قرار مجلس الامن رقم 425 في المفكرة الفلسطينية/ أربع حلقات

بقلم ممدوح نوفل في 15/04/2000

في الساعة الاولى من فجر يوم 15 آذار “مارس” 1978، اخترقت القوات الاسرائيلية الحدود الدولية مع لبنان، واشتبكت مع الفدائيين الفلسطينيين. وفي اليوم الخامس من القتال، 19 آذار، أصدر مجلس الامن الدولي قرارا حمل رقم 425، قدمت الولايات المتحدة الامريكية مشروعه الاساسي. ولاحقا قرر المجلس “تشكيل قوة مؤقتة للامم المتحدة في الجنوب اللبناني”، في حينه، رفضت اسرائيل تنفيذ القرار ونال مواقفها، على مدى 22 عاما، مساندة امريكية كاملة، وتسبب بسقوط آلاف الضحايا من المدنيين اللبنانيين والفلسطينيون، ومن قوات الامم المتحدة، والاسرائيليين. وفي هذه الايام، يتصدر القرار 425 الاحداث الدولية، وتدور حول تنفيذه صراعات سياسية ودبلوماسية قوية، مرشحة للتحول، في حال تنفيذه من جانب واحد، الى صراعات دموية. وحدثا حمل في طياته، ولا يزال، حجما كبيرا من المآسي يستحق مراجعة سيرته، ودراسة جذوره، وتفاعلاته الجارية. وهذه شهادة، قد تساهم في معرفة الماضي وقراءة المستقبل.
* بعد انتهاء وجود م ت ف، المدني والعسكري في الاردن عام 70-71، توجهت انظار قيادة م ت ف نحو الجولان وجنوب لبنان. وتجمعت قوات الثورة، “المرحلة من الاردن”، فوق الاراضي السورية، تمركز بعضها في معسكرات قريبة من دمشق اهمها: دمر، الهامة، الزبداني، بلودان، معلولا. وتموضع بعضها الآخر في مواجهة القوات الاسرائيلية في الجولان المحتل. وتسللت اعداد مهمة، من سوريا الى لبنان، التحقت بالعدد المحدودة الموجود، منذ عام 1968، في منطقة العرقوب، جنوب شرق لبنان.
ومع ابتعاد قيادة وقوات الثورة الفلسطينية عن خطوط التماس الاسرائيلية ـ الاردنية، ضعفت صلتها بأهل الضفة والقطاع، وتذبذب مستوى اهتمامها بالعمل العسكري والتنظيمي داخل الاراضي المحتلة، لصالح تركيز أوضاعها في لبنان، والدفاع عن وجودها في الخارج، في مواجهة المؤامرات التي تحاك ضدها. وانتعشت مقولات؛ قومية المعركة، ووحدة النضال السوري ـ الفلسطيني ـ المصري لتحرير الاراضي العربية المحتلة، التي اختفت تماما بعد هزيمة حزيران 1967. وبرز في صفوف القيادة الفلسطينية دعوات للتنسيق العربي الشامل، اقترنت بالتشديد على استقلالية الحركة الوطنية الفلسطينية، والتمسك بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني. وفي 7ـ13 تموز1971عقد المجلس الوطني الفلسطيني دورته “التاسعة” في القاهرة، واتخذ عدة قرارات سياسية وتنظيمية نص احدها على: “مطالبة اللجنة التنفيذية و”اللجنة السياسية الفلسطينية العليا في لبنان” بالعمل على انشاء لجان المخيمات، لتقوم بتنظيم الجماهير، وتعبأتها لصالح الثورة، وانهاء كل المظاهر والتصرفات التي تسيء الى سمعة العمل الفدائي، وعلاقته بالجماهير اللبنانية”.
اواخر عام 1971، استكملت قيادة الثورة، الى حد كبير، تعزيز وجودها العسكري والادري في لبنان. في حينه، لم تعارض دمشق هذا التوجه، ولم تحاول عرقلته، بل شجعه وسهلت حركته على الارض. فالعلاقة السورية الفلسطينية كانت حسنة، وازعاج اسرائيل من الجبهة اللبنانية يخدم استراتيجية سوريا في تحرير الجولان، ويعزز مكانتها السياسية في لبنان والمنطقة. خاصة وان قوات الثورة في جنوب لبنان، والعرقوب، والمخيمات، لا يمكّنها العيش دون خلفية لوجستية في الاراضي السورية. وأطر م ت ف تضم عددا من الفصائل المقربة منها، وطلائع حرب التحرير الشعبية”، “قوات الصاعقة” التابعة لحزب البعث العربي الإشتراكي، تحتل موقعا مرموقا في قيادتها.
وفي تلك الفترة، لم تحصر فصائل م ت ف نشاطها العسكري بالجنوب اللبناني، وتابعت عملياتها ضد الجيش الاردني، من الحدود السورية، وحولت الاراضي العربية، ودول العالم، الى ميادين صراع ضد الاردن واسرائيل. وشكلت حركة فتح “منظمة ايلول الاسود”، توجت أعمالها باغتيال رئيس الوزراء الاردني “وصفي التل” في القاهرة. ونفذت في 5 ايلول 1972، عملية “ميونخ” المثيرة، ضد الفريق الرياضي الاسرائيلي المشارك في الالعاب الاولمبية. ونفت، وقتها، قيادة فتح، رسميا، مسئوليتها عن العملية، لكنها بذات الوقت برّرتها، واكدت “حق الشعب الفلسطيني في مقاتلة عدوه من اي بقعة من العالم، وحيث يكون”. وشكلت الجبهة الديمقراطية منظمة “وهمية”، أطلقت عليها اسم “حركة تحرير الاردن”. واوقفت الجبهة الشعبية، رسميا، عمليات خطف الطائرات التي تميزت بها، لكنها واصلت عملياتها الخارجية ضد اسرائيل، وضد النظام في الاردن، بأشكال أخرى، كان أبرزها عملية مطار اللد، التي نفذت بالتعاون مع مجموعة من افراد “الجيش الاحمر الياباني”.
ومع تزايد اعداد الفدائين الفلسطينيين، وارتفاع وتيرة نشاطهم العسكري، رفعت اسرائيل مستوى غاراتها الجوية وقصفها المدفعي ضد مراكز الفدائين في جنوب لبنان. وخشيت السلطة اللبنانية فقدان سيطرتها على الوضع، وتحوّل الجنوب الى ساحة قتال متواصل بين الطرفين، وهي بالكاد تحملت المواقع العسكرية المحدودة، محددة العدد، التي تم تثبيتها في “إتفاق القاهرة” الذي رعاه، الرئيس عبد الناصرعام 1969، بين الحكومة اللبنانية و م ت ف. وشهد لبنان، في تلك الفترة، حملة دعاوية واسعة معادية للوجود الفلسطيني المسلح، وندد البعض باتفاقية القاهرة، وطالب بالغائها، طالما لم يلتزم الفلسطينيون بها. وزاد الجيش اللبناني مضايقاته للفدائيين، وفرض اجراءات مشدة على الحدود اللبنانية ـ السورية، لكنه لم يفلح في الحد من تسللهم سيرا على الاقدام، وبواسطة الوثائق المزورة التي اجادت الفصائل انتاجها. فعدد افراده كان قليلا، اقتصر تواجدهم في عدد محدود من المخافر، في القرى الكبيرة. وتركيبته البشرية لم تكن متجانسة، ونسبة غير قليلة من أفراده وضباطه الصغار، تفاعلوا مع المناخ الوطني اللبناني، ولم يخفوا تعاطفهم مع الثورة الفلسطينية وكفاحها المسلح ضد اسرائيل. أفضل الطرق وأسلمها وأقصرها، على الفدائين، كانت دروب جبل الشيخ الوعرة، وبخاصة الواصل منها قرية عرنة السورية، الواقعة على سفحه الشمالي الشرقي، بقرى حاصبيا والعرقوب اللبناني “كفرشوبا، الهبارية، كفر حمام، وراشيا ” الواقعة على سفوحه الغربية الجنوبية. فهذا الطريق كان آمنا بمقدار ما كان وعرا وصعبا، لا يسلكه إلا القرويون والمهربون السوريون واللبنانيون، والعسكريون ورجال مكافهة التهريب.
