التباين حول تقييم واقع الانتفاضة وآفاقها ظاهرة طبيعية صحية

بقلم ممدوح نوفل في 25/04/2001

تظهر اجتماعات القوى الوطنية والاسلامية “قيادة الانتفاضة” تباينا داخليا واسعا حول تعريف “الانتفاضة” وتحديد اهدافها المباشرة وتقييم قدرتها على تحقيقها. وتبين شعاراتها وبيانتها وهتافاتها المستقلة في المسيرات ثلاث اتجاهات رئيسية تتعايش بعضها مع بعض في اطار “الانتفاضة”. لكل اتجاه قواه في الشارع وممثليه المعروفين في اطار النظام السياسي الفلسطيني الرسمي والشعبي: الأول، يختلط فيه العلماني بالديني، ويعتقد اصحابه ان حصيلة تسع سنوات من المفاوضات والعلاقات الفلسطينية الاسرائيلية اسقطت خيار السلام الذي اعتمده العرب والفلسطينيون منذ مؤتمر مدريد عام 1991وحتى الآن. ويتمسكون بمواقفهم القديمة الرافضة لعملية السلام جملة وتفصيلا، ويدعون القيادة الفلسطينية الى مراجعة مواقفها والانسحاب من العملية السلمية والغاء جميع الاتفاقات التي وقعتها مع اسرائيل، ووقف كل اشكال المفاوضات والاتصالات الامنية والسياسية ويصفوها “بالمهزلة السياسية”. ويطرحون الانتفاضة والمقاومة والكفاح المسلح خيارا بديلا للمفاوضات ولعملية السلام، ويسعون بكل السبل الى مزيد من عسكرة الانتفاضة ويطالبون السلطة بتوزيع السلاح على الجماهير. وفي مرحلة مبكرة أطلق اصحاب هذا الخيار من التيار الاسلامي على الحركة الشعبية اسم “انتفاضة الحرم” و”انتفاضة الأقصى”. ويرفعون في الندوات والمسيرات المشتركة شعار “الجهاد في سبيل الله”، و”خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود”. ويعتقدون بان استمرار الانتفاضة والمقاومة وتصاعد حركتهما “الجهادية” كفيل بطرد الاحتلال وازلة الاستيطان، ويحولها الى حركة شعبية “عابرة للحدود المجاورة”. ويستشهدون بالتحركات الشعبية التي شهدتها عواصم الدول العربية والاسلامية من المحيط الى الخليج في ايام الانتفاضة الاولى.
يقابل هذا الرأي رأي آخر، اصحابه كانوا ومازالوا يعتبرون خيار السلام خيارا استراتيجيا لا رجعة عنه، وانه الطريق الأسلم والاقصر لوصول الشعب الفلسطيني الى اهدافه الوطنية وتحقيق حقوقه التي اقرتها الشرعية الدولية. ويدعون الى التمسك بعملية السلام وأسسها القديمة، والالتزام بكل الاتفاقات التي توصل اليها الطرفان وضمنها اتفاق اوسلو وما له علاقة بالتنسيق الامني المشترك. ويرون في العودة باسرع وقت ممكن الى طاولة المفاوضات مصلحة وطنية ملحة، ويحذرون من الوقوع في فخ شارون الذي يسعى الى وأد عملية السلام ونسف اتفاق اوسلو وما تلاه من اتفاقات وكسب الوقت وتكريس حقائق جديدة على الارض تنسف مقومات الدولة الفلسطينية. ويدعو اصحاب هذا الرأي الى قراءة موازين القوى قراءة واقعية ورؤية مدى اختلاله بشكل فاحش لصالح اسرائيل، وميل المجتمع الاسرائيلي نحو اليمين وتقاعس الامم المتحدة والقوى الاقليمية والدولية عن تحمل مسئولياتها. ويقلل انصار من قيمة الانتفاضة ويشكون بقدرتها على احداث تغييرا جوهريا في المواقف الاسرائيلية في عهد شارون، ويدعون لوقفها بقرار ذاتي جريء بعد ان تحولت الى عبئ على الشعب الفلسطيني، واقرب الى صراع مسلح منها الى حركة شعبية واسعة. ويستنتجون من ذلك كله؛ ان لا افق امام الشعب الفلسطيني، في المرحلة الراهنة، تحقيق أهدافه الوطنية المرحلية كاملة؛ “حق اللاجئين في العودة واقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس وانسحاب اسرائيل من جميع الاراضي التي احتلت عام 1967، وازالة الاستيطان”..الخ ويحذرون من المضي قدما في عسكرة الانتفاضة، ومن تحولها الى شكل من العقاب الذاتي المدمر. ويدعون القيادة الفلسطينية الى انتهاج سياسة تساعد على التخلص باسرع وقت من تهمة الارهاب وتهمة استبدال طريق السلام بالعنف، التي نجحت اسرائيل في لصقها بها وبالحركة الشعبية الفلسطينية.
