الفصل الاسرائيلي من جانب واحد لا يحل الاشكال

بقلم ممدوح نوفل في 28/08/2001

في أعقاب العملية “الخاصة” التي نفذت مطلع عام 1995، عند مفرق “بيت ليد” داخل إسرائيل وأسفرت عن مصرع أكثر من عشرين جندي إسرائيلي، وجه رئيس وزراء إسرائيل “اسحق رابين” خطابا إلى الجمهور الإسرائيلي عبر التلفزيون. تحدث فيه لأول مرة، بصورة رسمية عن الفصل بين الشعبين، وقال: “إننا نعمل بجد ونشاط من أجل الانفصال عن الشعب الآخر”، وسنصل لهذه الغاية إن عاجلا أو آجلا”. وبعد حديثه عن “الفصل”، أصدر قرارا عين بموجبه وزير الشرطة “موشه شاحال” رئيسا للجنة “الفصل”، وكلف وزير المالية “شوحاط” إجراء دراسة تفصيلية لانعكاسات تنفيذ “خطة الفصل” ماليا واقتصاديا على إسرائيل، وطلب من هيئة الأركان العامة للجيش دراسة نتائجها المحتملة على الأوضاع الأمنية التكتيكية والاستراتيجية.
وبعد اغتيال رابين على يد متطرف يهودي، وتولي شمعون بيريز مؤقتا دفة الحكم، تراجع الحديث عن الفصل بين الشعبين، ولم تجري متابعة جدية للدراسات المالية والأمنية التي وضعها الجيش ووزارة المالية. وكان بيريز يفضل “الفصل” باتفاق مع الفلسطينيين، وينظر إليه من زاوية حلمه بشرق أوسط جديد. وبعد وقوع عدة عمليات فلسطينية داخل إسرائيل، مارس بيريز سياسة “الطوق الأمني الشامل”، ومنع العمال والتجار الفلسطينيين من العبور إلى إسرائيل، واعتبرها بعض المراقبين والمحللين السياسيين، في حينه، بداية تنفيذ غير معلن “لخطة الفصل” التي وضعتها “لجنة شاحاك”.
وبعد فوز زعيم ليكود السابق “نتنياهو” بالانتخابات عام 1996، واصلت إسرائيل سياسة فرض “الإغلاق والطوق الأمني الشامل” على “المناطق”. ولم تقم حكومة نتنياهو بخطوات ملموسة لإحياء “خطة الفصل” التي تبلورت في عهد رابين، لسبب “بسيط” معارضة حزب ليكود للفصل، وإيمانه ان “يهودا والسامرة أرض الميعاد التي وهبها الرب لبني إسرائيل”، لا يجوز ليهودي التخلي عنها “للاغيار”.
وبعد هزيمة نتنياهو وفوز باراك في انتخابات 1999، تجدد الحديث عن “الفصل بين الشعبين”، وبدأت حكومة باراك بإجراءات عملية على الأرض لتطبيق “الفصل من جانب واحد”، دون الإعلان رسميا عن ذلك. وظهر في عهده باراك اصطلاح “الحدود المتنفسة” للدلالة على الفصل المتدرج، والسماح بنشاط اقتصادي ومدني واسع بين الشعبين، وتم تسريع بناء بعض المناطق الصناعية على الحدود، وأنجزت واحدة رئيسية في قطاع غزة. وقام الجيش الإسرائيلي، بهدوء ومن جانب واحد، بإجراء تعديلات طفيفة لصالحه على الحدود مع قطاع غزة، وطور بنيان السياج الأمني الفاصل بين غزة وإسرائيل. ونقل سبعة حواجز عسكرية إلى مواقع جديدة شرقي “الخط الأخضر” حدود عام 1967، كتمهيد لرسم حدود جديدة وضم مساحات من أراضي الضفة الغربية. وأظهرت الحواجز الجديدة طمع اسرائيل في ضم أراضي في مناطق الخليل واللطرون وغرب رام الله وقلقيلية وجنين.
إلى ذلك، أقام الجيش تحصينات قوية حول معظم المستوطنات في الضفة وقطاع غزة، وشق طرق التفافية طولية وعرضية كثيرة تفصل، ما أمكن، الطرق التي يستخدمها المستوطنون عن التي يستخدمها الفلسطينيون. ومع كل درس جديد مستخلص من المصادمات مع الفلسطينيين كان الجيش الإسرائيلي يجري تعديلات على الحدود وعلى طرق المستوطنات.
