هل تراجع الاتحاد الاوروبي عن موقفه من الاستيطان ؟

بقلم ممدوح نوفل في 05/03/2000

منذ توقيع الاتفاق التجاري الاول بين الاتحاد الاوروبي واسرائيل عام 1975، اعتمدت دول الاتحاد في علاقتها مع اسرائيل والفلسطينيين على مبادئ أساسية للقانون الدولي؛ أولها اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 حول حماية المدنيين، التي تحظر من بين امور اخرى اقامة المستوطنات، وضم قوة محتلة اراض محتلة بالقوة. واعتبر الاتحاد الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة عملا غير شرعي يتعارض مع احكام القانون الدولي. ورفض قيام اسرائيل باجراء اي تغيير في وضعية الاراضي الفلسطينية المحتلة، يغير معالمها ويضر بمصالح سكانها، ويعرقل صنع سلام واستقرار دائمين في منطقة مجاورة له، وله فيها مصالح اقتصادية وامنية حيوية. فهل لا يزال الاتحاد الاوروبي كمجموعة ودول ملتزم بمواقفه وتوجهاته المبدئية ضد الاستيطان واحترم القانون الدولي؟ وهل يطمح تفعيل دوره لصنع سلام شامل ودائم في الشرق الاوسط، انفق لاجله مليارات الدولارات من جيوب مواطنيه ؟
منذ انعقاد مؤتمر مدريد اواخر عام 1991 وحتى أخر اتفاق فلسطيني اسرائيلي شهد الاتحاد الاوروبي على توقيعه، أكد الاتحاد نظريا موقفه المبدئي بضرورة احترام حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وتمسك بتفسير مقولة “عدم قيام اي طرف باعمال أحادية الجانب تجحف بعملية السلام وبمفاوضات الحل النهائي”، الواردة في دعوة مدريد وفي اتفاق اوسلو، انها تعني وقف بناء مستوطنات جديدة، وعدم توسيع الموجود منها. وفي مناسبات عدة ساند الاتحاد مواقف الفلسطينيين في مواجهة خرق الحكومات الاسرائيلية الاتفاقات التي شهد عليها. وأدان رسميا مصادرة اسرائيل اراضي فلسطينية لغرض الاستيطان، واعتبره عقبة في طريق تقدم المفاوضات.
ولم يتوقف الاتحاد عند حدود الادانة المبدئية للاستيطان، وأصر في اتفاقية الشراكة الاوروبية الاسرائيلية على نص يؤكد على ان تكون جميع انواع البضائع المصدره لدوله، ذات منشأ رسمي من دولة اسرائيل. في اشارة واضحة لرفض التعامل مع المنتوجات الزراعية والصناعية للمستوطنات باعتبارها منتوجات اسرائيلية تحصل على تسهيلات جمركية خاصة ومعفاة من الضرائب حسب الاتفاق
الى ذلك يدرك الاتحاد ان تحايلا اسرائيليا واسعا، رسمي وغير رسمي، في مجال التجارة قد تم. وان منتوجات المستوطنات المتنوعة لا تزال تتسرب بكثافة الى اسواق دوله. وقد بادرت مؤسسات أهلية فلسطينية مستقلة بما فيها “متين” الى رصد هذا التحايل. وتعاونت مؤسسات القطاع الخاص الفلسطيني ميدانيا مع قوى السلام في اسرائيل، وفضحت في اكثر من مناسبة اساليب تهرب جهات حكومية إسرائيلية من الالتزام بالاتفاقات التجارية الموقعة بين الطرفين وعدم احترام نصوصها. ورصدت طرق تهريب المستوطنيين منتوجاتهم المتنوعة الى اسواق دول الاتحاد بغطاء حكومي. وتفاعلت دوائر مسؤولة في الاتحاد الاوروبي مع المعلومات، الا ان مواقفه الرسمية لم تصل درجة الحزم، ولم تتعد حدود التأكيد النظري على قراراته السابقة، ولم يضع آلية عملية لرقابة تنفيذها بشكل دقيق. ولم تكترث الحكومة الاسرائيلية بمواقف الاتحاد. وواصل المستوطنون بغطاء حكومي اغراق الاسواق الاوروبية بمنتوجاتهم ونالت اعفاءات ضريبية. وكانت النتيجة مساهمة دول الاتحاد عن غير قصد بانعاش الاستيطان وتعزيز دعائمه الاقتصادية. وضعفت مصداقية مواقفه عند الفلسطينيين.