تدريجيا، تراكم في الربع الاول من عام1972، في العرقوب وعلى الحدود السورية اللبنانية، آلاف المسلحين الفلسطينيين، ينتمون لكل فصائل الثورة. وتسلل بعضهم الى مخيمات بعلبك وطرابلس وصيدا وصور وبيروت. وفتحت معسكرات كثيرة للتدريب، استقبلت متطوعين فلسطينيين ولبنانيين. وعملت جميع الفصائل، دون استثناء، على استقطاب اعداد من المواطنيين اللبنانيين وضمتهم لصفوفها، والحقت ما استطاعت بقواعدها المقاتلة. واقامت قيادة فتح علاقات وطيدة مع عديد الشخصيات الوطنية، ورموز الاحياء في المدن اللبنانية، ووسع جهاز “الرصد الثوري”، لحركة فتح، خلاياه المنتشرة في المدن والقرى والمخيمات والجامعات. وتوحد عمل “قوات الصاعقة” مع منظمة حزب البعث العربي في لبنان، والشيء ذاته حصل بين “الجبهة العربية” وفرع الحزب البعث الموالي للعراق. واستوعبت الجبهة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (بزعامة جورج حبش) مجموعات القوميين العرب، الذين لم يلتحقوا “بمنظمة العمل الشيوعي”، التي اسسسها “محسن ابراهيم ومحمد كشلي وفواز طرابلسي، وشاكر” بعد تمزق تنظيم الحركة. وتوحدت مجموعات الجبهة الديمقراطية (بزعامة نايف حواتمة)، سياسيا وتنظيميا واداريا وعسكريا، مع خلايا وقواعد “منظمة العمل الشيوعي”، وعملا سويا على توسيع وتطوير وجود الجبهة الديمقراطية في المخيمات الفلسطينية، وبيروت، وقرى الجنوب والعرقوب والبقاع والشمال.
وبالمقابل عزز الجيش اللبناني مفارزة المنتشرة في منطقة راشيا وحاصبيا ومرجعيون، واقام الحواجز على طرق البقاع والهرمل والشمال والجنوب. وزاد في مضايقة الفدائيين، واعتقل اعدادا منهم ومن اللبنانيين المتعاونين معهم. وارتفع التوتر بين الطرفين، وبادر المقاتلون الفلسطينيون الى اغلاق بعض القرى النائية في وجه قوات الدرك، ونظموا كمائن في مواجهة الجيش اللبناني، اشركوا فيها الأهالي والاحزاب اللبنانية. ونشأت احتكاكات محدودة بين الطرفين، تطورت بسرعة الى إشتباكات مسلحة قوية، شاركت فيها كل الفصائل دون استثناء، بما في ذلك قوات الصاعقة الموالية لسوريا. اولى الاشتباكات القوية افتعلتها قوات فتح والجبهة الديمقراطية، مع سرية من الجيش اللبناني، تتمركز في نقطة تقاطع حيوية، “جسر الحاصباني” تربط قرى العرقوب ببلدة مرجعيون والبقاع الغربي، كانت تعيق حركة الفدائيين الفلسطينيين داخل منطقة العرقوب وخارجها. وفي الاشتباك تلقت القوات المهاجمة مساندة الفصائل الاخرى،ولحقت خسائر محدودة بافراد ومعدات السرية. ورحلت السرية من مواقعها “وحرّرت” المقاومة الفلسطينية قرى شبعا والهبارية وراشيا وكفر حمام.
لاحقا، افتعلت القوات الفلسطينية، اشتباكات مع مفرزة حاصبيا، وحاصرتها وطردتها من مقرها واستولت عليه. و”بتحرير” حاصبيا”، تحررت عدة قرى على طريق حاصبيا ـ عين عطاـ دير العشايرـ وصولا الى الحدود السورية. وتسهلت حركة الفدائيين على طريق دمشق ـ العرقوب، التي رسّمتها السلطات السورية كطريق للفدائيين، وتولت مفرزة الشرطة العسكرية، والضابطة الفدائية، تسجيل حركة دخول وخروج الفدائيين. واصبحت كل منطقة حاصبيا والعرقوب، بجبالها وقراها وبساتينها وسكانها، وما يملكون، تحت سيطرة الفدائيين الفلسطينيين، وسموها “القطاع الشرقي”. اما اسرائيل فأطلقت اسرائيل عليها اسم “فتح لاند”، واعادت النظر بنظامها الدفاعي في المنطقة، واقامت قواتها مواقع قتالية في مرتفعات كفرشوبا الهامة داخل الاراضي اللبنانية، وفي ايلول 1972 إجتاحت “القطاع الاوسط”. وطاردت المقاتلين الفلسطينيين ونسفت عددا من مراكزهم، وارعبت المدنيين.
لاحقا تابع الفدائيون الفلسطينيون تحرشهم بالجيش اللبناني، وكان هدفهم من شقين، الاول “تحرير” راشيا الوادي، وطرد مفرزة الجيش اللبناني من قلعتها، وتوسيع منطقة انتشارهم باتجاه منطقة شتورا وصولا الى بلعبك. والثاني، فتح طريق حاصبيا ـ مرجعيون ـ قلعة شقيف ـ النبطية، وبعده طريق النبطية ـ القاسمية ـ صور، وربط تواجدهم في القطاع الشرقي، بالقطاعين الاوسط والغربي، وكان تواجدهم في مخيمات صور وقراها والشريط الساحلي قد تعزز. ولم تتأخر قوات فتح في مهاجمة مواقع القوة الرئيسية للجيش اللبناني المتمركز في قلعة راشيا، واشتبكت مع مفارزها المنتشرة على الطرق، ونجحت بالتعاون مع قوات باقي فصائل الثورة بإجبار قوات الجيش اللبناني على مغادرة المنطقة، وسمحت لها، بعد تدخل قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي، سحب معداتها بصورة سلمية ونظامية.
وبطرد الجيش اللبناني من راشيا الوادي، تمدد الفدائيون وتغلغلوا في القرى السنية الواقعة في البقاع الغربي والقرعون، ووصلوا حدود زحلة وجبل الباروك وسفوح منطقة الشوف الشرقية. ولم تسمح لهم قيادة الحزب التقدمي بالتمركز في قلب الشوف. ودخلوا لاحقا، اشتباكات عنيفة مع وحدات الجيش اللبناني المتمركزة في بلدات مرجعيون والخيام، وابل السقي، ونجحوا في الاستيلاء على معسكراتها وثكناتها ونهبوا ما فيها من معدات وتجهيزات عسكرية وادارية. وربطوا توجدهم على الحدود السورية بتواجدهم في مخيمات النبطية وصور وصيدا. واستقبلوا بترحيب شديد في معظم البلدات والقرى التي دخلوها، حيث وجد اهلها فرصتهم للتعبيرعن عروبتهم وعن وطنيتهم، وعن معارضتهم للنظام “الطائفي” اللبناني، الذي أهمل مناطقهم ومتطلباتهم الحياتية. وواصلت فصائل الثورة تنظيم وتجنيد وتدريب المواطنين اللبنانيين، والحقتهم بقواعدهم المقاتلة، وشغّلوهم في جمع المعلومات عن الجيش اللبناني، والتعرف على الحدود اللبنانية الاسرائيلية. واستخدم البعض، في تهريب الاسلحة والمقاتين الى المخيمات، وكان ضمنهم اقارب الرئيس فرنجية.
ولم تجدي كل الاتصالات اللبنانية بالقيادة الفلسطينية في الحد من تدفق الاسلحة والمقاتلين الفلسطينيين من سوريا الى لبنان. وعززت فصائل الثورة تواجدها في مخيمات بيروت الشرقية والغربية. وشرعت بالتمدد الى الاحياء المحيطة بها، بدأته باستئجار بيوت سكن للقيادة، ومراكز اعلامية وادارية، حولتها تدريجيا لمراكز عسكرية. وسلمت قيادة الجيش اللبناني بالامر الواقع. وصار الجنوب اللبناني، بالكامل، تحت سيطرة الفدائيين ومسؤوليتهم الامنية والعسكرية، وتحولوا الى قوة عسكرية قوية في المدن الاساسية. وفقد رئيس الجمهورية “سليمان فرنجية”، والقوى اللبنانية المعارضة للوجود الفلسطيني المسلح ثقتها بقدرة الجيش اللبناني على الحد من وجود ونشاط الفدائئين. وتبنى حزبي الكتائب والاحرار مواقف حادة ضد هذا الوجود. وبالمقابل ارتقت العلاقات التنسيقية بين الثورة الفلسطينية وقيادة الحركة الوطنية اللبنانية وتم تشكيل غرفة عمليات فلسطينية ـ لبنانية مشتركة، أسندت قيادتها للعميد سعد صايل “ابو الوليد”، وحظي باحترام وتقدير الجميع.

