قصة فشل باراك حلقة 4- بالغ بقدرته على الاقناع وأخطأ في فهم عرفات

بقلم ممدوح نوفل في 30/01/2001

في محادثات كامب ديفيد طرحت أفكار أمريكية وفلسطينية وإسرائيلية كثيرة ومتنوعة، عكست مصالح كل طرف ورؤياه لسبل حل كل قضية من قضايا الحل النهائي المختلف حولها. ودوما كانت الأفكار والمواقف الأمريكية الإسرائيلية متقاربة ومتجانسة وكثيرا ما كانت متطابقة. الأمر الذي أثار حفيظة الرئيس الفلسطيني ودفعه إلى رفع سقف مطالبه. وتسلح بقرارات الشرعية الدولية وبنصوص الاتفاقات الموقعة بين الطرفين وبأسس عملية السلام التي نصت عليها رسالة الدعوة الامريكية ـ السوفيتية إلى مؤتمر السلام الذي عقد في مدريد عام 19991. وتبنى ابو عمار مواقفا متشددا بشأن القدس واللاجئين والحدود ألغت الأفكار الواردة في “ورقة” يوسي بيلن التي لخصها من حواراته الطويلة مع ابومازن. وألغت أيضا ما استخلصه الوزير شلومو بن عامي والمحامي جلعاد شير من لقاءاتهم مع ابوعلاء في استكهولم، وباقي الأطقم الفلسطينية المشاركة في مفاوضات الحل النهائي. وتكتم ابو عمار حول الحد الأدنى للمطالب الفلسطينية في معالجة هذه القضايا، وانعكس تشدده أوتوماتيكيا على عمل كل اللجان الاساسية وعلى علاقة أعضاء الوفد الفلسطيني بالوفدين الأمريكي والإسرائيلي، وبلغت أحيانا درجة تبادل التهديد والشتائم مع الاسرائيليين.
وبعد اقل من أسبوع من المحادثات الشاقة تبددت من سماء كامب ديفيد غيوم الأمل بالتوصل الى اتفاق. ومع دخول الرؤساء الثلاث في بحث مستقبل مدينة القدس ومصير اللاجئين تمسك ابو عمار بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية الخاصة بهما، وطالب بانسحاب إسرائيل من كل انحاء مدينة القدس العربية التي احتلت عام 1967، والإقرار بمبدأ حق العودة للاجئين الفلسطينيين وتعويضهم عن الخسائر والأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بهم في مدى نصف قرن. وارتفعت درجات الحرارة في بارومتر المفاوضات، وزاد التوتر في العلاقات الفلسطينية ـ الأمريكية والفلسطينية ـ الإسرائيلية. وبدلا من طرح الرئيس كلينتون مشاريع حلول أمريكية واقعية ومنصفة تقارب بين مواقف الطرفين ومحاولة فرضها على الطرفين، رفع وتيرة ضغطه على الرئيس عرفات ومارس الابتزاز السياسي، وتجاوز في كثير من الأحيان المألوف في الأعراف الدبلوماسية. وصمد ابوعمار ورفض التوقيع على أي اتفاق ينص على إنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي ولا يتضمن حل قضيتي القدس واللاجئين وفق القرارات الشرعية الدولية.
