مشهد قد يتكرر بين شارون وعرفات

بقلم ممدوح نوفل في 24/01/2001

ليلة اعلان نتتائج الانتخابات الاسرائيلية التي جرت في عام 1996، سهر عدد كبير من اعضاء القيادة الفلسطينية مع ابوعمار في مكتبه في غزة. وفي الوقت الذي كان ابوعمار منهمكا، كعادته، في قراءة التقارير العامة والرسائل الشخصية المتنوعة، كان الآخرون يتابعون عبر شاشة التلفاز نتائج الانتخابات اولا باول. وكانو يتبادلون التعليقات حول مستقبل العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية ومصير عملية السلام اذا هزم بيريز وفاز نتنياهو، وكانت امنيات الجميع ان لا يضيف بيريز فشلا جديد الى اعداد مرات فشله الكثيرة التي راكمها في حياته السياسية. وكان ابو عمار يقرأ الاوراق ويسمع التعليقات، ويدلي بين فترة واخرى بتعليق صغير على حديث الحاضرين. فهو يمتاز بقدرته على تركيز ذهنه على امور عدة دفعة واحدة، ويستطيع القراءة والكتابة والاستماع للآخرين والرد عليهم واعطاء الأوامر والتوجيهات ومشاهدة ما يعرض على شاشة التلفاز في وقت واحد.
بعد منتصف الليل نهض الحاضرون وفي نيتهم مغادرة المكتب وترك ابوعمار يكمل قراءة الملفات ويستدعي من يشاء ممن ينتظرون مقابلته على انفراد لبحث قضية شخصية او وطنية عامة. وقبل المغادرة وجه احد اعضاء القيادة سؤالا الى ابوعمار طلب رأيه في آخر نسبة الاصوات التي حصل عليها كل من بيريز ونتنياهو كما ظهرت على شاشة التلفاز، وكيف سيتصرف اذا نام وكان بيريز متفوقا ونهض صباحا ووجد نفسه امام عكس ذلك. رد ابو عمار وقال: لا تطمئنوا للارقام المعروضة امامكم، معلوماتي الخاصة تشير الى ان نتياهو سوف يحصل على اغلبية كبيرة من الاصوات في الصناديق التي لم يتم فرزها حتى الآن، وقد تقبل الامور رأسا على عقب. وحدسي الشخصي الذي لا يخطئ ينذرني بانني ساجد نفسي غدا وجها لوجه مع نتنياهو ومن يقف خلفه من قوى اليمين المتطرف”. واضاف “يا اخوان المجتمع منقسم على نفسه انقساما حادا واغلبيته تخشى السلام معكم”. ورفض ابو عمار الافصاح عن كيفية تصرفه مع نتنياهو كرئيس وزراء.
في تلك الليلة لم أنم وبقيت ساهرا حتى ظهرت النتيجة النهائية التي اكدت فوز نتياهو وسقوط شمعون بيريز وشاهدت على شاشة التلفاز احتفالات المتطرفين بهذا الانتصار.
في الصباح توجهت الى مكتب ابوعمار لتناول الفطورعلى مائدته، ووجدته قلقا يتمشى ويدور حول الطاولة، كما يفعل عادة، لتخفيف اثر قلقه على جسده، او عندما ينوي تركيز ذهنه والتعمق في التفكير قبل اتخاذ قرار صعب. قطعت على ابوعمار حبل افكاره عندما قلت: قدرنا يا اخ ابو عمار ان نعاني اربع سنوات اضافية من العذاب، وفي كل الاحوال نحن الآن فوق ارضنا وسط شعبنا ولدينا عمل كثير يملأ وقتنا. ولن يكون بمقدورك ان تجلس وتلعب الشطرنج كما فعلت في بيروت ابان فترة الحصار الطويلة في العام 1982. ولن تكون بحاجة الى صور تلفزيونة تظهر صبرك على نتياهو بلعب الشطرنج كما اظرته في حينه في مواجهة غطرسة شارون. فمهام بناء مؤسسات الدولة ومعالجة هموم ومشاكل الناس والاحزاب الفلسطينية كفيلة باستهلاك كل الوقت وقد تحتاج الى وقت اضافي لمعالجتها كلها.
