أو على الجمهور ونال موافقة أغلبية أحدهما.
وفي سياق رده على الحملة واتهامات مرشح اليمين “شارون”، تراجع باراك عن مواقفه بشأن تسوية قضايا الحل النهائي كما طرحت في كامب ديفيد، وبخاصة مسألتي السيادة الفلسطينية على القدس العربية ومنطقة الحرم القدسي الشريف، وإخلاء معظم المستوطنات في الضفة والقطاع. وعاد باراك وتمسك بالسيادة الإسرائيلية على ساحات المسجد الأقصى “جبل الهيكل”، وتحدث عن إخلاء بعض المستوطنات المعزولة فقط.. واستشهد بواحدة صغيرة معزولة في منطقة جنين شمال الضفة. في حينه، تعامل الوفد الفلسطيني مع تصريحات باراك مرة أخرى على أنها دعاية انتخابية، ومطروحة من باب الاحتياط في حل فشل المفاوضات. خصوصا وان الاتصالات التمهيدية بين الطرفين بينت استعداد الجانب الإسرائيلي المضي قدما، والتقدم أكثر من الشوط الذي قطعه في قمة كآب ديفيد. ولاحقا بينت مجريات المفاوضات في طابا، وأطروحة الوفد الإسرائيلي المفاوض، موقفا مختلفا عن أطروحة باراك في وسائل الإعلام.
في منتجع طابا عقد الوفدان الفلسطيني والإسرائيلي جولة ماراثونية من المفاوضات استمرت أسبوعا كاملا، عقدوا خلاله سلسلة طويلة من المباحثات الثنائية. ومنذ البداية، طرح جلعاد شير على صائب عريقات تقدير ظروف باراك وطلب إصدار بيان في نهاية الجولة يساعد باراك في كسب المعركة الانتخابية. وقبل دخول الطرفين صلب المواضيع المطروحة على جدول الأعمال، تعمد الوفد الإسرائيلي، وبخاصة رئيسه شلومو بن عامي إشاعة أجواء متفائلة جدا. في حينه، تعامل بعض أعضاء الوفد الفلسطيني مع تصريحات بن عامي، المتفائلة، على أنها تعبير رغبة في التوصل إلى اتفاق. آخرون قدروا إنها استمرار في الدعاية الإعلامية، لكنها موجه، هذه المرة، بالأساس إلى الناخب الإسرائيلي المحبذ الوصول إلى السلام مع الفلسطينيين بأسرع وقت ممكن. وقلل صائب عريقات من قيمة تصريحات بن عامي وظل يشكك في الخروج بنتيجة نهائية من طابا، معتمدا على خلاصة لقاءات العصف الفكري التي أجراها مع بن عامي في القدس وزاد عددها على خمسين لقاء حسب رواية الوفد.
وأظهرت مناقشات الجولة الأولى في طابا، ومفاوضات أخرى سرية جرت في قناة موازية، أن ما طرحه الرئيس كلينتون في قمة كامب ديفيد بشان الدولة والأرض واللاجئين والاستيطان والحدود كان موافق عليه إسرائيليا. ووافق الجانب الإسرائيلي في طابا، حسب رواية أعضاء الوفد الفلسطيني، على الانطلاق في بحث موضوع الأرض من حدود 1967. وأبدى استعداده للانسحاب من نسبة تصل إلى اكثر من 97% من الأراضي الفلسطينية التي احتلت في العام 1967، وضمنها منطقة الغور بالكامل وضمنها شريط البحر الميت. وان يتم تعويض الجانب الفلسطيني بأراضي، من أرض إسرائيل بحدودها في العام 1967، تعادل من حيث المساحة والقيمة ال 3% التي ترغب إسرائيل بتجميع المستوطنين فيها وضمها إليها. وفهم الجانب الفلسطيني، حسب رواية “د نبيل شعث” أن مساحة الدولة الفلسطينية سوف تكون، بعد التبادل، أكبر من مساحة الضفة وقطاع غزة في العام 1967، باعتبار قيمة الأرضي الفلسطينية “في الضفة” المقترح ضمها لإسرائيل تفوق قيمة الأرض الإسرائيلية المقترحة كتعويض، خصوصا الواقعة شرق “حالوتسا” وشمال قطاع غزة. ووافق الجانب الإسرائيلي في طابا، أيضا، على أن تقام على الأرض التي سيتم الانسحاب منها دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، ولها حدود رسمية وواضحة تماما مع دولة إسرائيل، وان تضم المساحة المعوضة للدولة الفلسطينية. وان يكون لهذه الدولة، بحدودها ومساحتها الجديدتين، سيطرة كاملة على معابرها الدولية مع كل من الأردن ومصر.
