مظاهرات دعم لحزب الله ام وداع لخطه الجهادي

بقلم ممدوح نوفل في 04/03/2000

أثارت تصريحات “جوسبان” رئيس الوزراء الفرنسي في اسرائيل حول عمليات حزب الله العسكرية، عاصفة سياسية في فرنسا لم تهدأ حتى الآن، وموجة عارمة من الغضب الشعب في فلسطين ولبنان، كان أقساها المظاهرات العنيفة التي وقعت في حرم جامعة بيرزيت. بعكس موجة الفرح والتقدير العالي التي اثارته مواقف الرئيس الفرنسي شيراك وتصريحاته اثناء زيارته لاسرائيل وفلسطين عام 1996. وبصرف النظر عن نوايا الطلبة، ودوافع بعض القوى والشخصيات الفلسطينية والعربية فكريا وسياسيا، للترحيب بالسلوك غير الديمقراطي العنيف الذي قام به المتظاهرون، فالتقييم الموضوعي الهادئ “لواقعة” بير زيت يؤكد خروج بعضهم عن أعراف وتقاليد الفلسطينيين في التعامل مع الضيوف الرسميين والتصرف أمام وسائل الاعلام الدولية. وألحقت حجارتهم أضرارا ليست بسيطة بسمعة فلسطين، وبعلاقات السلطة الفلسطينية الدبلوماسية بدول العالم. ولم تخدم المصلحة الفلسطينية في توسيع جبهة الاصدقاء وتحييد ما يمكن تحييده من الخصوم والاعداء، وكسب ما يمكن كسبه من المحاييدين. ولم يأخذ المتظاهرون بعين الاعتبار تصريحات “جوسبان” الايجابية حول المسألة الفلسطينية، وتجديده دعم فرنسا لقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بحقوق الفلسطينيين، وشجبه الاستيطان، ومساندة حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة. وكانوا اشبه بمحامي فشل في الدفاع عن قضية عدالتها واضحة. ولم يحافظوا على قدسية “حجر الانتفاضة”، ولم يميزوا اشكال مواجهة الاحتلال عن الحوار الديمقراطي والتعبير عن وجة النظر أمام شخصية مرموقة. في وقت يحتاج الشعب الفلسطيني لكل أشكال الدعم المادي والاسناد المعنوي العالمي، وايضا لمن يسمع رأي طلابه وعماله ونساءه وفلاحيه ومثقفيه، ويطّلع مباشرة على اوضاع اللاجئين وحجم معاناتهم في المخيمات. ويشاهد بأم عينيه خطر الاستيطان على عملية السلام ومستقبل التعايش بين الشعبين واستقرار المنطقة.
واذا كان طلبة بيرزيت أخطأوا بحق أنفسهم وبمفهوم الديمقراطية، وأساءوا التعبير والدفاع عن موقف عادل، فجميع المشرفين على برنامج الزيارة لم يقدروا جيدا درجة الاحتقان التي يعيشها الشارع الفلسطيني، ولاحقا بالغت أجهزة الامن الفلسطينية في تدارك تقصيرها في تقدير الموقف. واي تكن قناعات ودوافع “جوسبان” الخاصة بشن هجومه المباشر ضد الاعمال القتالية التي يخوضها حزب الله لتحرير أرضه من الاحتلال، فقد أخطأ تقدير الموقف ولم يدرك ابعاد وتفاعلات تصريحاته غير المتوازنة وغير الموزونة وغير المنسجمة مع سياسة فرنسا الرسمية في لبنان، واثرها على علاقتها بشعوب وبقية برنامج زيارته. خاصة انها صدرت في وقت يتبارى ساسة اسرائيل، وضمنهم رئيس الدبلوماسية في حكومة باراك، باطلاق تصريحات عنجهية وتهديدات ذات نكهة عنصرية فاشية ضد أطفال لبنان، ولا تمت للسلام بصلة، والظلام الدامس يلف مناطق وطرابلس وبعلبك بعد تدمير الطيران الاسرائيلي منشئآت الطاقة ومرافقها الحيوية.