في حينه عقب ابوعمار قائلا: مشاكل فتح وحماس الداخلية ومعالجة مشاكلهما مع السلطة والناس تحتاج 24 ساعة عمل في اليوم لمن يستمتع بدخول دهاليز هكذا مشاكل تفصيلية. واضاف فوز نتنياهو في الانتخابات كارثة على عملية السلام والمهم تقليص آثرهاعلى قضيتنا وشعبنا، سنرتاح في علاقاتنا الاقليمية والدولية لكننا سنواجه متاعاب كبيرة على الارض.
وبعد فوزه في الانتخابات، لم يتأخر نتنياهو في اطلاق التصريحات العنجهية الاستفزازية، وقال مرات عدة انه لن يتساهل مع السلطة الفلسطينية. واسرائيل لن تنفذ شيئا نصت عليه الاتفاقات ما لم ينفذ الفلسطينيون كامل تعهداتهم والتزاماتهم التي وردت في الاتفاقات ذاتها. وبمناسبة وبدون مناسبة كرر مقولته الشهيرة التي طربت اليها اذنيه؛ ( ليس في جول اعمالي عقد لقاء في وقت قريب مع عرفات، وفي كل الاحوال لن ألتقيه قبل ان ينفذ كذا وكذا..). كانت اقوال نتنياهو توضع على طاولة عرفات اولا باول، وكان ابو عمار يعلق عليها بصوت مسموع؛ (نتياهو ولد جاهل في السياسة. قد يكون بارع في تسويق الاخبار امام وسائل الاعلام لكن تصريحاته تؤكد انه فاشل في صناعة الاحداث الهامة التي تسوق نفسها في وسائل الاعلام). وبعد تمادي نتنياهو في تصريحاته افصح ابوعمار عن بعض ما يفكرعمله لوضع حد ل”طيش الولد”، وقال : (لن يتأخر اليوم الذي يرن فيه جرس هذا الهاتف ـ مشيرا الى هاتف مكتبه ـ ويكون نتنياهو على الطرف الآخر من الخط).
في ايلول/ سبتمبر1996 احتفل نتنياهو ورئيس بلدية القدس اولمرت بفتح نفق تاريخي تحت المسجد الاقصى، وتبجح نتنياهو بهذا الانجاز ومدلولاته على صعيد وحدة “اورشليم” كعاصمة ابدية موحدة تحت السيادة الاسرائيلية. واطلق الرجلان تصريحات عنيفة ضد عملية السلام وضد عرفات والسلطة الفلسطينية وغمزا من قناة رابين صانع السلام وهاجما بوضوح مواقف بيريز وسلوكه المهين للكرامة الاسرائيلية في العلاقة مع ياسرعرفات. وكررنتنياهو مقولته “لن التقي عرفات الا اذا..واذا..”. في حينه وجه ابو عمار رسائل عاجلة الى راعيي عملية السلام والامين العام للامم المتحدة وعدد كبير من زعماء العالم، طالبهم فيها التدخل الفوري لانقاذ عملية السلام من الدمار، ووضع حد لممارسات الاحتلال ضد المقدسات الاسلامية والمسيحية. وطالب العالمين العربي والاسلامي تحمل مسئولياتهم القومية والدينية دفاعا عن القدس واولى القبلتين وثالث الحرمين الشرفين، والعمل لانقاذ الشعب الفلسطيني من بطش الاحتلال. ودعا ابو عمار اعضاء مجلس الامن الاعلى الفلسطيني لاجتماع طارئ، بدأه بشن هجوم عنيف على نتنياهو وحمله مسئولية اللعب بالمحرمات، وتحويل الصراع من صراع سياسي الى صراع ديني لا حلول عقلانية له. وقال: (هبت رياح الجنة في سبيل الدفاع عن المسجد الاقصى). وطلب من كافة قادة الاجهزة الامنية اعضاء مجلس الامن القومي تحضير الاوضاع الداخلية لخوض معركة طويلة دفاعا عن المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس، وحماية “هبة” اهلهم في المدن والقرى والمخيمات، والرد على اعتداءات الجيش الاسرائيلي على المتظاهرين العزل من السلاح. ودارت في حينه اول اشتباكات مسلحة مباشرة بين اجهزة الامن الفلسطينية وقوات الاحتلال النظامية، ولم يشرك الجيش الاسرائيلي المستوطنين في تلك الاشتباكات بعكس ما موقفه في هذه الايام في مواجهة الانتفاضة. وسقط في تلك الاشتباكات اعدادا ليست قليلة قتلى وجرحى من الطرفين وكان جميع القتلى الاسرائيليين من العسكريين، ولم يتحول المستوطنون طرفا مباشرا في المعركة كما الحال في هذه الايام.