ووافق الوفد الإسرائيلي من حيث المبدأ، حسب رواية أعضاء في الوفد الفلسطيني، على إخلاء قرابة120ـ 125 مستوطنة تشمل؛ جميع مستوطنات قطاع غزة دون استثناء، وجميع مستوطنات الأغوار الفلسطينية، وجميع المستوطنات المحيطة بمدينة نابلس، والواقعة بينها وبين مدينة رام الله، وضمنها مستوطنات كبيرة مثل مستوطنة “بيت إيل” الكبيرة التي تتواجد فيها مؤسسات الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية. وإخلاء أيضا مستوطنة “كريات أربع” المجاورة لمدينة الخليل والبؤرة الاستيطانية القائمة داخلها، وكذلك مستوطنة “قدوميم” القائمة بين نابلس وقلقيلية، مقر قيادة الإدارة المدنية لشمال الضفة الغربية. إضافة إلى عدد آخر من المستوطنات الصغيرة ومتوسطة الحجم. وأصر الوفد الإسرائيلي في طابا على تجميع المستوطنين في أربع تجمعات استيطانية رئيسية هي: تجمع اللطرون على حدود عام 1967 والذي يضم مدينة مدعين وعدد آخر من المستوطنات. تجمع غوش عتصيون بين مدينتي بيت لحم والخليل ويفصلهما عن بعضهما البعض. وتجمع مستوطنات أرايئيل القائم جنوب غرب مدينة نابلس وبين مدينتي قلقيلية وسلفيت. ومستوطنة أرايئيل ذاتها وهي مدينة كبيرة يزيد عدد سكانها عن 20 ألف، تفصل منطقة رام اللة عن منطقة نابلس، وتعزل تماما منطقتي قلقيلية وسلفيت بعضها عن بعض، وتفصلهما عن باقي المحافظات الفلسطينية الأخرى. وتمسك الجانب الإسرائيلي أيضا بالاحتفاظ بمجموع المستوطنات المحيطة بمدينة القدس الشرقية وداخلها. وأصر على الاحتفاظ بمستوطنة “مدينة” معاليه أدوميم التي يزيد عدد سكانها عن 20 ألف نسمة وتشرف على البحر الميت. وضم هذه المستوطنة الكبيرة لإسرائيل وربطها بمدينة القدس يعني فصل جنوب الضفة الغربية، “محافظتي بيت لحم والخليل” عن وسطها “رام الله والبيرة وقراهما”، وعن شمالها ” نابلس جنين طولكرم قلقيلية سلفيت طوباس”. وأصر الوفد الإسرائيلي أيضا على ضم مستوطنة “جبعات زئيف” التي تفصل مدينة القدس وضواحيها عن مدينتي رام الله والبيرة من جهة الغرب، وتفصل هاتين المدينتين عن عدد كبير من القرى الواقعة غربهما، وتفصلهما أيضا عن منطقة اللطرون كاملة.
