قصة فشل باراك حلقة 3 – لم يستكمل الانسحاب من لبنان فتحول من نصر إلى هزيمة

بقلم ممدوح نوفل في 30/01/2001

وضع باراك، باصراره على تنفيذ الانسحاب من جنوب لبنان من جانب واحد، منطقة الشرق الاوسط على ابواب تطورات سياسية وعسكرية كبيرة حملت بين ثناياها أخطار حقيقية على عملية السلام ككل. وخشيت القيادة السورية ان يخلق لها هذا الانسحاب متاعب جوهرية في لبنان، ويجردها من امكانية استثمار الورقة اللبنانية في المفاوضات حول الانسحاب من الجولان. وخشي كثيرون معنيون بصنع السلام في المنطقة ان تؤدي خطوة باراك احادية الجانب الى تفجير الوضع الداخلي اللبناني ووقوع احتكاك عسكري بين سوريا واسرائيل. خاصة وان سوريا رفضت تهديدات باراك ورفضت تحميلها المسئولية في حال تعرض شمال اسرائيل لهجمات عسكرية، ورفضت القيام بدور شرطي يوفر الامن للقوات الاسرائيلية خلال انسحابها. وبعد اتصالات ومشاورات سورية عربية ودولية واسعة ومكثفة تخللها ضغوط امريكية واوروبية، وافقت القيادة السورية على تمرير الانسحاب الاسرائيلي دون متاعب وسهلت موافقة الحكومة اللبنانية على زيادة عدد قوات الطوارئ في جنوب لبنان.
ووافقت الحكومة اللبنانية على قيام الامم المتحدة باعادة رسم الحدود الاسرائيلية علىاساس خرائط العام 1947ـ1948، لكنها اصرت على رفض ارسال الجيش اللبناني لملئ الفراغ، وتركت اسرائيل تتدبر امر عناصر “جيش لبنان الجنوبي” ورفضت الالتزام بعدم محاكمتهم. ولم تبذل اي جهد يذكر لمنع قيادة حزب الله من ملاحقتهم. وفي حينه، ترددت انباء في اوساط القيادة الفلسطينية عن اتفاق غير مباشر وغير موثق بين حزب الله واسرائيل، اكدت اسرائيل للوسطاء موقفها الذي ابلغته للامم المتحدة والادارة الامريكية والدول الكبرى الأخرى. والتزمت بعدم التدخل في شئون الجنوب اللبناني بعد الانسحاب، واحترام سيادة لبنان واستقلاله، ووقف انتهاكها حدوده البرية والبحرية والجوية. ووافق حزب الله على تسهيل خروج القوات الاسرائيلية من لبنان وعدم مهاجمتها اثناء انسحابها، وعدم القيام بهجمات ضد شمال اسرائيل اذا كان الانحساب شاملا وكاملا.
وبعد اقتناع باراك بتوفر الحد الادنى المطلوب لانسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان بهدوء، قرر تقديم موعد الانسحاب واوعز لقيادة الجيش في نيسان 2000، رفع وتيرة سحب المعدات الثقيلة وتخفيف اكبر قدر من القوات باسرع وقت ممكن. وراح يتحدث هو واركانه عن انسحاب في الاسبوع الاول من تموز يستغرق اسابيع طويلة. ومع تزايد الحديث حول الانسحاب الاسرائيلي اهتزت اوضاع قوات “جيش لبنان الجنوبي” بقيادة الجنرال العميل “انطوان لحد”. وايقن قادته وافراده ان حماية اسرائيل لهم ليست دائمة، خصوصا وانهم تابعوا جهود الحكومة الاسرائيلية وهي تبحث عمن يحمي انسحابها ويحمي حدودها بعد الانسحاب. ولمسوا بانفسهم تشجيع قيادة الجيش الاسرائيلي لهم للبحث عن مداخل ومخارج سياسية وطائفية وشخصية تؤمن بقائهم كافراد في لبنان. وبدأ الانهيار في صفوف هذا “الجيش” وسلم كثيرون انفسهم الى قيادة حزب الله التي سلمتهم بدورها للحكومة اللبنانية لمحاكمتهم.
