باراك يبحث عن صفقة وهو لا يملك رصيد

بقلم ممدوح نوفل في 08/01/2001

بغض النظر عن خلفيات اللعبة السياسية الجارية بين القوى والأحزاب السياسية الإسرائيلية، يمكن القول ان بازار انتخابات رئيس الحكومة الإسرائيلية فتح على مصراعيه. وشرع أطراف النظام السياسي الإسرائيلي بتحضير عروضهم لتقديمها لجمهور الناخبين. والتدقيق بمواقفهم يؤكد ان عروضهم سوف تكون مثيرة لمن يرغب بمتابعة تطور صراعاتهم الحزبية والسياسية والشخصية، وشيقة لمن يستمتع بتراشق التهم على شاشات التلفاز. وهي مفيدة جدا لمن يهتم ببحث آفاق السلام بين العرب وإسرائيل. فعروض المرشحين لهذا المنصب، الرفيع، تبين بوضوح توجهات أصحابها وتسلط الأضواء على ثغراتهم ونواقصهم الشخصية. وتكشف بجلاء واقع النظام السياسي في إسرائيل. وما يطرح فيها من مواقف تكون في العادة ملزمة لأصحابها ويحاسبون عليها. بعكس ما يجري في عالمنا العربي في الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي نادرا ما تتم، واذا تمت يتم القفز بسرعة مذهلة عن كل ما يطرح فيها.
ويجمع خبراء الشئون الإسرائيلية على ان باراك مرشح بقوة للانضمام، بعد اقل من شهر، الى قائمة رؤساء الحكومات ـ شامير ورابين وبيريز ونتنياهوـ الذين استهلكتهم عملية السلام منذ انعقاد مؤتمر السلام في مدريد عام 1991. وتؤكد استطلاعات الرأي العام تفوق شارون على باراك بنسبة كبيرة من الأصوات، بعد ان فقد الثاني نسبة كبيرة من قاعدته الشعبية التي مكنته إلحاق هزيمة مرة بنتنياهو في انتخابات عام 1999. ويعتقد قادة حزب العمل وأركان اليسار وقوى إقليمية ودولية وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، ان عقد صفقة سياسية مع الفلسطينيين هي السبيل الوحيد لتخليص باراك من تخبطه السياسي. وتمكنه تقديم عرضا مميزا يعجب الجمهور، ويكسبه أصواتا تكفي لإنقاذه من الفشل والبقاء في كرسي رئاسة الحكومة الذي لم يستكمل الاستمتاع بالجلوس فيه. ويتصورون ان عقد مثل هذه الصفقة كفيل بإخراج حزب العمل وقوى اليسار من المأزق الكبير التي حشرهم فيها. فهل يمكن الوصول مع باراك الى صفقة تلبي الحد الادنى من الحقوق الفلسطينية ؟ وهل اذا تمت تكفي لانقاذه من السقوط في الهاوية التي حفرها، وتخلص “اليسار” من حالة الكآبة التي تعيشها ؟ أم ان أخطاءه الفاحشة بحق عملية السلام وجرائمه الكبيرة بحق الفلسطينيين تحول دون الوصول للاتفاق الموعود، ورحيله يخدم، في المدى البعيد، صنع السلام المنشود ؟
لا خلاف بين أنصار السلام على ان فوز شارون زعيم اليمين بكرسي رئاسة الوزراء سوف يكون بمثابة انقلاب، له ما بعده على مجمل اوضاع المنطقة وعلى علاقات إسرائيل الاقليمية والدولية. وان إطاحة الجنرال شارون بالجنرال باراك ينعش الأفكار اليمينية المتطرفة اكثر وينشط حركة أصحابها ضد الفلسطينيين وضد السلام معهم. ويؤجج النزاع العربي الإسرائيلي حول الأرض والمقدسات والأمن والمياه، ويجمد عملية السلام فترة عام او عامين على الأقل. وأظن ان لا خلاف، أيضا، على ان فوز اليسار في الانتخابات قد يجنب هذه العملية كل او بعض هذا المستقبل البائس. الا ان استكمال الحقيقة يفرض الاقرار بان فوز باراك من جديد لا يعني انه سوف يدير دفة الحكم وفق برنامج حزب العمل وتوجهات “اليسار”. وتجربته في الحكم لاكثر من 18 شهرا اكدت لا علاقة له باليسار القادر على اخراج العلاقات العربية الاسرائيلية من مأزقها. وألحقت اعماله اساءات بالغة بسمعة هذا اليسار، وقدم بسخاء خدمات سياسية وعملية عظيمة لليمين الاسرائيلي المتطرف وأنعش ايدلوجيته العنصرية.