“الحلقة الثانية”
قرار مجلس الامن رقم425 في المذكرة الفلسطينية
باراك هاجم قادة م ت ف وشاحاك نسف مقر الديمقراطية

في النصف الاول من عام 1973 صعدت قوات الثورة نشاطها العسكري من جنوب لبنان، ومس بعضه سكان القرى والمستعمرات الاسرائيلية، الواقعة على الحدود الشمالية. وخشيت القيادة الاسرائيلة من كثافة قوات م ت ف على حدودها وتطور قدراتها القتالية وتحولها الى قوة مزعجة. ووجهت الحكومة الاسرائيلية أكثر من رسالة رسمية تحذيرية للسلطات اللبنانية، طالبتها بالسيطرة على نشاط “المخربين” الفلسطينيين، وضبط تواجدهم، ومنعهم عن القيام بعمليات “تخريبية” من اراضيها. وقررت انتهاج سياسية ردع نشيطة ضد الفدائئين وقيادتهم. ولم تتوانى في الرد على كل عملية قتالية صغيرة او كبيرة نفذها مقاتلوا فصائل الثورة. وقامت، في شباط 1973، بعملية واسعة ضد مخيمي نهر البارد والبداوي شمال لبنان، وواصلت غاراتها الجوية وقصفها المدفعي ضد مواقع الفلسطينيين في الجنوب والبقاع.
وفي العاشر من نيسان 1973، وبعد تحضيرات استخبارية معقدة، نفذت قوة اسرائيلية خاصة من “دورية الاركان” عملية خاصة، جريئة، في قلب العاصمة اللبنانية. دخلت القوة المهاجمة بيروت عن طريق البحر، وكان رجال وعملاء المؤسات قد سبقوهم بجوازات سفر اوروبية وامريكية، واقاموا في فنادقها واستأجروا 7 سيارات مدنية. وهاجمت، في وقت واحد، المقر المركزي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في “حي الفاكهاني”، احدى ضواحي بيروت الغربية، ومنازل قادة م ت ف، “في فردان”، كمال ناصر”عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير”، وكمال عدوان “عضو اللجنة المركزية لحركة فتح”، وابويوسف النجار “عضو مركزية “فتح” وعضو اللجنة التنفيذية للمنظمة”. وكانت معلومات اسرائيل تشير، بان الاول قائد جماعة ايلول الاسود، والثاني، مسئول عمليات فتح في اسرائيل، والثالث ناطق رسمي باسم عرفات وم ت ف. ونجحت المجموعة الاولى، بقيادة “ايهود باراك”، في اغتيال القادة الثلاث في منازلهم. ونسفت الثانية بقيادة “امنون شاحاك”، جزئيا، مقر الديمقراطية في “الفاكهاني”، قرب المدينة الرياضية. واشتبكت معهم مجموعة حراسة المقر، وسقط منها خمسة شهداء، وقتل من القوة الاسرائيلية المهاجمة جنديان من قوات المظلات، “ابيدع شور وحجاي معيان”. وفقدت القوة المهاجمة عنصر المفاجئة، ولم تتمكن من العمل بحرية تامة ولم تحقق هدفها كاملا. فبعد اغتيال الاسرائيليين، “الحارس المركزي، امام البناية، بواسطة مسدس كاتم للصوت، اطلقت عليها النيران من كمين جانبي، نصب، في حينه، للدفاع عن مقر الجبهة، من هجوم، كان متوقعا تنفيذه من قبل القيادة العامة، بزعامة احمد جبريل. حيث تطورت المشاحنات بين التنظيمين، حول البرنامج السياسي المرحلي، وتحولت الى صدام مسلح في مخيمي تل الزعتر وعين الحلوة، استشهد فيه “فايز ابو خلدون” أحد كوادر الديمقراطية.
اثر سماعي صوت الرصاص الكثيف والانفجارات، غادر منزلي، القريب من المقر المستهدف، وتوجهت راجلا لاستطلاع ما يجري، وكانت مفاجئتي كبيرة، عندما منعني افراد مجموعة الحراسة “الكمين” من الاقتراب من المبنى، وقالوا؛ موقعنا تعرض لهجوم اسرائيلي، استغلت القوات الاسرائيلية مشاكلنا مع القيادة العامة، وحاولت نسف المقر بمن فيه، اشتبكنا معهم واقعنا خسائر في صفوفهم، وهناك احتمال وجود متفجرات موقوتة والغام لم تنفجر. ولم أصدق اقوال الرفاق، الا بعد ان سلمني احدهم مسدسا اسرائيليا عيار 6 ملم كاتم للصوت، يحمل شعار “نجمة داوود”. وتبين، ان القوة الاسرائيلية هاجمت المقر في ثلاث سيارات مدنية، حرستها من بعيد سيارة جيب عسكرية، تشبه تماما سيارات قوات الدرك اللبناني. ولاحقا، عثر أمن “فتح”، على شاطئ الاوزاعي جنوب بيروت، على عدد من السيارات المدنية المستأجرة، يحمل احدها آثار دماء غزيرة. وبينت مخلفاتهم انهم قدموا وغادروا بواسطة القوارب، ولم تقع بهم اصابات، باستثناء تلك التي لحقت اثناء الهجوم على مقرالديمقراطية. وفوجئ الجميع، بان كمال ناصر هو الوحيد الذي اتيحت له فرصة استخدام سلاحه، وانه اطلق النارعلى قاتليه الاسرائيليين، علما بانه كان يكره حمل السلاح، ولا يحب ان يكون معه مرافقين، وكان يعتبرهم اقرب الى السجانيين يحدون من الحركة، ويقيدون نمط حياته العادية التي كان يحب ان يحياها بحرية تامة.
الى ذلك، حمّلت قيادة م ت ف الحكومة اللبنانية قسطا رئيسيا من المسؤولية عن دخول القوات الاسرائيلية قلب بيروت، ونجاحها في الوصول لبيوت القادة الثلاث. ووجهت اتهامات علنية للمكتب الثاني اللبناني “المخابرات اللبنانية”، وبعض رموز قيادة الجيش اللبناني، بالتواطئ مع الاسرائيليين. ولاحقا، شيعت بيروت القادة الثلاث، في جنازة مهيبة، شارك فيها قرابة ربع مليون انسان، وجميع قادة الاحزاب الوطنية، وبعض قادة القوى والاحزاب المارونية، منهم بيار الجميل زعيم “حزب الكتائب”. والقى زعماء المسلمين والاحزاب خطبا حماسية، هاجموا فيها تواطئ السلطة اللبنانية، وطعنوا في تركيبة أجهزتها ومؤسساتها المدنية والامنية، وطالبو باقالة قائد الجيش. وتحدث بعضهم عن المقاومة الفلسطينية، وكأنها جيش المسلمين في لبنان. وكانت الجنازة فرصة مهمة، استعرضت فيها قيادة م ت ف اسلحتها وقدراتها العسكرية والجماهيرية، بطريقة اقلقت السلطات اللبنانية، ونبهت اجهزتها الامنية. وأرعبت بعض “القوى الحزبية” المسيحية المتزمتة، التي رأت في م ت ف قوة ورطت لبنان في صراع ضد اسرائيل لا طاقة له به، واخلت بالتوازن الطائفي الداخلي. ورغم علمانية الحركة الوطنية اللبنانية، وتبوء كثير من المسيحيين مراكز قيادية اولى فيها، فظهور ونمو عقدة الخوف، في صفوف الحركة السياسية المسيحية، من الفلسطينيين والعلمانيين اللبنانيين كان له ما يبرره في بلد تنخره الطائفية الدينية والسياسية،
الى ذلك ايقظت عملية فردان ـ الفاكهاني، عقدة الخوف من التصفية لدى الفلسطينيين، واصبحت قيادة م ت ف مجبرة على ايلاء وجودها في لبنان اهتماما استثنائيا، وراحت تعطي مسألة حماية وجودها اهمية كبيرة. ووسعت نطاق تجنيدها للشباب الوطني اللبناني في كل المناطق اللبنانية. وشجعت القوى الوطنية اللبنانية على بناء تشكيلات عسكرية وشبه عسكرية خاصة بها، وزودتها بما يلزم من معدات قتالية وقدمت لها مساعدات مالية ولوجستية. وبدأت تتدخل، مباشرة، أكثر فأكثر في الشؤون السياسية والحزبية والاجتماعية اللبنانية. وراحت تغرق تدريجيا في الاوضاع اللبنانية الداخلية، ونسيت ما استخلصته من دروس تجربتها في الاردن. ومع كل خطوة كانت تخطوها داخل المستنقع اللبناني، كانت تبتعد اكثر فاكثر عن عملها الاساسي داخل الاراضي الفلسطينية. وحل دون قرار، شعار الدفاع عن الوجود الفلسطيني في لبنان، مكان شعار تصعيد ونقل الكفاح المسلح داخل الاراضي المحتلة. وبقي احتلال اسرائيل عام 1967 لكل فلسطين، واجزاء واسعة من الاراضي السورية والمصرية قائما، وتقلصت كلفته الاجمالية.
