حرب شارون ضد السلام دخلت مرحلة جديدة

بقلم ممدوح نوفل في 17/08/2001

بإصداره الأوامر باغتيال ابوعلي مصطفى أمين عام الجبهة الشعبية، واقتحام بيت جالا، وقبلها، قصف مقر قيادة الشرطة الفلسطينية المركزي في الضفة، ودخول الدبابات والجرافات الإسرائيلية مدينة جنين، واحتلال قوات الشرطة وحرس الحدود “بيت الشرق” في القدس والمؤسسات الفلسطينية الأخرى في أبو ديس وجوارها، طوّر رئيس الحكومة الإسرائيلية “شارون” مستوى عملياته الحربية ضد الفلسطينيين، أرضا وشعبا وقيادة وشجر وممتلكات، وضد السلام معهم. ونقل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مرحلة نوعية جديدة أكثر عنفا ودموية، لها سماتها الواضحة ؛ ترسيم وفاة عملية السلام على المسار الفلسطيني الإسرائيلي كما عرفناها في السنوات العشر السابقة، وانتهاك الاتفاقات الأساسية والفرعية التي انبثقت عنها، وإغلاق طريق العودة إلى طاولة المفاوضات، وإطلاق العنان للعنف يحصد مزيدا من أرواح الفلسطينيين والإسرائيليين، وارتفاع درجة التوتر في عموم أنحاء منطقة الشرق الأوسط، وازدهار سوق التطرف والإرهاب فيها.
وتشير مواقف شارون وأركانه السياسيين والأمنيين الأخيرة إلى انهم لم يستفيدوا من تجربة نصف قرن من الحروب، ولا زالوا يؤمنون بحل الصراع بقوة السلاح ويعملون بكل السبل على خلق الأجواء الملائمة لتطبيق ما يؤمنون به. ومصممون على متابعة خرق اتفاق أوسلو وملاحقه، وتكريس احتلال بيت الشرق والمؤسسات الفلسطينية الأخرى بقوة الأمر الواقع. ويجد شارون وأركانه في رد فعل القوى الدولية والإقليمية الباهتة، وخصوصا الأمريكية، على احتلال بيت الشرق والأعمال العدوانية الأخرى، تشجيعا صريحا للمضي قدما في تنفيذ توجهاتهم العسكرية القديمة الجديدة، وتسريع خطاهم نحو تدمير فكرة السلام مع الفلسطينيين.
إن مكافئة إدارة بوش شارون، وصمتها على جرائمه المتواصلة ضد الفلسطينيين، ومساندتها مواقف إسرائيل في مجلس الأمن الدولي ومنظمات حقوق الإنسان، وإصرارها على عدم دعوة الرئيس الفلسطيني لزيارة البيت الأبيض، وتكرار اتهامه بالتقصير في محاربة العنف والإرهاب..الخ من المواقف المنحازة والمتخاذلة في الدفاع عن حقوق الإنسان وعن الاتفاقات التي رعتها، تدفع شارون ليس فقط الاستهتار بالموقف العربي وبالأمم المتحدة ومنظماتها، بل وأيضا يزيد “الليكودين”، في الحكومة وخارجها، تصميما على عدم التراجع عن إجراءاتهم الأخيرة ويفتح شهيتهم على؛ تكريس احتلال المؤسسات الفلسطينية، ومواصل سياسة الاغتيالات، واختراق المناطق الخاضعة لسلطة السلطة الفلسطينية. وان عدم ظهور بوادر ردع إقليمية ودولية، يشجعهم على القيام في الأيام القادمة بأعمال سياسية وعسكرية أكبر من حيث الكم والنوع عن التي سبقتها، يعتقد شارون أنها ضرورية لتحويل أنظار العالم عن أعماله الأخيرة ونسيان قصة إغتيال ابو علي مصطفى، واحتلال بيت الشرق ومؤسسات السلطة في ابو ديس. ووضع الجميع أمام خيار واحد؛ التركيز على الأحداث الجديدة الطازجة والانشغال في بحث سبل حلها ومنع تدهور الوضع نحو الأسوأ.