وأبدى الجانب الإسرائيلي استعدادا أوليا لتعويض الفلسطينيين ومبادلتهم مساحة أرض تقارب مساحة التجمعات الاستيطانية الثلاث، وان تنطلق العملية الحسابية من احتساب مساحة الضفة وقطاع غزة بحدودهما قبل احتلالهما في حرب حزيران من العام 1967. وتمسك الجانب الإسرائيلي بمحطات الإنذار المبكر التي وردت في “أفكار كلينتون”.
وبشأن وضع مدينة القدس اقترح الجانب الإسرائيلي ان تبقى المدينة بشقيها الشرقي والغربي مدينة مفتوحة، وأن لا تقام أسوار وحواجز بين القسمين. ووافق على أن تكون “القدس الشرقية” عاصمة للدولة الفلسطينية، وان تخضع جميع الأحياء العربية داخل وخارج أسوار البلدة القديمة وضمنها منطقة الحرم القدسي الشريف إلى السيادة الفلسطينية الكاملة. وأصر على ترتيبات تحفظ لإسرائيل سيادة على الأحياء الاستيطانية المبعثرة داخل أحياء القدس العربية، داخل السور وخارجه. وان يمنح حق الإشراف بصيغة ما على ما تحت الحرم بما لا يمس السيادة الفلسطينية على الحرم وساحات، ويضمن عدم القيام بحفريات تحته. وتمسك الوفد الإسرائيلي بسيادة إسرائيلية على الحوض المقدس وضمنه المقبرة اليهودية الواقعة خارج أسوار المدينة القديمة وعلى أجزاء صغيرة من حي الأرمن داخلها، بدعوى ملكيتها وتداخلها مع الحي اليهودي .
أما بشأن اللاجئين؛ فقد اعتمد الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي أساس للمفاوضات، ما ورد في “ورقة الأفكار الأمريكية” التي قدمها الرئيس كلينتون للمفاوضين من الطرفين في آخر لقاء عقدوه. وقام يوسي بيلين في لقاءاته الثنائية مع الوزير نبيل شعث بتوضيح مفهوم إسرائيل “للأفكار الأمريكية” حول اللاجئين وفصلها أكثر، ووافق على أن ينص الاتفاق حول اللاجئين الفلسطينيين على اعتراف إسرائيل بحقهم بالعودة إلى “ارض فلسطين التاريخية”، شرط أن يكون مفهوما أنها لا تشمل أرض إسرائيل في حدود العام 1967. وتقتصر عودتهم على المناطق الخمسة التي حددتها ورقة كلينتون “الأفكار الأمريكية” وهي ؛ 1) أراضي الدولة الفلسطينية “الضفة وقطاع غزة”. 2) أراضي إسرائيلية تنقل إلى دولة فلسطين ضمن تبادل الأراضي، ويقام لهم فيها مساكن “مدن”. 3) الدول المضيفة للاجئين في الوقت الراهن. 4) توطين من يرغم منهم في دول أخرى يتم نقلهم إليها. 5) عودة بضع آلاف منهم إلى إسرائيل في إطار لم الشمل وبنود إنسانية أخرى، ونقل عن بيلين إمكانية استيعاب 70ـ100ألف لاجئ في عشر سنوات. وان يضع هذا الحل حدا نهائيا، اي إنهاء”، جميع مطالب اللاجئين، واعتباره ترجمة نهائية لقرار الأمم المتحدة رقم 194المتعلق بعودة اللاجئين وتعويضهم.