وفي مفاوضات قمة كامب ديفيد وطابا، التي تمت في عهد باراك، تبلورت أسس وقواعد جديدة للفصل بين الشعبين، أهمها؛ الفصل بين الشعبين باتفاق القيادتين. اعتماد حدود 5 حزيران من العام 1967، أساسا لرسم الحدود بين إسرائيل والدولة فلسطينية. وفي حال إجراء تعديلات في الحدود، لأسباب تتعلق بالاستيطان أو غيره، يتم ذلك في إطار تبادل الأراضي بالقيمة والمثل، وان تكون خالية ما أمكن من السكان. والتزام إسرائيل بهذه القاعدة يعني من الناحية العملية، زيادة في مساحة أرض الدولة الفلسطينية عن مساحة الضفة والقطاع في العام 1967، باعتبار قيمة 3% من أراضي الضفة الغربية التي جرى الحديث عن مبادلتها (أراضي في القدس واللطرون، ومنطقتي قلقيلية وسلفيت وبيت لحم،) تفوق بكثير قيمة الأرضي الإسرائيلية “حالوتسا” شرق قطاع غزة المعروضة كبديل عنها.
إلى ذلك، وافق الجانب الإسرائيلي في طابا “من حيث المبدأ” على إخلاء جميع المستوطنات في قطاع غزة، وجميع المستوطنات في منطقة الغور في الضفة، وكذلك الواقعة بين رام الله ونابلس، باستثناء تجمع مستوطنات أرائيل. ووافق أيضا على إخلاء المستوطنات الواقعة في مثلث جنين نابلس طولكرم، وأيضا الموجودة في قلب مدينة الخليل ومحيطها، باستثناء تجمع مستوطنات غوش عتصيون القائمة بين بيت لحم وحلحول والخليل. وتمسك الجانب الإسرائيلي في تلك المفاوضات، بضم “إصبع اللطرون” التي بنى فيها مدينة “مودعين” وطالب بضم جميع المستوطنات الواقعة داخل حدود بلدية القدس الشرقية. وأصر على ضم مستوطنة “مدينة” “معاليه أدوميم” التي تفصل جنوب الضفة عن وسطها وتشرف على البحر البيت. وأيضا مستوطنة جبعات زئيف التي تفصل القدس عن رام الله وتفصلهما عن منطقة اللطرون وعن عدد من القرى الفلسطينية الواقعة غرب المدينتين.
إلى ذلك، اسقط الجانب الإسرائيلي في مفاوضات طابا ضم مساحات من أرض الضفة وقطاع غزة لاعتبارات تتعلق بأمن إسرائيلي كما كان يطالب سابقا ووافق “من حيث المبدأ” على معالجة هذا الجانب الحساس من وجهة النظر الإسرائيلية من خلال؛ (أ) تطوير التنسيق الأمني المشترك بين الطرفين. (ب) وجود قوات دولية على الحدود بين الدولتين، وعلى حدود الدولة الفلسطينية مع الأردن، بعد التوصل إلى اتفاق وليس قبله. (ج) طلب استئجار ثلاثة قواعد عسكرية في مرتفعات الضفة الغربية، علما ان الواقع الجغرافي يؤكد ان واحدة تكفي وتزيد. لا شك في أن أطروحة حزب العمل في مفاوضات كامب ديفيد وطابا لحل النزاع “الجيوسياسي” المتعلق بالأرض والأمن والحدود والمستوطنات والدولة الفلسطينية، أرسى أرضية صالحة أوليا لتطبيق فكرة “الفصل بين الشعبين” باتفاق، وعلى أساس دولتين للشعبين لهما حدودهما الدولية المعروفة. دون التقليل أيضا من أثر الخلافات التي بقيت قائمة بين الطرفين بشأن “الفصل”، وخصوصا الخلافات المتعلقة باللاجئين والقدس وبالتجمعات الاستيطانية الثلاث (أرائيل وغوش عتصيون والقدس ومحيطها) التي يصر الجانب الإسرائيلي على توحيدها وضمها لإسرائيل.