ويعتقد اصحاب هذا الرأي بان التعاطي مع الحلول المرحلية الطويلة التي يعرضها شارون والعمل على تحسينها قدر المستطاع خير من هدر الوقت وبقاء الوضع الفلسطيني جامدا على ما هو عليه، خاصة وان اطروحة شارون لا تلزم احدا بانهاء النزاع. ويعتقدون ان القيادة الفلسطينية هدرت فرصة ثمينة، وأخطأت في ادارة المفاوضات مرتين؛ الاولى عندما قفزت عن استحقاقات المرحلة الانتقالية ودخلت مفاوضات الحل النهائي قبل الزام اسرائيل بتنفيذ هذه الاستحقاقات. والثانية حين رفضت العرض الذي تقدم به الرئيس كلينتون في آخر يوم من ايام قمة كامب ديفيد والذي تبلور بصورة اوضح في محادثات طابا التي تمت قبل الانتخابات الاسرائيلية. خصوصا وان العرض ومداولات طابا تضمنت موافقة اسرائيل على قيام دولة فلسطينية فوق قرابة 96ـ97% من اراضي الضفة وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية، واخلاء اكثر من120 مستوطنة وتسليمها للسلطة الفلسطينية بجانب ما تضمنته بشأن القضايا الاخرى. ويذّكر اصحاب هذا الراي، الناس بنقد الجيل الحالي مواقف الآباء والاجداد لرفضهم قبول قرار التقسيم عام 1947، وبالنقد الذاتي الذي مارسه قادة في الثورة الفلسطينية بشأن رفض المشاركة عام 1978، في مفاوضات كامب ديفيد المصرية الاسرائيلية حول الحكم الذاتي. الى ذلك يتردد انصار هذا الاتجاه في اعلان مواقفهم للناس بالوسائل المتاحة ويعبرون عنها باساليب غير مباشرة في اللقاءات الضيقة وداخل الغرف المغلقة.
اما الاتجاه الثالث، فانصاره يؤمنون بالسلام من حيث المبدأ ويؤيدون المفاوضات. ويرفضون الاخذ بدعوات الاتجاهين الآخرين، ويتهمون الاول بالتطرف والثاني بالدعوة الى الخضوع والاستسلام للشروط الاسرائيلية. ويعتبرون الانتفاضة شكلا من المفاوضات العنيفة اعتمده الناس والسلطة وسيلة ضغط على الطرف الآخر لتحسين شروط وقواعد التسوية السلمية وتحقيق الاهداف الوطنية. ولا يعارضون استئناف المفاوضات ويشترطون استئنافها من حيث توقفت في عهد باراك، ويرفضون بالمطلق اطروحات شارون المتعلقة باستئناف المفاوضات، ولا يقرون بضياع فرصة. ويعتقدون بان الانتفاضة والمقاومة وتفاعلاتهما داخل اسرائيل وفي الحقلين الاقليمي والدولي ارست ارضية لتعزيز ميزان القوى لصالح الفلسطينيين وتحسين اسس وقواعد التفاوض وتطوير صيغة رعاية المفاوضات باتجاه اشراك قوى اقليمية ودولية أخرى فيها. ويتبنى انصار هذا الاتجاه فكرة استمرار الانتفاضة والمقاومة المسلحة جنبا لجنب مع المفاوضات في حال استئنافها، ويرفضون دعوة البعض لوقفها. ويعتبروها حركة ديمقراطية ويرفضون اضفاء الطابع الديني او العسكري عليها، ويرفعون شعار “انتفاضة القدس والاستقلال”. ويبرزون ما حققته من انجازات في مجال الوحدة الوطنية وفي الحقلين العربي والدولي، ويتحسسون من كل نقد لاوضاع الانتفاضة. ويراهنون على دور الجماهير العربية وضغطها على حكوماتها لاسناد الانتفاضة بصورة ملموسة. لا شك في ان تباين القوى الوطنية والاسلامية، سلطة ومعارضة، حول تقييم طبيعة المرحلة ومفهوم الانتفاضة ودورها في الصراع أمر صحي