هل الاتفاق السوري الاسرائيلي ينهي النزاع في المنطقة ؟

بقلم ممدوح نوفل في 19/01/2000

بعد استئناف المفاوضات السورية الاسرائيلية، اواخر كانون الاول الماضي، ساد اعتقاد في الاوساط الفلسطينية الرسمية والحزبية بان الطرفين قطعا شوطا كبيرا، في مفاوضات سرية برعاية امريكية، باتجاه التوصل الى اتفاق ينهي نزاعهما المزمن. وخشي كثيرون طغيان الهموم السورية الاقليمية على القضايا القومية المشتركة، وبدء باراك اللعب على حبال المسارات العربية وتجميد المسار الفلسطيني. وكثر الحديث في حينه حول ضرورة التنسيق الفلسطيني السوري اللبناني، وتراجع التفكير “بالثنائية الفلسطينية الاسرائيلية” باعتبارها اقصر الطرق لانتزاع الحقوق الفلسطينية وتسوية النزاع الفلسطيني الاسرائيلي. وصعدت الأفكار الداعية لتنسيق المواقف العربية في المفاوضات في اطار اجتماع خماسي يضم مصر والاردن وسوريا ولبنان ومنظمة التحرير، وبلورة موقف تفاوضي سوري فلسطيني لبناني موحد ازاء عدد من القضايا الرئيسية التي يتداخل فيها الوطني بالقومي، وبخاصة قضية اللاجئين والمياه والامن والحدود وتطبيع العلاقات. لكن صعود دور دعاة التنسيق لم يدم طويلا ولم يأخذ مداه كاملا، وتوقف بعد اصطدامه مباشرة برفض القيادة السورية التجاوب مع توجهاتهم، وتوجهات جهات عربية اخرى بذلت جهودا لاحياء التنسيق الخماسي. وبررت القيادة السورية موقفها باندفاع القيادة الفلسطينية في طريق “الثنائية” وعدم ثقتها بمواقفها، واستشهدت بمفاجأتها باتفاق اوسلو وما افرزه من توتر وقطيعة بين الطرفين. وعملت وفق مقولة “كل واحد يقلع شوكه بيده”، واندفعت بقوة على طريق “الثنائية” السورية الاسرائيلية.
وجاء مشروع “مسودة معاهدة السلام السورية الاسرائيلية” التي قدمها الرئيس كلينتون ليؤكد تخلي سوريا عن مقولة “قومية الصراع ضد العدو الصهيوني”. وبات ” السلام بالنسبة لسوريا يعني عودة كل اراضيها المحتلة ” فقط، كما قال الوزير الشرع بعد انتهاء الجولة الاولى من المفاوضات. ولم تعد القيادة السورية تتعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها جذر الصراع العربي االصهيوني. وصارت ترى في ” التوصل الى اتفاق للسلام بين سوريا واسرائيل وبين لبنان واسرائيل.. قد يكون من نتائجه بدء حوار بين الحضارات ومنافسة مشرفة في مجالات متنوعة سياسية وثقافية وعملية واقتصادية “، كما قال الشرع في ذات الخطاب.
الى ذلك حركت التوجهات السورية الجديدة المشاعر الوطنية الفلسطينية، وبعثت الحياة في شعار “يا وحدنا”، واحبطت آمال بنتها فئات سياسية وشعبية فلسطينية على الموقف القومي السوري. ووجهت ضربة قاصمة لدعاة التنسيق في الصف الفلسطيني اصابتهم في الصميم، وانعشت من جديد توجهات دعاة مواصلة الثنائية الاسرائيلية الفلسطينية التي سيطرت على الحركة الفلسطينية منذ ما قبل اوسلو وحتى انطلاق المفاوضات على المسار السوري. وبدأ بعضهم ترويج افكار وهمية ضارة كالقول “توصل السوريين والاسرائيليين لاتفاق لا يؤثر على المسار الفلسطيني، واوضاع اسرائيل الداخلية تتحمل حلين كبيرين في آن واحد. وباراك مقتنع تماما بان القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع العربي الاسرائيلي، ومصمم على التوصل لاتفاق حول قضايا الحل النهائي على المسار الفلسطيني قبل ايلول القادم. واغلبية قيادة حزب العمل مستعدون للاعتراف بالدولة الفلسطينية عند اعلانها. ويرجون لمقولة خلاصتها ان الرئيس كلينتون مصمم على حل القضية الفلسطينية قبل مغادرة البيت الابيض وانه قادرعلى ذلك..الخ من الافكار التي تضع الامنيات والرغبات الذاتية بديلا للحقائق والوقائع. وتبقي الوضع الوطني الفلسطيني على حاله وتعمق احباطه. وتخلق حالة من التنافس بين المسارات وتعطل اي مبادرة فلسطينية للتحرر من قيود الثنائية. وتكرس نهج التفاوض القائم على اساس الاستمرار في المفاوضات حتى لو تلاعب باراك بالاتفاقات، ومزج الانتقالي بالنهائي. ومتابعة المفاوضات حول والقدس واللاجئين الخ، قبل وقف الاستيطان وقبل استكمال الانسحابات وتنفيذ الاستحقاقات التي نصت عليها اتفاقات الطرفين. وترهن اعلان قيام الدولة الفلسطينية بموافقة اسرائيل. وهذا الامر لن يتحقق اذا تضمن الاعلان بسط السيادة الفلسطينية على جميع الاراضي التي احتلت عام 1967.
