في ذكرى اشتشهاد القادة “الكمالين” ناصر وعدوان، وابو يوسف النجار

بقلم ممدوح نوفل في 08/04/2000

بعد انتهاء وجود منظمة التحرير، المدني والعسكري في الاردن، عام 70-71، توجهت انظار القيادة الفلسطينية نحو الجولان وجنوب لبنان. وتجمعت قوات الثورة “المرحلة من الاردن” فوق الاراضي السورية، وتمركز بعضها في معسكرات قريبة من دمشق منها: دمر، الهامة، الزبداني، بلودان، معلولا. وتموضع بعضها الآخر في مواجهة القوات السورية في الجولان المحتل. وتسللت اعداد ليست قليلة، من سوريا الى لبنان، والتحقت بالأعداد المحدودة التي كانت موجودة، منذ عام 1968، في منطقة العرقوب جنوب شرق لبنان.
وفي اواخر عام 1971، استكملت قيادة الثورة، لحد كبير، تعزيز وجودها العسكري والمدني في لبنان. في حينه، لم تعارض دمشق هذا التوجه، ولم تحاول عرقلته، بل شجعه وسهلت حركته على الارض. فالعلاقة السورية الفلسطينية كانت حسنة، وازعاج اسرائيل من الجبهة اللبنانية يخدم استراتيجية سوريا في تحرير الجولان. ويعزز مكانتها السياسية في لبنان والمنطقة. خاصة وان قوات الثورة في جنوب لبنان، والعرقوب، والمخيمات، لا يمكنها العيش دون خلفية لوجستية في الاراضي السورية. وأطر م ت ف القيادة والقاعدية تضم عددا من الفصائل المقربة منها، وطلائع حرب التحرير الشعبية”، “قوات الصاعقة” التابعة لحزب البعث العربي الإشتراكي، تحتل موقعا مرموقا في قيادتها .
الى ذلك، خشيت السلطة اللبنانية من تزايد التواجد العسكري الفلسطيني على أرضها، وهي بالكاد تحملت المواقع العسكرية المحدودة والمحددة التي تم تثبيتها في “إتفاق القاهرة” الذي رعاه الرئيس عبد الناصر بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير عام1969. واسرائيل شرعت في توسيع غاراتها الجوية وقصفها المدفعي على مناطق الجنوب. وفرضت الحكومة اللبنانية اجراءات مشدة على حدودها، لكنها لم تفلح في الحد من تسلل الفدائيين. فعدد افراد الجيش اللبناني كان قليلا، وتواجده على الحدود السورية اقتصر على عدد محدود من مخافر الشرطة في بعض القرى الكبيرة. وتركيبته البشرية لم تكن متجانسة، ونسبة غير قليلة من أفراده وضباطه الصغار تفاعلوا مع المناخ الوطني في الشارع اللبناني، ولم يخفوا تعاطفهم مع الثورة الفلسطينية وكفاحها المسلح ضد اسرائيل. الى ذلك كان العبور غير الشرعي، من الأراضي السورية، الى جنوب لبنان والبقاع والمخيمات الفلسطينية في الشمال لا تعترضه صعوبات حقيقية. خاصة وان فصائل م ت ف كانت تجيد تزوير الوثائق اللازمة. ولم يكن عسيراً على المقاتلين الفلسطينيين عبور لبنان سيرا على الأقدام. وأفضل الطرق وأسلمها وأقصرها الى جنوب لبنان، كانت دروب جبل الشيخ الوعرة، وبخاصة الواصل منها قرية عرنة السورية الواقعة على سفحه الشمالي الشرقي، بقرى حاصبيا والعرقوب اللبناني “كفرشوبا، الهبارية، كفر حمام، وراشيا ” الواقعة على سفوحه الغربية الجنوبية. فهذا الطريق كان آمنا بمقدار ما كان وعرا وصعبا، لا يسلكه إلا القرويون والمهربون السوريون واللبنانيون، والعسكريون ورجال مكافهة التهريب. تدريجيا، تراكم في الربع الاول من عام 1972، في العرقوب وعلى الحدود السورية اللبنانية، آلاف المسلحين الفلسطينيين ينتمون لكل فصائل الثورة، وتسلل بعضهم الى مخيمات بعلبك وطرابلس وصيدا وصور وبيروت. وفتحت معسكرات التدريب كثيرة استقبلت متطوعين فلسطينيين ولبنانيين. وعملت جميع الفصائل، دون استثناء، على استقطاب اعداد من المواطنيين اللبنانيين وضمتهم لصفوفها، والحقت ما