وأظن، وأغلب الظن بحكومة شارون وبإدارة الرئيس بوش ليس فيه إثم، أن ما قامت به القيادة الإسرائيلية في الشهر الأخير تم بعلم الإدارة الأمريكية، ورضاها حسب القاعدة القائلة “الصمت علامة رضا”. وان إدانتها لسياسة الاغتيالات، جاءت بصيغة عامة وخجولة خلت من أي إجراء رادع يضع حدا لإرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل. والشيئ ذاته ينطبق على مطالبتها اسرائيل بسحب قواتها من بيت جالا.
وبصرف النظر عن نوايا شمعون بيريز الحقيقية، ورأي الإدارة الأمريكية في حديثه عن حوار مباشر سري يجريه مع القيادة الفلسطينية، فإن تصوير حصوله من شارون على ضوء أخضر لإجراء الحوار على أنه انتصار للعقل على الغرائز، وبداية صحيحة لتهدئة الوضع والعودة إلى طاولة المفاوضات.. الخ يندرج، في نظر الفلسطينيين سلطة ومعارضة، في إطار الدور الانتهازي القذر الذي لعبه بيريز منذ دخوله حكومة ليكود، وانحياز إدارة بوش لإسرائيل ومساندتها شارون. ويرون فيها محاولة بائسة لتسويق سياسة شارون الدموية، وتغطية جرائمه المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني.
ويستذكر الفلسطينيون رفض شمعون بيريز علنا أطروحة باراك في قمة كامب ديفيد بشأن حل قضية القدس، واعتباره موافقة باراك على منح الفلسطينيين سيادة كاملة على الجزء الشرقي من المدينة باستثناء جيوب صغيرة، كرما زائدا وتنازلا لا ضرورة لتقديمه. واستذكر أركان السلطة مواقف بيريز القديمة الخادعة ورأوا في موقفه الأخيرة خدعة جديدة، ومناورة ذكية خبيثة هدفها حرف أنظار القوى الإقليمية المعنية باستقرار أوضاع المنطقة، عن التصعيد وخرق الاتفاقات التي ترتكبها إسرائيل يوميا بحق الشعب الفلسطيني. وأنه بدلا من الاستقالة من حكومة ليكود بسبب تمزيق شارون تعهدا خطيا وقعه بقلمه في أوسلو وحديقة البيت الأبيض بشأن عدم المس ببيت الشرق والمؤسسات الفلسطينية في القدس، واصل بيريز دوره الديماغوجي التضليلي الذي لعبه داخل إسرائيل وخارجها منذ استلامه وزارة الخارجية. وشرع في تقزيم خرق حكومة شارون الفظ لاتفاق أوسلو وملاحقه. ويحاول بيريز في اتصالاته الدولية والإقليمية ومع بعض الفلسطينيين تصغير وتبسيط الضربة الاستراتيجية التي وجهها شارون لعملية السلام في القدس، وتصوير احتلال القوات الإسرائيلية بيت الشرق والمؤسسات الفلسطينية الأخرى على أنها إجراء أمني مؤقت، قابل للتغيير يمكن التراجع عنه. ويشيع بيريز ان شارون أقدم على هذا الإجراء في إطار مساومة القيادة الفلسطينية حول وقف “العنف والإرهاب”، والمزايدة على خصمه نتنياهو وأنصاره، على أبواب مؤتمر ليكود المقرر عقده بعد شهرين تقريبا، ومنافسته على زعامة الحزب.
إلى ذلك، يعتبر ناس الانتفاضة حديث بيريز مؤخرا عن انسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة بالكامل أولا، وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة هناك، بمثابة قنبلة دخانية أطلقها في سماء المنطقة للتغطية على أفعال شارون الأخيرة وتسويقها إقليميا ودوليا. ويقرون بان شمعون بيريز دبلوماسي بارع ويعترفون له بأنه صهيوني أصيل عريق، يضع مصالح دول إسرائيل وتوجهات الصهيونية العالمية فوق الاعتبارات الحزبية الضيقة وكل اعتبار آخر، خصوصا في الأوقات الحرجة التي تمر بها إسرائيل. ويتمنى الناس في الضفة وقطاع غزة ان تستفيد القوى والشخصيات الوطنية والإسلامية الفلسطينية من تجربة شمعون بيريز، خصوصا حرصه وقت الأزمات العصيبة والظروف الصعبة القاسية على وحدة الصف الداخلي وإظهار أصالته كزعيم صهيوني عريق..
