فشل باراك في صنع السلام بدأ من شاطئ طبريا

بقلم ممدوح نوفل في 09/01/2001

وقائع وآفاق الصراع بين الانتفاضة وخطة حقل الاشواك

يعيش الفلسطينيون في الضفة وقطاع غزة، هذه الايام، اوضاع اقتصادية وأمنية هي الاقسى والاخطر منذ وقوعهم تحت الاحتلال في العام 1967. ويخضعون منذ اكثر من100يوم، كبشرا وارض وشجر وممتلكات، لاشكال متنوعة من اعمال القتل والتنكيل والعقوبات الجماعية لم يشهدوا مثلها من قبل. تشبه الى حد كبير صنوف واشكال العقوبات الجماعية واجراءات الابرتهايد التي فرضها النظام العنصري في جنوب افريقيا في اواخر زمانه ولم تنجح في ثني شعب جنوب افريقيا عن متابعة نضاله وتحقيق الانتصار.
وأيا تكن مبررات وتفسيرات القيادة الاسرائيلية لاسباب تطوير اجراءاتها الامنية ضد الشعب الفلسطيني وتصعيدها الى هذا المستوى، فهي موضوعيا وقانونيا اعمال ارهابية عنصرية تتناقض مع الاهداف الجوهرية لعملية السلام وتضعف مصداقيتها، وتتعارض مع مبادئ الشرعية الدولية وابسط قواعد حقوق الانسان. تم تخطيطها بدقة واحكام من قبل المؤسسة العسكرية الامنية الاسرائيلية تحت اسم “خطة حقل الاشواك”، وصادقت عليها حكومة باراك “اليسارية” قبل قرابة عام. وبمراجعة مدققة لوقائع الصراع الدموي الجاري على ارض الضفة وقطاع غزة على مدى اربعة اشهر من عمر انتفاضة الفلسطينيين، يمكن التعرف على عناصر هذه الخطة واهدافها واستشفاف ملامح مراحلها اللاحقة، وايضا، رؤية كيف تدرجت وتفننت اجهزة الامن الاسرائيلية في تطبيقها قبل وبعد انفجار الانتفاضة اواخر شهر ايلول/سبتمبر الماضي، وكيف تعامل الناس مع هذه الخطة الجهنمية.
بعد فوزه بانتخابات رئاسة الوزراء في ايار عام 1999وتسلمه السلطة، ملأ باراك أجواء المنطقة بضجيج عال حول رغبته في إعادة تشغيل قطار السلام على مساراته الثلاث الفلسطيني والسوري واللبناني. وقدم نفسه كمهندس بارع قادر على إصلاح الخراب الذي أصابه خلال 3 سنوات من سنوات من حكم ليكود بزعامة نتنياهو. واوحي للعرب والعالم ان لديه مصمم على قيادة قطار السلام على ذات الطريق التي قاده عليها “مكتشفه” وملهمه اسحق رابين، ولديه ارادة الوصول إلى المحطة, وحدد لنفسه سقفا زمنيا أوليا لوصول السلام الكامل مع العرب والفلسطينيين في مدته 15 شهرا فقط. ولم تهدأ حركته العربية والدولية لإقناع الجميع بصدق نواياه، ونجح في شد اهتمام الدول الكبرى نحو المنطقة وأشغلها من جديد بقضاياها، ومنح رسلها ومبعوثيها فرصة تجديد جولاتهم الخاطفة والمكوكية بين عواصمها. واستبشر انصار السلام في الجانب الفلسطيني ـ العربي خيرا بفوزه وبتصريحاته الايجابية، وانتعش أملهم ببقاء عملية السلام على قيد الحياة. واعتبروا تولي حزب العمل السلطة في اسرائيل يوفر لهذه العملية جرعة انعاش نوعية قوية كافية لأخرجها من حالة الموت السريري الذي دخلته بعد فوز حزب ليكود بالسلطة عام 1996. ويخرجها من ازمتها المميتة التي عانتها على جميع مسارات التفاوض في عهد حكومة نتنياهو، وينقلها فورا من غرفة العناية الفائقة الى غرف المفاوضات في واشنطن وتل ابيب والقاهرة وغزة.