وصحيح. وهو انعكاس طبيعي للقناعات الفكرية والتوجهات السياسية والنضالية الاساسية التي تتبناها هذه القوى. ويسجل لها انها برغم خلافاتها المتنوعة ظلت موحدة في مواجهة الاحتلال في اطار”الانتفاضة” ونجحت في ادامة التصادم مع قواته فترة طويلة. الا ان هذا الانجاز الوطني الهام لم ولا يعالج هموم الناس وبخاصة تدهور اوضاعهم المعيشية، ولا يعوضهم عن الخسائر التي لحقت بهم. ولا يغفر للقوى الوطنية والاسلامية قصورها في معالجة النتائج والآثار السلبية للانتفاضة على بنية المجتمع الفلسطيني الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ناهيك عن التقصير في سد النواقص والثغرات الكثيرة في بنية الانتفاضة ذاتها، وعدم معالجة الظواهر السلبية التي برزت في اشكال النضال المتبعة وتسببت بخسائر بشرية واقتصادية لا مبرر لها وساهمت في ضمور جماهيرية الانتفاضة.
ويفترض ان لا يكون هناك خلاف بين اطراف النظام السياسي الفلسطيني حول ان القاسم المشترك لعمل القوى الوطنية والاسلامية لم يجذب قطاعا واسعا من الجمهور الفلسطيني للانتفاضة. وان برنامج “الانتفاضة والمقاومة” لا يصلح كاساس لحركة سياسة فلسطينية مؤثرة في مواقف القوى الاقليمية والدولية. وزراعته في الحقل السياسي الاسرائيلي غير ممكنة وغير مثمرة، وساهم في دفع فئآت واسعة من المجتمع الاسرائيلي نحو مواقف اليمين المتطرفة، ووحد اطراف النظام السياسي في اسرائيل حول هدف مواجهة لانتفاضة والمقاومة، وفي التصدي بقوة للموقف الفلسطيني بشأن حقوق اللاجئين العادلة. اعتقد ان المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تفرض على الجميع، وبخاصة القوى الوطنية والاسلامية “قيادة الانتفاضة”، تأمل اوضاع الانتفاضة والتعرف على حالتها الراهنة. واجراء تقييم واقعي ليس فقط لاشكال النضال بل وايضا لأهدافها المباشرة التي حددوها لانفسهم قبل سبعة أشهر. واجراء عملية حسابية دقيقة لصافي الارباح والخسائر التي جناها الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية خلال هذه الفترة. وبناء حساباتهم الجديدة على اساس ان الموقف الاسرائيلي والدولي مرشحان للمراوحة في المكان عامين اضافيين في اقل تقدير.
لا شك في ان سخاء الشعب الفلسطيني في التضحية من اجل تحقيق اهدافه الوطنية مدعاة فخر واعتزاز لكل المناضلين ضد القهر والظلم في العالم، الا ان ذلك لا يسد جوع الناس ولا يقلل من الألم، وقد يتحول الى خسارة صافية اذا لم يتم استثماره في الوقت المناسب. واذا كان للمثقفين الفلسطينيين في الداخل والخارج عذارا مفهوما بشأن ضعف انخراطهم في هذه “الانتفاضه والمقاومة”، فلا مبرر لهم، بعد مئتي يوم من عمرها، في عدم المبادرة لاطلاق حوار وطني علني وصريح لمسيرتها الماضية وآفاقها المستقبلية. وتحديد موقفا واضحا وجريئا من الاتجاهات الثلاث التي تتبناها القوى الوطنية والاسلامية، او شق اتجاه واقعي جديد. خاصة وان الجميع يقر بان القضية الوطنية تقف عند منعطف خطير وعموم الحركة الوطنية عبرت “النفق المظلم” وبقاء الوضع على حاله لا يحقق مكاسب وطنية جديدة.