وبديهي القول، أن سقوط باراك في الانتخابات الأخيرة وخسارة حزب العمل سلطة القرار في إسرائيل، وانتقال السلطة لليمين بزعامة شارون، جمد إلى إشعار آخر، ما تم إنجازه على طريق “الفصل باتفاق” بين الشعبين. وفتح الباب على مصراعيه لخلق وقائع وحقائق جديدة تنسف مفهوم حزب العمل حول الفصل. وتوجه حكومة شارون لبناء مدينة كبيرة في منطقة “حالوتسا” خطوة أولى على طريق تكريس الفصل العنصري. وأظن، لا بل يمكن الجزم، أن بقاء اليمين بزعامة شارون او نتنياهو في السلطة، يتسبب في تدمير، ليس فقط، ما أنجز، “نظريا”، في طابا وكامب ديفيد على طريق الطلاق برضا الطرفين، أي “الانفصال باتفاق”، بل وأيضا تدمير مقومات “الفصل بالتراضي” التي خلقها اتفاق أسلو وملحقاته.
وعلى الرغم من أن شارون لم يتطرق إبان حملته الانتخابية ولا في برنامجه الحكومي إلى مسألة “الفصل بين الشعبين”، إلا أن أقواله قبل الانتخابات، وأعماله على الأرض، بعد جلوسه في كرسي رئاسة الوزراء، تؤكد إن لا أفق لترجمة الحديث عن “الفصل” الجاري الآن في وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى أفعال. والتفسير الوحيد لحديث شمعون بيريز عن الانسحاب من قطاع غزة من جانب واحد، هو ذر الرماد في العيون، وتضليل العالم وحرف أنظاره عن جرائم شارون وليس أكثر.
قبل الانتخابات الأخيرة سأل شارون عن التنازلات المؤلمة التي يمكن أن يقدم عليها من اجل السلام فأجاب ؛ “عندما أتحدث عن تنازلات فإنني أقصد بذلك عدم احتلال مدن نابلس وأريحا وسواهما من جديد، وهذا في نظري تنازل مؤلم جدا، لأن كل هذه الأماكن هي مهد ميلاد الشعب اليهودي. وأنا لا أعرف شعبا في العالم تنازل عن كنوزه التاريخية القومية إلا إذا هزم في الحرب، ونحن لم نهزم بل انتصرنا”. وفي سياق آخر قال؛ لا أفرق بين مستوطنة “نتسريم”، الموجودة في قلب قطاع غزة، ومدينة كفار سابا المجاورة لمدينة تل أبيب..وبعد فوزه بالانتخابات تحدث شارون ضد الفصل. وفي أحاديث أخرى مغلقة مع عدد من قادة حزب العمل والمحللين الاستراتيجيين، قال: من أجل الوحدة الوطنية يمكنني تبني “فصل من جانب واحد” يقوم على أساس فصل المناطق المعرفة في الاتفاقات “منطقة C” عن مناطق” A + B”، وضم الأولى إلى إسرائيل، وترك الباقي لعرفات. أي الاحتفاظ بأكثر من50% من أراضي الضفة وثلث قطاع غزة. وأظن أن الحديث عن “فصل بقرار دولي” يستند إلى القرار 242 يندرج تحت بند أحلام لا أفق لرؤيتها على أرض الواقع في عهد الإدارة الأمريكية بزعامة بوش. وأقصى ما يمكن الطموح إليه في عهده هو منع شارون من نسف ما طبق من أوسلو على الأرض. وفي كل الأحوال خير للفلسطينيين قيادة وشعب عدم الانشغال في عهد شارون في هذا الأمر، ومتابعة العمل من أجل إحداث تغيير في موقف الشارع الإسرائيلي. وإقناعه بأن “الفصل” اليوم باتفاق، خير من التأجيل، خصوصا وان التأجيل يقود إلى تدمير مقومات الانفصال السلمي، ويعقد إمكانية إجراء هذه العملية التي لا بد منها. ويجعل فكرة اندماج الشعبين في دولة واحدة أكثر واقعية من فكرة الفصل.
والعودة إلى طريق الفصل باتفاق تبدأ بالفصل بين بيريز وشارون وجر بيريز إلى مقاعد المعارضة ولعب دور المعطل لحركة اليمين من خارج الحكومة.