واعتقد بعضهم ان باراك سوف يحفظ للعرب في اسرائيل منحهم له 96% من اصواتهم. ويحفظ للقيادة الفلسطينية تأجيل اعلان قيام الدولة في دورة المجلس المركزي التي عقدت في غزة في 27ـ 29 نيسان 1999، وعطلت توظيفه لصالح نتنياهو في الانتخابات. وظن المتفائلون في النظام السياسي الرسمي العربي بان اتفاقات السلام مع السوريين واللبنانيين والفلسطينيين باتت قاب قوسين او ادنى. خاصة وان باراك التزم أمام ناخبيه بموقفين سياسيين عمليين كبيرين؛ الاول العمل على التوصل الى اتفاق مع القيادة الفلسطينية بشأن قضايا الحل النهائي ـ القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود والمياه واجراء استفتاء شعبي حول هذا الاتفاق. والثاني، سحب قوات الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان وفك ارتباطه بقوات جيش لبنان الجنوبي بقيادة الجنرال العميل انطوان لحد خلال فترة اقصاها عام واحد.
واعتقد المعنيون بصنع السلام في الشرق الاوسط من خارج المنطقة، ان فوز باراك وهزيمة نتنياهو في الانتخابات جنب شعوب المنطقة دخول دوامة جديدة من الحرب والعنف والدمار، وضمنوا عدم تعرض مصالحهم لاخطار جدية. وخلق ظروفا محلية واقليمية ودولية مواتية لتحقيق تقدم جوهري في المفاوضات على مساراتها الثلاث الفلسطيني والسوري واللبناني. وزاد في قدرة الراعي الامريكي ومصر والاردن ودول المجموعة الاوروبية على القيام بدور فاعل في مسيرة التفاوض، ومن تاثيرها في تحديد وجهة المفاوضات اللاحقة بصورة افعل وبقدر اقل بكثير من الاحراج السياسي الذي واجهه الجميع في عهد حكومة نتياهو اليمينية. خاصة وان باراك ابدى استعدادا عاليا للتكيف مع السياسة الامريكية والانسجام مع الوضع الدولي والتعامل مع مقتضياته بواقعية أكبر على المسارات الثلاث الفلسطيني السوري واللبناني. واعتقد الجميع في حينه، ان الظروف باتت مهيئة لخلق حقائق جديدة في المنطقة، قادرة، مع الزمن بديناميكيتها وميكانزمها الذاتي تعميق الواقعية في الفكر السياسي الاسرائيلي اكثر فاكثر، ودفع القناعات الايديولوجية التوسعية والمعتقدات الغيبية المثالية الى الوراء، تاركة لمن يشاء الحق في الاحتفاظ بها في اعماق الضمير. وبعد قيام باراك بزيارة القاهرة وعمان بعد فترة وجيزة من فوزه في الانتخابات، تكرّس هذا الاعتقاد وذاك التفاؤل الفلسطيني العربي الدولي، خاصة وانه أكد في تصريحات علنية عزمه استئناف المفاوضات على كل المسارات باسرع وقت ممكن. ومنح في سياق التفاؤل والتشجيع في عواصم العرب “وسام صانع السلام”، قبل ان يروا خيره من شره، ونال من القيادة الفلسطينية لقب “الصديق الشريك”.
وقبل توجهه الى واشنطن مطلع تموز1999، اعلن اركانه ومساعدوه بانه يتوجه للقاء بالرئيس كلينتون حاملا في جعبته اقتراحا باستئناف المفاوضات دفعة واحدة على أربع مسارات متوازية. الاول مع اللبنانيين هدفه وضع ترتيبات امنية تمكن الجيش الاسرائيلي من الانسحاب من جنوب لبنان خلال عام ، وفك ارتباطه بعملائه في “جيش جنوب لبنان” بعد ضمان توفر امن وسلامة قرى ومدن الجليل. والثاني متابعة المفاوضات مع السوريين حول الانسحاب من الجولان من حيث توقفت في عهد رابين. والثالث مع الفلسطينيين يهتم بتنفيذ بقايا اتفاق “واي ريفر” وقضايا المرحلة الانتقالية التي لم تنفذ في عهد نتنياهو. وخصص الآخير لبحث قضايا الحل النهائي مع الفلسطينيين مباشرة وفي اطار مؤتمر متعدد الاطراف. ووصل باراك واشنطن وعبارات المديح والثناء العربية ساخنة.