ان مراجعة تاريخ عملية السلام يبين مدى تعثرها بسبب الاستيطان، ودوره اساسا في اضعاف مصداقيتها. وليس عسيراً معرفة حجم توسع الاستيطان ابان حكم الليكود 1996ـ1999، وكيف تعاظم لدرجة اقتربت من نسف عملية السلام وتدمير ما انجز. وان حكومة نتنياهو في الوقت الذي تنصلت في المنابر الدولية من اعمال المستوطنون، كانت ترسل اشارات لهم ولمناصريها “انظروا الى افعالنا لا الى اقوالنا”. وأجازت مخططات هيكلية لاكثر من 26 مستوطنة جديدة. وساهمت بفعالية بتوسيع القديم منها، تحت سمع وبصر دول الاتحاد والامم المتحدة والراعي الامريكي. وقدمت تسهيلات واسعة للمستوطنين وارتفع عددهم في الضفة الغربية من 145 ألف الى اكثر من 170 الف مستوطن. وظلت مطالب قوى السلام بالكشف الكامل عن مصاريف الاستيطان بدون جواب.
وبعد هزيمة الليكود استبشر الفلسطينيون كما الاوروبيون وكل المتطلعين الى صنع السلام في المنطقة خيرا، واعتقدوا ان حكومة بارك العمالية ستنهج نهجا مغايرا لحكومة نتنياهو. الا ان الخطوط العريضة لبرنامجها بعثت الريبة والقلق في نفوسهم، حيث جاء فيه؛ “ان هذه الحكومة تدرك القيمة العظيمة للاستيطان من الناحيتين القومية والاجتماعية. وسوف تبذل جهدها لضمان تطور ونمو المستوطنات وازدهارها…وستشكل لجنة حكومية خاصة لبحث قضايا الاستيطان، وتتخذ القرارات بخصوصها بما لا يؤدي لخنق المستوطنات واعطائها مجال التطور في محيطها الحيوي..الخ الى ذلك خيب تشكيل الحكومة آمال الجميع وضمنهم قوى السلام الاسرائيلية. ورأى الفلسطينيون في منح اسحق ليفي من حزب “المفدال” الاستيطاني حقيبة الاسكان، وتعيين احد زعماء المستوطنيين مستشارا لباراك، نذير شؤم. وجاءت بنود موازنة حكومة باراك وقراراتها وتوجهاتها، لتزيد قلقهم، وأكدت مضي حكومة باراك قدما في السيطرة على مزيد من الاراضي الفلسطينية وتوسيع الاستيطان.