وخلال ذات الفترة، أعادت فصائل م ت ف النظر في انتشارها العسكري على الاراضي اللبنانية لصالح تعزيز وجودها وتسليحها في بيروت وطرابلس وصيدا وصور والمخيمات المجاورة لها. وتم تشكيل “المجلس العسكري الأعلى” لقوات الثورة، إقتصر تشيكله على مندوب واحد لكل فصيل، ما عدا حركة فتح، حيث مثلها؛ خليل الوزير (أبو جهاد)، وسعد صايل (أبو الوليد)، وعطالله عطالله (أبو الزعيم). وشرعت حركة فتح في تجييش تشكيلاتها الفدائية الى قوات نظامية شبيهة بالجيوش العربية، وشكلت سرايا وكتائب والوية بحرية، ومدفعية، ودروع، ومشاة. ولاحقا، تبعتها بقية الفصائل الفلسطينية الاساسية.
في شهر ايلول “اسبتمبر” 73 التقى الرئيس انورالسادات وفدا من قيادة فتح برئاسة ابوعمار وعضوية “ابواياد” و”ابوالهول” و”ابواللطف”، ابلغهم انه يفكر بشن حرب ضد اسرائيل، وعبور قناة السويس وفتحها امام حركة البواخر، وتحريك الحلول السياسية وحل القضية الفلسطينية،. وقال انه ينسق خطواته العسكرية مع القيادة السورية لتقوم بدورها في جبهة الجولان. وحسب رواية ابوعمار “راح السادات يتحدث بثقة عن طاقات الجيش المصري وتحضيراته للحرب، وتحدث عن الخطوات السياسية والدبلوماسية اللاحقة وكأنه منتصر فيها وضامن نتائجها “. صحيح انه لم يطلعهم على خططه الحربية وتوقيت بدء الهجوم، الا ان حديثه كان جازما بحتمية وقوع الحرب خلال وقت قصير. وطلب تحضير اوضاع قوات الثورة للمشاركة في الحرب. وتحدث بايجاز شديد عن دور ما لقوات م ت ف على الجبهة اللبنانية والاراضي الفلسطينية المحتلة، واشار الى مشاركة قوات جيش التحرير الفلسطيني “عين جالوت والقادسية” على الجبهتين السورية والمصرية في اطار ارتباطهما بأركان الجيشين المصري والسوري. واسترسل في الحديث حول دور م ت ف في الحلول السياسية.
عاد ابو عمار من القاهرة الى لبنان، وعقد الاجتماعات العسكرية والسياسية الفلسطينية اللازمة للتحضير للمشاركة في الحرب. وقام بجولة على مواقع القوات الفلسطينية في الجنوب اللبناني برفقة اعضاء من القيادة العسكرية، كان ضمنهم “ابو جهاد” خليل الوزير، وسعد صايل ” ابوالوليد”، وابو الزعيم مدير الاستخبارات العسكرية، وزهيرمحسن أمين سر منظمة الصاعقة، وممدوح نوفل قائد قوات الجبهة الديمقراطية. وعقد اجتماعات مطولة مع الكوادر والقادة الميدانيين، ولم يطرح كامل المعلومات التي سمعها، وقال “معلوماتي تشير الى احتمال وقوع حرب عربية ـ اسرائيلية خلال ايام. ومصر تحضر لعبور السويس وتحرير اجزاء من سيناء. واضاف ” ومن يشارك في القتال يشارك في الحل السياسي”.
لم تصدق القيادة السياسية الفلسطينية الخبر. وكان ابواياد احد الذين ابدوا عدم ارتياحهم لما يجري عربيا، وشكك في أقوال السادات وبنواياه الحقيقية. ولم يكن الامر غريبا، فالقيادة الفلسطينية، يسارها ويمينها، لم تكن تكن احترام يذكر للسادات، وكانت تتحفظ على مواقفه الداخلية وسياسته الخارجية، وبخاصة تصفيته الاتجاهات “الناصرية واليسارية” الاقرب لمنظمة التحرير والاكثر دعما لها. وابعاده بطريقة مهينة، الخبراء السوفيت عن الاراضي المصرية، وافتعاله مشاكل مع القيادة السوفيتية، كانت لا تزال حية في ذهن الجميع. وفسر معظم أركان القيادة الفلسطينية الامر وكانه مؤامرة امريكية هدفها التغطية على ممارسات السادات. وكانوا على قناعة بان من يريد القيام بحرب كبيرة ضد اسرائيل لا يطرد الخبراء والطيارين السوفيت، ولا يوتر العلاقة مع السوفيت المؤيدين للحقوق العربية والفلسطينية. التي لا غنى عنها لامداد الجيش المصري بالذخائر، والمعدات العسكرية خلال الحرب، ان وقعت. واستذكر اعضاء القيادة الفلسطينية، بسخرية، حديث السادات اكثر من مرة عام 71 و72 عن “الضباب” الذي عطل الهجوم المصري على اسرائيل.
في 6 تشرين الاول “اكتوبر” 1973، شنت الجيوش المصرية والسورية، هجوما منسقا، وضح النهار، ضد قوات الجيش الاسرائيلي المرابطة في سيناء والجولان. وشاركت قوات “عين جالوت” في المواقع التي حددتها لها القيادة العسكرية المصرية على جبهة السويس وشاركت قوات “حطين” المرتبطة بالاركان السورية في معارك الجولان، واسندت لها مهام قتالية اساسية. ووصلت “قوات القادسية” خطوط القتال، متاخرة، مع القوات العراقية.
في جينه، لم تنجح خلايا العمل المسلح العاملة داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة في تنفيذ عمليات قتالية مؤثرة. فهي، قليلة العدد، ضعيفة العدة، قلية الخبرة. ولم يجري، من جهة أخرى، تحضيرها وتكليفها مسبقا باية مهمات قتالية. واقتصر دور قوات فصائل م ت ف المتمركزة في الجولان السوري على حماية الذات ومتابعة مجريات الحرب. الى ذلك، فتحت قوات م ت ف في جنوب لبنان، ضمن طاقتها، جبهة قتال “ثالثة” لم تؤثر في مجريات الحرب. ونجحت في الاستيلاء على عدد من المواقع العسكرية الاسرائيلية التي اقيمت في تلال “رويسة العلم وتلة الرمثا وتلة السبع بيار”، المحيطة بقرى شبعا وكفر شوبا وكفر الحمام. وقصفت بالمتوفر من المدافع الخفيفة والمتوسطة، المواقع العسكرية والمستوطنات الاسرائيلية على الحدود الاسرائيلية ـ اللبنانية، ومنطقة بانياس السورية ومنحدرات جبل الشيخ. وبعد الهجوم الاسرائيلي المضاد، ارسلت القيادة الفلسطينية، بناء على طلب القيادة السورية، بضع مئات من من رماة الاسلحة المضادة للدبابات، “قواذف R P G”، للمشاركة في سد الثغرة التي فتحتها القوات الاسرائيلية في محور القنيطرة خان دنون ـ دمشق.
بالاجمال، سيطرت، خلال الحرب، اجواء ايجابية مفرحة في الشارع واوساط القيادة والكوادر والمقاتلين الفلسطينيين، وبجانب الفرح كانت القيادة تتسائل حول دورها في الحركة السياسية التي بدأت خلال الحرب وستتواصل بعدها؛ هل سيتبنى العرب مشاركة م ت ف في البحث عن حلول للقضية الفلسطينية، ام انهم سيقومون بالمهمة نيابة عنها، كما فعلوا بعد هزيمة عام 1948 ؟ واعتبر البعض عدم مشاركة الاردن في حرب اكتوبر يصب في صالح م ت ف، فمشاركته، لو تمت، تمكنه من استعادة تمثيل الفلسطينيين، وبالحد الأدنى، مشاركتهم به من موقع قوة. ونسي ان مشاركته في حرب حزيران اسفرت عن احتلال الضفة الغربية.

