تجميد المسار الفلسطيني بانتظار الانسحاب من جنوب لبنان

بقلم ممدوح نوفل في 10/05/2000

يعقد المفاوضون الفلسطينيون والاسرائيليون، بمشاركة المنسق الامريكي “روس”، جولة أخرى من المفاوضات، بأمل التوصل، قبل منتصف أيار الجاري، الى “اتفاق اطار”، لتسوية قضايا الحل النهائي، واغلاق ملفاتها قبل ايلول القادم. والتوصل، بحلول منتصف حزيران القادم، لاتفاق آخر، حول آلية تنفيذ المرحلة الثالثة من الانسحاب، التي نص عليه اتفاق اوسلو، وقضايا المرحلة الانتقالية الاخرى، المعطل تنفيذها، منذ فترة طويلة. وكان الطرفان، انهيا في ايلات، جولة مفاوضات ساخنة، وأمضيا قبلها، ثلاثة اسابيع من “العصف الفكري، (Brainstorming)، في قاعدة بولينغ الجوية، قرب واشنطن، فشلت في تحقيق اي تقدم يذكر. فهل سيتمكن الوفدان، تحقيق، ما فشلا في تحقيقه في ايلات وواشنطن، بتواريخه المحددة ؟
لا حاجة لذكاء خارق، للقول؛ ان نقل المفاوضات من واشنطن الى المنطقة، تم بناء على تقدير امريكي دقيق لحالة المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية، واقتناع اركان ادارة كلينتون باستحالة التوصل الى “اتفاق الاطار”، لحل قضايا الحل النهائي، قبل منتصف الشهر الجاري. وفشلوا في حلحلة مفاوضات المرحلة الانتقالية، وفضلوا الهرب من مواجهة استحقاقي ايار وحزيران اللذين يدقان الابواب، بدلا من الضغط على باراك، لتنفيذ التزاماته، بمواعيدها.
وقدمت لقاءات رئيس السلطة الفلسطينية بالرئيس كلينتون، الشهر الماضي، ولقائه الساخن برئيس الحكومة الاسرائيلية، في رام الله يوم 8 أيار الجاري، صورة متكاملة لحالتها المزرية وآفاقها المجهولة. واكدت ان أزمتها عميقة وليست شكلية، كما يتصورها البعض، وأعمق بكثير مما تبدو في وسائل الاعلام، واعقد من الازمة، التي تمر بها المفاوضات السورية واللبنانية. وتحمل في طياتها ابعادا، أكثر خطورة، على مجريات عملية السلام، ومستقبلها، والفرق بين استمرارها مع الفلسطينيين، وتعليقها مع السورين، شكلي، لا يطال الجوهر.
واكدت جولات مفاوضات، عبد ربه وعريقات ـ عيران، الكثيرة، تناقض مواقف الطرفين في جميع القضايا، الرئيسية والفرعية، المطروحة على بساط البحث، وانها تدور في حلقة مفرغة. واستأثرت، قرارات باراك الاستيطانية الاخيرة، وعدم اطلاق سراح الاسرى، وتهرب عيران من الالتزام بتنفيذ قضايا المرحلة الانتقالية، بمعظم الوقت، وسممت، اجواء العلاقات والمفاوضات. وزادت قناعة الجانب الفلسطيني، ان استرضاء المستوطنيين، والاحزاب المتطرفة المشاركة في الحكومة، لها الأولوية المطلقة في حسابات باراك.
الى ذلك، بينت لقاءات القمة والمفاوضات، ان باراك لا يزال اسيرا لقناعته القديمة، التي شكلها عندما كان قائدا “لدورية الاركان”، ورئيسا للاركان، ووزيرا للداخلية في عهد رابين، ويتمسك بربط تنفيذ القضايا الانتقالية بمجريات مفاوضات الحل النهائي. ولا يزال يؤمن بان؛ تنظيم عودة النازحين، وتنفيذ المرحلة الثالثة من الانسحاب، التي تعطي السلطة الفلسطينية سيادة كاملة على قرابة 90% من الضفة والقطاع، وتلغي نهائيا تقسيم الاراضي اراضي الضفة والقطاع الى A, B, C..الخ يفقد اسرائيل اوراق مساومة مهمة، ويضعف موقفها في المفاوضات حول قضايا اللاجئين والقدس والحدود والاستيطان والمياه والامن. ويسعى لانتزاع موافقة فلسطينية على القفز عن “اتفاق الاطار”، ومواصلة المفاوضات بدونه، وتجزئة ومرّحلة، قضايا الحل النهائي، وتأجيل بحث قضيتي اللاجئين والقدس بضع سنوات، باعتبارهما قضيتين حساستين، ومعقدتين، يتعذر الاتفاق بشانهما حتى ايلول القادم.
