أزمة المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية لا تعالج بترضيات مؤقتة

بقلم ممدوح نوفل في 23/03/2000

بعد توقف دام اقل من شهرين استأنفت المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية يوم 22 آذار الجاري بعيدا عن الاضواء في قاعدة “بولينغ” الجوية قرب واشنطن. وكان الطرفان عقدا سلسلة لقاءات مكثفة اوائل الشهر في ضواحي تل ابيب ورام الله وشرم الشيخ، جدد فيها رئيس الحكومة الاسرائيلية التزامه، أمام الرئيس مبارك و”دينس روس” المنسق الامريكي لعملية السلام، بتنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية التي تسببت بتجميدها. فهل تجاوز المسار الفلسطيني أزمته وتخلى باراك عن سياسة الاملاءات وسيفي بالتزاماته الجديدة ؟ وهل سيتمكن الطرفان برعاية أمريكية مباشرة، ومساعدة معنوية مصرية، التوصل الى “اتفاق إطار” للحل النهائي في أيار القادم، والاتفاق في حزيران على تنفيذ المرحلة الثالثة من الانسحاب التي نص عليها اتفاق اوسلو، وحل قضايا الحدود والقدس واللاجئين والمستوطنات والمياه والامن والعلاقة مع الجوار في ايلول 2000 حسب اعلانهما ؟
اي تكن العوامل والاسباب التي دفعت ادارة الرئيس كلينتون لتفعيل حركتها على المسار الفلسطيني بعد اهمال طويل، ودفعت المفاوض الفلسطيني للتراجع عن موقفه، فاستئنافها حول “اتفاق الاطار” قبل موافقة الجانب الاسرائيلي على الانسحاب في اطار المرحلة الثالثة من العيزرية والرام وابو ديس او واحدة منها على الاقل، لم يكن موفقا، وشوة صورة الراعي الامريكي المشوهة اصلا. وهز مصداقية المفاوض الفلسطيني داخليا وخارجيا. وأضعف امكانية تنشيط التضامن العربي مع الحقوق الفلسطينية، وقدم ذريعة لبعض اطراف النظام الرسمي العربي لتغطية نوازعه القطرية والتهرب من التزمه “بقضية العرب المركزية”. وظهرت القيادة الفلسطينية وكأنها لا تعير اهمية تذكر للرأي العام الفلسطيني، وتتعامل مع تعليق وتجميد المفاوضات كتكتيك تفاوضي غير مفيد وضار. ولا تستطيع الصمود في وجه الضغوط الخارجية والبقاء أكثر من شهر بعيدا عن طاولة المفاوضات. خاصة وان العودة لطاولة المفاوضات تمت على ابواب مؤتمر وزراء خارجية الدول العربية الذي عقد في بيروت، تضامنا مع لبنان ضد العدوان الاسرائيلي. والتصريحات الفلسطينية الرسمية الكثيرة التي صدرت بعد تعليق المفاوضات في شباط الماضي كانت جازمة وحاسمة في الاصرار على تعديل الخرائط، وتجاوز “اتفاق الاطار”. واكدت بقوة ان مفاوضات الحل النهائي يجب ان تبدا بعد “وليس قبل” الاتفاق على آلية الانسحاب الثالث الوارد في اتفاق اوسلو وواي ريفر وشرم الشيخ، والذي يعطي للفلسطينيين سيطرة كاملة على جميع اراضي الضفة والقطاع باستثناء قرابة10% هي مساحة القدس والمستوطنات والمواقع العسكرية المحددة.