ورفض الجانب الإسرائيلي اقتراح رئيس الجانب الفلسطيني نبيل شعث إدراج عائدات “صندوق أملاك الغائب” وفوائده البنكية خلال نصف قرن ضمن مستحقات اللاجئين بالتعويض، باعتبارها عائدات ناتجة عن استثمار أملاك اللاجئين أرضا وعقارات. وادعى بأنها أنفقت بقرارات حكومية وظفت في نقل واستيعاب المهاجرين اليهود من الدول العربية وسواها. وكرر يوسي بيلين اقتراح الرئيس كلينتون في قمة الكامب “ورقة الأفكار الأمريكية” تشكيل صندوق دولي لتعويض اللاجئين الفلسطينيين تساهم فيه إسرائيل بسخاء ومسئولية، أسوة بالدول الغنية الأخرى. ووافق الوفد الإسرائيلي على وجود قوات دولية تشرف على تنفيذ الاتفاق الذي يتم التوصل إليه بين الطرفين، وان تقوم بمهمة الفصل بين الدولة الفلسطينية ووكلا من دولة إسرائيل والأردن ومصر، على أن تمنح هذه القوات صلاحيات محدودة يتفق عليها، تتعلق بمراقبة المعابر ومنع تهريب السلاح..الخ
بعد هذا الشوط المثمر من المفاوضات توجه الوفدان الفلسطيني والإسرائيلي في عطلة نهاية الأسبوع “السبت” للتشاور مع قياداتهم في غزة وتل أبيب، حيث يصر الإسرائيليون اليهود على توقف العمل وضمنه المفاوضات في هذا اليوم “شبات شلوم”. وحمل كلا منهما إستخلاصاته التي دونها في محاضره الخاصة، وحمل معها مجموعة الأسئلة التي طرحها الطرف الآخر على طاول المفاوضات.
بعد عودة الوفد الفلسطيني من طابا إلى غزة قدم ابو علاء تقريرا إجماليا إلى أبوعمار، وقدم باقي أعضاء الوفد الأساسيين تقاريرهم المتعلقة بمجالات التفاوض التي تخصصوا بها. إلى ذلك دعا ابو عمار القيادة الفلسطينية إلى اجتماع عاجل للاستماع للوفد. وفيه تصرف كل عضو في الوفد كوفد شبه مستقل عن الآخر، واتسمت تقاريرهم بالتفاؤل والإيجابية. ووافق ابوعمار على عودة الوفد بذات التركيبة إلى طابا لاستكمال المفاوضات. وشدد على بذل محاولة للتوصل إلى اتفاق نهائي كامل وشامل، وإذا تعذر ذلك لسبب وآخر، أ‏ن يتم صياغة محضر رسمي “ملخص موسع” يوقعه الطرفان، يتضمن تلخيص ما تم التوصل إليه في وثيقة رسمية واعتمادها بمثابة اتفاق رسمي. وبالرغم من أجواء التفاؤل التي أشاعها الوفدان الإسرائيلي والفلسطيني بعد الجولة الأولى من مفاوضاتهم، ظل ابو عمار يشكك في إمكانية التوصل إلى اتفاق، مستندا إلى مجريات القناة السرية الموازية. لاسيما انه كان يعتبر مجريات المفاوضات في هذه القناة أدق في تحديد الموقف الإسرائيلي، وتحديد موقف باراك النهائي، خاصة وأنها تجري برعاية شخصية من باراك ابوعمار.
وكما استمع ابوعمار إلى وفده استمع باراك إلى تقارير وفده، وكرر باراك، بعد ذلك، علنا تمسكه بوحدة مدينة القدس كعاصمة أبدية لإسرائيل وبالسيادة على منطقة الحرم “جبل الهيكل”. ورفض باراك عودة اللاجئين إلى إسرائيل بأية صيغة كانت، وعاد وتحدث عن القدس بشقيها مدينة موحدة وعاصمة إسرائيل كخط احمر. وكان مفهوم أعضاء الوفد الفلسطيني تصريحات باراك العلنية بأنه يخاطب بالأساس للجمهور الإسرائيلي المتطرف والمتدين قبل التوجه إلى صناديق الانتخابات أقل من عشرة أيام.
