آفاق كامب ديفيد الفلسطيني

بقلم ممدوح نوفل في 10/07/2000

في 11تموز/ يوليو الجاري، بدأ الرؤساء الثلاث، كلينتون وعرفات وباراك، في كامب ديفيد، مفاوضات ماراثونية تستغرق اكثر من اسبوع، بأمل سد الفجوات الكبيرة في مواقف الطرفين بشان قضايا الحل النهائي، التي عجز ابو علاء وشلومو بن عامي عن سدها. وسيبحث الرؤساء، ايضا، سبل تنفيذ استحقاقات اتفاقات المرحلة الانتقالية التي لم يلتزم باراك بتنفيذها. فهل تنجح قمة كامب ديفيد في التوصل إلى اتفاق فلسطيني ـ اسرائيلي شامل ينهي صراعهما المزمن، ويؤسس لمرحلة جديدة من التعايش في إطار دولتين تحكمها علاقات حسن جوار، أم أن حجم الخلافات وطبيعتها، ومستوى تطور الفكر السياسي الاسرائيلي، وضعف كلينتون في نهاية عهده تعرقل وصول القمة لهكذا اتفاق تاريخي طال انتظاره ؟
بصرف النظر عن النوايا والاسباب التي دفعت بالرئيس كلينتون الى الدعوة للقمة قبل تنفيذ باراك استحقاقات المرحلة الانتقالية، أو بعضها على الأقل، فالدعوة تمت على خلفية إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي على عقدها، وبعد ان أقفل، بتخطيط مسبق، كل الطرق المؤدية إلى تحقيق تقدم في المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية بمساريها الانتقالي والنهائي، وجعل لا لون ولا طعم ولا رائحة لاستمرارها. وأفشل كل الجهود التي بذلتها الإدارة الامريكية في التوفيق بين مطالب عرفات ولاءات باراك، ولم يتردد في اعادة اولبرايت الى واشنطن بخفي حنين. وقال للرئيس كلينتون عبر الهاتف: لا لتنفيذ الاتفاقات المرحلية، ولا انسحابات جديدة من الضفة الغربية، ولا إطلاق سراح معتقلين فلسطينيين ولا..الخ إذا لم تعقد القمة. فنجحت خطته وكان له ما اراد، ووجه الرئيس الامريكي على توجيه الدعوة وفق اجندة باراك.
ورغم ما قيل او يمكن ان يقال في الدعوة، فهي دعم أمريكي مكشوف لتكتيك باراك، وتعبير صارخ عن انحياز إدارة كلينتون لمواقفه العنجهية المتطرفة. وحديث الرئيس الأمريكي عن هذه القمة باعتبارها توفر فرصة لحل شامل ونهائي للنزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي المزمن، والاتفاق حول جميع قضايا الخلاف الجوهرية، يندرج تحت بند أمنيات أمريكية تتعارض مع واقع المفاوضات ومجرياتها، وتحقيقها يتطلب معجزة في زمن ولت فيه المعجزات. وكان يمكن لحديث كلينتون ان يكون مفهوما لو انه اعترف بان الدعوة مغامرة محاطة باخطار كبيرة اقدم عليها مجبرا، بعد ان وضعه باراك امام خيار ثنائي اما القمة او سفك الدماء، وصارح العالم بان القمة محاولة أخيرة لمنع عملية السلام من الانهيار وانقاذ ما يمكن إنقاذه.
اما بشأن آفاق هذه القمة ونتائجها المتوقعة، فالقراءة الموضوعية، لتوقيتها وظروف عقدها وجدول اعمالها، تؤكد عددا من الحقائق اولها: انها تعقد بعد ضغوط قوية مارسها سيد البيت الابيض على الطرف الفلسطيني الاضعف في المعادلة، ولم يكن بمقدور هذا الطرف تحمل تبعات رفض حضورها. وتوجه ابوعمار، على مضض، الى كامب ديفيد قبل تحقيق مطالبه المحقة، التي اقر كلينتون وأركانه مشروعيتها وعدالتها. الى ذلك تعقد القمة بعد صعود أزمة المفاوضات والعلاقات الفلسطينية ـ الاسرائيلية درجة جديدة على سلم الانفجار وبلوغها ذروة خطرة، حيث مضى الطرفان كل الى غايته في طريق خاص واستبدلا لغة الحوار بلغة الاستفزاز والتحدي، وبدأ الواحد يهدد الآخر باتخاذ قرارات سياسية وإجراءات عملية حساسة من جانب واحد، لا تأخذ بعين الاعتبار مواقف الطرف الآخر ومصالحه. وكان أخطرها تهديد رئيس باراك بضم الأراضي الفلسطينية الخاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي إلى دولة إسرائيل في حال تنفيذ قرار المجلس المركزي، وإعلان عرفات قيام الدولة على جميع الأراضي التي احتلت في العام 1967، وعاصمتها القدس. وكان رئيس الأركان الإسرائيلي قد سبق باراك بالتهديد باستخدام الأسلحة والأساليب القتالية اللازمة للحفاظ على مصالح اسرائيل، وقمع اي حركة فلسطينية باتجاه بسط السيادة وتغيير الوضع القائم على الأرض.