حقا لقد استلم باراك مقاليد الحكم في ظروف محلية واقليمية ودولية مواتية تماما لشن هجوم سلام قوي وفعال. وكان بامكانه في شهور حكمه الاولى صنع احداث تاريخية تذكر ولا تنسى. وبدلا من استغلال صدمة المتطرفين والمستوطنين الذين صوتوا ضده، والاندفاع بسرعة نحو بناء جسور الثقة مع الفلسطينيين، تردد وتأخر في حسم خياراته. ولاحقا راح يقيس علاقته بالسلطة الفلسطينية ومصير شعوب المنطقة بالسنتيمترات على الخرائط. وكان الاختبار الميداني الاول لنويا حكومة باراك تجاه الاستيطان موقفها من موضوع ال 42 بؤرة استيطانية، التي اسسها المستوطنون اوائل عام 1999 تلبية لنداء نتياهو ـ شارون قبل رحيلهما. وبدلا من الالتزام بوعوده التي قطعها للفلسطينيين قبل الانتخابات، قرر بناء على توصيات اللجنة الوزارية الخاصة ازالة 15 بؤرة “غير شرعية”، والاحتفاظ بالباقي “27” واعتبرها “شرعية”. وترجم قراره بطرح عطاءات البناء لاستكمال ما لم ينجز في عهد الليكود. واخلى بشكل مسرحي دعاوي موقعين فقط، ووافق على احتفاظ المستوطنين بكل الاراضي الفلسطينية التي سيطروا عليها. وسجل سابقة خطيرة في مجال ترسيم علاقة الحكومة بتوسيع الاستيطان ومساندة تجاوزات المستوطنيين. وظهر جليا للجميع فلسطينيين ومراقبين سياسيين ان سياسته الاستيطانية امتداد لسياسة سلفه نتنياهو. والفرق بينهما ان الاول ظلل دعمه بمواقف ايدلوجية، وستر قدر الامكان دعمه السخي للمستوطنين، اما الثاني فيجاهر بدعمه بذريعة الامن وتلبية الاحتياجات الطبيعية وتنفيذ قرارات قديمة. ونجحت قنابل باراك “السلامية” الدخانية بتضليل بصر الاتحاد والادارة الامريكية عن قرارته الاستيطانية.
ولم يمضي وقت طويل حتى بينت المفاوضات بالملموس، ان الاستيطان اقرب الى “وجدان باراك” من السلام مع الفلسطينيين، والمستوطنون أقرب الى قلبه من “ميريتس” وقوى السلام. ولم يخفي سعيه، في اطار الحل النهائي، الى اقتطاع اجزاء واسعة من اراضي الضفة والقطاع، وفرض الاستيطان كأمر واقع. وفي سياق تنفيذ الاتفاقات السابقة، التي شهد عليها الاتحاد، تشاور باراك مع المستوطنيين وحدد نفردا مناطق اعادة الانتشار والانسحاب الثالث من 6.1% من اراضي الضفة. وتجاوب مع مطالب المستوطنيين، ورفض أخذ مصالح الفلسطينيين بعين الاعتبار. ورفض التفاعل مع طلب السلطة الفلسطينية ان يشمل الانسحاب مناطق مأهولة بالسكان، وحددت بلدات الرام والعيزرية وابوديس، بدلا من مناطق جبلية وصحراوية جرداء. ورغم التزامه في شرم الشيخ بالشروع بمفاوضات جدية حول الانسحاب الثالث الذي نص عليه اتفاق اوسلو، والذي يزيل الاحتلال عن قرابة 90% من اراضي الضفة والقطاع، تراجع بسرعة واستجاب لموقف المستوطنيين وبعض اطراف ائتلافه الحكومي. ولا يخفي نواياه بتجميد تنفيذ هذه المرحلة الى اشعار آخر، ودمجها بمفاوضات الحل النهائي. وأعطى اشارة للبدء ببناء أعددأ كبيرة من الوحدات السكنية في مستوطنات في مدينة القدس وعمق الضفة الغربية وعلى امتداد الخط الاخضر. ويجري العمل على قدم وساق ببناء شبكة طرق واسعة خاصة بها. ويعتقد باراك ان الانسحاب من 90% من اراضي الضفة والقطاع، باستثناء ما هو مطروح، حسب اتفاق اوسلو، على جدول اعمال مفاوضات الحل النهائي “الحدود والمستوطنات والمواقع العسكرية”، يضعضع وحدة حكومته، ويضعف موقفه ويجرده اوراق هامة تمكنه ابتزاز الفلسطينيين.