وبعد أقل من 36 ساعة عاد الوفدان الفلسطيني والإسرائيلي بذات التركيبة لاستكمال مفاوضاتهما. وتبين للوفد الفلسطيني في أول جلسة أن الوفد الإسرائيلي لا يحمل إجابات على الأسئلة الفلسطينية التي طرحت في الجولة الأولى. وفي المقابلات الصحفية تغيرت لهجة رئيس الوفد الإسرائيلي “بن عامي” المتفائلة وبدا أكثر تحفظا من قبل، وأشار في أحاديثه العلنية إلى صعوبة التوصل إلى اتفاق حول كافة القضايا خلال أقل من أسبوع. وتحدث عن ضرورة استكمال ما تم إنجازه بعد الانتخابات. وكان حديثه موجه أيضا للناخب الإسرائيلي بأمل إعادة انتخاب باراك رئيسا للوزراء ومنحه فرصة استكمال حل القضايا القليلة التي لم ينجز حلها. وأسر يوسي سريد، واكثر من عضو في الوفد الإسرائيلي، لعدد من أعضاء الوفد الفلسطيني، ان تعليمات باراك للوفد تتمثل في استكمال المباحثات مدة أقل من أسبوع وتأجيل صياغة الاتفاق إلى ما بعد ظهور نتائجها.
حاول الجانب الفلسطيني توثيق مواقف الطرفين في وثيقة رسمية، وصياغة نصوص نهائية أو شبة نهائية للقضايا التي تم الاتفاق عليها في كل المجالات، وتجميع القضايا المختلف حولها وتوقيعها من قبل الجانبين. لكن الجانب الإسرائيلي رفض الاقتراح الفلسطيني بناء على توجيهات باراك، وأصر على الخروج من محادثات طابا من دون اتفاق ومن دون ملخص معتمد. ولم يتم من ناحية رسمية وملزمة تحديد النقطة التي توقفت عندها هذه المفاوضات، في كل قضية من قضايا الحل النهائي، باستثناء ما سجله كل طرف في ملفاته الخاصة، خصوصا وان الجانب الإسرائيلي لم يقدم للجانب الفلسطيني وثائق رسمية.
واتفق الطرفان، بناء على طلب الوفد الإسرائيلي، على إنهاء المفاوضات بمؤتمر صحفي مشترك، وان يعودا، بعد الانتخابات مباشرة، لاستكمال ما لم ينجز، إذا فاز باراك في الانتخابات. وقبيل المؤتمر الصحفي بساعات أشاع بعض أعضاء الوفد الفلسطيني أجواء متفائلة، بلغت حد قول ياسر عبد ربه، أحد أعضائه الأساسيين، للصحفيين انتظروا مفاجئة كبيرة سارة. وانشغلت أوساط سياسية فلسطينية رسمية وصحفية كثيرة في ذلك التصريح وحاول الجميع معرفة طبيعة المفاجئة، وانتظر جميع المراقبون المفاجئة لكنها لم تقع.
في يوم 28/1/2001 عقد رئيسا الوفدين ابوعلاء وشلومو بن عامي مؤتمرا صحفيا بحضور كامل أعضاء الوفدين(24)، وحرصا على إظهار تفاؤلا كبيرا دون الدخول في التفاصيل. وتلا كلا منهما تصريحا مقتض لم يتضمن مواقف محددة. وأجابا على أسئلة الصحفيين، وتعمدا تكرار الحديث عن الشوط الذي قطع في طريق التوصل إلى اتفاق. وصدر بيان مشترك عن المفاوضات سلم لوسائل الإعلام، لم يتضمن مواقف ملموسة حول مجريات المفاوضات ونتائجها المحددة، جاء فيه؛ ” أجرى الوفدان خلال الأيام الستة الماضية مفاوضات عميقة وجادة.. وكانت المفاوضات لا سابق لها لجهة الأجواء الإيجابية، والإعراب عن الرغبة المشتركة لتلبية الحاجات الوطنية والأمنية. ونظرا إلى الظروف وضغط الوقت تبين أن من المستحيل التوصل إلى تفاهم بصدد جميع القضايا بالرغم من التقدم الجوهري الذي تم تحقيقه في كل المسائل التي نوقشت”. وحدد البيان القضايا التي تم تناولها في المحادثات، لكنه لم يحدد طبيعة التقدم في أي منها، ولم تتم الإشارة أين توقفت، ولم يعرضا أي خريطة على الصحفيين توضح ما تقدم. وقال البيان: ” إن الطرفين يعلنان انهما لم يكونا في أي وقت مضى اقرب إلى التوصل إلى اتفاق”. وتعهد الطرفان “بإعادة الأمور إلى طبيعتها والعودة إلى وضع أمني مستقر على الأرض..”
