أيهما يسبق الآخر: تأجيل اعلان الدولة الفلسطينية أم الانفجار ؟

بقلم ممدوح نوفل في 11/08/2000

في قمة كامب ديفيد الثلاثية، سلم باراك بمبدأ قيام الدولة الفلسطينية، ودار نقاش تفصيلي حول عاصمتها، ونطاق سيادتها، ووافق على رسم حدود ثابتة ودائمة بين اسرائيل والدولة الفلسطينية وتسليم معابر الحدود مع الاردن ومصر للاجهزة الفلسطينية. وفي “الكامب” استثمرها الرئيس كلينتون كورقة مساومة، وتحدث مطولا حول مستقبل العلاقة بين الدولة الفلسطينية والولايات المتحدة الامريكية، وأطنبت الوزيرة اولبرايت في الحديث حول المساعدات الاقتصادية الضخمة والمتواصلة التي ستقدمها أمريكا للدولة الفلسطينية.
وبعد فشل القمة، تراجع باراك عن موقفه، وقال صراحة “كل ما طرح في “الكامب” يعتبر لاغيا طالما لم يتم التوصل الى اتفاق”. ورفض كلينتون في مؤتمره الصحافي “التأبيني” الاعتراف بفشله وفشل القمة الثلاثية التي تسرع في الدعوة اليها. وأشار إلى أن المحادثات حققت نتائج هامة، وان الطرفين، يتفهمان، “أهمية عدم القيام بأعمال أحادية الجانب من شانها التأثير على نتيجة المفاوضات، وان خلافاتها ستحل فقط عن طريق مفاوضات تجري بحسن نية”، في اشارة واضحة الى رفضه توجه قيادة م. ت. ف نحو ممارسة حقها في اعلان قيام الدولة، والى اعتباره عملا أحادي الجانب اذا تم من دون اتفاق مع الحكومة الاسرائيلية. ولم يكتف كلينتون بالضغوط الشديدة التي مارسها على ابوعمار في الكامب، والتي خرجت عن المألوف في الأعراف الدبلوماسية، بل تابعها، بصورة اعنف، وتبخر كلامه المعسول وكلام وزيرة خارجيته الذي سمعه الفلسطينيون قبل وخلال القمة، وحل محله تهديد ووعيد.
وبدلا من تحديد الأسباب الحقيقية التي أدت إلى فشل جهوده في القمة، ومعاقبة وزير خارجيته اولبرايت، ومنسق عملية السلام دينس روس، ومستشاره لشئون الأمن القومي سندي بيرغر، الذين ورطوه في عقد القمة، قبل توفر الحد الأدنى لنجاحها، وأظهروا جهلا بشخصية عرفات وبموقع القدس في الفكر السياسي الفلسطيني والعربي..الخ واصل الرئيس كلينتون الأخذ بنصائحهم، وانحاز لمواقف باراك بقوة. وصعّد هجومه ضد الفلسطينيين، وأدان علنا عزمهم إعلان قيام دولتهم فوق أرضهم. وهدد بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس قبل نهاية العام، وباعادة النظر في علاقة الولايات المتحدة بمنظمة التحرير، ووقف المساعدات التي تقدم لهم إذا نفذوا رغبتهم المشروعة، من جانب واحد. وارسل رسله ومبعوثيه الى الفاتيكان ودول المنطقة لحشد اوسع ضغط على قيادة م ت ف للتراجع عن موقفها بشأن القدس واللاجئين، وتأجيل اعلان قيام الدولة الى اشعار آخر. ويسجل له انتصاره على عرفات في عقر داره العربية..! ؟ حيث عطل انعقاد قمة عربية، ومنع وزراء الخارجية العرب ولجنة القدس من الانعقاد، وضعضع مواقف الدول الاوروبية المساندة لحق الفلسطينيين باعلان قيام دولتهم على ارضهم. وفي الوقت الذي سجل فيه ابوعمار، باسم شعبة، تقديرة الكبير لقيادة العربية السعودية على دعمها اللامحدود لموقف الفلسطيني بشان القدس وحقوق اللاجئين، توجه الى ايران بحثا نصرة زعماء الدول الاسلامية، بعد ان خذله معظم الزعماء العرب، وبأمل عقد قمة اسلامية، بعد عجز النظام الرسمي العربي عن التحرك لنصرة القدس.