وبغض النظر عن رأي الفلسطينيين في شمعون بيريز وادعاءاته، فهو يعرف أكثر من سواه طبيعة المرحلة ونوعية الأزمة التي عبرها النزاع الفلسطيني الإسرائيلي بعد سقوط باراك وفوز شارون برئاسة الوزراء. ويدرك تماما أن لا أفق للعودة إلى طاولة المفاوضات في عهد شارون، ليس لان الفلسطينيين تخلوا عن المفاوضات سبيلا لتحقيق أهدافهم الوطنية، وهم في أية حال لم يتخلوا، بل لأن شارون نسف مسبقا مقومات استئناف الحوار الفلسطيني الإسرائيلي. ويعرف بيريز تمام المعرفة ان الإتلاف الحكومي اليميني المتطرف الذي يشارك فيه يعارض إجراء أي حوار جدي ومنتج مع “سلطة عرفات الإرهابية”.. وأن أركان هذا الائتلاف، وهم أغلبية، يعتمدون القوة العسكرية لحل النزاع مع الفلسطينيين. وانهم وافقوا له على إجراء الحوار لأغراض تكتيكية بحتة، في مقدمتها تحميل القيادة الفلسطينية مسئولية تجميد عملية السلام، وإظهارها أمام الرأي العام العالمي والإسرائيلي بمظهر الرافض للحوار وللبحث عن حل سياسي للأزمة الطاحنة القائمة بين الطرفين.
اعتقد ان المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تفرض على القوى الوطنية والإسلامية تحاشي تقديم الذريعة لشارون، وتفرض على قيادتهم خوض الصراع على كل الجبهات، وعدم التصادم مباشرة مع توجهات القوى الدولية والإقليمية الكبرى، التي قد ترى في أطروحة بيريز بارقة أمل، وتعتبر لقاء الفلسطينيين به فرصة للبحث عن مخرج من المأزق لا يجوز تفويتها..الخ فاللقاء من حيث المبدأ مع بيريز يجب أن لا يكون موضوع خلاف داخلي في مرحلة الانتفاضة. وإذا كان اللقاء شرا في نظر بعض الفلسطينيين، فهو شر لا بد منه ويجب يتم بقرار من الهيئات القيادة المعنية، وان يكون لقاءا علنيا، وان يتم أولا مع رئيس السلطة الفلسطينية. ولا داعي للقول أن لا أحد من الفلسطينيين قيادة وشعب يراهن على اللقاء مع بيريز، وان جميع اللقاءات التي قد تجري معه لن تسفر عن نتيجة تذكر في عهد شارون، سوى فضح مناورته أمام العالم، وأمام قواعد حزب العمل وجمهور السلام في إسرائيل، وكشف موقعه في إطار حكومة اليمين المتطرف.
في كل الأحوال ستشهد الأيام والأسابيع القادمة تصعّيدا “شارونيا” عسكريا وسياسيا، خصوصا على أبواب مؤتمر حزب ليكود المقرر عقده بعد شهرين، هدفه مواصلة تقويض بنية السلطة الفلسطينية وتدمير مرتكزاتها العسكرية والأمنية ومنشئاتها المدنية. ويعتقد شارون ان مثل هذا التصعيد يعزز مكانته الحزبية الداخلية في مواجهة خصمه نتنياهو، ويمنحه تأييد كوادر وقواعد حزب ليكود وكسب أصوات جميع الذين ينتشون للأعمال الحربية ضد الفلسطينيين، خصوصا إذا أوقعت خسائر ومست مرتكزات “سلطة عرفات الإرهابية”. وإذا كانت الإدارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي تعتبر تدمير السلطة الفلسطينية خط احمر، وهذا الاعتبار يعرقل تحقيق شارون حلمه بالضربة القاضية، فتكتيكه، كما تدل عليه عملياته الحربية الأخيرة، يعتمد تحقيقه بالتدريج وبالنقاط. ويتصور شارون وأركانه أن التدرج المتصاعد في إضعاف السلطة واغتيال كوادرها الأمنية ونشطاء الانتفاضة، كفيل بانهيارها من الداخل. وينسون ان حروبهم الكبيرة والصغيرة التي شنوها ضد منظمة التحرير الفلسطينية من العام 1965 وحتى العام 1991 عززت مكانتها في صفوف شعبها ووحدته تحت رايتها.