ورد قدر المستطاع وضمن الممكن في إطار الحرص على المصالح الفلسطينية العليا على كل ما خرج عن المألوف في العلاقات بين الدول. وفي رده لم يخرج ابوعمار عن الأعراف الدبلوماسية والتقاليد العربية، وهدد بالانسحاب من المفاوضات وأمر مرافقيه اكثر من مرة تجهيز حقائبهم للرحيل، وتصلب في مواقفه اكثر فاكثر وتمترس خلف قرارات الشرعية الدولية. وذكّر عرفات الرئيس كلينتون بالتزامات الإدارات الأمريكية السابقة بشأن حل مشكلتي القدس واللاجئين، وبتعهداته التي قطعها على نفسه خلال سنوات المفاوضات ولم تنفذ. وكشف عرفات للرئيس كلينتون أنه لا يستطيع التصرف بمصير اللاجئين والقدس بمفرده، ولا بد من العودة الى لأخذ رأي عدد من زعماء العرب، والتشاور مع رجال الدين المسلمين والمسيحيين والفاتيكان، والوقوف على وجهات نظرهم قبل التوقيع على اي اتفاق يمس وضع المدينة والمقدسات الإسلامية والمسيحية. واستصغر الرئيس كلينتون واركان ادارته وزن الرؤساء العرب الذين حاول ابوعمار الاستعانة بمواقفهم للهروب من الضغوط التي تعرض لها بشان القدس ومقدساتها. وبلغ التقليل من شانهم بما هو ابعد واكبر من الاستهتار، ولم يتورع بعض اعضاء الوفد الامريكي عن القول امام الوفد الفلسطيني؛ لا تحاولوا التستر بالموقف العربي نحن قادرون بدقائق الزام الحكام العرب بالموقف الذي نريد، وقادرون عبر الهاتف انتزاع تأييدهم ومباركتهم اي اتفاق نوافق عليه..!
ومع ازدياد تمسك ابوعمار بالحقوق الفلسطينية وقرارات الشرعية الدولية، بدأت ملامح انهيار القمة تلوح في الأفق. وتأكد باراك أن الضغوط الأمريكية واختلال ميزان القوى لصالحه وضعف قدرات السلطة الفلسطينية في مواجهة قوة إسرائيل العسكرية، غير كافية لإرغام عرفات على تقديم تنازلات تنتقص مساحة الأرض التي احتلت في العام 1967، وتتضمن تنازلا عن السيادة الفلسطينية على القدس وتمس حقوق اللاجئين التي ضمنتها قرارات الشرعية الدولية. ومع اقتراب موعد قمة الدول الثمانية الصناعية في طوكيو، بدأ الرئيس كلينتون البحث عن مخارج تنقذ موقفه وتحول دون فشل القمة. وأجرى اتصالات مطولة مع عدد من الملوك والرؤساء العرب طالبهم فيها تشجيع الرئيس الفلسطيني على تليين موقفه في المفاوضات حول القدس. ولم يتفاعلوا مع طلب الرئيس الامريكي وساند بعضهم مواقف ابوعمار صراحة، وشجعوه على رفض التوقيع على أي اتفاق ينتقص من السيادة الفلسطينية على القدس. وتصلب عرفات وتأكد الرئيس كلينتون في اللقاءات اليومية الثنائية والثلاثية الطويلة، ان قضايا الخلاف المطروحة على جدول الأعمال شائكة وحساسة ولها أبعاد رمزية عند الطرفين، وبخاصة قضيتي القدس واللاجئين. وظهر له ان قدرة باراك وعرفات على التصرف بهما محدودة وحلهما لم ينضج وليس بمقدور أي منهما تقديم تنازلات تقرب الواحد منهما من الحدود الدنيا التي تلبي قناعة الآخر وتحقق له أهدافه الاستراتيجية، وتمكّنه من تمرير الاتفاق في إطار مرجعيته الرسمية والشعبية.