وبدلا من مواجهة الحقائق المؤلمة والمرة، يفضل باراك مواصلة تقسيط السلام، وبقاء حالة عدم الاستقرار تسود المنطقة، ويطالب الجانب الفلسطيني، بدفع ثمن اطلاق سراح بقية المعتقلين، وفتح الممر الامن الشمالي، الذي يربط قطاع غزة بوسط الضفة..الخ، ونسي ان الفلسطينيين دفعوا فاتورة حسابهم كاملا، في مدريد واوسلو قبل بضع سنوات. وأجل تسليم السلطات الامنية في قرى العيزرية وابو ديس والسواحرة، للسلطة الفلسطينية، وتذرع باوضاع حكومته، وتناسى انه بناها بيديه تحت شعار اسرائيل واحدة، ولا يزال يتمسك بجمع المواقف الاسرائيلية المتناقضة تحت سقف واحد.
وفي مفاوضات واشنطن وايلات، حاول عيران، تمويه مواقف باراك واركان حكومته، باغراء المفاوض الفلسطيني، بالحديث عن الدولة الفلسطينية، والتسليم بأن مفاوضات الحل النهائي ستؤدي الى قيامها واعتراف اسرائيل بها، وستبادلها العلاقات الدبلوماسية. وكأن، مبدأ قيام الدولة بحاجة لبحث اسرائيلي ـ فلسطيني، وحصول الفلسطينيين، مسبقا، على موافقة اسرائيلية. وكشفت الخرائط، التي قدمها الجانب الاسرائيلي، لاول مرة، مفهوم اسرائيل ورؤيتها للدولة الفلسطينية، وبينت انها تتكون حسب رؤيتهم، من ثلاثة كنتونات منفصلة عن بعضها البعض، مساحتها لا تتجاوز ثلثي الضفة الغربية وغزة، طرقها الرئيسية خاضعة للسيطرة الاسرائيلية، مليئة بثقوب استيطانية، والقدس خارجها، وليس لها حدودا مباشرة مع مصر والاردن، ومعابرها الخارجية تحت السيطرة الاسرائيلية. صحيح ان الخريطة الاسرائيلية، أولية وليست النهائية، وخاضعة للتفاوض، لكنها تؤكد استمرار قادة حزب العمل، وفي مقدمتهم حاييم رامون، التصرف بالعقلية القديمة، التي تعتمد فرض السلام بالقوة، ولم يتخلوا عن أفكارهم التوسعية العدوانية، التي جلبت الكوارث للمنطقة، ولم تصنع السلام.
وبينت المفاوضات، واللقاءات، ان مواعيد وتعهدات باراك، لا تختلف مواعيد نتياهو العرقوبية، ونظرتهما واحدة لقرارات الشرعية الدولية، ذات الصلة بالصراع الفلسطيني الاسرائيلي. ويرفض باراك الاقرار بانطباق القرار 242 على الاراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، مثلما تسعى حكومته الى تطبيقه على الاراضي اللبنانية والسورية، وطبقته، سابقا، على الاراضي المصرية والاردنية. وبناء على توجيهاته، احيا الوفد الاسرائيلي برئاسة عيران، مقولة اسرائيل القديمة؛ القرار 242 يعني الانسحاب من (أراض) من الضفة والقطاع، وليس كلها. وتحت شعار تلبية احتياجات اسرائيل الامنية الاستراتيجية، اصر على اجراء تعديلات واسعة على الحدود، واقتطاع ثلث مساحة الارض الفلسطينية، وضم التجمعات الاستيطانية الكبيرة لاسرائيل. ونسي باراك، ان معلمه ومكتشفه، “رابين”، قال يوما، انه مستعد لزيارة مستوطنات غوش عتصيون على طريق القدس ـ الخليل، بفيزا.
الى ذلك، تسببت مواقف باراك وخرائطه، واطروحات الوفد الاسرائيلي، الاستفزازية والمهينة، حول التاجيل والاقتطاع، بتأزم علاقة الوفدين، وجمود المفاوضات. ويسعى “روس” الى اقناع القيادة الفلسطينية، بتقدير ظروف واوضاع باراك الصعبة..؟! ومواصلة المفاوضات دون الارتباط بتواريخ محددة، مع تعهد واشنطن، ببذل اقصى الجهود للتوصل، قبل ايلول القادم، لاتفاق شامل ومتكامل. ويحاول ستر عجز ادارة كلينتون، ان لم يكن انحيازها، بالحديث عن زيارة هامة، تقوم بها “اولبرايت” للمنطقة، واحتمال عقد قمة ثلاثية، تعقد في واشنطن، تجمع كلينتون وباراك وعرفات،. وكأن اللقاءات الثنائية والثلاثية الكثيرة التي عقدت حتى الان، لم تفسح المجال امام كلينتون واولبرايت ليقولا كلماتهما الحاسمة، التي لم يقولاها، ولن يقولها بنهاية عهدهما، غير المأسوف عليه.