والحقيقة الثانية، هي، ان الرؤساء الثلاث يلتقون قبل استكمال التحضيرات الضرورية لضمان نجاح لقائهم، والفجوة في مواقف الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي لا تزال عميقة وواسعة جدا، وقضايا الخلاف المطروحة على جدول الاعمال شائكة وحساسة ولها ابعاد رمزية عند الطرفين، وخصوصا قضيتي القدس واللاجئين. وقدرة باراك وعرفات على التصرف بهما محدودة، وليس بمقدور اي منهما تقديم تنازلات تقرب الواحد منهما من الحدود الدنيا التي تلبي قناعة الآخر وتحقق له اهدافه الاستراتيجية، وتمكّنه من تمرير الاتفاق في اطار مرجعيته الرسمية والشعبية. الى ذلك، فان الفراغات التي تركها ابو علاء وشلومو بن عامي في مسودة “اتفاق الاطار” الذي صاغاه كثيرة ومركبة، ولا يستطيع باراك عرفات تعبأتها كلها في ثمانية ايام. واذا كان باراك يعني ما قاله في لاءاته الخمس ويعتبرها خطا احمرا، ويراهن على ضغط كلينتون على عرفات لتقديم تنازلات تتعلق بالأرض والقدس واللاجئين، فأظن انه يخطئ اذا اعتقد أن الضغوط الأمريكية واختلال ميزان القوى لصالحه، وضعف قدرات السلطة الفلسطينية في مواجهة قوة إسرائيل العسكرية، كفيلة بإرغام عرفات، خلال القمة او بعدها، على تقديم تنازلات تنتقص مساحة الأرض التي احتلت في العام 1967، وتمس حقوق اللاجئين التي ضمنتها قرارات الشرعية الدولية. ويمكن الجزم بان ابوعمار لن يتنازل في كل الظروف والأحوال عن السيادة على مدينة القدس وخصوصا البلدة القديمة، ولن يتراجع عن إعلانها عاصمة للدولة الفلسطينية، ويردد باستمرار لا معنى ولا قيمة للدولة الفلسطينية إذا لم تكن القدس الشريف عاصمتها. واعتقد انه يفضل بقاء الحلول السلمية معلقة إلى إشعار آخر، واستمرار الصراع سنوات مديدة، على ان يسجل في تاريخه السياسي ما يمكن أن يوصف بالتنازل عن حقوق الفلسطينيين في مدينة القدس.
وتؤكد الحقيقة الثالثة، ان ليس في افق كامب ديفيد غيوم يهطل منها مطر مشروع امريكي خاص، يتمخض عنه اتفاقا مفروضا على الطرفين. ويخطئ من يعتقد ان من لم يتبنى مشروعا توفيقيا خاصا ابان عز قوة حكمه، سيكون لديه مثل هذا المشروع أواخر أيام حكمه، او سيكون بامكانه فرضه على الطرفين وهو في حالة شبيهة بحالة بطة عرجاء مقعدة. ومطالعات الرئيس كلينتون لمواقف الطرفين وخطوطهما الحمراء، ومعرفته الدقيقة بظروف انعقاد القمة تلزمه خفض سقف طموحه بانهاء عهده باتفاق فلسطيني ـ اسرائيلي شامل ينهي ثلثي قرن من الصراع، وقبول ما هو دونه بكثير. وسيضطر كلينتون الى بذل جهود مضنية من اجل عدم انفجار القمة، وانهاء التوتر القائم بين باراك وعرفات واقناعهما بالتوصل الى اتفاق جزئي، قبل مغادرتهما كامب ديفيد، يمرحل قضايا الحل النهائي، ويلبي الحدود الدنيا من تطلعاتهما المباشرة، ويضمن استمرار عملية السلام من بعهده.