والتدقيق المجرد بقناعات باراك ومواقفه المعروضة في بازار الانتخابات، يؤكد انها اسوء من التي عرضها في قمة كامب ديفيد الثلاثية، ورفض ابوعمار شراءها واستفزت مشاعر الفلسطينيين وعجلت في انفجار الانتفاضة. صحيح ان باراك بحاجة ماسة الى حبل انقاذ يمده الفلسطينيون له بأمل جسر الفجوة مع الناخب العربي في اسرائيل وترميم جسور العلاقة مع أغلبية جمهور اليسار الذي انتخبة. لكن الصحيح ايضا ان تجربة المفاوضات السابقة ولقاءات واشنطون الاخيرة بينت ان ايدلوجيته المتطرفة التي تشربها في طفولته وترسخت في ذهنه ابان خدمته العسكرية الطويلة، تعيق حركته باتجاه دفع ثمن الحصول على هذا الحبل الثمين. وتشل قدرته على اتخاذ مبادرات سياسة جديدة جريئة، وتعرقل تبنيه مواقف سياسة واجراءات عملية تنقذه وتنقذ عملية السلام وتمحو الجرائم التي ارتكبها بحقها. ويبدو ان باراك يأس من كسب اصوات العرب في اسرائيل، وبات يتطلع الى ارضاء قطاع هام من القاعدة اليمينية التي لم تحسم موقفها الانتخابي، وبدأ يبحث عن سبل نيل عطفها وكسب أصواتها في الانتخابات. ومواقفه بشان اللاجئين والارض والسيادة على القدس ومقدساتها تؤكد انه لم يستخلص درسا واحدا مفيدا من الانتفاضة بعد أكثر ثلاث اشهر من عمرها، وبات مؤكدا انه لن ينجو من تجرع الهزيمة المرة التي لم يتذوقها ابان خدمته العسكرية.
وبشأن فوز شارون في الانتخابات فأهل الانتفاضة مقتنعون بان حالة عدم الاستقرار التي يمر بها النظام السياسي في اسرائيل، لن تمكن شارون من ادامة حكمه اكثر مما دام حكم باراك. ويذكّرون من يحاول تجميل صورة باراك السيئة وتخويفهم بصورة شارون القبيحة، بانهم دخلوا اكثر من معركة حامية مع هذا “البعبع” في غزة وجنوب لبنان، وكانت نتيجة المعركة الآخيرة التي وقعت في بيروت عام 1982، ادانته بالتورط في مجزرة صبرا وشاتيلا، وحرمانه قانونيا من تولي حقيبة وزارة الدفاع طيلة حياته. واذا كان باراك نسى او ناسى الاتفاقات والاحداث التاريخية الهامة، فالفلسطينيون لم ينسوها ويتذكرون ان نتنياهو وافق في قمة واي ريفر، بعد هبة النفق عام 1996، على الانسحاب من 13% من اجمالي اراضي الضفة والقطاع، ونفذ النبضة الاولى وأمر الجيش الاسرائيلي بالانسحاب من اجزاء هامة من مدينة الخليل، وطار من رئاسة الحكومة بسبب ذلك الاتفاق “الكريم”. والفلسطينيون داخل وخارج اسرائيل مستعدون للادلاء بشهادة صادقة امام محكمة التاريخ، اذا عقدت يوما ما.. وتقديم أدلتهم الدامغة على ان جرائم نتياهو ابان “هبة النفق” في العام 1996، كانت أقل شراسة وفاشية من التي ارتكبها “ممثل اليسار”. ومقتنعون بان جرائمه في الشهور الثلاث الاخيرة، لم يكن بمقدور نتنياهو ممثل اليمين المتطرف ارتكابها لو بقي في السلطة وكان حزب العمل واليسار في المعارضة.