وبدء من20 أيار2000 شرعت القوات الاسرائيلية بشكل مفاجئ بتنفيذ عملية اخلاء واسعة لمواقعها العسكرية في القطاعين الاوسط والشرقي من الجنوب اللبناني. وبعد اقل من 72 ساعة اكملت انسحابها من القطاع الغربي وجميع الاراضي اللبنانية باستثناء منطقة “مزارع شبعا” وبعض الجيوب المتناثرة على امتداد الحدود. واعلن باراك من مسوطنة كريات شمونة استكمال انسحاب الجيش الاسرائيلي من جميع الاراضي اللبنانية. وحمّل الحكومتين السورية واللبنانية المسئولية الكاملة عن اي هجمات تتعرض لها اسرائيل. وقال: “ان اسرائيل لن تتردد في استخدام كل الوسائل لحماية نفسها”، ونصح كل الاطراف عدم اختبار اسرائيل. وردا على اتهامات الحكومة اللبنانية وقيادة حزب الله اسرائيل بعدم استكمال الانسحاب من جنوب لبنان قال؛ ” مزارع شبعا اراضي سورية احتلت في العام 1967 والانسحاب منها رهن بنتائج المفاوضات مع سوريا”. وعن المواقع الاخرى المحدودة قال: “ان مصيرها يتقرر في عملية رسم الحدود التي يقوم بها خبراء الامم المتحدة”. واكد حرص حكومته على توفير حياة كريمة لافراد جيش لبنان الجنوبي الذين رافقوا القوات الاسرائيلية في الانسحاب. ولاحقا تحول بضع آلاف منهم الى عبء سياسي وبشري على اسرائيل.
الى ذلك، كان حزب الله جاهزا للمهمة الجديدة وملأ الفراغ بسرعة فائقة قبل ان تستكمل القوات الاسرائيلية انسحابها من آخر المواقع. وفي 24/5/2000، اعلن امينه العام الشيخ حسن نصرالله ان حزب الله لم يستكمل مهمة التحرير وسيحتفظ بسلاحه ويواصل جهادة حتى يتم تحرير مزارع شبعا، واهدى انتصار المقاومة الوطنية اللبنانية للشعب الفلسطيني. وبعد ثلاثة اسابيع من الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان اعلنت دمشق يوم10/5/2000 عن وفاة الرئيس الاسد بصورة فاجئت الجميع. وبعد وفاته تجمد البحث في اعادة تنشيط المسار السوري الى اشعار آخر. وبجمود هذا المسار ظل الوضع في الجنوب اللبناني معلقا بين حالة اللاحرب واللاسلم، ولا تزال مزارع شبعا نقطة احتكاك وتفجير لمن يرغب بذلك. وتحولت المواقع العسكرية الاسرائيلية القديمة في جنوب لبنان وبوابات العبور الى اسرائيل محج للوطنيين البنانيين وشواهد تاريخية على قدرة المقاومة الشعبية على تحقيق انجازات تاريخية كبرى. وحاول باراك التخفيف من وقع الانسحاب المهين وتحويل الهزيمة في جنوب لبنان الى انتصار، الا ان حزب الله حرمه من ذلك باسره ثلاثة من الجنود الاسرائيليين في منطقة مزارع شبعا، واهدى الحزب عملية أسر الجنود الناجحة للانتفاضة. وحرم باراك من استثمار تخليصه الجيش الاسرائيلي من المستنقع اللبناني في حملته الانتخابية الجارية.
الى ذلك، تواصلت المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية في طابا في مسربين؛ الاول قاده صائب عريقات من الجانب الفلسطيني وعوديد عيران من الجانب الاسرائلي وتخصص في بحث تنفيذ قضايا المرحلة الانتقالية، والآخر ركز على بحث قضايا الحل النهائي قاده ياسر عبد ربه وقابله عوديد عيران ايضا. واظهرت جولات مفاوضات المسربين الكثيرة والطويلة ان مهمة عيران تقطيع الوقت وليس اكثر. وان باراك منشغل في ترسيخ الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان وتثبيت وضعا عسكريا مستقرا هناك وتحويل الهزيمة الى نصر، وبخاصة بعد ان شنت المعارضة الاسرائيلية حملة ضد الشكل المهين للانسحاب وحملت باراك مسئولية اهانة الجيش وتعريض قرى ومدن شمال اسرائيل الى اخطار حقيقية. وتوترت العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية. وارتفعت اصوات فلسطينية وازنة طالبت بتعلق المفاوضات بعد تحولها الى مفاوضات عبثية ومفاوضات من أجل المفاوضات.