وحصل من الإدارة الأمريكية بزيارة واحدة على ما لم يحصل عليه رئيس إسرائيلي آخر. والبيان المشترك الذي صدر عقب لقاءاته الطويلة بالرئيس كلينتون جعل من المصالح الاسرائيلية الأمريكية المشتركة حجر الأساس في إعادة ترتيب أوضاع المنطقة وأصبحت إسرائيل شريكا استراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية من نوع جديد. يساهم باتفاق رسمي ليس فقط في تنفيذ المهام التي تخدم مصالح الطرفين، بل وأيضا في تحديد وتقرير التوجهات السياسية والعسكرية والاقتصادية المشتركة في كل أرجاء الشرق الأوسط، وصمم لهذه الشراكة “قيادة عليا” من الرئيسين، تجتمع دوريا مرة كل أربع شهور. وتبنت إدارة كلينتون خلط باراك أوراق الملف الفلسطيني بالسوري اللبناني، واستجابت لرغبة باراك بمزج قضايا الحل المرحلي مع الفلسطينيين بقضايا الحل النهائي. وتخلت عن موقفها النقدي للتوسع في الاستيطان واعتبار ما أستحدث بعد اتفاق واي ريفر غير شرعي يجب إزالته. وتراجعت عن لعب دور مباشر داخل غرف المفاوضات مع الفلسطينيين، واكتفت بدور المراقب من داخل المبنى وبما يمكن عمله من خلال “القيادة العليا المشتركة”. وانسجاما مع قناعاته الاصلية طلب باراك من الرئيس كلينتون منحه بعض الوقت قبل الشروع في تنفيذ واي ريفر، وتمنى عليها تأجيل زيارة وزيرة الخارجية اولبرايت، وعدم ارسال مبعوثيها “دينس روس ومارتن انديك” للمنطقة. وكان يخطط للاستفراد بالقيادة الفلسطينية وانتزاع موافقتها على الشروع فورا في مفاوضات الحل النهائي ودمج المرحلة الثالثة من اتفاق واي بها. ووضع جدول زمني مديد لتنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية وبخاصة الانسحاب الثاني واطلاق سراح الاسرى والمعتقلين الامنيين وفتح الممرين الآمنين الجنوبي والشمالي بين الضفة والقطاع، وبناء الميناء وفتح شارع الشهداء في الخليل.
وبعد عودته من واشنطن استأنف الطرفان الفلسطيني والاسرائيلي مفاوضاتهما. ومنذ البداية حاول باراك القفز استحقاقات المرحلة الانتقالية التي لم ينفذها نتنياهو، واقترح الدخول مباشرة في مفاوضات متواصلة هدفها الوصول الى اتفاق اطار لحل قضايا الحل النهائي كما حددها اتفاق اوسلو. في حينه رفض ابوعمار اطروحات باراك واصر على تنفيذ المرحلة الثالثة من الانسحاب التي نص عليها اتفاق اوسلو قبل الدخول في بحث قضايا الحل النهائي. خاصة وان تنفيذها يحقق مكاسب فلسطينية هامة تساعد في تصليب الاوضاع على الأرض وفي المفاوضات. فالانسحاب من نسبة10% اضافية من الأرض ونقل 14% اخرى من B الى A يعني تحرير كامل لأجزاء اضافية من الارض ترتفع نسبتها الاجمالية الى 44%، وتحرير نصف مليون تقريبا من السكان يرفع النسبة الاجمالية الى ما يزيد على 95%. ناهيك عن القيمة المعنوية الكبيرة لتحرير قرابة 600 معتقلا من السجون الاسرائيلية. واستكمال بناء الميناء وتشغيل مطار دون منغصات، وفتح الممرين الامنين بين الضفة والقطاع وهذا كله يمكن الفلسطينيين قطف بعض ثمارعملية السلام التي حرموا من تذوقها. ويقود الى فقدان الجانب الاسرائيلي عددا من اوراق الابتزاز والضغط الامني والاقتصادي والاجتماعي التي يستخدمها ضد الفلسطينيين سلطة وشعب ويساعد في تخليص المواطنين من عذابات التنقل والاعتقال على المعابر والطرقات.