ومع بدء الاشتباكات المسلحة بين الطرفين تحركت قوى السلام في اسرائيل وملأت شوارع المدن الاسرائيلية بالمظاهرات واليافطات المنددة بمواقف نتنياهو المدمرة لامل السلام، والتي سستجر اسرائيل لحروب جديدة، واحيوا ذكرى المغدور رابين وحملو نتنياهو وقوى اليمين بمسئوليتهم عن قتله. وادان بعض قادة الاجهزة الامنية الاسرائيلية في اجتماعاتهم الداخلية مواقف رئيس الحكومة وحملوه مسئولية تدمير العلاقة الامنية الفلسطينية الاسرائيلية التي لا غنى عنها لنجاح مقاومتهم “للارهاب”. الى ذلك، تحرك في حينه راعيي عملية السلام وعدد كبير من زعماء العرب والعالم المعنيين باستقرار اوضاع المنطقة، وضغطوا على نتنياهو وارغموه على وقف اعماله الطائشة المدمرة لعملية السلام.
ولم يتأخر الوقت حتى رن جرس الهاتف في مكتب ابوعمار وكان نتنياهو على الطرف الآخر. وبعد كلمات المجاملة التي قالها بلغة دبلوماسية طلب نتنياهو من ابو عمار بذل جهده لتهدئة الاوضاع ووقف اطلاق النار، وتحديد موعد قريب للقاء عاجل لاستئانف المفاوضات. واستجاب ابوعمار لطلب نتنياهو واغلق الهاتف وقال هامسا؛ نتنياهو استوعب الدرس الاول. وبعد تلك المكالمة خفت حدة الاشتباكات تدريجا، ولم تتوقف الا بعد ترتيب اركان الاارة الامريكية لقاء جمعوا فيه نتنياهو مع عرفات عند حاجز ايرتز. ومنذ ذلك التاريخ تطور دور الادارة الامريكية على المسار الفلسطيني، وارتقى من حالة المراقب من خارج غرف المفاوضات الى دور المشارك في كل الاجتماعات، وبدأت وكالة المخابرات المركزية تلعب دورا مباشرا في تقريب وجهات نظر الطرفين، وفي معالجة المشكلات الامنية الكبيرة والصغيرة التي كانت تقع بينهما. وظلت تلعب هذا الدور طيلة عهد نتنياهو الذي استمر قرابة 3 سنوات، وتوقف دورها هذا بعد فوز باراك في انتخابات عام 1999 بناء على طلبه، وكان ذلك الطلب واحدا ضمن سلسلة الاخطاء الكثيرة التي ارتكبها باراك حتى الآن.
وبعد تلك المكالمة الهاتفية بين ابوعمار ونتنياهو تواصلت مفاوضات الطرفين شارك في احدها شارون كوزير في حكومة نتنياهوز وفي الوقت الذي رفض فيه شارون مصافحة عرفات وافق على اتفاق واي ريفر الذي تضمن ضمن امور كثيرة على الانسحاب من 13% من اجمالي مساحة الضفة الغربية، ووقف زيادة عدد المستوطنات، والانسحاب من مدينة الخليل باستثناء الجيب الاستيطاني الموجود داخل المدينة. وطار نتنياهو من رئاسة الحكومة بسبب ذلك الاتفاق “الكريم”. فهل سيكرر التاريخ نفسه بمهزلة يكون بطلها شارون..؟ سؤال موجه لكل القوى الاقليمية والدولية ولجميع قوى السلام في اسرائيل التي تقف اليوم موقف المتفرج على ما يدور فوق خشبة مسرح العجائب الشرق اوسطية.