يوم 25 حزيران /يونيو2000 وصلت وزير الخارجية الامريكية “اولبرايت” الى المنطقة في اطار مهمة وصفت بالاستثنائية. كان هدفها تبريد أزمة العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية بعد صعودها درجة نوعية جديدة على سلم التوتر وبلوغها ذروة الانفجار. وتحرك الطرفان كل الى غايته في طريق خاص، واستبدلا لغة الحوار بلغة الاستفزاز والتحدي وبدأ الواحد يهدد الآخر باتخاذ قرارات سياسية وإجراءات عملية حساسة من جانب واحد لا تأخذ بعين الاعتبار مواقف الطرف الآخر ومصالحه. وحاولت الوزيرة اولبرايت حلحلة المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية وتنفيذ بقايا استحقاقات المرحلة الانتقالية، وبخاصة مرحلة الانسحاب الثالثة التي استحقت قبل قدومها للمنطقة بيومين. باعتبارها خطوة ضرورية لانطلاق مفاوضات الحل النهائي وعقد قمة ثلاثية ماراثونية فلسطينية امريكية اسرائيلية تستمر مدة اسبوعين. ونقلت اولبرايت للطرفين رغبة الرئيس كلينتون الجامحة والصادقة في توصل الطرفين الى اتفاق قبل رحيله من البيت الابيض. لكن باراك تمسك بموقفه وأفشل جهود الوزيرة اولبرايت، ولم تفلح في التوفيق بين مطالب عرفات ولاءات باراك المتعلقة بقضايا المرحلة الانتقالية.
وخلال لقاءآتها مع الجانب الفلسطيني رفضت اولبرايت، بناء على نصائح روس والمساعدين الآخرين، الاستماع لنصائح عرفات بتأجيل القمة الثلاثية بضع أسابيع ريثما يتم إنجاز التحضيرات الضرورية لضمان نجاحها. واستخفوا بأقوال بعض الفلسطينيين لهم: ” إنكم ترتكبون خطئا فادحا إن اعتقدتم ان ياسرعرفات يمكن أن يوقع على اتفاق لا يلبي الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية التي نصت عليها قرارات الشرعية الدولية، وبخاصة ما يتعلق منها بالسيادة الفلسطينية على القدس الشرقية التي احتلت في العام 1967. وتصور كلينتون بناء على تقييم الإسرائيليين ونصائح مستشاريه أن الظروف ناضجة للخروج من القمة باتفاق، حده الأدنى توقيع “اتفاق إطار موسع” يتضمن حلولا وأفكار تمرّحل قضايا الحل النهائي المطروحة على طاولة المفاوضات، وحده الأقصى “إعلان مبادئ” يتضمن أسس تسوية نهائية وشاملة للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي المزن. واعتقد كلينتون أن احد الاتفاقين يكفي لتنفيس احتقان عملية السلام ويزودها بشحنة تؤمن تجاوز قطوع 13 أيلول2000، موعد انتهاء مفاوضات الحل النهائي. وبه يمحو قبل مغادرة البيت الأبيض ما علق بسجله الشخصي من فضائح، ويعزز فرص نجاح نائبه في انتخابات الرئاسة وفوز زوجته هيلري بمقعد في مجلس الشيوخ، ويدخل التاريخ كصانع سلام نجح في تسوية اعقد وأطول قضية شهدها القرن العشرين.
وبعد عودة الوزيرة الى واشنطن بخفي حنين، تابع الرئيس كلينتون اتصالاته بالطرفين بامل عقد القمة باسرع وقت ممكن. ولم يتردد باراك ان يقول للرئيس كينتون عبر الهاتف: لا لتنفيذ الاتفاقات المرحلية ولا انسحاب جديد ولا إطلاق سراح معتقلين ولا تسليم لقرى العزيرية وابوديس والسواحرة المجاورة للقدس..الخ إذا لم تعقد القمة الثلاثية. وكان رئيس الأركان الإسرائيلي قد سبق باراك بالتهديد باستخدام الأسلحة والأساليب القتالية اللازمة للحفاظ على مصالح اسرائيل وقمع اي حركة فلسطينية باتجاه تغيير الوضع القائم على الأرض.
