عدم الاستعانة بقوات دولية يطيل الصراع ويعسكر الانتفاضة

بقلم ممدوح نوفل في 25/11/2000

اعتاد كثير من السياسيين الفلسطينيين نعت الاحداث والتطورات الكبيرة التي تشهدها المنطقة، بين فترة واخرى، بالمرحلة الجديدة، ودائما يصفوها بالصعبة والخطرة والحاسمة. واذا كان بعض التشخيص السابق تضمن كثير من المبالغة، فهذه الاوصاف والنعوت تنطبق على المرحلة الجديدة التي دخلتها القضية الفلسطينية، بعد وصول اطراف النزاع الى نهاية طريق السلام، الانتقالي، التي شقها اتفاق اوسلو. وفشل قمة كلينتون باراك عرفات التي عقدت في كامب ديفيد، في النصف الاول من تموز/يوليو الماضي، وانفجار ازمة السلام العربي الاسرائيلي، امام بصر الراعي الامريكي. وتصادم الطرفان الفلسطيني والاسرائيلي بقوة في كل المحافل السياسية الاقليمية الدولية، ودخلولهما في مواجهات دموية، شملت جميع انحاء الضفة وقطاع غزة، وتطوّرت، في الايام الاخيرة، الى ما هو اوسع من انتفاضة شعبية ضد احتلال وأقل من حرب كلاسيكية بين جيشين نظاميين.
ويبدو ان هذه الحالة مرشحة للاستمرار فترة طويلة، فبعد صمت الادارة الامريكية اكثر من سنتين على جمود عملية السلام على المسارين السوري واللبناني، صمتت شهرين كاملين، على جرائم براك بحق هذه العملية التاريخية، وبحق الفلسطينيين بشرا وارض وممتلكات. وتظهر جعبة الراعي الامريكي “المنقذ”، خالية من مقترحات عملية قادرة على احيائها على المسار السوري. وخفض مستوى التوتر السياسي والعسكري بين السلطة الفلسطينية وحكومة باراك، وتعطيل لجوئهما للقوة في حل الخلاف. ويكرر اركان الخارجية والبيت الابيض، من حين لآخر، مناشدة الطرفين وقف العنف واعادة الاوضاع الميدانية الى ما كانت عليه قبل انفجار الانتفاضة يوم 29/9/2000، ويرفضون وجود طرف ثالث يساهم في تحقيق هذا الهدف، ويفصل بين الطرفين ويراقب حركتهما على الارض. ويعتقدون ان انسحاب القوات الاسرائيلية من مداخل المدن والقرى الفلسطينية وطرقها عشرات الامتار يأمن منطقة عازلة بين الطرفين، وهذا الحل الامني السهل والبسيط يكفي لوقف الاشتباكات وتهدئة الاوضاع، وعودة الطرفين الى غرف المفاوضات واستئناف المحادثات. خصوصا اذا الزم عرفات اجهزة الامن الفلسطينية منع المتظاهرين عبور المنطقة العازلة، والاحتكاك بالاسرائيليين.
لا ادري اذا كان اركان الادارة الامريكية قد فكروا جيدا قبل مطالبة القيادة الفلسطينية نشر قوات فلسطينية في نقاط التماس ومناطق الاحتكاك، ورفضوا نشر قوات دولية او متعددة الجنسية بين الطرفين، ام ان فكرتهم مطروحة للاستهلال الدولي وقطع الطريق على دور محتمل لآخرين، واثبات الوجود الامريكي بعد تدهور العلاقات المصرية والعربية الاسرائيلية. وايا تكن دوافع تقديم هكذا اقتراح، فانه لا يصلح لوقف تدهور الاوضاع ولا افق لتطبيقه على ارض الضفة والقطاع. وهو في نظر الفلسطينيين، سلطة وشعب، سخيف، ويجسد استمرار موقف الادارة الامريكية المنحاز لاسرائيل، والراغب تأديبهم ومعاقبتهم على ذنب اقترفوه في كامب ديفيد.. ومقتنعون ان هدفه المباشر تعطيل اي قرار دولي يشرك الامم المتحدة او اي طرف ثالث في تهدئة الاوضاع وحقن دمائهم، ومتابعة الضغط عل سلطتهم بكل السبل الممكنة للرضوخ لمواقف اسرائيل وضمنها ضرب مؤسساتهم مرتكزاتها الاقتصادية والامنية.