نتائج القمة واسباب فشلها
آثر الرئيس كلينتون تأجيل الاعلان عن انتهاء القمة الى ما بعد عودته من اليابان، كي لا يدخل قمة طوكيو ضعيفا يجرر فشله. وطلب من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي البقاء في “الكامب” ومواصلة التفاوض برعاية الوزيرة اولبرايت واستجابا لطلبه. وخلال فترة غيابه أمضى الوفدان الفلسطيني والإسرائيلي إجازة قضاها كل طرف حسب ظروفه وحالته النفسية. وبعد عودته من طوكيو تقدم الرئيس كلينتون بمقترحات تفصيلية لحل قضايا الخلاف الأساسية، وكان مفهوما للوفد الفلسطيني ان جميع الاقتراحات والأفكار الأمريكية تطرح بعد التداول مع الإسرائيليين. وتجاوب باراك مع تمنيات الرئيس الأمريكي وخفّض سقف توقعاته، وتراجع عن بعض مواقفه تحت ضغط الخوف الامريكي الاسرائيلي من نتائج فشل القمة على أوضاعهما الداخلية. وبدأت لاءآت بارك الخمس بالتحول الى “لعمات”، وتحركت خطوطه الحمراء مثل حركة أضواء إشارات المرور وتغير لونها الأحمر وصار أقرب إلى الأصفر.
صحيح ان باراك ظل طيلة فترة المفاوضات متمسكا بمدينة القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، ورفض العودة الى حدود ما قبل 5 حزيران 1967 ورفض الاعتراف بمسئولية إسرائيل عن النكبة التي حلت باللاجئين عام 1947-1948ورفض الإقرار بحقهم في العودة إلى أرضهم حسب قرار الأمم المتحدة رقم 194، وأصر على بقاء المستوطنات، ورفض وجود جيش أجنبي غربي نهر الأردن..الخ، لكن الصحيح أيضا، انه تنازل خلال أسبوعين فقط من المفاوضات عن معظم أطروحته السابقة. ووافق من حيث المبدأ على قيام دولة فلسطينية مستقلة على قرابة 95% من الأراضي الفلسطينية التي احتلت في العام 1967. وتراجع عن المطالبة بفرض سيادة إسرائيلية على معابر الضفة والقطاع مع مصر والأردن، ووافق على تطبيق سيادة فلسطينية عليها بوجود طرف ثالث.
واستبدل فكرة ضم مناطق واسعة من الأغوار ومرتفعات رام الله والخليل لاعتبارات أمنية، باستئجار ثلاث قواعد عسكرية محدودة المساحة ولفترة زمنية محددة. وسلم بإخلاء عدد كبير من المستوطنات وإبقاء آلاف من المستوطنين تحت السيادة الفلسطينية إذا قبلوا بذلك، ولم يرفض فكرة تبادل الأراضي كسبيل لمعالجة ضم التجمعات الاستيطانية الكبيرة لإسرائيل. واقر بتحمل إسرائيل مع الآخرين المسئولية المعنوية عن نكبة اللاجئين وتشريدهم، وقبل بعودة بعضهم إلى أرضهم التي صار اسمها إسرائيل، وأصرعلى أن يتم ذلك في إطار إنساني وتحت بند لم شمل العائلات. وتحدث ابوعمار عن اعطاء اللاجئين في لبنان اولية في العودة، واستفسر الرئيس كلينتون حول عددهم، وبعد سماع الرقم 380 الف قال بحضور باراك يمكن تنظيم عودتهم في غضون 10سنوات، وصمت باراك ولم يعلق على النقاش. الى ذلك تراجع عن المطالبة بسيادة إسرائيلية كاملة ومطلقة على مدينة القدس بشقيها الشرقي والغربي وبقائها عاصمة موحد لإسرائيل وحدها. ووافق على اقتراح أمريكي بتقسيم المدينة الى ثلاثة قطاعات: قطاع تحت السيادة الإسرائيلية، وقطاع تحت السيادة الفلسطينية، وقطاع ثالث يوضع تحت سلطة الفلسطينيين الإدارية. ويتكون قطاع السيادة الفلسطينية، حسب الاقتراح الامريكي، من أحياء محيطة بالبلدة القديمة مع وجود اذرع له ممتدة الى داخلها. والأحياء المعنية بعضها واقع خارج نفوذ بلدية القدس الحالية مثل أبو ديس والعيزرية والسواحرة. أما الاحياء الشمالية الواقعة ضمن حدود بلدية اولمرت، بيت حنينا وقلنديا والرام وشعفاط وعناتا، فالاقتراح الأمريكي الموافق عليه إسرائيليا يمنح السلطة الفلسطينية سيادة كاملة عليها. والأحياء الجنوبية راس العامود وجبل المكبر والثوري تحصل فيها السلطة الفلسطينية على حقوق إدارية كاملة. ولاحقا تطور موقف باراك أكثر فاكثر وبخاصة بشان السيادة على الحرم القدسي الشريف.