ونجحت خطة باراك وكان له ما أراد، ووافق الرئيس الأمريكي على توجيه الدعوة وفق أجندة باراك بعد ان وضعه امام خيار ثنائي اما القمة او سفك الدماء. وتأمل كلينتون ان يحمل باراك الى القمة أفكار جديدة تساعد في التوصل الى اتفاق. ومارس سيد البيت الأبيض ضغوطا شديدة على الطرف الفلسطيني للمشاركة في القمة في الزمان والمكان اللذين حددهما بتنسيق مسبق مع باراك. ولم يكن بمقدور هذا الطرف الأضعف في المعادلة، تحمل تبعات رفض حضورها. ولم يشأ أبوعمار توتير العلاقة مع الإدارة الأمريكية حول مسالة زمان ومكان القمة. وحاول قبل سفره الى واشنطن التسلح بموقف عربي موحد بشأن تسوية قضيتي القدس واللاجئين، باعتبارهما قضيتين يتداخل فيهما الشأن الوطني الفلسطيني بالقومي العربي. لكن محاولته باءت بالفشل واصطدم بضعف النظام السياسي الرسمي العربي وتفككه ورضوخه للضغوط الأمريكية. وعارضت ادارة كلينتون انعقاد قمة عربية مصغرة أو واسعة، بحجة حماية لقاء باراك ـ عرفات من أية تأثيرات سلبية وانصاع الزعماء العرب لذلك. وتوجه ابوعمار الى كامب ديفيد، على مضض، قبل تحقيق الحقوق الفلسطينية التي تضمنها اتفاقات المرحلة الانتقالية التي أقر كلينتون وأركانه مشروعيتها وعدالتها. ووافق عمليا على دمج بقايا المرحلة الانتقالية بقضايا الحل النهائي. وقبل سفره تعهد ابوعمار للشعب الفلسطيني علنا بالتمسك بالثوابت الفلسطينية كما اقرتها المؤسسات التشريعية الفلسطينية، ولم يفهم باراك وكلينتون مغزى هذا التعهد.
الى ذلك، هزت مواقف باراك بشأن الانسحاب من القرى الثلاث العيزرية وابو ديس والسواحرة اوضاع الائتلاف الحكومي الذي بناه بيديه. وبعد تثبيت قمة واشنطن الثلاثية لبحث قضايا الحل النهائي انهمرت على الكنيست الاسرائيلي مشاريع حجب ثقة عن الحكومة. ترافقت مع محاولات تطويق براك بقوانين تقيد حركته في المفاوضات، وبخاصة بشان القدس واللاجئين. ومع ان حكومة باراك لم تظهر في حينه الاستعداد الحقيقي لدفع متطلبات السلام واستحقاقاته، سارعت أحزاب معسكر اليمين من شاس إلى المفدال مرورا بليفي إلى الانسحاب من الحكومة تاركة الحكومة ورئيسها بدون أغلبية وفي حالة من عدم الاستقرار ولم تسعفه لاءآته الخمس الكبيرة التي كررها كثيرا في تلك الفترة في تغيير مواقفها.
بعد الموافقة الفلسطينية على القمة اعتقد كلينتون وباراك وأركانهما أن حالة الضعف التي تعانيها م ت ف والسلطة الفلسطينية تفرض على ابوعمار قبول ما يعرضه باراك، بعد إدخال ما يمكن إدخاله من تحسينات أمريكية عليها. وظنوا انه مستعد لدفع الثمن المطلوب مقابل إشباع رغبته الجامحة في إعلان قيام الدولة الفلسطينية والشروع في تجسيد سيادتها على الأرض قبل 13 أيلول2000. وتوهم باراك أن بإمكانه الانضمام إلى قائمة عظماء إسرائيل من بوابة كامب ديفيد، والتوصل إلى اتفاق شامل يرسّم إنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، مقابل، فقط، اعتراف إسرائيل بدولة فلسطينية بدون حدود، ولا تكون القدس عاصمتها، وتقوم على قرابة 90% من أراضي الضفة والقطاع ينخرها الاستيطان.
وتوجه بارك إلى واشنطن وبيده صيغ حلول معدة مسبقا، وتعهد لشعبه بالعودة من كامب ديفيد دون المساس بلاءاته الخمس الشهيرة أو خدش خطوطه الحمراء. ولم يفكر في اصطحاب بيريز أو بيلين او رامون أو يوسي سريد الخبراء في الشؤون الفلسطينية حتى لا يقاسموه إكليل الغار الموهوم. وراهن على ضغط الرئيس الأمريكي على عرفات لتقديم تنازلات تتعلق بالأرض والقدس واللاجئين. وتلقى وعودا أمريكيا بممارسة الضغط المطلوب وإرغام عرفات على تقديم تنازلات تقرب الموقف الفلسطيني من الموقف الإسرائيلي. والواضح ان باراك حبذ كامب ديفيد كمكان للقمة ليذكر شعب اسرائيل وخصوصا جمهور المعارضة اليمينية وقيادتها بالاتفاقات التي وقعها مناحيم بيغن ابرز زعمائهم، وأدت إلى انسحاب إسرائيلي شامل من سيناء وتدمير مستوطنة ياميت بإشراف الجنرال شارون. وقبل مغادرته مطار تل ابيب اعطى باراك توجيهاته لاذرع الامن الاسرائيلية استكمال التحضيرات الميدانية الضرورية لوضع خطة “حقل الاشواك” موضع التنفيذ، اذا فشلت المفاوضات.