اما الحقيقة الرابعة، فتشير ان لا مصلحة لاي من الاطراف الثلاث في تفجير القمة، وتؤكد حاجتهم الى الخروج من كامب ديفيد باتفاق ما. ويدرك القادة الثلاث ان فشل لقائهم يعني اشتعال صراع دموي فلسطيني ـ اسرائيلي، وانهيار نتائج جهود عشر سنوات ثمينة بذلتها الادارة الامريكية والقوى الدولية الاخرى في معالجة الصراع العربي ـ الاسرائيلي وحل المسألة الفلسطينية جوهر كل الصراع في المنطقة، وايضا اندفاع شعوب ودول المنطقة، عاجلا او آجلا، نحو موجة جديدة من العنف والدمار وسفك الدماء.
واذا كان ليس بمقدور الرئيس كلينتون فرض حل ما على الطرفين، ولا افق امام هذه القمة تحقيق هدفها الرئيسي المعلن، ولا امكانية لتوصل باراك وعرفات الى اتفاق شامل حول جميع قضايا الخلاف، ولا مصلحة لاي منهما في تدمير عملية السلام وزج شعبيهما في صراعات دموية، فالمخرج الوحيد المناسب لكل الاطراف هو الاتفاق على ما يمكن الاتفاق عليه ومتابعة المفاوضات حول قضايا الخلاف. واذا كانت قمة كامب ديفيد تركت، قبل انعقادها، آثارا واسعة على النظام السياسي في اسرائيل، وهزت اسس “اسرائيل واحدة، فالواضح ان باراك لم يعد يتوقع اتفاقا شاملا ونهائيا مع الفلسطينيين، واقصى ما يسعى لتحقيق هو انجاز اتفاق مرحلي جديد يترك قضايا اللاجئين والقدس الى المستقبل. فمثل هذا الاتفاق يسهّل عليه بناء ائتلاف حكومي جديد وتوفير اغلبية برلمانية تدعمه. والمؤكد انه سيكون بخيلا في مسألة الانسحاب من الارض، فهو صاحب نظرية ربط الانسحاب الثالث الذي يعطي الفلسطينيين قرابة 90% من الاراضي التي احتلت في العام 1967، بموافقتهم على ترسيم انهاء النزاع، وتنازلهم عن السيادة في القدس وعن حقوق اللاجئين. وسيستثمر باراك انهيار ائتلافه الحكومي في دفع الرئيس الامريكي الى الضغط على الرئيس عرفات لقبول صفقة قوامها دولة فلسطينية، لا تعلن القدس عاصمة لها، تقوم على قرابة 80% من الارض، مقابل اعلان انهاء النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، وتأجيل حل مشكلتي القدس واللاجئين.
الى ذلك، يمكن القول ان جولة مفاوضات واحدة، مدتها اسبوع، قد لا تكفي لتقريب مواقف الطرفين وصياغة مثل هذا الاتفاق، وقد يضطر الرؤساء الثلاث الى عقد جولة جديدة خلال وقت قصير، بعد اجراء دراسة معمقة ومتأنية لحصيلة الجولة الاولى التي يمكن اعتبارها جولة استطلاع لا غنى عنها قبل اتخاذ القرارات الحاسمة. ومن الآن وحتى ظهور الدخان الابيض او الاسود في سماء كامب ديفيد، يجب تقديم كل اشكال الدعم االشعبي والاسناد العربي للمفاوض الفلسطيني. واذا كان لا الجامعة العربية ولا اي من الزعماء العرب بادر الى الدعوة لعقد قمة مصغرة او موسعة قبل قمة كامب ديفيد، فالمصالح القومية بعيدة المدى تفرض عقدها في اقرب وقت ممكن. واعتقد ان ارتفاع صوت اهل القدس وصوت اللاجئين في كل مكان ضرورة فلسطينية للمحافظة على الحقوق الوطنية، وتعزيز موقف المفاوض الفلسطيني وتصليبه في مواجهة الضغوط الامريكية الشديدة التي يتعرض لها في كامب ديفيد .