الى ذلك، اقترح شلومو بن عامي “العلماني” نموذجا أطلق عليه “حكم خاص بالبلدة القديمة”. وحسب اقتراحه يحصل الفلسطينيون داخل أسوارها على حقوق إدارية كاملة وحكم ذاتي شبه كامل، بشرط بقاء القانون المطبق على هذه المناطق إسرائيليا. وإضافة لذلك تفرض إدارة دينية فلسطينية كاملة على الحرم القدسي يطلق عليه اسم “سيادة دينية” او “سيادة على أملاك الغائب”، وطالب رسميا، ولأول مرة، ان يحصل الإسرائيليون على زاوية صلاة في الحرم القدسي بالتنسيق مع الحاخامية اليهودية الرئيسية. ورفض عرفات المقترحات الإسرائيلية المدعومة امريكيا بوضوح لإنها تنتقص حقوق الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين في المدينة المقدسة التي أقرتها قرارات الشرعية الدولية. واعتبر ابو عمار أطروحات الإسرائيليين بشأن القدس خطوة صغيرة في الاتجاه الصحيح، لكنها من جهة أخرى مشوهة وخطيرة جدا، لاسيما الحديث عن تقاسم السيادة على ما فوق ارض الحرم القدسي الشريف وتحته. واتهم الإسرائيليين بالتخطيط لهدم المسجد الاقصى. ووجه ابو عمار خطابا للرئيس كلينتون طالب فيها بإنهاء المحادثات مشيرا إلى عدم وجود مقترحات بناءة بشان القضايا الجوهرية المتعلقة بالقدس واللاجئين، وانه لا يمكن أن يتخيل حلا عادلا بدون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية وبدون سيادة فلسطينية كاملة على جميع الأماكن المقدسة، وحذر من تحويل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى حرب دينية. ولم يتردد في القول للرئيس كلينتون؛ “ان دعوتي للموافقة على تقسيم السيادة على المسجد الاقصى تتضمن يا سيادة الرئيس دعوة للسير في جنازتي”. ورفض ابو عمار الغوص في تفاصيل موضوع حجم ومصدر المبالغ المطلوبة لتعويض اللاجئين قبل إقرار باراك بمبدأ حق العودة والتعويض حسب قرار الأمم المتحدة رقم 194. وطلب ابو عمار من مرافقيه تحضير موكبه لمغادرة منتجع كامب ديفيد وتجهيز طائرته لمغادرة الأراضي الأمريكية.
حاول الرئيس كلينتون إنقاذ القمة من الانهيار وقدم في الليلة الأخيرة ثلاثة خيارات لحل قضية القدس: الأول تأجيل حلها لمدة تتراوح من سنتين وحتى 25 سنة، والثاني سيادة فلسطينية على حيين في البلدة القديمة وحكم ذاتي إداري في أحياء حول البلدة القديمة، والثالث وضع معاكس، أي حكم ذاتي في البلدة القديمة وسيادة في الأحياء المحيطة بها. ولم يرفض باراك هذه المقترحات ووافق عليها بواسطة مبعوثه شلومو بن عامي، واعتبر بعض أعضاء الوفد الإسرائيلي الموقف الذي اتخذه باراك لم يسبق له مثيل. ووافق باراك على نقلها الى عرفات، ونقلها صائب عريقات لكنه عاد بعد فترة قصيرة برد سلبي. عندها قرر الرئيس كلينتون إنهاء القمة، وراح هو وأركانه يبحثون في سبل الإعلان عن انتهائها بأقل الخسائر الممكنة، وبما يضمن بقاء عملية السلام على قيد الحياة.