وبصرف النظر عن النوايا، فقد نال دعاة التنسيق العربي في الصف الفلسطيني لطمة جديدة، وانعشت مواقف دعاة الثنائية الاسرائيلية الفلسطينية. وعاد بعضهم ترويج افكار وهمية ضارة كالقول باراك لا يفضل مسار على آخر، واوضاع اسرائيل تتحمل حلين كبيرين، مع السوريين والفلسطينيين بوقت واحد. والرجل جاد بالتوصل قبل نهاية العام لاتفاق ينهي النزاع الفلسطيني الاسرائيلي، وهو واغلبية قيادة حزب العمل مستعدون للاعتراف بدولة فلسطينية. والرئيس كلينتون مصمم على حل القضية الفلسطينية قبل مغادرة البيت الابيض اوائل العام القادم..الخ من المواقف والافكار التي تضع الامنيات والرغبات الذاتية بديلا للحقائق والوقائع. وغير قادرة على اقناع الطلاب والعمال والمثقفين والفلاحين، بأن باراك تراجع عن سياسة الاملاءات وفرض الامر الواقع. وتكرس نهج التفاوض الفلسطيني القائم على اساس استمرارها حتى اذا واصلت اسرائيل مصادرة الاراضي ولم يتوقف الاستيطان. واستمر باراك باللعب على المسارات، ولم يستكمل تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية التي نصت عليها الاتفاقات. وتبقي الوضع الفلسطيني على حاله وتعمق احباط الناس، وتعطل اية مبادرة فلسطينية لكسر قيود الثنائية. ولا يستطيع انصار استئناف المفاوضات بأي ثمن ودعاة التسابق مع المسار السوري انكار ان توجهاتهم عززت أطروحات باراك داخليا وخارجيا. وظهر امام جمهوره والقوى الدولية وكأنه نجح باقناع الفلسطينيين بموقفه، وانهى حالة التشنج التي ظهرت على سطح علاقته بعدد من زعماء المنطقة. وضعفت مواقف قوى السلام الاسرائيلية التي تفهمت مواقف الفلسطينيين وايدت مطالبهم. وتعززت قناعة المتطرفين داخل حكومته وخارجها بمقولة “ان الطرف الفلسطيني يقبل غدا ما يرفضه اليوم، شريطة مواصلة الضغط عليه ومواجهته بحزم، وتجريده من الدعم والاسناد الخارجي”.
لا شك في ان معركة انتزاع الحقوق الفلسطينية طويلة وقاسية، ومشاركة اركان الادارة الامريكية من جديد في المفاوضات تصحيح ضروري لخلل وقع بعد فوز باراك في الانتخابات. ولا جدال في ان تحرير6.1% واي جزء اضافي من الارض، وفتح الممر الآمن الشمالي الذي يربط وسط وشمال الضفة بقطاع غزة، واطلاق سراح دفعة جديدة من الاسرى من سجون الاحتلال، واسترداد المستحقات المالية..الخ خطوات جزئية على هذا الدرب الطويل والمرهق. لكنها بالتاكيد لا تلبي الحد الادنى من المطالب الفلسطينية بعد كل هذه السنين الطويلة من المفاوضات. فهي لم تنهي الاحتلال ولم توقف الاستيطان، ولم تحقق التواصل الجغرافي بين المناطق الفلسطينية، ولم تحرر أكثر من ألف أسير فلسطيني لا يزالون في سجون الاحتلال. وغير قادرة على تنفيس الاحتقان الشعبي الذي ظهر في “واقعة” بيرزيت ضد مواقف شيراك، وفي التحركات الشعبية المتصاعدة ضد ممارسات الاحتلال وبخاصة مصادرة الاراضي والتوسع في الاستيطان. وغير كافية لاعادة الثقة المفقودة بمسيرة السلام الجارية واخراجها من مأزقها.