الحلقة الثالثة
التدخل السوري في لبنان قابله بناء الحزام الامني في الجنوب

خلال حرب اكتوبر، وقبل ان تستقر الاوضاع العسكرية على الجبهتين السورية والمصرية، أصدر مجلس الأمن الدولي في 22 أكتوبر قراره رقم 338، وإعترفت مصر وسوريا بذلك القرار، واضافت سوريا، لاول مرة، اعترافها بالقرار242 وتقدمت حظوظ التسوية السياسية، ونشّطت الادارة الامريكية دورها لحل النزاع، وعقد، في جنيف، في 21 كانون الاول 1973، تحت اشراف الامم المتحدة، “مؤتمر السلام في الشرق الاوسط”، شاركت فيه مصر واسرائيل والاردن. وفي 18 كانون الثاني 1973، نجح كيسنجر، في التوصل الى اتفاق فض الاشتباك الاول، بين المصريين والاسرائيليين. وابدى كيسنجر للرئيس السادات وبعض الزعماء العرب، منهم الرئيس الجزائري هواري بومدين، استعدادا لادخال الفلسطينيين في عملية السلام، وتغيير الموقف الامريكي من م ت ف في حال اعترفت بالقرار 242، ووعد ببذل جهوده لاشراكها في مؤتمر السلام. ولاحقا وافق كيسنجر على فكرة الوفد العربي الموحد كمخرج لحل مسألة المشاركة الفلسطينية، الا ان اسرائيل رفضت الفكرة، ورفضت بالقطع مشاركة م ت ف. ورفضت الجلوس مع السوريين، في المؤتمر، اذا لم تقدم قائمة بالاسرى الاسرائيليين. الى ذلك رفضت سوريا الطلب الاسرائيلي، وفضلت عدم المشاركة في المؤتمر، طالما لم يتم فصل القوات على جبهة الجولان، وعقد المؤتمر بدون مشاركة سوريا ومنظمة التحرير. وتابع “كيسنجر” حركته، وكان منحاها الاساسي؛ خطوة لتقريب مصر من اسرائيل، وخطوة اخرى لاشعال الفتنة بين العرب في لبنان.
في تلك الفترة، طرح السوفيت، وبعض الزعماء العرب، على قيادة م ت ف استثمار الاجواء الدولية، وقدمت فكرة اساسها توظيف ورقة اعترافها بالقرارين 242 و338، في الحركة السياسية، ومرحلة الأهداف االفلسطينية، وتمييز المرحلي المباشرعن التاريخي، والظهور امام العالم كقوة واقعية مستعدة للمساهمة في مساعي حل الصراع بالطرق السلمية، ودخول عملية البحث عن هذا الحل. رفضت قيادة م ت ف وكل الفصائل الفلسطينية الشق الاول من الفكرة، وظهر في صفوف الحزب الشيوعي، والجبهة الديمقراطية، وحركة فتح، تيار قوي تبنى مرحلة الأهداف ببرنامج سياسي يقره المجلس الوطني. عارضه، تيار آخر، تزعمته الجبهة الشعبية، تكتل في اطار تنظيمي، اطلق علية “جبهة الرفض”. وبلغ الوهم وسوء تقدير الموقف، عند هذا التيار، حد القول؛ “ان الامبريالية العالمية واسرائيل سيقدمون للمنظمة، على طبق فضة، دولة فلسطينية “مسخ” على أرض الضفة والقطاع”.
وانقسمت الساحة الفلسطينية على نفسها، وحظيت “جبهة الرفض الفلسطينية” بدعم ليبيا وسوريا والعراق. وتسابقت الفصائل الفلسطينية على تنفيذ عمليات عسكرية نوعية من لبنان ضد اسرائيل، لتعزيز مواقفها السياسية. ونفذت، الجبهة الشعبية “القيادة العامة” بقيادة احمد جبريل، في شباط 1974،عملية، من نوع جديد، استخدمت فيها، لاول مرة، طائرة شراعية للوصول الى مدينة كريات شمونة شمال اسرائيل. وفي15 أيار1974 نفذت الجبهة الديمقراطية عملية “معلوت”، تلتها عمليات نوعية في بيسان وطبريا، دعّمت بها توجهاتها الداعية الى قبول “اقامة السلطة الوطنية” على اي جزء من الارض ينسحب عنه الاحتلال، ونجحت في نفي تهمة الاستسلام والتخلي عن الكفاح المسلح، التي ألصقتها بها “جبهة الرفض”، اثر طرحها الخطوط العريضة للبرنامج المرحلي. وردا على عملية معلوت قامت الطائرات الاسرائيلية بتدمير مخيم النبطية بالكامل ومسحته من الوجود.
لاحقا، نجح كيسنجر في 29 أيار 1974 في التوصل الى اتفاق فض اشتباك على جبهة الجولان، تعهدت سوريا بموجبه بان لا تكون اراضيها مصدرا للهجمات ضد اسرائيل. وبعد الاتفاق مباشرة وضع الجيش السوري الاتفاق موضع التطبيق، ومنعوا قوات فصائل الثورة الفلسطينية من القيام باي عملية في الجولان، وظل هذا الحظر مفروضا على جميع القوى الفلسطينية دون استثناء للآن. الى ذلك عجل ابو عمار عقد دورة المجلس الوطني (الثانية عشر) في القاهرة “1-9/6/ 1974″ وكان هدفه احداث تعديل جوهري في برنامج منظمة التحرير، بأمل احداث تغيير في الموقف الامريكي من المنظمة، واشراكها في حركة البحث عن السلام، التي بدأت بعد حرب اكتوبر. وأقر المجلس برنامج “النقاط العشر”، الذي عرف “ببرنامج السلطة الوطنية المستقلة”. واتخذ قرارا اكد على “الوحدة العسكرية بين كافة فصائل الثورة، وايجاد صندوق مالي موحد للصرف على مقاتلين، وتصعيد العمل العسكري ضد الاحتلال”، وغمز من قناة سوريا بتأكيد “العمل على فتح الحدود العربية امامه” .
وبدلا من تفاعل الادارة الامريكية مع التوجهات الفلسطينية الجديدة أطلق كيسنجر مقولته الشهيرة Bye Bye P. l. O ، واعتبر رفضها الاعتراف بالقرار 242، وبحق اسرائيل في الوجود، موقفا متطرفا لا يؤهلها للمشاركة في عملية السلام. وبتاريخ 26ـ30/10/1974 عقد قمة عربية “السابعة” في الرباط، بمشاركة جميع الدول العربية وضمنها الصومال. ورغم عدم صدور بيان رسمي عن القمة الا انها كانت اكثر المؤتمرات ايجابية للتمثيل الفلسطيني، حيث قرر المؤتمر بالاجماع “ان م ت ف، دون سواها، هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”. واكد “حق الشعب الفلسطيني في اقامة السلطة الوطنية المستقلة، بقيادة م ت ف، ممثله الشرعي والوحيد، على اية ارض فلسطينية يتم تحريرها”. وتقرر، تكليف الرئيس سليمان فرنجية، التوجة اللامم المتحدة والتحدث باسم العرب واصطحاب رئيس م ت ف، الذي تلقى دعوة لالقاء خطاب امام الجمعية العمومية. وبعد سفر عرفات مع فرنجية ظهرت بارقة امل لحل الخلافات الفلسطينية اللبنانية سرعان ما تبين انها سراب.
فمع تقدم سياسة الخطوة خطوة “الكيسنجرية”، كان التضامن العربي يتمزق والصراع بين اطراف نظامه السياسي الرسمي يتسع اكثر فاكثر، ويقذف بنتائجه السلبية على الوجود الفلسطيني في لبنان اولا باول. وحرض كيسنجر بعض القوى اللبنانية ضد وجود م ت ف العسكري في لبنان. في حينه تقاطعت مصالح حزبي الكتائب بزعامة بيار الجميل وحزب الوطنيين الاحرار بقيادة “شمعون”، وقيادات الجيش اللبناني، مع التوجهات الامريكية، وتجاوبت مع خطط كيسنجر القائمة على اشعال فتيل الحرب. وبادرت مليشيا حزب الكتائب يوم 13 نيسان 1975، الى الاعتداء على باص مدني ينقل مواطنيين فلسطينيين من بيروت الغربية الى مخيماتهم في شقها الشرقي. وتعمدت ارتكاب جريمتها في حي “عين الرمانة”، وقتلت وجرحت جميع ركابه. ورفعت وتيرة هجومها ضد الغرباء في لبنان، ورفضت تحولة الى ميدان حرب بين الفلسطينيين واسرائيل.
