من يزرع الرياح في القدس يحصد العواصف

بقلم ممدوح نوفل في 17/08/2000

وضعت قمة كامب ديفيد الثلاثية، الفاشلة، مدينة القدس على جدول أعمال عديد الدول والتكتلات الاقليمية والدولية. وصار مستقبل السيادة السياسة والدينية عليها وعلى أماكنها المقدسة، موضع اهتمام شعبي وحزبي فلسطيني واسرائيلي واسع، وتحاول مراكز ابحاث ودراسات كثيرة ابتداع حلول لقضيتها المعقدة. ويرجح لهذا الاهتمام الدولي والاقليمي ان يتواصل ويتصاعد في الايام والاسابيع القادمة، خصوصا وان الادارة الامريكية تحاول، من جديد، تشغيل قطار السلام على المسارالفلسطيني بعد توقفه أمام اسوار هذه المدينة المقدسة عند اتباع الديانات السماويات الثلاث، المسيحية والاسلامية واليهودية، ومصممة على ايصاله، بكل السبل، الى محطته النهائية قبل نهاية ولاية الرئيس كلينتون اواخر هذا العام.
الى ذلك، فتحت محادثات كامب ديفيد نافذه ضيقة في جدار الموقف الاسرائيلي القديم بشان حل مشكلة القدس الشائكة والمعقدة، وبينت انه قابل، في عهد حزب العمل، للحركة والتغيير ببطئ، مثله مثل الموقف من الدولة الفلسطينية وقضايا اللاجئين والحدود والاستيطان، وكما تبدل وتغير في أوسلو واعترفت بمنظمة التحرير، وانسحبت من “يهودا والسامرا”. فقد تراجع باراك في “الكامب” عن المطالبة بسيادة إسرائيلية كاملة ومطلقة على المدينة، بشقيها الشرقي والغربي، وبقائها عاصمة موحد لإسرائيل وحدها. ووافق على اقتراح أمريكي بتقسيم المدينة الى ثلاثة قطاعات: قطاع تحت السيادة الإسرائيلية، وقطاع تحت السيادة الفلسطينية، وقطاع ثالث يوضع تحت سلطة الفلسطينيين الإدارية. واقترح شلومو بن عامي “العلماني” نموذجا خاصا بالبلدة القديمة أطلق عليه “حكم خاص بالبلدة القديمة”. وحسب اقتراحه يحصل الفلسطينيون داخل أسوارها على حقوق إدارية وحكم ذاتي، وتطبق إدارة دينية فلسطينية كاملة على الحرم القدسي يطلق عليه اسم “سيادة دينية”، او “سيادة على أملاك الغائب”. بشرط بقاء القانون الاسرائيلي مطبقا في هذه المواقع. وطالب رسميا، ولأول مرة، ان يحصل الإسرائيليون على زاوية صلاة في المسجد الاقصى بالتنسيق مع الحاخامية اليهودية الرئيسية.
وفي الليلة الاخيرة من قمة الكامب حاول الرئيس كلينتون إنقاذ القمة من الانهيار، وقدم في ساعة متاخرة من الليل ثلاثة خيارات لحل قضية القدس: الأول تأجيل حلها لمدة تتراوح من سنتين وحتى 25 سنة، والثاني سيادة فلسطينية على حيين في البلدة القديمة وحكم ذاتي إداري في أحياء خارج اسوارها، والثالث، ترتيب وضع معاكس، أي حكم ذاتي في البلدة القديمة وسيادة في الأحياء المحيطة بها. ولم يرفض باراك هذه المقترحات، واعتبر بعض أعضاء الوفدين الإسرائيلي والامريكي موقف باراك لم يسبق له مثيل. اما ابو عمار فقد رفض المقترحات الأمريكية والإسرائيلية بقوة، لإنها تنتقص حقوق الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين في المدينة المقدسة، التي أقرتها قرارات الشرعية الدولية. واعتبرها الوفد الفلسطيني خطوة صغيرة في الاتجاه الصحيح، لكنها مشوهة وخطيرة جدا، لاسيما الحديث عن تقاسم السيادة على ما فوق أرض الحرم القدسي الشريف وتحته، وتقسيمه، تحت شعار منح اليهود زاوية للصلاة، مثلما فعلوا في الحرم الابراهيمي في الخليل.