الى ذلك، بدأ الرؤساء الثلاث، كلينتون وعرفات وباراك في11تموز2000 في كامب ديفيد مفاوضات ماراثونية تستغرق اكثر من اسبوع. بأمل سد الفجوات الكثيرة والكبيرة في مواقف الطرفين بشان قضايا الحل النهائي التي عجز ابوعلاء وشلومو بن عامي عن سدها في اللقاءات المكثفة التي عقداها في استكهولم واقفال ملف النزاع الفلسطيني الاسرائيلي المزمن وتأسيس مرحلة جديدة من التعايش بين الشعبين في إطار دولتين تحكمها علاقات حسن جوار.
وفي “الكامب” أخضعت الوفود لبرتوكول صارم تسبب بإلحاق أذى معنويا كبيرا بالعلاقة الداخلية الفلسطينية، وبخاصة داخل القيادة الفلسطينية عندما حال البروتوكول الأمريكي دون لقاء أبو عمار بأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الذين وصلوا واشنطن وكان ضمنهم ممثل الجبهة الديمقراطية المعارضة لاسس عملية السلام والاتفاقات التي انبثقت عنها. وفرض الامريكان تعتيما إعلاميا شاملا حول ما يدور في المفاوضات، ولم تجد حنان عشراوي مبررا لوجودها في واشنطن كناطق إعلامي باسم الوفد وفقدت المقومات الأساسية لأداء مهمتها.
في ظل اجواء مشحونة بالتوتر بدأ الرئيس كلينتون لقاءاته الثنائية والثلاثية مع رؤساء الوفود. وفي اللقاء الأول ثبت إطار المحادثات وآلية المفاوضات وقواعدها. واتفق بناء على طلب باراك ودعم كلينتون على ان تطرح كل القضايا الكبيرة والصغيرة السهلة والمعقدة على طاولة المفاوضات دفعة واحدة، واستبعدوا فكرة مرحلة قضايا الحل النهائي وتجزئتها. واعتمدوا مبدأ الاتفاق على كل شيء أو لا اتفاق على شيء، وكل ما يطرح على طاولة المفاوضات من أفكار تصبح لاغية تماما في حال عدم التوصل إلى اتفاق. واتفقوا على إجراء المفاوضات في عدة مستويات، رؤساء وفود، ولجان تفاوض أساسية، وأخرى على مستوى خبراء. وشكلت لجان مواضيع أهمها لجنة القدس، ولجنة اللاجئين، ولجنة الارض والشئون الأمنية. واسند ابوعمار رئاسة الأولى إلى ياسر عبدربه، الذي سبق واستقال من رئاسة مفاوضات الحل النهائي، لأسباب تتعلق بفتح قناة سرية بين شلومو بن عامي والمحامي جلعاد شير عن الجانب الإسرائيلي، وأبو العلاء وحسن عصفور عن الفلسطيني. وكلف ابوعمار محمود عباس “ابومازن” منسق أعمال لجان التفاوض، بقيادة الثانية، واسند رئاسة الثالثة إلى ابو علاء والعقيد محمد دحلان قائد جهاز الامن الوقائي في محافظات غزة.
وبعد دخول المفاوضين في صلب قضايا النزاع، بدأت رياح الخلافات القوية تهب على كامب ديفيد وكشفت جذور الصراع الفلسطيني الاسرائيلي كلها دفعت واحدة، وراحت تدفع بسفينة الرئيس كلينتون في اتجاه مغاير للذي اشتهاه وتمناه. وبينت المحادثات الماراثونية الثنائية والثلاثية أن الخلافات كثيرة ومركبة ولا يستطيع باراك وعرفات حلها كلها خلال فترة قصيرة. وظهر للجميع أن الأهداف التي حددها الرئيس كلينتون غير واقعية تصطدم بقضايا معقدة وشديدة الحساسية عند الطرفين. وبدأت اهداف الرئيس الامريكي تتحول يوما بعد يوم تحت ضغط وقائع المفاوضات ومجرياتها إلى أحلام أمريكية يتطلب تحقيقها حصول معجزة في زمن ولت فيه المعجزات.