الى ذلك اعتقد براك ان حديثه العلني وبصوت مرتفع عن قرب استئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، واجراؤه اتصالات تمهيدية سرية وعلنية مع القيادة السورية، يخفف من ردود فعل الادارة الامريكية ومصر والاردن لتعثرها على المسار الفلسطيني. ويعوض ادارة كلينتون عن تقليص دورها في المفاوضات وتأخير زيارة اوابرايت، وتجميده دور “روس وانديك” وال C I A في مراقبة تنفيذ الاتفاقات وتسوية الخلافات. ويخفي حقيقة دوافعه في تاخير تنفيذ واي ريفر، ويخلق مزيد من التنافس بين المسارين السوري والفلسطيني. ويبتز الفلسطينيين ويفرض عليهم الدخول في مساومة جديدة تمكنه من منعهم تعزيز اوضاعهم على الارض وتعزيز موقفهم في مفاوضات الحل النهائي. وتجنبا لاي سوء تفاهم ارسل باراك الوزير “يوسي بيلن”، أكثر الاسرائيليين حماسا لاستمرار التركيز على المسار الفلسطيني، الى واشنطن لاقناع اركان الادارة الامريكية بقيمة توجهات باراك وبأهمية تبنيها. وطالب بيلن الادارة الامريكية بالضغط على القيادة الفلسطينية لقبول افكار باراك الداعية الى الدخول فورا في مفاوضات الحل النهائين “باعتبارها لصالحهم”..! وتختزل زمن الوصول معهم الى سلام شامل. وسعيا لكسب ود باراك عزف بيلن الحان عنجهية دغدغ بها رغبات رئيسه باراك، وهدد الفلسطينيين وحذرهم من “ارتكاب خطأ قاتل اذا اضاعوا الوقت في الركض وراء مسائل تفصيلية صغيرة وردت في اتفاق واي”.
ويسجل لادارة الرئيس كلينتون انها في الوقت الذي منحت باراك بعض الوقت ليجرب أفكاره، وأجلت زيارة اولبرايت للمنطقة حتى مطلع ايلول، لم تتبنى تنظيرات بيلن الانتهازية البائسة، والمتعاكسة مع اطروحته السابقة حول اهمية المرحلة الانتقالية. وتمسكت بموقفها، الداعي الى التزام الطرفين باتفاق واي ريفر، وربطت جهودها لاستئناف المفاوضات السورية اللبنانية ـ الاسرائيلية، باتفاق حكومة باراك مع السلطة الفلسطينية على جدول زمني محدد لتنفيذ بقايا واي ريفر باسرع واقصر وقت ممكن. وطلبت من الفلسطينيين مواصلة القاءات مع الاسرائيليين ولم تمارس ضغطا قوي عليهم. وتركت لهم علنا حرية القرار بشان دمج بعض بنود واي ريفر بقضايا الحل النهائي. ووجهت دعوة رسمية لوفد من السلطة لسماع وجهة نظرها مساواة بزيارة بيلن. ولم يستطع باراك كتم انزعاجه من الموقف الامريكي ودعوة ابو مازن لزيارة واشنطون، وكلف وزير خارجيته “دافيد ليفي” بشن هجوم على الزيارة، وذكّر الفلسطينيين بان الثنائية الاسرائيلية الفلسطينية انتجت اتفاق اوسلو، وتبقى أقصر الطرق لمعالجة الخلافات والتفاهم حول تنفيذ الاتفاقات.
الى ذلك فهم باراك مغزى تحفظ الموقف الامريكي على اطروحاته واعلانها عن ان الوزيرة اولبرايت تنوي زيارة المنطقة خلال وقت قريب. وشعر بتحفظ القيادة المصرية على افكاره وفقد مصداقيته معها بعد وفترت علاقتها به بعد تهربه من تنفيذ ما التزم به امام الرئيس مبارك. وشرع في التراجع، واوعز لمفاوضه الرئيسي المحامي “جلعاد شير” تسريع المفاوضات مع صائب عريقات والتحرك بجدية نحو التوصل الى اتفاق حول تنفيذ واي ريفر تمهيدا لزيارة الوزيرة اولبرايت المنطقة. وقفز شير عن المطالبة بدمج قضايا من الانتقالية بالنهائية وتجاوب مع اصرار رئيس السلطة الفلسطينية على ربط الشروع في مفاوضات الحل النهائي بالاتفاق اولا على جدول زمني محدد لتنفيذ بنود واي ريفر وبخاصة المتعلقة بالانسحابات واطلاق سراح المعتقلين. وحرك باراك الوسطاء لجمعه بياسرعرفات سرا او علنا لوضع الرتوش الاخيرة على الاتفاق.