فأزمة المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية كبيرة وعميقة، واستعادة ثقة الفلسطينيين بها لا يتم بترضيات جزئية لا تلبي الحد الادنى من حقوقهم. ويستحيل معالجتها بمسكنات مؤقته ودون عملية جراحية مؤلمة. وهي ناجمة بالاساس عن وجود قرار اسرائيلي بعدم تطبيق قرارات الشرعية الدولية، التي اعتبرها البابا شرطا لا غنى عنه لصنع السلام في المنطقة. وعن تساهل الامم المتحدة وادارة كلينتون ازاء تطبيق هذه القرارات وتنفيذ الاتفاقات التي شهدت عليها. وشعور باراك ان حالة الضعف الفلسطيني والتفكك العربي تمكّنه املاء شروطه على الفلسطينيين وفرض مفهومه للسلام على العرب. ويخطأ من يعتقد ان الكفالة الامريكية المصرية ملزمة لباراك، وانه سينفذ جميع ما اتفق عليه مؤخرا، وتراجعه عن الانسحاب من “عناتا” بعد يومين فقط من التعهد بالجلاء عنها يؤكد “عودة حليمة لعادتها القديمة”، وتصميمه على المضي في سياسة لا تواريخ مقدسة مع الفلسطينيين ومواصلة الاستهتار بمصالحهم، والتلاعب بالاتفاقات التي يوقعها معهم.
واي تكن نوايا باراك وتعليماته لطاقمه التفاوضي، فالواضح ان مفاوضات “بولنغ” بقيادة “عيران وعبد ربه وعريقات” تندرج تحت بند اللعب على حبال المسارات العربية، وتقطيع الوقت على المسار الفلسطيني بانتظار ظهور الدخان الابيض على المسار السوري، وأظنه لن يتأخر كثيرا وسيظهر قبل تموز القادم. ولقاء الرئيسين كلينتون والاسد يوم 26 آذار الجاري خطوة ضرورية للاخراج، وتعبئة بقايا الفراغات التي ظهرت في “الملخص الموسع” الذي قدمه كلينتون في آخر جولة من المفاوضات، والاتفاق ايضا على مستقبل العلاقات الامريكية السورية. ويخطا المفاوض الفلسطيني اذا اعتقد ان بالامكان، في مرحلة الاتفاق السوري الاسرائيلي، التوصل في بولينغ او اي مكان آخر لاي اتفاق جوهري حول القضايا المدرجة على جدول اعمال الوفدين. فالادارة الامريكية تبحث عن انجاز وتلهث خلف باراك. و”عيران” غير مخول بالتوصل لاتفاق حول المرحلة الثالثة من الانسحاب والواردة في اتفاق اوسلو، التي تعطي الفلسطينيين سيادة كاملة على قرابة 90% من اراضي الضفة والقطاع. لان باراك يرى في تنفيذها، كما قال عندما كان وزيرا للداخلية، “اضعاف مميت لقدرة اسرائيل على مساومة القيادة الفلسطينية حول قضايا اللاجئين والقدس والحدود”. ومصير هذه المرحلة من الانسحاب ومستقبل النازحين وقضية الاسرى والسجناء التي تقرر حسمها المرحلة الانتقالية، الغام موقوتة ابقاها باراك في طريق المفاوضات. وخير للمفاوض الفلسطيني عدم العبث بها ورفض دمجها باطار بقضايا الحل النهائي، من الرضوخ لشرط باراك والعودة “بخفي حنين” وباتفاق اطار يجزأ ويمرّحل قضايا الحل النهائي. والمصالح العليا للشعب الفلسطيني تفرض على القيادة وكل القوى الوطنية الشروع في تحضير الاوضاع الذاتية لمواجهة رياح المتغيرات الاقليمية التي يحملها الاتفاق السوري. ولا خيار امامها سوى الصمود عند حقوق شعبها كما وردت في قرارات الشرعية الدولية والاتفاقات. وتجربة 50 عاما من الصراع أكدت ان الحق العادل لا يضيع طالما وجد من يطلبه. واذا كانت مآسي وويلات نصف قرن من الحروب والعذاب انضجت اوضاع النظام السياسي الفلسطيني بشقيه الرسمي والشعبي للقبول بتسوية هذا الصراع، فمن الخطأ الاعتقاد انها تراجعت لدرجة الاستسلام والرضوخ للمطالب الاسرائيلية والقبول بتسوية مذلة وسلام معيب. وأحداث جامعة جامعة بير زيت، وبدء تحرك اللاجئين في الخارج الداخل دفاعا عن حقوقهم التاريخية مؤشرات يجب يجب ان يراها جميع المعنين باستقرار اوضاع المنطقة.