الى ذلك، يرجح ان لا يكرر شارون، اذا فاز في الانتخابات، ما فعله باراك مؤخرا، وخصوصا قتل وجرح عدد كبير من العرب في اسرائيل. واذا اقدم على قصف المدن الفلسطينية بالطائرات والدبابات واغتال اطباء وكوادر سياسية وواصل عمليات الاغلاق وجوّع الشعب الفلسطيني..الخ كما يفعل باراك الآن، فالمرجح ان يواجه بمظاهرات شعبية اسرائيلية تجمع جمهور اليسار بأطيافه المختلفة في ساحة رابين في قلب تل ابيب. ناهيك عن الضجة الدولية التي ستثور ضده في عواصم العالم وداخل اروقة الامم المتحدة.
وايا يكن رأي اليسار الاسرائيلي، الحقيقي والمزيف، بباراك وتوجهاته السلمية، فالفلسطينيون، داخل وخارج اسرائيل، مقتنعون تماما بان اضطرار باراك للذهاب الى انتخابات مبكرة يجسد افلاسه السياسي وفشله كرئيس وزراء. والوقائع الحية التي يعيشوها على الارض في الضفة والقطاع تؤكد لهم انه يعشق المستوطنات وسكانها وقلبه وعقله مع اليمين المتطرف. ومواقفه من قضايا الحل النهائي كما عبر عنها في “أفكار كلينتون” التي شارك في صياغتها، لا تلبي الحد الادنى من الحقوق الفلسطينية وتقفل طريق التوصل الى اتفاق قبل رحيل كلينتون من البيت الابيض وافتتاح مراكز الانتخابات الاسرائيلية. ورغم ان افكار كلينتون ـ باراك تبدو مغرية لبعض الفلسطينيين وقيمة في نظر الادارة الامريكية والاوروبيين، الا ان ناس الانتفاضة يشبهوها بعروض تاجر فاشل مفلس ونصاب يبحث عن جاهل يعقد معه صفقة يدفع له قيمتها شيكا بنكيا بدون رصيد.
واذا جاز للفلسطينيين ان يدلو برأيهم في معالجة مأزق اليسار الاسرائيلي في هذه الانتخابات، فنصيحتهم لحزب العمل واليسار انصار السلام في اسرائيل هي مكاشفة باراك باخطاءه واقناعه بالانسحاب “بشرف” من السباق. وان يعملوا اذا فشلوا في اقناعه، كما هو متوقع، على الحد من طيشه وعنجهيته وعدوانيته ضد السلام. وان يفكروا في المستقبل ويقيدوا تصرفاته الهوجاء ويعطلوا تحويل الفلسطينيين الى “فشة خلق” في الاسابيع القليلة التي تفصلنا عن الانتخابات. ويرى ناس الانتفاضة في سقوط باراك بعد 100 يوم من انتفاضتهم ثمرة كبيرة من ثمار انتفاضتهم، فيها درس ثمين لليسار الاسرائيلي. ومقتنعون بان مشكلته معهم ومع الناخب الاسرائيلي اعقد من ان تحل باتفاق جزئي مجحف او “اعلان مبادئ” يعقده مع القيادة الفلسطينية في حديقة البيت الأبيض. ومصممون على رفض الخضوع للإبتزازات الاوروبية والضغوط الأمريكية التي تمارس ضدهم تحت شعار؛ أوقفوا الانتفاضة وأنقذوا باراك واقبلوا عروضه محسنة، وامنعوا شارون من تولي دفة الحكم في اسرائيل..الخ
ويتمنون على الأشقاء العرب وكل أنصار السلام في العالم مواصلة دعمهم المشكور للانتفاضة ومساعدتهم في إقناع الأمم المتحدة والإدارة الأمريكية الحالية واللاحقة والأوروبيين مساندة فكرة إرسال قوات دولية لحماية الشعب الفلسطيني من حالة الهستيريا التي يعيشها باراك ومنعه اعتماد مقولة “علي وعلى أعدائي يا رب”، او توريثها لشارون من بعده.