لا شك في ان تصريحات “جوسبان” وردود الفعل الشعبية والرسمية العربية عليها شدت انتباه الرأي العام العالمي للصراع العربي الاسرائيلي. وعززت مكانة حزب الله في صفوف الشعب اللبناني ووفرت له دعما عربيا سياسيا ومعنويا كبيرا. وسلطت أضواء دولية واقليمية على مواقفه وسلوكه في مرحلة حساسة من مسيرة السلام على المسار السوري وملحقه اللبناني. فهل سيستثمر حزب الله هذا الدعم في تعزيز مكانته المحلية والاقليمية، والتفاعل مع التوجه السوري اللبناني ـ الاسرائيلي الامريكي نحو التوصل الى اتفاقات سلام في الشهور القليلة القادمة، أم يصيبه الغرور ويقوده الى مغامرة سياسية غير محسوبة، تدخله في تصادم مباشر مع التيار الدولي الاقليمي الجارف ؟ وهل تطور حركة المسار السوري تجعل خط حزب الله “الجهادي” يوشك على استنفاذ أغراضه الوطنية، وتحول مظاهرات التأييد الشعبي في بير زيت وبيروت أشبه باحتفالات التكريم والوداع التي تجريها القوى السياسية بالمناسبات ؟
بصرف النظر عن دقة المعلومات التي تتناقلها الاوساط الدبلوماسية حول قرب استئناف المفاوضات “العلنية” على المسار السوري، فتصريحات “باراك” في مجلس الوزراء يوم 26 شباط وتوقيتها حول “وديعة رابين” وموافقة بيريز وشامير ونتنياهو على الانسحاب من الجولان حتى خطوط 4 حزيران 1967..الخ ليست عفوية، والتفسير المنطقي الوحيد لها انها جاءت على خلفية تطور الاتصالات السرية الجارية بين الطرفين. وتمهد الطريق امام عودة وفودهما الى “شبردز تاون” في غضون أسابيع قليلة. ولتهيئة الرأي العام الاسرائيلي لدفع ثمن “السلام المؤلم” الذي تحدث عنه باراك. وعودتهما الى طاولة المفاوضات تؤكد انتهائهما من املاء الفراغات التي ظهرت في “الملخص الموسع” الذي قدمته كلينتون رسميا في آخر جولة من المفاوضات. ولم يبقى أمامهما سوى اخراج الموضوع، واستكمال وضع اللمسات الاخيرة على بنود الاتفاق وتنظيم ما يليق به من الاحتفالات.
واي يكن ترتيب جدول الاعمال وعدد جولات المفاوضات التي سيعقدها الطرفان، بعد استئناف مفاوضاتهما فلا جدال في ان مصالحهما ومصالح الراعي الامريكي تدفع باتجاه توصلهم، قبل حزيران القادم، الى “معاهدة سلام” او “اتفاق إعلان مبادئ” تفصيلي وموسع، يكون مرشدا لعلاقتهما المستقبلية، وينقلها من حالة الحرب الى حالة جديدة من السلام. وسيتضمن الاتفاق حتما التزامهما بانهاء نزاعهما المزمن، وترسيم حدودهما من جديد. ويحدد بدقة طبيعة السلام بينهما والفترة الزمنية التي سيستغرقها تطبيع علاقتهما الثنائية وآلية تجسيده سياسيا ودبلوماسيا وامنيا واقتصاديا. يليه او يرافقه وليس قبله “اتفاق سلام” لبناني اسرائيلي شامل ينهي نزاع البلدين، بصرف النظر عن رأي كل القوى اللبنانية دون استثناء، ويعالج الوضع المتفجر في جنوب لبنان، وينهي مبررات وجود الحزام الامني الذي انشأته اسرائيل. ويعتقد اركان البيت الابيض ان الحل على المسارين السوري واللبناني بات في متناول اليد وله ميزات متعددة عن الحل على المسار الفلسطيني الذي لا يزال بعيد المنال.