الى ذلك، صدمت الجماهير الفلسطينية والوطنية اللبنانية بالجريمة، وتعهدت قيادة م ت ف وفصائلها بالانتقام من مدبري الحادث، واتهمتهم بالعمالة لاسرائيل والامبرالية الامريكية. وطالبت الوطنيين اللبنانيين تحمل مسئولياتهم الوطنية والقومية. وهبت “القوى الوطنية” والاسلامية اللبنانية، بقيادة كمال جنبلاط، للدفاع عن الوجود الفلسطيني، وحمّلت الحكومة اللبنانية و”القوى الانعزالية” مسئولية المجزرة ونتائجها. وقررت اسثمار الحادث لتصفية حسابها مع النظام الرسمي اللبناني. وبعد تشييع جثامين الشهداء اشتعلت نيران الاشتباكات في بيروت وسائر المناطق اللبنانية، بين قوات الثورة الفلسطينية ومعها مليشيا الحركة الوطنية ضد مليشيا الكتائب والقوى “الانعزالية” اللبنانية التي تلقت مؤازرة وحدات من الجيش اللبناني. وفي 23 أيار شكل الرئيس سليمان فرنجية حكومة عسكرية برئاسة نور الدين الرفاعي الذي اضطر للاستقالة بعد ثلاث ايام، تحت ضغط المؤتمر الاسلامي الموسع الذي عقد في دار الافتاء. وتراجع الرئيس فرنجية عن قراره، وعاد وكلف رشيد كرامي تشكيل الحكومة، وتاخر تشكيلها بسبب اصرار جنبلاط على عزل حزب الكتائب.
وباصطفاف قيادة الجيش اللبناني الرسمي بجانب القوى “الانعزالية” ودخوله الصراع تصدعت تشكيلاته العسكرية، وحصل فيها فرز بين المسلمين والمسيحيين، وتمرد بعضها على قيادتها واصطفت بجانب قوات الثورة والحركة والوطنية. وعملت حركة “فتح” على استقطاب بعض ضباطه، واستثمرت علاقتها باطراف الحركة الوطنية، وشجعت الجنرال “عزيز الاحدب” على القيام بحركة انقلابية. وغضت سوريا النظر عن الخطوة وشجعتها ببصورة غير مباشرة، الا انه حركته “الكاريكاتورية” لم تعمر طويلا. استثمرتها قيادة فتح وزعيم الحزب التقدمي “كمال جنبلاط” في تشكيل وحدات قتالية تابعة لهم، كان ابرزها “جيش لبنان العربي” بقيادة النقيب احمد الخطيب، تولت القيادة الليبية الانفاق عليه، واخرى تجمع فيها الضباط الدروز، بقيادة “المقدم شريف فياض”، و اكفأهم واقربهم الى قلب جنبلاط.
ومع اتساع نطاق الحرب الاهلية، تمزق لبنان، وسيطرت الثورة والحركة الوطنية على البقاع، وطرابلس، وبيروت الغربية، وصيدا، وصور. و”حررت” القوات الفلسطينية مناطق واسعة من المتن، وتمركزت في عينطورة وظهور الشوير ومرتفعات صنين، ووصلت مشارف بكفيا، وراحت تخطط لاحتلال بيت مري وشق طريقها من المونتفردي نحو مخيمي تل الزعتر وجسر الباشا الذين حاصرتهما القوات الانعزالية. واطلق ابو اياد تصريحه الشهير الذي قال فيه “تحرير فلسطينين يمر عبر جونية وبعبدا”. وفي ايار 1976 اعلنت الادارة الامريكية ان تدخلا سوريا محدودا الى لبنان يساعد على استقرار الوضع واستتباب الامن. وتقاطعت توجهات الادارة الامريكية مع مصالح “القوى الانعزالية” بقيادة حزب الكتائب، ومصالح سوريا، التي قررت حسم المشكلة في لبنان، وتعزيز تواجدها فيه، في مواجهة تقدم الحل الثنائي على الجبهة المصرية، ونجاح كيسنجر في التوصل الى اتفاقية فك الاشتباك الثانية، بين المصريين والاسرائيليين.
وفي الاول من حزيران 1976، دخلت اولى وحدات الجيش السوري مناطق البقاع والشمال، بناء على طلب الرئيس سركيس، الذي وصل سدة الرئاسة في بعبدا بدعم سوري، بعد انتهاء ولاية الرئيس فرنجية واستقبلت القوات السورية بترحيب من القوى الانعزالية وجماهيرها. وبالمقابل استنكرت القيادة المشتركة الفلسطينية اللبنانية تحالف سوريا مع القوات الانعزالية وعارضت التدخل السوري، ووقعت اشتباكات عنيفة بين القوات السورية ومقاتلي فصائل الثورة في بحمدون وعالية وصوفر ومرتفعات ترشيش وصنين، وصيدا، اسفرت عن سيطرة القوات السورية على البقاع والشمال وبيروت الغربية وصيدا والنبطية، وانكفأت القوات الفلسطينية الى مخيمات بيروت وصيدا وصور. ولم يهدأ الصراع بين الطرفين، الا بعد اتخاذ مؤتمر الرياض، قرار، في تشرين الثاني “نوفمبر” عام 1976، بتشكيل قوات الردع العربية التي مثلت، في الواقع، غطاء عربيا لتواجد الجيش السوري في لبنان. واستغلت اسرائيل تمزق لبنان، واستقطبت الرائد “سعد حداد” قائد وحدات الجيش اللبناني في المنطقة المتاخمة لحدودها. وبنت لنفسها، عام 1976، حزاما أمنيا، امتد من شاطئ البحر غربا وحتى جبل الشيخ شرقا وبعمق بضعة كيلو مترات داخل لبنان. وخلال ذات الفترة 2/11/ 1976رحلت ادارة فورد ـ كيسنجر، وحل محلها ادارة ديمقراطية بزعامة كارتر ووزير خارجيته “فانس”.
الى ذلك،، دعت القيادة الفلسطينية الى عقد الدورة “الثالثة عشر” للمجلس الوطني، في الفترة الواقعة بين 12-22 آذار 1977. والتئم المجلس بتشكيلة جديدة، وتقرر اضافة ممثلين عن الارض المحتلة، وعن تجمعات فلسطينية لم تكن ممثلة، من ضمنهم ممثلين عن مخيمات لبنان، وعن المبعدين من الارض المحتلة. وخلال انعقاده سقط خبر اغتيال كمال جنبلاط، يوم 18 آذار 77، كالصاعقة على اعضاءه وضيوفه. حيث تعرضت سيارته، قرب بلدة ديرالقمر لهجوم مسلح نفذته باحكام مجموعة كبيرة. واعتبر الحادث عملا مدبرا قصد به اضعاف الحركة الوطنية اللبنانية، ورفع الغطاء اللبناني عن الدور الفلسطيني في لبنان. ووجهت اصابع الاتهام للاستخبارات السورية، فالجريمة نفذت وضح النهار، وعلى مقربة من مواقع قوات الردع السورية، بوقت كانت علاقة جنبلاط بالقيادة السورية متوترة جدل، بعد رفضه دخول القوات السورية لبنان، وقيامها بدور حامي القوى الانعزالية. وتناوب، قادة الفصائل الفلسطينية والقوى اللبنانية والعربية المشاركة في المجلس، وعدد من الضيوف الاجانب، على رثاءه، وسميت الدورة باسمه. وتم تشكيل وفد برئاسة “ابوصالح عضو مركزية فتح، شارك في التشيع. وسارت في الجنازة جماهير فلسطينية غفيرة، واعتبر “شهيد الثورة الفلسطينية”.
وفي 17 ايار 1977، جرت انتخابات اسرائيلية، أسفرت عن هزيمة حزب العمل وفوز الليكود. وتولي مناحم بيغن السلطة وراح يدير دفة المفاوضات مع الإدارة الأمريكية بصورة مختلفة. وطرح مواقف وشروط تعجيزية هدفها ضرب فكرة المؤتمر من جذورها، وضرب فكرة الوفد العربي الموحد، ووتعطيل أية مشاركة فلسطينية، وبخاصة إذا كانت من م.ت.ف. وقدم تفسيرات غريبة للقرارين 242 و338، وطرح مقولته الشهيرة “ان القرار 242 ينص على الانسحاب من اراض، والانسحاب من اجزاء من سيناء هو تنفيذ شبه كامل للقرار.

