توفير الذريعة لحرب شارون القادمة جريمة لا تغتفر

بقلم ممدوح نوفل في 15/07/2001

منحت موافقة رئيس السلطة الفلسطينية على توصيات لجنة “ميتشيل” لتقصي الحقائق وخطة تنيت مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (C I A ) لوقف إطلاق النار وتبريد النزاع، عددا من القوى الدولية والإقليمية فرصة تنشيط حركتها لمعالجة أزمة المفاوضات والعلاقات الفلسطينية الإسرائيلية. وشهد الشرق الأوسط حركة دبلوماسية واسعة تصدرتها إدارة بوش، بعدما ظلت قرابة خمسة أشهر ترقب تدهور الأوضاع، وتتفرج على تصاعد عمليات القتل والتدمير الإسرائيلية للفلسطينيين بشرا وشجرا وممتلكات. وكانت العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية تأزمت بعد فوز شارون في شباط فبراير الماضي بعد فوز شارون في انتخابات رئاسة الحكومة الإسرائيلية وبلغت الأزمة ذروتها بعد تفجير الجناح العسكري لحركة حكماس ملهى الدولفينريوم في تل أبيب وقتل اكثر من20 إسرائيليا وجرح قرابة100 آخرين.
وأيا تكن دوافع الإدارة الأمريكية الخفية والمعلنة لصمتها كل هذه الفترة الطويلة، فتحركها من جديد جاء بعد انتقادات واسعة وجهها لها أصدقاؤها العرب وحلفاؤها الأوروبيون. الذين حذروا من ان تراجع واشنطن عن لعب دور فاعل ومتوازن في معالجة النزاع العربي الإسرائيلي سيؤدي حتما إلى تقوية التطرف والإرهاب، وتدهور الأوضاع وانفجار الصراع وتوسيع رقعته بما يهدد استقرار المنطقة ويمس بالمصالح الأمريكية والأوروبية فيها. وبعد فشل شارون على مدى 100 يوم من حكمه منحتها له، سقط خلالها عدد كبير من القتلى والجرحى من الطرفين، وتوترت الأجواء السورية الإسرائيلية وفي جنوب لبنان..الخ خرجت إدارة بوش عن صمتها وأنهت استنكافها عن النهوض مهمتها راعيا لعملية السلام.
وبدلا من اعتماد إدارة بوش قرارات الشرعية الدولية ومبادئ حقوق الإنسان واتفاق أوسلو والاتفاقات الفرعية التي توصل لها الطرفان قاعدة لحركتها نحو تبريد النزاع وبقاء عملية السلام على قيد الحياة، تبنت مفاهيم شارون وشروطه لتطبيق توصيات لجنة “ميتشيل” على رغم معرفتها أنها شروط تعجيزية هدفها تعطيل تنفيذ هذه التوصيات ونسفها. وساندت شارون في تحميل سورية مسئولية الأعمال الحربية التي يقوم بها حزب الله في الجزء المحتل من جنوب لبنان. وشكل هذا الموقف بداية الخلل في دور إدارة الرئيس بوش في معالجة النزاع العربي الإسرائيلي. وظهرت أمام العرب والفلسطينيين على أنها تساند شارون ظالما أو مظلوما وتدعم سياسة حكومته القائمة على تجاهل مرجعية عملية السلام ونسف الاتفاقات التي تم التوصل إليها في عهد من سبقوه من رؤساء حكومات إسرائيل.
وبينت الحركة الأمريكية الجديدة كما تجلت في ورقة جورج تنيت مدير ال سي آي إيه، وجولة وزير الخارجية “كولن باول” ومساعده لشئون الشرق الأوسط “وليام بيرينز”، عددا من القواعد تتحكم بتحرك إدارة الرئيس بوش. أولها، ان إدارة بوش لم تغير قناعتها التي استخلصتها، بعد استلامها السلطة، من دراسة ملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية والسورية الإسرائيلية في عهد رئيس وزراء إسرائيل السابق ايهود باراك، باستحالة التوصل الى اتفاق فلسطيني إسرائيلي في عهد شارون، حتى لو كرست وقتها وجهدها وغرقت في التفاصيل كما غرق كلينتون. خصوصا أنها تعرف اكثر من سواها أن شارون لا يملك لا يملك مشروعا سياسيا يصلح لاستئناف المفاوضات والتوصل إلى اتفاق على أي من المسارين الفلسطيني والسوري، وان وجود حزب العمل في الحكومة لا يغير في الأمر شيئا.
ثانيا، ان هذه الإدارة لا تنوي في الوقت الحاضر تقديم أفكار واقتراحات أمريكية خاصة لحل النزاع، وتتمسك بدور حدوده لا تتجاوز “إدارة الأزمة” الذي رسمته لنفسها منذ استلامها سدة الحكم، وليست بصدد الانغماس في البحث عن حلول لأزمة المنطقة ومعالجة النزاع العربي الإسرائيلي كما انغمست إدارة كلينتون، ولسان حالها يقول إذا كان الفلسطينيون والسوريون رفضوا العروض “السخية” التي قدمها باراك لهم، فحكومة يمينية بزعامة شارون لن تقدم للفلسطينيين نصف ما قدمه باراك في قضايا الأرض والقدس والاستيطان. وجكومة شارون لن توافق على الانسحاب من الجولان كما طرحه الرئيس كلينتون في آخر لقاء جمعه بالمرحوم الرئيس حافظ الأسد في آذار عام 2000.