الى ذلك، رفضت قيادة م ت ف رسميا التهديد الامريكي، وقررت، يوم 28 تموز الماضي، المضي قدما في معركة الدفاع عن القدس، ووضع قرارات المجلس المركزي بشأن اعلان الدولة موضع التطبيق. ودخلت الاوساط القيادة الفلسطينية والاسرائيلية صراع إرادات، يتسبب يوميا في ارتفاع مضطرد لدرجة التوتر الذي بلغته علاقة الطرفين بعد فشل قمة كامب ديفيد. ومع تصاعد هذا الصراع، زاد اضطراب الاوضاع الحزبية في اسرائيل، وارتفعت حرارة الشارع الفلسطيني وبلغت حد الغليان، خصوصا بعد كشف المخاطر الحقيقية التي تتعرض لها المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس. وباتت كل الاحتمالات الواردة، واشتد السباق بين تأجيل إعلان قيام الدولة الفلسطينية وانفجار الصراع بصورة دموية، والسؤال المطروح في الشارع الفلسطيني أيهما سيسبق الآخر، التأجيل أم الانفجار ؟
بددت محادثات قمة كامب ديفيد ونتائجها غيوم الامل بالتوصل الى اتفاق شامل ينهي النزاع. وهزت النظام السياسي الاسرائيلي بعنف، وبينت ان اسرائيل، كمجتمع وحكومة ونخب سياسية، تمر في مرحلة من عدم الاستقرار السياسي، تجعلها عاجزة عن صنع سلام حقيقي شامل وعادل مع الفلسطينيين. واستنفرت القمة قوى اليمين العلماني والمتدين، ووجهت هذه القوى، بعد توحيد جهودها، سلسلة ضربات موجعة لحزب العمل وقوى اليسار، وكان نصيب بيريز كبيرا، واطاحت بفكرة “اسرائيل واحدة” التي بنى عليها باراك برنامج حكومته، وبات عاجزا عن مواجهة الكنيست وملء الشواغر الكثيرة في حكومته، وتولى عدد من الوزراء الجدد مهامهم بالوكالة. وفي الجانب الآخر، عمقت محادثات كامب ديفيد شكوك الفلسطينيين، بنزاهة الراعي الأمريكي، وأضعفت ثقتهم بعملية السلام. وهيجت مشاعرهم الدينية، وعززت مواقف الاتجاهات الفلسطينية والعربية المتشددة العلمانية والمتدينة التي تشكك بجدوى عملية السلام، وخلقت مبررات اضافية لارتفاع مزيد من الأصوات الداعية الى لإقتداء بنهج حزب الله في استرداد الحقوق الوطنية المغتصبة. وزادت في قناعة القيادة الفلسطينية بان لا أفق للتوصل إلى حل مقبول “وليس عادل” في بقية عهد إدارة كلينتون، واذا تم التوصل لهذا لاتفاق فلا أفق لتنفيذه. فمن فشل، وهو في عز قوته، بالزام باراك تنفيذ اتفاقات قضايا المرحلية السهلة، لن ينجح، وهو في ذروة ضعفه، بإلزامه بتنفيذ اتفاقات تتعلق بقضايا الحل النهائي شديدة الحساسية والتعقيد. ومن لم ينفذ الانسحاب من العيزية وابو ديس والريف الخالي من السكان لا يمكن الوثوق بأنه سينفذ الانسحاب من حارات واحياء القدس الداخلية والخارجية
واي تكن دوافع كلينتون في دعم باراك ومساندة مواقفه، فإقدامه على فتح معركة ضد قيادة م ت ف، يعكس حالة الإحباط التي يعيشها بعد كامب ديفيد. ومؤشر على فقدانه الأمل بإمكانية إنجاز الاتفاق التاريخي الذي انتظره طويلا، ويفترض بالدرس القاسي الذي تلقاه من كامب ديفيد، وقبله في قمة جنيف الفاشلة مع المرحوم حافظ الاسد، تدفعه لعد المئة قبل الدعوة لقمة جديدة. وأظن ان مواقفه في القمة وتصريحاته بعدها تضعف حركة القيادة السورية الجديدة نحو إحياء مفاوضاتها مع الإسرائيليين حول الجولان، وتدفعها الى التريث، وانتظار نتائج انتخابات الرئاسة ومجلس الشيوخ والكونغرس الامريكية في تشرين الثاني/نوفمبرالقادم.