الحلقة الرابعة
عدم تنفيذ القرار 425 مشكلة وتنفيذه من جانب واحد لا يحلها

عام 1976، تسلم الرئيس الياس سركيس مهامه كرئيس للبنان خارج قصر الرئاسة، في وقت كان لبنان ممزقا، وجنوبة معرضا لاخطار متنوعة. وبعد توليه مهامه، وافق على احياء لجنة الهدنة اللبنانية ـ الاسرائيلية، ظنا منه، ان احيائها يكرس استمرار سيادة لبنان، ولو نظريا، على الجنوب. وفي احد اجتماعاتها، التي عقدت مطلع عام 1977، طرح الجانب الاسرائيلي ضرورة ابعاد “المخربين”، بعمق 30 كيلومتر من حدوده، وتشكيل دوريات مشتركة، للتأكد من ذلك. في حينه رفض الجانب اللبناني الاقتراح، ورفع الفلسطينيون يقظتهم العسكرية وفي المخيمات، واعادت الفصائل الفلسطينية الاساسية، الى جنوب لبنان، بعض قواتها التي سحبتها الى بيروت والجبل والشمال ابان القتال مع قوات الكتائب. وقررت تصعيد عملياتها العسكرية ضد اسرائيل، واثبات استمرار وجودها الفعّال على الساحة اللبنانية، وتأكيد ان دخول القوات السورية لبنان، لم ولا ينهي العمل العسكري الفلسطيني.
وصباح يوم 11 آذار “مارس” 1978 نجحت مجموعة “دير ياسين” التابعة لحركة “فتح”، وكان ضمنها الفتاة “دلال المغربي، في تنفيذ عملية “الشهيد كمال عدوان”. حيث تمكنت من االوصول بحرا، من لبنان، الى نقطة على شاطئ البحر بين حيفا وتل أبيب. واستولت على حافلة ركاب، انطلقت بها جنوبا. وجرت معركة بين القوات الاسرائيلية والخاطفين، أسفرت عن مقتل قرابة 30 اسرائيليا، وجرح 80 آخرين. واستشهد الفدائيون باستثناء واحد.
وفي الساعة الاولى من فجر يوم 15 آذار، اخترقت القوات البرية الاسرائيلية، بقرار من بيغن، الحدود الدولية مع لبنان، تحت غطاء كثيف من القصف المدفعي وغارات الطيران. وتقدمت على خمسة محاور: الاول، محور، الناقورة ـ البياضة شمع، باتجاه طير حرفا البرج الشمالي الرشيدية وصور. والثاني محور رميش ـ عين ابل، باتجاه عيناتا بنت جبيل بيت ياحون بير السلاسل البازورية. والثالث محور سكاف عام ـ عديسة الطيبة الغندورية. والرابع محور المطلة ـ القليعة باتجاه مرج عيون الخيام ابل السقي بلاط. والخامس محور رويسات العلم والرمثا ـ كفر شوبا، باتجاه كفر حمام راشيا الفخار سوق الخان كوكبا. واشتبكت مع الفدائيين الفلسطينيين، والمناضلين اللبنانيين، وقدرت خسائر الفلسطينيين بـ 250 شهيد، واستشهد من المدنيين اللبنانيين قرابة 70 مواطن، واعترفت اسرائيل بمقتل 18من افرادها وبعدد آخر من الجرحى، ونجحت في طرد الفدائيين نحو الشمال، وشرّدت قرابة ربع مليون انسان ربعهم من الفلسطينيين.
وفي اليوم الخامس من القتال “19 آذار “مارس” 1978″ اجتمع مجلس الامن الدولي، بطلب من لبنان، وأصدر قراره الشهير رقم 425، تقدمت بمشروعه الادارة الامريكية، يقضي، “بالاحترام الصارم لسلامة اراضي لبنان وسيادته واستقلاله السياسي، داخل حدوده المعترف بها دوليا”، ودعا اسرائيل الى “وقف عملياتها العسكري على الفور، وسحب قواتها حالا من جميع الاراضي اللبنانية”. ولاحقا اتخذ المجلس قرره رقم ” 426″ نص على؛ “تشكيل قوة مؤقتة للامم المتحدة في الجنوب اللبناني”، تكون مهمتها التثبت من انسحاب القوات الاسرائيلية…ومساعدة حكومة لبنان على ضمان عودة سلطتها الفعلية في المنطقة”. وأيد القرار 12 دولة في مجلس الامن، بينها الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وفرنسا. وامتنع “السوفييت” عن التصويت، ولم تشارك به الصين. واستقبل لبنان والعرب القرار وكأنه منّة امريكية. ولاحقوا تنفيذه، وغاب عنهم انه اتخذ تحت “البند السادس” من ميثاق الامم المتحدة، الذي يقضي، بحل المنازعات بالطرق السلمية، ويستوجب العودة لمجلس الامن، برضى الاطراف المتنازعة، بخلاف القرارات التي تتخذ تحت البند السابع، والمتعلقة بحالات تهديد السلم العالمي. حيث يعود مجلس، من تلقاء نفسه، للاجتماع واتخاذ القرارات المناسبة للتنفيذ، حتى لو استدعى ذلك اللجوء للقوة، كما جرى مع العراق.
الى ذلك، لم تلتزم اسرائيل بتنفيذ القرار، وبعد وصول قوات الطوارئ الدولية، اعادت تنظيم احتلالها للجنوب، واحتفظت بسيطرة تامة على “حزام أمني” يتكون من شريط داخل الاراضي اللبنانية طولة أقل من 100كلم ومعدل عمقة 10 كلم، يمتد من البحر غربا وحتى جبل الشيخ شرقا. ونالت مواقفها، على مدى 22 عاما، مساندة امريكية كاملة، ووقعت خلالها حروب صغيرة وكبيرة كثيرة على الارض اللبنانية ابرزها؛ حرب 82 والحروب ضد المخيمات، ومعارك حزب الله الاستنزافية معركة قانا، سقط فيها آلاف الضحايا من جميع الاطراف بما فيها قوات الامم المتحدة. ومنذ ذلك التاريخ، لم تغير الحكومات الاسرائيلية “عمالية وليكودية” موقفها من احتلال هذا الجزء من الارض اللبنانية، ولم تتحرك الادارات الامريكية المتعاقبة لتنفيذ القرار 425، ولم تبذل جهودا حقيقية لوقف النزيف الدموي في لبنان.
وبعد انطلاق عملية السلام في مدريد عام 1991، نظرت اسرائيل لاحتلالها لجنوب لبنان، باعتباره ورقة مهمة لمساومة اللبنانيين والسوريين. وبعد التوصل الى اتفاق اوسلو على المسار الفلسطيني وما تلاه من تطورات اقليمية، زادت سوريا تمسكها بالورقة اللبنانية، وخلقت ترابطا وثيقا بين المسارين السوري واللبناني، وأعلنت الحكومة اللبنانية، رفض توقيع اي اتفاق مع اسرائيلي، قبل التوصل الى اتفاق على المسار السوري. واستثمرت سوريا جيدا، هذا الموقف، في المفاوضات التي تمت خلال 9 سنوات، ووحدت المسارين.
الى ذلك صعّدت المقاومة الاسلامية اللبنانية، المدعومة من سوريا وايران والحكومة اللبنانية، عملياتها ضد الاحتلال، ونجحت، بامتياز، بالحاق خسائر كبيرة بالجيش الاسرائيلي وعملائه ـ بقايا قوات لحد وحداد. وتحول الجنوب الى ساحة استنزاف عسكري ـ سياسي حقيقي لاسرائيل، وأصبح استمرار، الوجود او الانسحاب الاسرائيلي من لبنان، مسألة مركزية في علاقة اسرائيل الاقليمية والدولية. وتحولت الى قضية داخلية حساسة تؤثر في اتجاهات الرأي العام الاسرائيلي، وبناء التحالفات الحزبية الداخلية، وتحديد المواقف الانتخابية. وتعهد باراك، خلال حملته الانتخابية، بالانسحاب من جنوب لبنان خلال عام واحد، وقيد نفسه رسميا بشهر تموز2000، لتنفيذ ذلك، وبنى سياسته التفاوضية على هذا الاساس.