كلينتون شجع باراك على معاقبة الفلسطينيين
بعد اكثر من أسبوعين من المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية الشاقة والمكثفة في كامب ديفيد، اعلن الرئيس كلينتون يوم 24 تموز/ يوليو2000 في مؤتمر صحفي عن انتهاء أعمال القمة دون اتفاق. ورفض الاعتراف بفشله وفشلها، وأشار إلى أن المحادثات حققت نتائج هامة كانت غير مسبوقة فيما يتعلق بالمجالات التي تطرقت إليها. وأكد تعهد الطرفين “مواصلة جهودهما للتوصل في أسرع وقت ممكن إلى اتفاق يشمل جميع ملفات المتصلة بقضايا الحل الدائم”. وان الطرفين، يتفهمان، “أهمية عدم القيام بأعمال أحادية الجانب من شانها التأثير على نتيجة المفاوضات، وان خلافاتها ستحل فقط عن طريق مفاوضات تجري بحسن نية”، وأشار إلى تعهدهما بإشاعة مناخ ملائم للمفاوضات بعيدا عن الضغوط والترهيب والتهديد بالعنف. ولم يكتف الرئيس بيل كلينتون بالضغوط الشديدة التي مارسها ضد رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في القمة، وخرجت عن المألوف في الأعراف الدبلوماسية وبلغت حد التهديد، بل تابعها وألمح في مؤتمرة الصحفي “التأبيني” إلى أن ياسر عرفات لم يكن مرنا بما فيه الكفاية ولم يتقدم على طريق الحل بمقدار بما تقدم باراك. ونسي كلينتون او تناسى أن الفلسطينيين دفعوا فاتورة حسابهم كاملة مقدما قبل مشاركتهم في مؤتمر مدريد عام 1991، وقدموا تنازلات كبيرة عن حقوق كثيرة هامة من اجل صنع السلام في المنطقة اثمنها الاعتراف بالقرار242 مقابل حوار مباشر مع الادارة الامريكية والمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام ، واعترفوا بدولة إسرائيل قبل قيام دولتهم فوق أقل من ربع أرضهم التاريخية، وقبل اقرار اسرائيل بحقوقهم التي نصت عليها قرارات الشرعية الدولية.
وبدلا من تحديد الأسباب الحقيقية التي أدت إلى فشل جهوده في القمة الثلاثية، ومعاقبة وزير خارجيته اولبرايت ومنسق عملية السلام الشرق أوسطية دينس روس ومستشاره لشئون الأمن القومي سندي بيرغر، الذين ورطوه في عقد القمة قبل توفر الحد الأدنى لنجاحها واظهروا جهلا بشخصية عرفات وتفكيره، واصل كلينتون الأخذ بنصائحهم وانحاز لمواقف باراك بقوة. وأشاد عبر التلفزيون الإسرائيلي بحكمته في الدفاع عن مصالح إسرائيل الاستراتيجية وشجاعته في اقتحام الصعاب من اجل تحقيق أهدافها وقدم اقتراحات غير مسبوقة. وبعد اقل من أسبوع من انتهاء القمة الثلاثية صعّد كلينتون هجومه ضد الفلسطينيين وطوره، وقصف مواقفهم العادلة والمشروعة دوليا بنيران أسلحته الثقيلة. وأدان علنا تفكيرهم بإعلان قيام دولتهم فوق أرضهم فور انتهاء الفترة المحددة لانتهاء مفاوضات الحل النهائي كما حددتها الاتفاقات. وهددهم بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس قبل نهاية العام 2000وبوقف المساعدات الدولية التي تقدم لهم إذا أعلنوا قيام دولتهم من جانب واحد، علما انه شخصيا أقر في أيار1999حقهم في إعلانها وتمنى عليهم في حينه تأجيلها حتى أيلول2000 وتعهد لهم بالاعتراف بها إذا قبلوا تمنياته.