وغادر الوفدان طابا عائدين إلى غزة وتل أبيب. وقدم الوفد الفلسطيني تقاريره إلى ابوعمار قبل بضع ساعات من مغادرته قطاع غزة إلى مدينة دافوس لحضور “المنتدى الاقتصادي العالمي” الذي يشارك فيه عادة شخصيات تتمتع بنفوذ اقتصادي دولي. وكان لتلك التقارير أثرها في الخطاب الذي ألقاه ابوعمار في المنتدى. وفاجئ ابوعمار شمعون بيريز، وشن هجوما شديدا ضد باراك وسياسته العنصرية الجارية ضد الشعب الفلسطيني. خصوصا وأن الوفد الإسرائيلي رفض في طابا عمل ملخص عن الذي دار في المحادثات. وكان بيريز ألقى قبل ابوعمار كلمة ودية اتجاه الفلسطينيين. وتوترت الأجواء بين الرجلين، وشن باراك وأنصاره هجوما ضد رئيس السلطة الفلسطينية. ودخل الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي مرحلة جديدة بعد هذه المفاوضات الهامة والمنتجة.
وبصرف النظر عن الأسباب الحقيقية التي دفعت باراك إلى إنهاء مفاوضات طابا دون وثيقة رسمية تبين حدود مواقف الطرفين بصورة رسمية، فإني اعتقد أن الطرفين تعرفا في طابا على الحد الأدنى والأعلى لمواقف الطرف الآخر في قضايا الحل النهائي وخصوصا: القدس الأرض، اللاجئين، المستوطنات، والحدود. وأظن أن الجنرال أمنون شاحاك اقترب من الحقيقة وكان صادقا حين قال لأعضاء في الوفد الفلسطيني قبل مغادرة طابا “إن ما طرح عليكم في طابا لن يستطيع زعيم إسرائيلي تجاوزه”.
أعتقد أن مفاوضات طابا أكدت ان أطروحة كلينتون باراك في مفاوضات كامب ديفيد كانت أقل من اتفاق، وما طرح في محادثات طابا يوفر الحد الأدنى المطلوب لتوصل الطرفين إلى اتفاق شامل ونهائي ينهي نصف قرن من النزاع الدموي المدمر، لكنه وللأسف الشديد طرح في وقت متأخر جدا. وإذا كان لا مجال في هذا المقال للغوص في بحث فرص السلام الضائعة، يمكن القول أن ثلاث فرص جديدة ضاعت في سياق العمل لتحقيق السلام الفلسطيني الإسرائيلي المنشود، وبالحد الأدنى تحقيق تقدم نوعي على طريق تحقيقه. الأولى، عندما لم يتعامل الجانب الفلسطيني بصورة خلاقة مع فكرة الاتفاق حول جميع قضايا الحل النهائي باستثناء قضيتي القدس واللاجئين وربط إنهاء النزاع بالاتفاق حولها. والثانية، عندما رفض الجانب الفلسطيني اعتماد “أفكار كلينتون” التي طرحها قبيل مغادرته البيت الأبيض وقبل محادثات طابا، ولم يتعامل معها بصورة خلاقة أيضا. والثالثة، عندما تردد باراك في التوصل إلى اتفاق في محادثات طابا، ورفض حوصلة نتائج تلك المفاوضات المثمرة والمنتجة.