ولا يمكن لمبتدأ في السياسة ان يصدق ان اركان الادارة الامريكية لا يعرفون خارطة انتشار الجيش الاسرائيلي قبل وبعد انفجار الانتفاضة. ولا يدركون حقيقة ما حصل بين الجيش الاسرائيلي واجهزة الامن الفلسطينية خلال الشهرين الاخرين. خصوصا وان وكالات الانباء وشبكات التلفزة وضمنها C N N تنقل يوميا صور حية لمواقع الطرفين واشكال المصادمات والاشتباكات المسلحة اليومية التي تدور بينهما، ورجال السلك الدبلوماسي الامريكي في فلسطين واسرائيل، ومندوبو وعملاء وكالة المخابرات المركزية يلتقون الطرفين ويدونون يوميا بدقة كل الحوادث الامنية. وسواء كانو يدركون ذلك ام لا، فقتل الجيش الاسرائيلي قرابة 300 مواطن فلسطيني وجرحه قرابة عشرة آلاف أخرين خلال شهرين، وقصفه مراكز السلطة الفلسطينية في غزة برا وبحرا وجوا، يوم 20/11/2000، واغتياله واعدامه اعدادا من الكوادر الفلسطينيين، وتفجير عبوة ناسفة وسط مدينة الخضيرة شمال اسرائيل، وقتل الفلسطينيين ما يزيد عن 35 من الاسرائيليين..الخ من الاحداث الدموية، احدثت تغييرا نوعيا في قواعد الاشتباكات اليومية، وفي اشكالها واتجاه حركتها، ودفعت الصراع خطوة نوعية نحو الانفجار الشامل. ونسفت مقومات الاقتراح الامريكي، وجعلت الحديث عن ملء الفراغ بقوات الامن الفلسطينية اشبه بمن يريد تطويق النار ومحاصرتها ببراميل مليئة بمواد سريعة الاشتعال وقابلة للانفجار.
واذا كانت الاولوية، من وجهة نظر الادارة الامريكية، لوقف الاعمال العنف والاعمال العسكرية الجارية على الارض، فالنتيجة، الاكيدة، لتموضع قوات الطرفين وجها لوجه، تاجيج الصراع وزجها في حرب مكشوفة، وتوسيع مناطق الاشتباكات واراقة مزيد من الدماء، وتبديد فرص الحل السياسي. وحان لاركان الادارة الامريكية ان يقتنعوا ان لا بديل عن وجود طرف ثالث يفصل بين الطرفين، لفترة انتقالية على الاقل، فصيغة التنسيق الامني الفلسطيني الاسرائيلي التي بنت عليها اسرائيل استراتيجيتها في محاربة الارهاب، بعد دخول الشرطة الفلسطينية الى غزة والضفة، انتهت، ودفنت مع جثث الشهداء وضمنهم اعدادا ليست قليلة من افراد الاجهزة الامنية الفلسطينية. واشك بان المؤسسة الامنية الاسرائيلية تفكر باحياء الاموات او لديها قدرة على ذلك. ولعل من المفيد تذكير جميع من يرفضون وجود طرف ثالث بان قمع الجيش الاسرائيلي للمواطنين الفلسطينيين، دفع، في الايام الاولى من الانتفاضة، أحد افراد الامن الفلسطيني العاملين في الدوريات الفلسطينية الاسرائيلية المشتركة في منطقة قلقيلية، الى اطلاق النار على الجنود الاسرائيليين وقتل واحدا منهم وجرح آخرين. ومؤخرا تعرض احد مراكز الارتباط المشترك لعملية تفجير قتل فيها جندي اسرائيلي. وان جميع افراد الاجهزة الامنية الفلسطينية وطنيون لهم احاسيسهم ومشاعرهم الانسانية، وقصف اسرائيل مدنهم وقراهم ومقراتهم بالصواريخ والقذائف زرع الحقد في نفوسهم ضد من فعل ذلك.