وبصرف النظر عن النتائج البائسة لقمة كامب ديفيد، فتناولها موضوع القدس بهذا التفصيل اشغل عدد من دول المنطقة، وهز الاوضاع الفلسطينية والاسرائيلية الداخلية. وباتت جميع القوى والاحزاب الدينية والعلمانية الاسرائيلية والفلسطينية، وعدد واسع من الاحزاب والحركات والعربية، المعارضة والمؤيدة لعملية السلام تستخدم ما دار في “الكامب” بشأن حل قضية القدس، مادة للتعبئة الداخلية والتحريض ضد خصومها واحراجهم، وفي بناء اشكال من التحالفات تساعدها في تحقيق أهدافها الوطنية والحزبية الخاصة.
ومع ان باراك لم يظهر، حتى الآن، الاستعداد الحقيقي لحل مشكلة القدس وفقا لقرارات الشرعية الدولية، ولم يتقدم على طريق الحل بمقدار يقربه من تخوم الموقف الفلسطيني، الا ان احزاب معسكر اليمين من شاس إلى المفدال مرورا بليفي سارعت الى اتهامه بتقديم تنازلات خطيرة تمس المحرمات الإسرائيلية. واغرقت الكنيست، بمشاريع حجب ثقة عن الحكومة، وطوقتها بقوانين تقيد حركتها في المفاوضات. وصوتت الكنيست الاسرائيلي بأغلبية بسيطة على قراءة أولى لصالح حل نفسها والتوجه لانتخابات برلمانية مبكرة. ولم يقف الأمر عند هذه الحدود، وتوالت عمليات الانسحاب من الائتلاف الحكومي، وبقيت حكومة باراك بدون اغلبية، والواضح انها ستبقى في ما تبقى لها من عمر قصير عرضة لعدم الاستقرار.
الى ذلك، تظهر متابعة مواقف الراعي الامريكي، وتحركات الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي، منذ كامب ديفيد وحتى الآن، تصميم الراعي الامريكي على التوصل الى اتفاق قبل الانتخابات الامريكية مطلع تشرين الاول /نوفمبر القادم، وانه يسخر نفوذه الاقليمي والدولي الواسع لتحقيقه. ويعتقد كلينتون واركانه ان النافذه التي فتحها الموقف الاسرائيلي في “الكامب” تتسع لعبور قطار السلام زواريب القدس وحاراتها الداخلية والخارجية الضيقة. ولا يتورعوا عن ممارسة كل اشكال الضغط على الطرف الفلسطيني وابتزازه لتسهيل حركته، وشراء حمولته بالثمن الذي يطلبه باراك. ويرفضوا رؤية تدهور اوضاع حكومة باراك، وعدم قدرته على اتمام الصفقة، وعجزه عن تنفيذها في حال اتمامها.
وبدون خشية من التعرض لتهمة التسرع، يمكن القول ليس عاقلاً من يتصور أن القيادة الفلسطينية وكل أحزاب وهيئات م.ت.ف مستعدة، أو بامكانها، منفردة أو مجتمعة، قبول المقترحات الاسرائيلية ـ الامريكية، والتنازل عن الحقوق الفلسطينية في هذه المدينة المقدسة، التي اقرتها قرارات الشرعية الدولية. لقد قيد رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة نفسه بقيود فلسطينية، قبل وخلال كامب ديفيد، حين قال بصوت عال: “ليس منا، وليس فينا، من يفرط بتراب القدس”، وعلى الراعي الامريكي، اذا اراد لمساعيه ان تنجح، ان يرى ابعاد سعي ابوعمار، الحثيث، لتقيد نفسه في اجتماعات لجنة القدس والمؤتمر الاسلامي ووزراء الخارجية العرب، بقيود عربية واسلامية اضافية. ولعل من المفيد لبارك واركان الادارة الامريكية ان يراجعوا عدد المرات التي تعطلت فيها عمليات البحث عن صنع السلام في المنطقة منذ عام 1967 وحتى الآن، بسبب قضية القدس. وبديهي القول ان قيادة م ت ف لن تقبل بحكم ذاتي في القدس رفضه الرئيس السادات في اتفاقات كامب ديفيد قبل اكثر من 20 سنة. وكتب في حينه رسالة “للشريك الأمريكي” قال فيها: “إن مصر تعتبر القدس العربية جزء من أراضي الضفة الغربية المحتلة، وأن ما ينطبق على الضفة الغربية ينطبق على القدس”. ورد بيغن في رسالة مماثلة، قال فيها: “إن قرار الكنيست الاسرائيلي بتاريخ 28 حزيران 67 نص على أن القدس عاصمة دولة اسرائيل وأنها مدينة موحدة وغير قابلة للتقسيم”. وكان رد الرئيس الامريكي الاسبق “كارتر” على الرسالتين “أن موقف الولايات المتحدة الأمريكية من مدينة القدس باق على ما هو ولا يعترف بضم القدس لإسرائيل”.