وبتوصل الطرفين السوري واللبناني الى اتفاقاتهما برعاية أمريكية تستكمل اسرائيل اتفاقاتها مع “دول الطوق”، وستشهد المنطقة تسارعا في انفتاح مزيد من الدول العربية دبلوماسيا واقتصاديا على اسرائيل. وبصرف النظر عن نوايا القيادة السورية فاتفاقها مع اسرائيل سوف يمنح باراك لقب “بطل السلام” ويعزز مكانته محليا اقليما ودوليا. واذا كانت موافقة اسرائيل على الالتزام بقرارات الشرعية الدولية وبخاصة تنفيذ قرار 242 و338، والانسحاب حتى خطوط الرابع من حزيران، وحل مسألة الاستيطان بما ينسجم مع المصالح السورية، تمثل نماذج مفيدة للمفاوض الفلسطيني، فالاتفاق “المنتظر” سيجلب معه ضغوطا عربية وامريكية على قيادة الفلسطينية للصبر على باراك، وتأجيل صرف شيكات شرم الشيخ وواي ريفر وبقية حساب اوسلو. وقبول الترضيات البسيطة التي سيقدمها ولن تتعدى بعض حقوقها القديمة التي ماطل في تنفيذها. وسيدفع الاتفاق السوري الاسرائيلي بالمفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية حول قضايا الحل النهائي للمراوحة مكانها طيلة السنوات الثلاث الباقية من ولاية باراك، الا اذا قبلوا أقل ما حققته سوريا، ورضخوا للموقف الاسرائيلي وقبلوا اجراء تعديلات واسعة على حدود 4 حزيران، وبقاء المستعمرات والقدس تحت السيادة الاسرائيلية.
الى ذلك سيضع الاتفاق السوري الاسرائيلي وتابعه الاتفاق اللبناني الاسرائيلي حزب الله بين خيارين صعبين؛ اما الدخول في اللعبة السياسية الجديدة واحداث تغيير جذري وسريع في استراتيجيته السياسية والجهادية وفتح مسافة عن ايران والتساوي بالمعارضة الوطنية اللبنانية، او التصدي لها والتمسك ببرنامجه وخطه “الجهادي” وبايران مرجعية له، والدخول في تصادم عنيف مع سوريا واجهزة السلطة اللبنانية. أعتقد ان قيادة حزب الله التي اجادت، على مدى عقد من الزمن، قيادة الكفاح الشعبي اللبناني من اجل تحرير الجنوب، ونجحت في نسج تحالفاتها المحلية والاقليمية، وكيفت بجدارة أعمالها القتالية بما يخدم توجهاتها الوطنية العامة ومصالح الحزب الخاصة، سوف تعتمد الخيار الاول، وتتحاشى العاصفة القوية التي ستهب على المنطقة بعد الاتفاق السوري اللبناني ـ الاسرائيلي، وتتجنب التصادم مع تيار السلام الجارف الذي سوف يكتسح سوريا ولبنان وأقطار عربية أخرى. ولن تتوانى قيادة حزب الله في تبرير براجميتها السياسية بتحميل القيادة الفلسطينية مسئولية اقفال طريق الجهاد امام المجاهدين لتحرير القدس. وستعمل على تكييف بنية الحزب الداخلية وتوجهاته الوطنية بما يتلائم والحفاظ على دوره كقوة سياسية لبنانية طليعية. وستهب أكثر من قوة محلية واقليمية ودولية الى الترحيب بالتوجهات الجديدة لحزب الله، ولن تتردد في مساعدته على معالجة ذيول إنقلابه على الذات، وبخاصة مصير اجهزته العسكرية.
وبصرف النظر عن تقييم حجم الخسائر التي ألحقتها “واقعة بيرزيت” بالمصالح الفلسطينية ورد فعل السلطة الفلسطينية، ومدى تأثيرها على دور فرنسا في مراقبة تنفيذ الاتفاق الجديد، فمظاهرات طلبة بيرزيت وما سبقها وتلاها من تحركات شعبية في مناطق أخرى تبقى تعبير صارخ عن حالة الاحتقان التي يعيشها الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال وما آلت اليه عملية السلام على مسارها الفلسطيني. وهي ايضا رسالة احتجاج “قاسية على الذات”، شديدة اللهجة موجهة لكل القوى الاقليمية والدولية الصامتة على الممارسات الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وتلاعبها بالاتفاقات. خلاصتها لا امن ولا استقرار في المنطقة قبل ان يحقق الشعب الفلسطيني كامل حقوقه، مثله مثل السوريون واللبنانيون. ويمكن اعتبارها ايضا نداء للنظام العربي عدم تطبيع العلاقة باسرائيل قبل تحرير القدس، وعودة اللاجئين. وأيضا رسالة صادقة تتضمن التحية والتقدير للدور الذي لعبه حزب الله في تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الاسرائيلي، ووداع لخطه الجهادي بالنيابة عن كل الشعوب العربية..