وانطلاقا من معرفته الواسعة بتعقيدات الوضع في جنوب لبنان، وخبرته العسكرية الطويلة، فضل تنفيذ “وعده” باتفاق متكامل مع اللبنانيين، مسنودا بدعم سوري. وظل على موقفه حتى لقاء كلينتون ـ الاسد الشهر الماضي. وسلم بترابط المسارين السوري واللبناني، ووافق على تأجيل المفاوضات مع لبنان، الى ما بعد الاتفاق مع سوريا، حول الجولان، وحول مستقبل الوضع في لبنان كله، وضمنه الوضع الامني في الجنوب. وظن باراك، بناء على قناعته القديمة، واطلاعه على ملف المفاوضات السورية الاسرائيلية، بان الاتفاق مع سوريا في متناول اليد. وشرع بتحضير الاجواء الشعبية، وداخل اروقة الكنيست، لاجراء الاستفتاء على الاتفاق، الذي الزم نفسه به خلال حملته الانتخابية. واعتقد ان بامكانه الحصول على الأغلبية المطلوبة، اذا قدمه مقرونا باتفاق آخر يخرج الجيش الاسرائيلي من المستنقع اللبناني.
وبعد فشل، قمة الاسد ـ كلينتون، في جنيف الشهر الماضي. اهتزت قناعات باراك بامكانية الانسحاب من جنوب لبنان باتفاق، ووجد نفسه في ورطة لا يحسد عليها، ونشّط حركته السياسية والدبلوماسية في كل اتجاه، بأمل الضغط على القيادة السورية والحكومة اللبنانية، والحصول على دعم دولي واسع لتنفيذ القرار425 من جانب واحد، وسحب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان، قبل تموز القادم. وطالب الامم المتحدة، القيام بدور نشط وفعّال في الاشراف على تطبيق القرار، بما في ذلك ارسال مزيد من القوات لمراقبة الوضع، وخبراء للمشاركة في وضع علامات حدود اسرائيل مع لبنان كما كانت عليه قبل حزيران 1967. ولقي موقفه، كالعادة، دعما امريكيا كاملا، دون سؤال؛ لماذا لا يلتزم بتطبيق كل قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالصراع العربي ـ الاسرائيلي، وتنفيذ ما يرغب به، ويسعى له في جنوب لبنان، على الجبهتين السورية والفلسطينية ؟ ولم يتردد الرئيس كلينتون في تحميل سوريا مسؤلية فشل مفاوضات حنيف، بالقول، ان الكرة في الملعب السوري.
وبصرف النظر عن الموقف الامريكي، فموقف باراك، وضع القرار425 في واجهة الاحداث الدولية، وتدور بشان تنفيذه صراعات دبلوماسية قوية، تشارك فيها كل القوى الدولية والاقليمية المعنية بنزاعات المنطقة، يحتمل ان تتحول، في حال تنفيذه من جانب واحد، دون اتفاق، الى صراعات دموية. والواضح ان باراك مصمم على تنفيذه، ولم يعد بمقدوره، لاعتبارات داخلية وخارجية كثيرة ومتنوعة، التراجع عن سحب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان في فترة اقصاها شهرين، بعد الضجة الكبيرة التي خلقها حول الموضوع.
لا شك بان اصرار باراك على التنفيذ دون اتفاق، وضع المنطقة على ابواب تطورات سياسية وعسكرية كبيرة، يحمل بعضها أخطار حقيقية على عملية السلام، وعلى الوضع في لبنان، الواضح منها: اولا، ان احتلال اسرائيل لجنوب لبنان سينتهي، ولو لفترة، وان ظاهرة أنطوان لحد ـ سعد حداد ستزول الى الابد، وتتحول الى عبء سياسي وبشري دائم على اسرائيل. ولن يستطيع “الجنرال انطوان لحد”، في كل الظروف والاحوال، الحفاظ على تماسك قوته، بعد الخسائر البشرية والمعنوية التي لحقت بها، خاصة وان افرادها يدركون ان الحماية الاسرائيلية ليست دائمة، وان اسرائيل تبحث دوليا عمن يحمي حدودها. واي تكن صيغة الانسحاب الاسرائيلي، فانطوان لحد امام خيارين؛ اما الاستسلام او الرحيل، وباراك ملزم سحب، عملاءه وعائلاتهم، مع وحداته العسكرية، ان لم يكن قبلها. ويفترض باسرائيل ان لا تتدخل، بعد الانسحاب، في شؤون لبنان، وان توقف انتهاكها لحدوده البرية والبحرية والجوية، وتجرد المقاومة اللبنانية مبرر مواصله هجماتها العسكرية ضدها.
ثانيا، سيخلق الانسحاب الاسرائيلي دون اتفاق “فراغا” امنيا في منطقة “الشريط”، ويرجح ان لا تغامر الامم المتحدة والدول المعنية بتعبأته، رغما عن ارادة اللبنانيين والسوريين. ودخولها وحدها لا يملأ كل الفراغ، وأظن ان نسف، مقر قوات المرينز الامريكية، ومقر القوات الفرنسية، في بيروت بعد حرب 1982، لا تزال حية في ذهن الجميع.
وبما ان الطبيعة تكره الفراغ، ولا تسمح بوجوده، فمن البديهي القول؛ ان القوى الوطنية والاسلامية اللبنانية، بقيادة حزب، الله ستملأ الفراغ، فور انسحاب القوات الاسرائيلية، بجانب القوات الدولية في حال دخولها. وقد تفضل الشرعية اللبنانية تأجيل بسط سيطرتها على المنطقة. ولن تستطيع قوات لحد، اذا بقيت موجودة، الصمود في مواقعها والاحتفاظ بسيطرتها على المنطقة، دون تدخل عسكري اسرائيلي مباشر. وجل ما يمكن ان تفعله اسرائيل، اذا التزمت بمقتضيات الانسحاب من جانب واحد، هو استقبال أعدادا اضافية ممن افنوا شبابهم في خدمتها، ومحاولة اللعب على التناقضات اللبنانية الداخلية، وتشجيع البعض على مناصرة اخوانهم في الجنوب “جماعة لحد”، وقد تضطر الى القيام بهذا الدور.
ثالثا، بصرف النظر عن الموقف النهائي التي ستتخذه سوريا والسلطة اللبنانية، من مسألة العمل العسكري “الفلسطيني”، او اللبناني، من جنوب لبنان، ضد اسرائيل، فأسئلة الرئيس لحود، التي وجهها الى الامين العام للامم المتحدة، تشير الى انهما “سوريا ولبنان” قد يستخدمان ورقة العمل العسكري الفلسطيني. وبصرف النظر عن موقف الشرعية الفلسطينية من الموضوع، بامكان سوريا، ببساطة ويسر، تكليف بعض الفصائل الفسطينية المعارضة للسلطة و م ت ف القيام بالمهمة، ولا شك في ان بعض مجموعة “الفصائل الستة”، المقيمة في دمشق (القيادة العامة” والصاعقة وجماعة ابو موسى) قادرة، بامكاناتها الذاتية، أو، وبمساعدة حزب الله، مهاجمة المواقع العسكرية الاسرائيلية الجديدة، وقصف كريات شمونة، ونهاريا وعددا من القرى الاسرائيلية الاخرى القريبة من الحدود، وشل الحياة فيها فترة طويلة.
رابعا، استكمالا لهذا السيناريو، يمكن الجزم، بان رد فعل باراك، على اي عمل عسكري، وبخاصة اذا ألحق خسائر جدية بالمدنيين والعسكريين الاسرائليين، لن يقتصر على شن غارات جوية ضد قواعد “المخربين”، وتدمير البنية التحتية والمنشآت الحيوية اللبنانية، ولن يتردد في تحميل سوريا كامل المسؤولية، وتوجيه ضربات عسكرية للقوات السورية العاملة في لبنان، ومطالبة الولايات المتحدة الامريكية وكل الدول المعنية باستقراراوضاع المنطقة، بالضغط على القيادة السورية لسحب قواتها من لبنان، وسيعمل على تحويل الوجود الدولي في لبنان مخرجا وحيدا للازمة لا تستطيع الحكومة اللبنانية معارضته.
وهذا العرض لسيرة القرار425، ونتائج عدم تنفيذه، وتنفيذه من جانب واحد، يتضمن دعوة الزعماء العرب، للتحرك لانقاذ لبنان، وحماية ضيوفه اللاجئين الفلسطينيين. فهل هناك من يستجيب ام أن لا حياة لمن ننادي ؟