وفي سياق الضغط على المفاوض الفلسطيني، سهلت الادارة الامريكية، وصول المبعوث الاوروبي “موراتينوس” الى ايلات، لمساندة موقفها، والمساهمة في اقناع الفلسطينيين مواصلة المفاوضات، حتى اذا، مر شهر ايار، دون التوصل لاتفاق اطار. وبديهي القول انها ستواصل، في الايام القادمة، حشد طاقاتها، وتوظف شبكة علاقاتها الاقليمية والدولية، في رفع وتيرة ضغطها على الفلسطينيين، للتكيف مع أطروحات باراك، وتاجيل اتفاق الاطار، وقبول “ما يستطيع” تقديمه من القضايا الانتقالية، حتى اذا اقتصر على نقل الصلاحيات الامنية والمدنية، في القرى العيزرية وابو ديس والسواحرة، واطلاق سراح جديدة من المعتقلين.
والتدقيق السريع في مقدمات وظروف المفاوضات الجارية واللاحقة، يؤكد ان ما لم يحققه لقاء عرفات ـ باراك، في رام الله، لن يحققه عبد ربه وعريقات وعيران. وان جمودها الفعلي، شديد الصلة، بحالتها، غير المحسومة، على المسار السوري، وبتنفيذ الانسحاب المؤكد من جنوب لبنان. واذا كانت المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية، غير المباشرة، لم تتوقف، ولم يغلق الباب، نهائيا، امام استئنافها، فاطروحات عوديد عيران الاستفزازية مع الفلسطينيين، وحرصه على تقطيع الوقت، يعكس رغبة باراك بالتريث، وانتظار نتائج الاتصالات الامريكية ـ السورية، ونتائج جهود الوسطاء الآخرين، اوروبيين ومن المنطقة، قبل تقديم عروض جدية للفلسطينيين. ومن الآن، وحتى انتهاء باراك من الانسحاب من جنوب لبنان، ستبقى المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، تراوح مكانها. وستتخذ حكومة باراك، بعد انتهاء فترة الاعياد الاسرائيلية الجارية، قرارها، الرسمي، بالانسحاب من جنوب لبنان حتى الحدود الدولية. وستعهد لقيادة الجيش الاسرائيلي تنفيذه خلال فترة اقصاها اسبوعين. ومنح فترة اسبوعين لقيادة الجيش، لا علاقة له بحاجتها لوقت طويل، لتنفيذ الانسحاب. فهي قادرة وجاهزة لتنفيذه بأقل من 72 ساعة، وانما للضغط على القيادة السورية، للعودة الى طاولة المفاوضات قبل فوات الأوان.. فباراك لم يبدل اولوياته، ولم يسقط نهائيا، حتى الان، امكانية استئناف المفاوضات على المسار السوري، والتوصل الى اتفاق حول الجولان.
ونجاح المنسق الامريكي “روس”، في تواصل المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية، لا يعني نجاحه في تبريد الاجواء الساخنة. ولن تنجح ادارة كلينتون في صنع اتفاقات تاريخية بين الفلسطينيين والاسرائيليين، طالما انها لم تنجح في اطلاق سراح الاسرى، ولا تقوم بدور الراعي النزيه. وتعتمد مكيالين للتعامل مع قرارات الشرعية الدولية، ولا تبدي حرصا حقيقيا على تنفيذها، يعادل حرصها الملموس، لتنفيذها بدقة ،على الجبهتين اللبنانية والسورية.
ومن الآن وحتى يتم ذلك، ويغير باراك مواقفه المتطرفة، ليس امام الفلسطينيين خيار غير الصمود، والتمسك بكامل حقوقهم، التي نصت عليها قرارات الشرعية الدولية، وتركيز جهودهم لتصليب اوضاعهم الداخلية، والنهوض بمتطلبات اعلان قيام دولتهم على كامل الاراضي التي احتلت عام 1967، ومواجهة مرحلة ما بعد الانسحاب من لبنان، الذي سيخطف اهتمام الجميع لفترة زمنية ليست قصيرة. واذا كان رفض حكومة باراك، اطلاق سراح الاسرى، وعدم احترامها الاتفاقات التي توقعها، ودعمها المستمر للاستيطان، لم تؤدي للآن، الى تجميد المفاوضات، وقطع الاتصالات بين القيادتين، فانها تغذي الشكوك الفلسطينية القوية، بنوايا قادة حزب العمل، وتحقن علاقات الطرفين، على كل المستويات، بكل أشكال وعناصر التازم والتوتر، وتدفع نحو انفجار الاوضاع.