ومع اقتراب الطرفين من التوصل الى اتفاق “بروتوكول تنفيذ بروتوكول واي ريفر” وصلت وزيرة الخارجية الامريكية “اولبرايت” مطلع ايلول للمنطقة لوضع لمساتها على نصوص الاتفاق الجديد. وتدشين، مرة أخرى، مفاوضات الحل النهائي على المسار الفلسطيني التي دشنت اول مرة في عهد بيريز قبل انتخابات الكنيست، وعقد الطرافان في 4 أيار 1996 جولتها يتيمة. وتضمن برنامجها زيارة دمشق واللقاء بالرئيس الاسد لبحث مسألة استئناف المفاوضات. وبعد مفاوضات شاقة وقع باراك وابو عمار يوم 4/9/1999 مذكرة تنفيذ اتفاق واي ريفر، وشهد على ذلك كل من الرئيس مبارك والوزيرة اولبرايت والملك عبد الله الثاني. وكالعادة اثار الاتفاق الجديد أسئلة كثيرة متنوعة وردود فعل وآراء متناقضة. بعض أهل المنطقة رحبوا به واعتبروه مكسبا للشعبين ولصنع السلام في المنطقة، آخرون رأوا فيه تنازالات جديدة خطيرة قدمت على حساب مصالحهم ومعتقداتهم التاريخية. ودبت فيهم الحمية وبدأوا بمناصبته العداء واخرجوا ادوات الهدم من مخابأها وشرعوا في العمل على تخريب طريقه وتعطيل تنفيذه.
****
الى ذلك، ظن باراك، بناء على قناعته القديمة، واطلاعه على ملف المفاوضات السورية الاسرائيلية في عهد من سبقوه بان الاتفاق مع سوريا في متناول اليد. وشرع بتحضير الاجواء الشعبية وداخل اروقة الكنيست لتقبل فكرة التوصل الى اتفاق مع سوريين قبل الاتفاق مع الفلسطينيين. واكثر في الحديث حول قرب تنفيذ الاتزام الذي قطعه على نفسه خلال حملته الانتخابية باجراء استفتاء حول الاتفاق الموعود. واعتقد باراك ان بامكانه الحصول على الأغلبية الشعبية المطلوبة اذا قدمه مقرونا باتفاق آخر يخرج الجيش الاسرائيلي من المستنقع اللبناني. تمام كما يحاول الآن مع الفلسطينيين. وخلق حديث باراك حول التركيز اولوية الاتفاق مع السوريين تنافسا قويا، ظل مستورا، بين المسارين السوري والفلسطيني، وخشي القيادة الفلسطينية ان يتم الاتفاق السوري الاسرائيلي على حساب توقيت الاتفاق معها. وبعد استئناف المفاوضات السورية الاسرائيلية اواخر عام1999إرتفعت حدة هذا التنافس، وتحركت نزاعات عربية داخلية ظلت خامدة طيلة فترة حكم الليكود. واحيا بعض الفلسطينيون الحديث عن الاراضي الفلسطينية ” اصبع الحمة ومثلثات كعوش” التي ظلت تحت السيادة السورية بعد هزيمة الجيوش العربية ونكبة العام 1948. وطالبوا القيادة السورية الالتزام سلفا باعادتها الى لاصحابها فور الاتفاق على انسحاب اسرائيل من الجولان. وذكّر بعضهم بموقع الرئيس السوري امين الحافظ حيث عرض على الفلسطينيين، في اوائل الستينات، استلام تلك المنطقة واقامة نواة دولة فلسطينية عليها. وفضل آخرون تاجيل الحديث علنا في هذا الموضوع، وتهيئة الاوضاع العربية لبحثه في وجامعة الدول العربية باتجاه اقناع القيادة اعادتها لاصحابها بعد التحرير وتمكين آلاف اللاجئين الفلسطينيين من تحقيق حلم العودة.
وعلى ابواب الجولة الثالثة من المفاوضات السورية الاسرائيلية التي تمت في شبردزتاون بولاية فرجينيا يوم 3/1/2000 بمشاركة امريكية كاملة، زاد الشك الفلسطيني بنوايا باراك ونوايا الادارة الامريكية وسبب قلقا في ذهن القيادة الفلسطينية، وبخاصة بعد تصريح الرئيس كلينتون الذي قال فيه: ” ان الطرفين السوري والاسرائيلي تعهدا بتسوية خلافاتهما في غضون الشهرين المقبلين، وانه يشعر بتفاؤل ومفعم بالأمل بامكانية احراز نجاح جوهري”. وسرب احد اعضاء الوفد الاسرائيلي للصحافة الاسرائيلية “مسودة معاهدة السلام” التي تقدم بها الرئيس كلينتون في الجولة الثانية من المفاوضات، جمع فيها ما تم الاتفاق عليه والقضايا التي ظلت موضع خلاف. واظهرت ورقة كلينتون دخول السوريين في بحث تفصيلي لقضايا الامن وتبادل العلاقات الدبلوماسية والتجارية وقبولهم فتح الحدود وبناء اشكال من التعاون الاقتصادي والسياحي..الخ قبل حسم مسألة انسحاب اسرائيل الى حدود 4 حزيران 1967.