وبصرف النظر عن حقيقة مواقف باراك ونواياه، فالفلسطينيون باتوا مقتنعين ان الحكومات الاسرائيلية عمالية وليكودية تطلق ستارا من الدخان الكثيف حول كلفة نشاطات الاستيطان لتضليل انصار السلام، وليست معنية بتوفير معلومات دقيقة بشانه، لتفادي الانتقادات الداخلية والخارجية. وعلى سبيل المثال فان ميزانية الدولة لا توفر تفاصيل حقيقية لمصاريف الاستيطان، وما توفره المعلومات الصادرة عن مصادر رسمية مشكوك فيها. ومن الشائع في اسرائيل ان الحكومة تقدم للمستثمرين في مناطق التطوير معونات سخية. والحوافز الاكبر تقدم في المناطق المسماة “التطوير أ” وهي 38% علاوة مباشرة، و66% ضمانات قروض، وفترة اعفاء من الضريبة تصل الى عشرة اعوام، ويتمتع المستوطنون بتخفيض 7% في ضريبة الدخل، وكل المستوطنات في الضفة والقطاع صنفت بانها منطقة تطوير”أ”.
لا شك في ان مواقف الاتحاد المبدئية من الاستيطان والاحتلال ككل ومساندته المادية والعملية لعملية السلام تستحق التقدير. ويسجل له الفلسطينيون دوره في مآزرتهم معنويا وسياسيا في نضالهم العادل ضد الاستيطان، والخلاص من الاحتلال. ويثمنون دعمه المادي وبالخبرات لتوطيد مقومات دولتهم فوق ارضهم، وبناء مؤسساتها السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية. لكنهم مقتنعون بان دوره في عملية السلام لا يتناسب مع وزن اوروبا وثقلها الدولي وطبيعة مصالحه الاستراتيجية في المنطقة. وبانه لم يحاول، بالقدر الكاف والممكن، إختراق الموقف الاسرائيلي الامريكي المعارض لقيامه بدور اكثر فعالية كما تطالب قيادة م ت ف والسلطة الفلسطينية. واي تكن العوامل التي تقف خلف هذا الموقف، فالاتحاد الاوروبي يدرك ان مواقفه المبدئية والعملية منذ اوسلو وحتى الآن لم توقف الاستيطان، وتضاعف بقرارات رسمية مرات عدة. والفلسطينيون مقتنعون ان بقاء موقفه بالحدود التي لمسوها في السنوات الماضية، لا يخدم عملية صنع سلام واستقرار دائمين في منطقة الشرق الاوسط. ومقتنعون ايضا ان تراجع دور الادارة الامريكية بعد فوز باراك، وانشغالها من الآن وحتى ربيع عام 2001 بالانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس، وبالتطورات المتوقعة على المسارين السوري واللبناني، يفرض على الاتحاد كمجموعة ودول القيام بدور أكبر وانشط وافعل. واذا كانت التوازنات الدولية وعلاقة الاتحاد بالادارة الامريكية تحول دون قيامه بدور مواز او مساو للدور الامريكي وتفعيل دوره في عملية السلام ككل، فبإمكان الاتحاد تفعيل حركته على المسار الفلسطيني في مجال تنفيذ الاتفاقات التي شهد عليها، وحماية اسس القانون الدولي، وتنفيذ قرارات الاتحاد وتوجهاته بشأن الاستيطان. ومنعه من نسف اسس التعايش بين الشعبين وتحويل اراضي الضفة والقطاع الى بوسنة وهرسك جديدة. وسيجد الاتحاد في اسرائيل وخارجها قوى كثيرة هامة تساند اي موقف حازم يتخذه ضد الاستيطان. فالمستوطنات وتكلفة بنائها وصيانتها كانت ولا تزال منذ اعوام عدة موضع جدل حاد داخل المجتمع الاسرائيلي. والتوسع في بعضها يثير الدهشة، ويندرج تحت بند “استثمار مضمون النجاح” في يهودا والسامرا. وفي كل الاحوال سيكون موقف الاتحاد الاوروبي من مصير الاستيطان في الجولان موضع دراسة فلسطينية معمقة. وبديهي القول لا مبرر للقوى الوطنية والسلطة الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني البقاء حتى ذلك التاريخ في موقع المتفرج على حركة الجرفات وهي تنهب الارض، وعلى العمال والمقاولين الفلسطينيين وهم يبنون بيوت واحياء المستوطنيين، وعلى بضائع المستوطنات وهي تغمر الاسواق الفلسطينية.