واي تكن دوافع الرئيس الأمريكي بيل كيلنتون من كيل المديح لرئيس الوزراء الإسرائيلي، فإقدامه على فتح معركة مباشرة ضد الفلسطينيين عكس حالة الإحباط الشديد التي عاشها بعد كامب ديفيد وظهر وكأنه فقد الأمل بإمكانية إنجاز الاتفاق التاريخي الذي انتظره طويلا. واعادت مواقفه وتصريحاته حول عملية السلام والعلاقات الفلسطينية الاسرائيلية الى حالتها المازومة جدا التي عاشتها قبل انعقاد القمة، ودفعتها نحو الاسوء ومهد الميدان امام باراك للشروع في تنفيذ “خطة حقل الاشواك”. وعادت القضية الفلسطينية من بوابة كامب ديفيد الى موقعها القديم كقضية اقليمية متفجرة.
قبل عودته من كامب ديفيد اواخر تموز 2000 عزل باراك نفسه عن وفده وعن الوفود الاخرى ولم يحاول اللقاء برئيس السلطة الفلسطينية، ولم يفكر في طرح بدائل تضمن نجاح المفاوضات. وبعد 48 ساعة خرج باراك من عزلته وقرر العودة الى تل أبيب فورا، ولم يفصح كعادته لاحد من مساعديه ومستشاريه عن الاستنتاجات التي توصل اليها والتوجهات الجديدة التي قررها. والتدقيق في مواقفه المعلنة بعد عودته الى تل ابيب وسلوكه في الحقل السياسي الاسرائيلي والحقلين الاقليمي والدولي يبين انه قرر منذ ذلك التاريخ؛ اولا، وضع عملية السلام مع الفلسطينيين على الرف والقفز عن كل الاتفاقات والالتزامات التي تمخضت عنها دون مراعاة مواقف ومصالح الآخرين. والشروع في معاقبة الفلسطينيين والضغط عليهم، وتطبيق خطة “حقل الاشواك” الجهنمية. ثانيا، الشروع في تنفيذ صيغة الحل النهائي للصراع الفلسطيني الاسرائيلي من جانب واحد وفق رؤيته التي طرحها في كامب ديفيد، حول ضم مساحات واسعة من الارض الفلسطينية تضمن بقاء الكتل الاستيطانية الكبيرة تحت السيادة الاسرائيلية. ثالثا، تهيئة اوضاع اسرائيل الداخلية لتقبل هذا التوجه وحشد الطاقات للنهوض به، والاستعداد عسكريا لمواجهة كل جديد يظهر في طريق التنفيذ.
وبعد عودة الوفدين الفلسطيني والاسرائيلي الى المنطقة دخلت العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية طورا جديد. في حينه، استقبل الفلسطينيون ابوعمار استقبال الفاتحين واعتبروا صموده في مواجة الضغوط الامريكية الاسرائيلية انتصارا عظيما، وتأكدت المعارضة الفلسطينية بالملموس ان تساهل ابوعمار في قضايا الحل الانتقالي لا ينطبق على الموقف بشان حل القضايا النهائية المصيرية. اما باراك فاستقبل بالردح والتشهير من جانب اليسار واليمين الاسرائيليين على حد سواء. اليسار اتهمه بالفشل في صنع السلام الذي انتظروه، واليمين اتهمه بالتفريط وبتقديم تنازلات غير مسبوقة. وتبخرت من ذهن الجميع صورة الجنرال العبقري المنتصر دائما وحل مكانها صورة الجنرال المضطرب. ولاحقا بدأت تظهر على باراك حلته المضطربة على الارض الفلسطينية وفي علاقاته الداخلية والخارجية.

(