وفي حينه، أكدت مصادر دبلوماسية غربية وعربية مطلعة لاركان القيادة الفلسطينية؛ بان المفاوضات السورية الاسرائيلية جدية جدا وفاقت التقديرات. وان الطرفين تجاوزا في جولتين مرحلة جس النبض وحققا تقدما ملموسا في معالجة المسائل الاجرائية وجوانب عديدة من قضايا جوهرية هامة. وان ما حققاه يؤسس لتقدم سريع هام وشامل، وبخاصة على صعيد تطبيع العلاقات الثنائية وفي مجال الترتيبات الامنية المشتركة. وقدّرت تلك المصادر الدبوماسية تحقيق اختراقا مهم في جولة المفاوضات الثالثة او في الجولة التي ستليها على أبعد تقدير. يعقبه تطور نوعي في العلاقات السورية الاسرائيلية على كافة الصعد، وتشعل دمشق الضوء الاخضر للبنانيين لاستئناف مفاوضاتهم مع الاسرائيليين برعاية امريكية، ولن تستغرق وقتا طويلا ونتائجها مضمونة في حال اقتراب السوريون والاسرائيليون من الاتفاق.
الى ذلك، ظل بارومتر التفاؤل والتشاؤم العربي يتأرجح صعودا ونزولا، وبينت الوقائع ان اغلبية اطراف النظام الرسمي العربي عولوا كثيرا على التصريحات الايجابية التي اطلقها باراك لأغراض متنوعة. وعملوا برد الفعل، وافتقدوا المقياس الموحد لتقييم مفاهيم وتوجهات حزب العمل نحو السلام في عهد باراك. ولم يقدروا بصورة علمية دور العوامل الخارجية، وبخاصة الامريكي، في التاثيرعلى مواقف الجنرال باراك العنيد والمعتد بعبقريته.. ولم يتوقف تذبذب الموقف العربي الا بعد دخول المفاوضات السورية الاسرائلية الاسرائيلية في ازمة كبيرة. حيث اعلنت القيادة السورية بعد تسريب “مسودة معاهدة السلام” تأجيل سفر وفدها الى واشنطن للمشاركة في الجولة الثالثة من المفاوضات، واشترطت استئنافها على ذات المستوى العالي الذي بدأت به، وبالتزام الحكومة الاسرائيلية مسبقا بالانسحاب من جميع الاراضي السورية المحتلة حتى حدود الرابع من حزيران 1967، وضمنها المساحة الضيقة من شواطئ بحيرة طبريا الشمالية الشرقية. ورد باراك على الاعلان السوري قائلا “سندرس الموقف عندما تغير سوريا موقفها، واسرائيل لا تخضع للابتزاز والسلام حاجة مشتركة ولن نرضخ للشروط المسبقة”. وجدد مطالبته بعقد قمة اسرائيلية سورية لمعالجة الخلافات. ورفضت سوريا عقد القمة قبل التوصل الى صيغة اتفاق نهائي متكامل، وغمزت وسائل الاعلام السورية من اسلوب القيادة الفلسطينية في المفاوضات، وهاجمت سياسة المصافحات وتبادل الابتسامات امام كميرات مراسلي الصحف ووكالات الانباء ومحطات التلفاز.