استطاعت منهم بقواعدها المقاتلة. واقامت قيادة فتح علاقات وطيدة مع عديد الشخصيات الوطنية ورموز الاحياء في المدن اللبنانية، ووسع جهاز “الرصد الثوري” لحركة فتح خلاياه المنتشرة في المدن والقرى والمخيمات والجامعات. وتوحد عمل “قوات الصاعقة” مع منظمة حزب البعث العربي في لبنان، والشيء ذاته حصل بين “الجبهة العربية” وفرع الحزب البعث الموالي للعراق. واستوعبت الجبهة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (بزعامة جورج حبش) مجموعات القوميين العرب، التي لم تلتحق “بمنظمة العمل الشيوعي”، التي اسسسها “محسن ابراهيم ومحمد كشلي وفواز طرابلسي، وشاكر”، بعد تمزق الحركة. وتوحدت مجموعات الجبهة الديمقراطية (بزعامة نايف حواتمة) سياسيا وتنظيميا واداريا وماليا وعسكريا مع خلايا وقواعد “منظمة العمل الشيوعي، وعملا سويا على تأسيس تواجد الجبهة الديمقراطية في المخيمات الفلسطينية وبيروت وقرى الجنوب العرقوب والبقاع والشمال.
ومع تزايد أعداد المقاتلين الفلسطينيين فوق الاراضي اللبنانية، وارتفاع وتيرة تحركاتهم ونشاطاتهم العسكرية في الداخل وعلى الحدود مع اسرائيل، رفعت اسرائيل مستوى عملياتها العسكرية ضد الاراضي اللبنانية وضد مراكز الفدائئين، واجتاحت “القطاع الاوسط في ايلول 1972. وشهد لبنان حملة دعاوية واسعة معادية للوجود الفلسطيني المسلح، وندد البعض باتفاقية القاهرة، وطالب بالغائها، طالما لم يلتزم الفلسطينيون بها. وزاد الجيش اللبناني مضايقاته للفدائيين واعتقل اعدادا منهم وممن تعاونوا معهم. وارتفع درجة التوتر والاحتكاك بين الطرفين، وبادر المقاتلون الفلسطينيون الى اغلاق بعض القرى النائية في وجه قوات الدرك، ونظموا مع الاهالي والاحزاب كمائن الحراسات في مواجهة الجيش اللبناني.
وبالمقابل عزز الجيش اللبناني مفارزة المنتشرة في منطقة راشيا وحاصبيا ومرجعيون وعلى الطرقات. ونشأت احتكاكات محدودة بين الطرفين، تطورت بسرعة الى إشتباكات مسلحة قوية، شاركت فيها كل الفصائل دون استثناء بما في ذلك قوات الصاعقة الموالية لسوريا. اولى الاشتباكات القوية افتعلتها قوات فتح والجبهة الديمقراطية مع سرية من الجيش اللبناني، تتمركز في نقطة تقاطع حيوية، “جسر الحاصباني” تربط قرى العرقوب ببلدة مرجعيون والبقاع الغربي. كونها تعيق حركة الفدائيين الفلسطينيين في اتجاهات عدة، وداخل منطقة العرقوب ذاتها. وفي الاشتباك تلقت القوات المهاجمة مساندة فدائيي الفصائل الاخرى وتم الحاق خسائر محدودة بافراد ومعدات السرية، وتم عزلها ومنعت عنها الامدادات. ولاحقا رحلت السرية من مواقعها “وحرّرت” المقاومة الفلسطينية قرى شبعا والهبارية وكفر حمام. وافتعل القوات الفلسطينية، لاحقا، اشتباكات مع مفرزة حاصبيا، وحاصرتها وطردتها من مقرها واستولت عليه. و”بتحرير” حاصبيا”، تحررت عدة قرى على طريق حاصبيا ـ عين عطاـ دير العشايرـ وصولا الى الحدود السورية. وتسهلت حركة الفدائيين على طريق دمشق ـ العرقوب، التي رسّمتها السلطات السورية كطريق للفدائيين. وتولت مفرزة الشرطة العسكرية والضابطة الفدائية في “دير العشاير” تسجيل حركة دخول وخروج الفدائيين من والى الاراضي السورية. واصبحت كل منطقة حاصبيا والعرقوب بجبالها وقراها وبساتينها وسكانها وما يملكون تحت سيطرة الفدائيين الفلسطينيين، وسموها “القطاع الشرقي”. اما اسرائيل فأطلقت اسرائيل عليها اسم “فتح لاند”، واعادت النظر بنظامها الدفاعي في المنطقة، واقامت قواتها مواقع قتالية في مرتفعات كفرشوبا الهامة داخل الاراضي اللبنانية.