وبصرف النظر عن فهم اركان الادارة الامريكية وتقييم دول السوق الاوروبية المشتركة لما يجري على ارض الضفة والقطاع، فالاحداث الدموية المستمرة وتفاعلاتها في صفوف العرب والمسلمين، والفلسطينيين والاسرائيليين، انهت عمليا مرحلة سلم فيها أطراف النظام الرسمي العربي، بعد حرب الخليج، عام1991، القضية الفلسطينية وقضيتي الجولان وجنوب لبنان للولايات المتحدة الامريكية لحلها سلميا، وباسلوبها الخاص. وبات انقاذ الفلسطينيين وانقاذ عملية السلام من الدمار، وانقاذ المنطقة من ويلات حرب جديدة يتطلب طرح مبادرة دولية جديدة، من مستوى مبادرة بوش بيكر التي قادت جميع اطراف النزاع الى مؤتمر السلام الذي عقد في العاصمة الاسبانية، مدريد، عام1991.
واصبح، لا معنى للحديث عن السلام قبل وقف عمليات القتل والتدمير والتنكيل اليومي التي يقوم بها الجيش الاسرائيلي ضد الفلسطيين، ولا أفق لاستئناف المفاوضات قبل احداث تغيير جوهري في الاسس والقواعد التي تحكمت في مسارها قبل وخلال قمة كامب ديفيد. والواضح ان ذلك لن يتم عبر استرضاء باراك والتوسل اليه لقبول هكذا مبادرة سياسية. ولا جدال في ان الولايات المتحدة الامريكية هي الطرف الوحيد القادرعلى الزام اسرائيل اسرائيل بذلك، فقد الزمت شامير، الاشد تطرفا من باراك، الذهاب الى مؤتمر مدريد والتفاوض مع الفلسطينيين. واذا كانت الادارة الامريكية الحالية غير قادرة، في نهاية عهدها غير المأسوف عليه، على طرح مثل هذه المبادرة، والاوضاع الاسرائيلية الداخلية غير ناضجة لاستيعابها، فالاسراع بارسال قوات طوارئ دولية او متعددة الجنسية تتولى مهمة تهدئة الاوضاع، ضرورة لا غنى عنها لتبريد الازمة، وابقاء مكان في المنطقة لهكذا مبادرة، ولمواصلة عملية صنع السلام بين العرب واسرائيل في فترة لاحقة. ويخطئ من يعتقد ان بامكان الفلسطينيين والاسرائيليين وحدهم، تجاوز ما حصل بينهما منذ انتهاء قمة كامب ديفيد وحتى الآن، أو تكرار ما حصل سرا في اوسلو. فما حصل بينهما في الشهرين الاخيرين كبير وخطير، ونسف كل علاقات السلام التي اقاماها على مدى سبع سنين. ومفاجئة اوسلو تمت عام 1993 في سياق مرحلة محددة من الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، مختلفة نوعيا عن المرحلة التي يمر بها في عام 2000، وتوفرت لها، في حينه، ظروف مختلفة تماما عن الظروف السائدة الآن.
اعتقد ان تردد الادارة الامريكية في طرح هكذا مبادرة، واستخدامها الفيتو في مجلس الامن، كما هو متوقع، ضد ارسال قوات دولية، يضيف عنصرا جديدا لمبررات طلب القيادة الفلسطينية احداث تعديل جوهري في اسس رعاية عملية السلام. ويطيل أمد الصراع ويريق مزيد من الدماء، ويعزيز مواقف القوى الفلسطينية الداعية الى عسكرة الانتفاضة، واستخدام كل الاساليب والامكانات للرد على الاغتيالات وردع الاعتداءات الاسرائيلية المتنوعة. وينعش التطرف و”الارهاب” في المنطقة ويشرع ابوابها لانفجارات كبيرة. والتأخر في ادراك هذه الحقائق يجعل الحديث عن خفض وتيرة العنف دون معنى. فهل ستتحرك الادارة الامريكية قبل فوات الاوان ام انها ستبدد مسيرة شعوب المنطقة مدة عشر سنين على طريق السلام ؟