ثالثا، إن التباين الإسرائيلي الأمريكي حول شروط تطبيق توصيات لجنة ميتشيل وتجميد الاستيطان واستئناف المفاوضات تباين محدود لا يمس جوهر موقف إدارة بوش المتبني لمواقف شارون وشروطه وهذا الموقف غير قابل للتحول إلى خلاف أمريكي إسرائيلي أساسي يتلوه ضغط أمريكي على إسرائيل يمكن للفلسطينيين والعرب البناء علي. وتراجع باول بعد أقل من 30 ساعة عن موقفه الذي طرحه في رام الله بشان المراقبين الدوليين يؤكد ذلك.
رابعا، إن أقصى ما تسعى إليه إدارة بوش في زمن حكم اليمين في إسرائيل هو: أ) محاولة استيعاب شارون وتعطيل قيامه بمغامرات عسكرية كبيرة تؤدي إلى تأجيج الصراع وتمدد النار المشتعلة في الضفة وقطاع غزة إلى دول الجوار وتحوله إلى نزاع لإقليمي. ب) تثبيت وقف إطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتخفيض مستوى العنف إلى أدنى مستوى ممكن. وتليين مواقف الطرفين وإخراجهما من خنادق القتال التي تمترسا فيها منذ فشلهما في عهد كلينتون وباراك في التوصل إلى اتفاق حول قضايا الحل النهائي. ج) تبريد حدة التوتر السياسي والمسلح على الجبهة اللبنانية السورية. د) بقاء مفهوم حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي والسوري الإسرائيلي بالوسائل السلمية على قيد الحياة.، حتى لو لم تلتزم الأطراف بتنفيذ ما تتفق عليه في غرف المفاوضات. وظهر أن إدارة بوش تسعى قدر المستطاع لإعادة الفلسطينيين والإسرائيليين والسوريين إلى غرف المفاوضات لحل خلافاتهم الكثيرة المعقدة عبر الحوار الثنائي المباشر من دون ضغوط على حكومة شارون ومن دون التورط بتقديم مقترحات محددة، أو المشاركة في المفاوضات.
وعلى رغم سماع الوزير كولن باول قبل وخلال زيارته الثانية للمنطقة، نصائح عربية وأوروبية صادقة تؤكد أهمية عدم مغادرة المنطقة قبل نزع فتيل الانفجار إلا انه عمل بموجب هذه التوجهات، وتحاشى التصادم مع حكومة شارون. وآثر التحرك في الاتجاه والمساحة اللذين حددهما رئيسها شارون في لقائه بالرئيس بوش خلال زيارته الثانية لواشنطن، وسمعها منه مباشرة خلال وجوده في المنطقة. وقبل الوزير باول الخضوع لما يشبه التحقيق حول تصريحه بشان المراقبين الدوليين الذي أطلقه، بالصوت والصورة، في المؤتمر الصحفي المشترك مع عرفات في رام الله.. واستسلم وزير خارجية اعظم دولة في العالم أمام شارون دون مقاومة تذكر، وتراجع عن موافقته على وجود مراقبين دوليين. وغادر المنطقة بسرعة قياسية، وتجنب الاشتباك مع شارون والغرق في تفاصيل مطالبه التعجيزية. ولم يلبه الوزير باول لظهور فشله أمام أهل المنطقة وعدد واسع من المراقبين طالما ان هذا المنظر يجنبه غضب الكونغرس، لا سيما ان مساندة إسرائيل باتت قضية أمريكية داخلية. وللأسباب ذاتها لم يفكر الوزير باول بزيارة دمشق وبيروت ومناقشة القيادتين السورية واللبنانية حول سبل تبريد جبهة مزارع شبعا وتكريس الذي تم التوصل إليه في جنوب لبنان في عهد حكومة باراك. وتسبب استهتار باول بالسوريين واللبنانيين وإهماله الوضع على جبهة مزارع شبعا بتدهور العلاقات السورية الإسرائيلية أكثر فاكثر.
في حينه، غادر وزير الخارجية الأمريكية المنطقة وهو على يقين أن الأزمة اقتربت من الذروة وباتت تهدد بانفجار كبير، ولا جدوى من التحرك الأمريكي قبل حدوث تطور نوعي في مواقف الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي أو أحدهما على الأقل. واغلب الظن انه غادرها ولا يفكر بالعودة إليها قبل وقوع هذا التطور ويتوقعه بعد الانفجار وليس قبله. وأيا تكن دوافع الوزير باول ونواياه من منح شارون حق تقدير مدى تبريد الوضع المحقق على الأرض حسب خطة تنيت وتقرير إذا كان الهدوء بلغ الدرجة والمستوى المطلوبين للبدء بتعداد الأسابيع الستة المطلوبة لتنفيذ توصيات جورج ميتشيل، فموقفه هذا حد من إمكان قيام اي طرف دولي أو إقليمي بأي دور مثمر لم يستطع باول القيام به. وقدم لشارون وأركانه الأمنيين غطاء أمريكيا كاملا لتصعيد عمليات القتل والاغتيال والتدمير ضد الفلسطينيين. وبصرف النظر عن مواقف إدارة بوش وقناعة باول الخاصة فالثابت ان وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 13 حزيران 2001 اثر الوساطة التي تنيت قد انتهى
وبديهي القول إن انتهاء ترتيبات تنيت يعني تلقائيا التحاق خطة ميتشيل بالمبادرة المصرية الأردنية التي توقف الحديث عنها بعد طرح هذه الخطة ذات البعد الدولي.