ومنذ ذلك التاريخ تجمدت المفاوضات السورية الاسرائيلية، وحاول الرئيس كلينتون كسر الجمود وتبديد الشكوك السورية بالنوايا الاسرائيلية الامريكية، وعقد في نيسان من العام 2000 في جنيف لقاء مع الرئيس المرحوم حافظ الاسد، لكن كلينتون فشل في مهمته ولم يستطع احداث تغيير في الموقف السوري يسهل استئناف المفاوضات. وبدلا من فكفكة عقدة العلاقات السورية الاسرائيلية، تعقدت العلاقات السورية الامريكية، حيث تبنى الرئيس الامريكي موقف اسرائيل بشأن تفسير قرار الامم المتحدة رقم 338، ورفض الضغط على باراك والزامه بالانسحاب من جميع الاراضي السورية التي احتلت في العام 1967. وافشل تعريف حدود الطرفين على شواطئ بحيرة طبريا الشمالية الشرقية المفاوضات. ولم يستوعب باراك وكلينتون مغزى قول الرئيس الاسد؛ قبل حرب حزيران 1967 كان المدنيون والعسكريون السوريون يسبحون في مياة بحرية طبريا ويشربون منها، وكان ضباط الجيش العربي السوري يصطادون سمكها وكنت واحدا منهم. ولم يتردد الرئيس كلينتون لاحقا في تحميل سوريا مسؤلية فشل مفاوضات حنيف وقال؛ “الكرة الآن في الملعب السوري”.
وبعد فشل، قمة الاسد ـ كلينتون، اهتزت قناعات باراك بامكانية الانسحاب من جنوب لبنان باتفاق مع اللبنانيين تدعمه سوريا. ووجد نفسه في ورطة لا يحسد عليها، خصوصا وانه بشر “الامهات في السواد” وكل شعب اسرائيل بالانسحاب من جنوب لبنان في الموعد الذي حدده. ونشّط حركته السياسية والدبلوماسية في كل اتجاه بأمل الحصول على دعم دولي واسع لتنفيذ القرار425 من جانب واحد، وسحب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان قبل تموز 2000. وطالب فرنسا ودول المجموعة الاوروبية وروسيا وبعض الدول العربية بالتدخل لدى القيادتين السورية واللبنانية لتأمين الظروف الملائمة لانسحاب القوات الاسرائيلية بهدوء، وحل مشكلة افراد وضباط “جيش لبنان الجنوبي” بقيادة العميل “انطوان لحد” واصدار عفو عام عنهم، ومنع افراد حزب الله من اطلاق النار على قواته خلال انسحابها. وطالب الامم المتحدة القيام بدور نشط وفعّال في الاشراف على تطبيق القرار425 بما في ذلك ارسال مزيد من القوات لمراقبة الوضع في جنوب لبنان، وتوفير الخبراء لمشاركة الجيش الاسرائيلي في وضع علامات حدود اسرائيل مع لبنان كما كانت عليه قبل حزيران1967. وكالعادة، لقي موقف باراك دعما امريكيا كاملا داخل الامم المتحدة وخارجها، ولم تسأله ادارة كلينتون لماذا لا يلتزم بتطبيق جميع قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالصراع السوري الاسرائيلي والفلسطيني الاسرائيلي والاكتفاء فقط بتنفيذ ما يرغب به في جنوب لبنان؟
**
ورغم الخلاف الامريكي الاسرائيلي الودي الهادئ والمستور، ستشيد الوزيرة اولبرايت بحكمة باراك وحرصه على صنع سلام ثابت في المنطقة، وستدعو الدول العربية الى التفاعل مع الخطوة الاسرائيلية “العظيمة” التي اقدمت عليها حكومة باراك، وملاقاتها بخطوة تطبيع “حرزانة”. وأظن ان حكومات عربية كثيرة ستشيد بجهود باراك من أجل صنع السلام، “وتكرّمه” بتنفيذ اتفاق واي. وستتجاوب مع دعوة اولبرايت وتتعامل مع متطلباتها بسرعة مذهلة بما فيها تحضير اوضاعها لاستئناف مفاوضات متعددة الاطراف قبل تنفيذ واي ريفر، وقبل ظهور حقيقة مواقف باراك من المطالب السورية المحقة والمشروعة. ولا ادري اذا كانت السيدة الوزيرة ستنجح في احياء الدور الامريكي كمراقب مباشر لتنفيذ الاتفاق الجديد حسب نصوص الاتفاق الاصلي، أم انها ستخضع لابتزازات باراك وتكتفي بوعوده واخلاقه العسكرية ؟. علما بان تجربة المفاوضات والاتفاقات من مدريد واوسلو وحتى واي اكدت ان لا تواريخ مقدسة مع الفلسطينيين، عند رؤساء وزراء اسرائيل”عسكر ومدنيين”. وان لا غنى عن دور امريكي مباشر في الاشراف على المفاوضات ومراقبة تنفيذ الاتفاقات .