وإذا كان لا لزوم للاسترسال في الحديث عن تاريخ المنطقة وارتباطه بتاريخ القدس، فالمؤكد أن إضطراب وضع القدس أدى دوماً الى إضطراب في كل محيطها. وأن إستقرارها واستتباب أوضاعها كان يؤدي دوماً الى إستتباب وإستقرار الأوضاع في الشام ومصر والجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وفارس، وتؤكد التجربة ان كل من زرع الرياح في هذه المدينة المقدسة حصد العواصف في بلده. واظن ان لا أفق لأي إتفاق لتسوية وضعها، إذا بقيت، كما هو مرجح، مواقف الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي على ما هي عليه.
واذا كانت محادثات كلينتون بارك وعرفات، بينت ان السيادة على القدس الشرقية، التي طالب بها الطرفان كانت حجر العثرة الرئيس في طريق التوصل الى اتفاق، ودفعت عملية السلام الى مأزقها القاتل الذي تعيشه الان، فهذا يكفي ليدل على ان مصيرها لا يجوز ان يكون رهنا باتفاق متسرع يفرض على الفلسطينيين بقوة الإكراه، وبسبب ضيق الوقت وإنقاذ باراك. واذا كان لا مصلحة لاي طرف في تدمير عملية السلام، ويتعذر على كلينتون، في هذه المرحلة، الزام باراك تنفيذ قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقدس، فبالامكان التدرج في تنفيذها، واعتبار الاقتراح الأمريكي، الموافق عليه إسرائيليا، والذي يقسم السيادة على المدينة، ويقسم احيائها الى مدينتين منفصلتين، قدس عاصمة إسرائيل وأخرى عاصمة فلسطين..الخ بداية يمكن البناء عليها. وهذا الحل المؤقت لا يعطي أحد حق الزام الجانب الفلسطيني بانهاء النزاع قبل قفل ملف القدس كاملا، وقبل حل مشكلة اللاجئين، والتي لا تقل حساسية وتعقيد.
لا شك أن في إمكان ادارة الرئيس كلينتون معاقبة الفلسطينيين شعبا وسلطة ورئيس، ولا أحد يقلل من قدرتها على تنفيذ العقاب قبل رحيلها، والضغط على دول العالم وإجبار بعضها وهيئة الأمم المتحدة على عدم الاعتراف بدولتهم اذا اعلنوا قيامها، والمشاركة في جلد اللاجئين في كل مكان، وإطالة أمد عذابهم في مخيماتهم، بسبب رفضهم السياسية الأمريكية المنحازة لإسرائيل، وتمسكهم بحقوقهم في العودة والتعويض، التي أقرتها قرارات الشرعية الدولية. وبإمكانها، أيضا، قطع المساعدات الدولية عنهم وإضعاف سلطتهم، وتشجيع الحكومة الإسرائيلية على المضي قدما في عدم تنفيذ الاتفاقات التي تم توقيعها وعدم الانسحاب، وهدم المسجد الأقصى بدعوى أنه يقوم على أنقاض هيكل سليمان…لكن سلوكها هذا لا يصنع السلام الفلسطيني ـ الاسرائيلي الدائم، المنشود، ويجرد عملية البحث عنه من أي مضمون. ولا يجلب الاستقرار للمنطقة. والتجربة التاريخية أكدت ان التسويات المفروضة وغير المرضي عنها من أصحابها لا تدوم وتبقى النار تحت الرماد.