لاحقا تابع الفدائيون الفلسطينيون تحرشهم بالجيش اللبناني، وكان هدفهم من شقين، الاول “تحرير” راشيا الوادي، وطرد مفرزة الجيش اللبناني من قلعتها، وتوسيع منطقة انتشارهم باتجاه منطقة شتورا وصولا الى بلعبك. والثاني، فتح طريق حاصبيا ـ مرجعيون ـ قلعة شقيف ـ النبطية، وبعده طريق النبطية ـ القاسمية ـ صور، وربط تواجدهم في القطاع الشرقي، بالقطاعين الاوسط والغربي، وكان تواجدهم في مخيمات صور وقراها والشريط الساحلي قد تعزز. ولم تتأخر قوات فتح في مهاجمة مواقع القوة الرئيسية للجيش اللبناني المتمركز في قلعة راشيا الفخار، ومفارزها المنتشرة على الطرق، ونجحت بالتعاون مع قوات باقي فصائل الثورة في إجبار قوات الجيش اللبناني على مغادرة مواقعها وسمحت لها، بعد تدخل قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي، بسحب معداتها بصورة سلمية ونظامية.
وبطرد الجيش اللبناني من راشيا الوادي تمدد الفدائيون وتغلغلوا في القرى السنية الواقعة في منطقة راشيل والبقاع الغربي والقرعون، ووصلوا حدود منطقة الشوف الشرقية. ولاحقا دخلوا اشتباكات عنيفة مع وحدات الجيش اللبناني المتمركزة في بلدات مرجعيون والخيام، وابل السقي، ونجحوا في الاستيلاء على معسكراتها وثكناتها ونهبوا ما فيها من معدات وتجهيزات عسكرية وادارية. واستقبلوا بترحيب شديد في معظم البلدات والقرى التي دخلوها، وبخاصة في بلدة الخيام وابل السقي وبلاط، وربطوا توجدهم على الحدود السورية بتواجدهم في مخيمات النبطية وصور وصيدا. وراحوا ينظمون ويدربون ابناء القرى والمدن اللبنانية والحقوهم بقواعدهم القتالية، واعتمدوا عليهم في جمع المعلومات عن تحركات الجيش اللبناني، وفي التعرف على الحدود اللبنانية الاسرائيلية.
في حينه لم تجدي كل الاتصالات اللبنانية بالقيادة الفلسطينية في الحد من تدفق الاسلحة والمقاتلين الفلسطينيين من سوريا الى لبنان. وواصلت فصائل الثورة تجنيد المواطنيين اللبنانيين، الذين وجدوا فرصتهم للتعبيرعن عروبتهم وعن وطنيتهم وعن معارضتهم للنظام الطائفي اللبناني. وسلمت قيادة الجيش اللبناني “عمليا” بالامر الواقع الذي خلقه الفلسطينيون على ارضهم، وصار الجنوب اللبناني بالكامل تحت سيطرة الفدائيين الفلسطينيين ومسؤوليتهم الامنية والعسكرية. وفقد رئيس الجمهورية “سليمان فرنجية”، والقوى والاحزاب اللبنانية المعارضة للوجود ثقتها بقدرة الجيش اللبناني على الحد من وجود ونشاط الفدائئين. وتبنى حزبي الكتائب والاحرار مواقف حادة ضد هذا الوجود. وبالمقابل ارتقت العلاقات التنسيقية بين الثورة الفلسطينية وقيادة الحركة الوطنية اللبنانية وتم تشكيل غرفة عمليات فلسطينية ـ لبنانية مشتركة، أسندت قيادتها للعميد سعد صايل “ابو الوليد” وحظي باحترام وتقدير الجميع.