الى ذلك ستنصرف الوزيرة اولبرايت بعد الاحتفال بما تحقق على المسار الفلسطيني، الى مهمتها الرئيسية المتمثلة في احياء المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، وستقوم بالحركة المكوكية المطلوبة بين دمشق وتل ابيب لوضوع الرتوش الاخيرة. وتأمل النجاح في انجازها قبل مغادرتها المنطقة. واظن انها لن تواجه صعوبة كبيرة في الاتفاق مع الطرفين على استئناف مفاوضاتهما، وتدشينها مطلع تشرين الاول “أكتوبر” بعد انتهاء القيادة الاسرائيلية من الاحتفال بالاعياد اليهودية. وستتفق معهما بسرعة على دور أمريكي نشط وفعّال فيها خاصة ان لا خلاف بينهما على مثل هذا الدور، واستئناف المفاوضات بات هدفا مشتركا يخدم المصالح التكتيكية والاستراتيجية للطرفين، والاتصالات التمهيدية، السرية والعلنية، أنضجت مواقفهما وضيقت رقعة خلافاتهما حول اسس استئنافها.
وبتدشين المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، وبدء مفاوضات الحل النهائي على المسار الفلسطيني مترافقة مع تنفيذ واي ريفر، تنتقل المفاوضات العربية الاسرائيلية الى مرحلة نوعية جديدة. وبصرف النظر عن راي المتفائلين او المتشائمين بمستقبل المفاوضات على المسار السوري فالثابت ان مجرد استئنافها يساعد باراك على التشدد في تنفيذ بروتوكول تنفيذ اتفاق واي ريفر، وقد يتحمس ويتلاعب بتوقيت الانسحاب الثالث. ولا حاجة لان يكون الانسان نبيا حتى يقول ان مفاهيم باراك الامنية، واوضاع ائتلافه الحكومي، واوضاع اسرائيل الداخلية تؤكد استحالة التوصل، خلال فترة حكم باراك الحالية، الى حلين شاملين للصراع الاسرائيلي الفلسطيني والسوري الاسرائيلي. وتوقيع اتفاقين استراتيجيين حول الانسحاب من الجولان وجنوب لبنان، وآخر يعالج قضايا القدس واللاجئين والحدود والاستيطان والامن.
وأقصى ما يطمح له باراك في ولايته الاولى هو توقيع اتفاق مع الرئيس الاسد حول تطبيع العلاقات السورية الاسرائيلية، والانسحاب من الجولان. ووضع الترتيبات الامنية اللازمة لضمان استقرار الوضع على حدود اسرائيل الشمالية بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان. وسيعمل بكل السبل ويستخدم كل الاوراق المتوفرة للضغط على رئيس السلطة الفلسطينية لتوقيع “اتفاق اعلان مبادئ” عام وفضفاض جدا حول قضايا الحل النهائي، يعتمدة كاساس لمفاوضات تستغرق سنوات طويلة، والايحاء للعالم بانتهاء الصراع مع الفلسطينيين.
لا شك في ان انسحاب اسرائيل من الجولان وجنوب لبنان يخدم المصالح الوطنية السورية واللبنانية، مثله مثل الانسحاب من أجزاء اضافية من الضفة الغربية. واذا كانت المصلحة القومية المشتركة تفرض على الطرفين التساند في المفاوضات وتنسيق مواقفهما قبلها وخلالها. فالمصلحة الوطنية تفرض على القيادة الفلسطينية ليس فقط تعطيل امكانية استغلال المفاوضات والاتفاقات في ابتزاز الموقف السوري، بل وايضا تاخير التوصل الى “اعلان مبادئ الحل النهائي” الى ما بعد الاتفاق السوري الاسرائيلي، واستثمار الاسبقيتين الهامتين، اللتين سيتضمنهما، في مفاوضاتها حول قضايا الحل النهائي: الاولى اعتماد قرارات الشرعية الدولية 242و 338 كقاعدة لحل النزاع حول الارض والحدود. والثانية رسم نموذج لمعالجة وضع المستوطنات والمستوطنيين. وايضا بعد التيقن من تنفيذ الاتفاق الجديد على الارض. فقناعات باراك الاساسية لم تتغير، ويخطئ من يعتقد انه سينفذه باستقامة. وتجربة شهرين من المفاوضات تفرض رفع درجة الحذر، وقديما قالوا “الطبع غلب التطبع”.