وبالرغم عن ذلك كله، لم يتوجه باراك وعرفات بعد اطلاق “سراحهما من الكامب” الى خنادق القتال التي جهزاها قبل دخوله، وبدلا من اللجوء للقوة لتحقيق اهدافهما حولا دول العالم الى ميدان قتال دبلوماسي مثير. وآثرا ضبط الشارع وسيطرا على حركته، واوقف الجانب الفلسطيني كل اشكال التحركات الاستفزازية التي تمهد عادة للصدام. واستأنف الطرفان مفاوضاتهما قبل وصول المنسق الامريكي، وكلاهما يدرك تماما ان ما لم يحققه كلينتون وعرفات وباراك في قمتهم الماراثونية لن يحققه صائب عريقات وعوديد عيران حتى لو انضم لهما دينس روس، وتابعت أعمالهما الوزيرة اولبرايت.
الى ذلك، بينت جولة ابوعمار الاخيرة، الواسعة، ان جميع القوى الاقليمية والدولية المعنية باستقرار اوضاع المنطقة، تساند، مبدئيا، حق الشعب في ان يكون له دولة أسوة بباقي شعوب المنطقة، واعلان قيامها شأن فلسطيني يقرره الفلسطينيون وحدهم، لكنها كلها شددت في الوقت ذاته على أهمية ان يأتي الاعلان كنتيجة لاتفاق فلسطيني ـ اسرائيلي، وجميعها دون استثناء حذرت الجانب الفلسطيني من تحمل مسئولية التسبب بتفجير الاوضاع.
اعتقد ان المصالح الوطنية تفرض على القيادة الفلسطينية اخذ مواقف هذه الدول بعين الاعتبار، وتأجيل الاعلان قيام الدولة على الارض، من 13 ايلول الى 15 تشرين الاول القادم، ذكرى اعلان الاستقلال من الجزائر عام 1988. فهذا التأجيل يحقق للقيادة الفلسطينية اغراض عدة بدون خسائر معنوية تذكر. أهمها تمرر قطوع الانتخابات الامريكية، وسحب قضية الدولة الفلسطينية من سوق مزاودات ومناقصات المرشحين. وافقاد باراك فرصة تصدير ازمته، و”فش خلقه” بالفلسطينيين. واعطاء حزبي العمل وميرتس واعضاء الكنيست العرب فرصة أطول لاقناع باراك والضغط عليه للتقدم اكثر على طريق الواقعية الموصل لاتفاقية سلام مع الفلسطينيين. خصوصا، وانهم جميعا يدركون انها خشبة الخلاص القادرة على إخراج حزب العمل من الأوضاع المزرية التي وصلها في عهد باراك.
وإذا كانت مواقف كلينتون المنحازة لاسرائيل، وتدهور أوضاع باراك الحزبية والحكومية تجعل البحث، في الأسابيع القليلة القادمة، عن حل نهائي شامل وكامل مضيعة للوقت، فالمخرج الواقعي من المأزق، يتمثل في، تثبيت ما أمكن الاتفاق عليه في كامب ديفيد، في “اتفاق اطار موسع”، وتأجيل ما لا يمكن الاتفاق حوله إلى إشعار آخر، وربط انهاء النزاع الذي يطالب به باراك بالاتفاق حول القضايا المؤجلة. ومن حق الفلسطينيين رفض إدراج إعلان قيام الدولة ضمن القضايا المؤجلة، والاصرار على تنفيذ المرحلة الثالثة من الانسحاب، وبسط السيادة على القرى الثلاث العيزرية وابوديس والسواحرة، وإطلاق سراح المعتقلين. واذا كان مثل هذا الاتفاق لا يخلص باراك من قبضة اليمين الاسرائيلي الخانقة، فأظنه يساعد في توحيد قوى اليسار خلفه، ويساهم بحقائق جديدة ترسخ عملية السلام على الارض، وتحد من قدرة اليمين الاسرائيلي على اعادة عقارب الزمن الى الوراء. وبديل ذلك جمود طويل لعملية السلام يقود الى انفجار دموي على اراضي القدس والضفة والقطاع. وفي كل الاحوال، ستبقى عملية السلام تكافح من اجل البقاء، وستظل الكنيست مسرحا مفتوحا لوقائع تبرهن على بقاء النظام السياسي الإسرائيلي أسير التطرف والتوسع ومناهضة السلام.