واي تكن خلفيات الموقف السوري، ودوافع دعاة الثنائية فلسطينيين وسوريين فاقوال الوزير الشرع تفرض على البحاثة والمفكرين العرب الاجابة على عدد من الاسئلة المركزية شديد الحساسية التي تطال الحاضر والمستقبل العربي. منها: هل انتهت الروابط القومية والمصالح العربية المشتركة في خوض الصراع ضد التوجهات التوسعية الاسرائيلية ؟ وهل فقدت القضية الفلسطينية موقعها الذي احتلته في فكر النظام السياسي العربي، وفقدت قضايا القدس واللاجئين والامن القومي المشترك دورها في تحريك المشاعر القومية والدينية للشعوب العربية ؟ وهل التوصل الى اتفاق للسلام بين سوريا واسرائيل وبين لبنان واسرائيل، “سيعني في حقيقة الامر نهاية تاريخ من الحروب والصراعات في منطقتنا” كما قال الوزير فاروق الشرع ؟ ام ان نهاية الصراع العربي الاسرائيلي له مقومات ومتطلبات أخرى لا يوفرها الاتفاق السوري الاسرائيلي ؟
بالنظر الى نصف الكأس المليء بما انجز، وفق ما ورد في “مسودة اتفاق السلام” التي تقدم بها الرئيس كلينتون، يمكن القول ان الطرفين لم يعودا بعيدين عن انجاز “معاهدة السلام” ثنائية. خاصة بعد موافقة سوريا على التعامل مع مطالب اسرائيل الامنية الاساسية ومفاهيمها الامنية. وتأجيلهما الجولة الثالثة من المفاوضات لا يتعارض مع هذا الاستنتاج، ومع رغبة الراعي الامريكي تحقيق تقدم جوهري باتجاه انجاز الاتفاق خلال الفترة الزمنية التي التزما بها “شهرين ” مع الرئيس كلينتون. فالمطلوب عودة الطرفين الى شيفردز تاون بولاية فرجينيا، بقرارات سياسية حاسمة، ومواقف واضحة واجابات محددة، لكافة المسائل التي لم تتم تسويتها. وبخاصة مسألة انسحاب الجيش الاسرائيلي الى حدود 4 حزيران كما تطالب سوريا، ووضع آليات استغلال وتقاسم مياه الجولان كما تطالب اسرائيل.
وبصرف النظر عن عدد جولات المفاوضات التي يتطلبها التوصل للاتفاق، فقد بات بالامكان ترجيح وجهة النظر القائلة ان الاتفاق السوري الاسرائيلي قادم حتما حتى لو تاخر قليلا، ومصالح الاطراف الثلاثة تضغط باتجاه انجازه قبل الانتخابات الامريكية القادمة كحد اقصى. ويمكن الجزم سلفا ان نصوصه سوف تتضمن فقرات واضحة وصريحة عن انتهاء النزاع السوري الاسرائيلي، لكنه بالتاكيد لن يتضمن حديثا مباشرا اوغير مباشر عن انتهاء النزاع الفلسطيني الاسرائيلي او العربي الاسرائيلي. فالقيادة السورية لم تطرح قضايا النزاع الفلسطيني الاسرائيلي الكثيرة والمتنوعة على طاولة المفاوضات. ومسودة “ملخص كلينتون” خلت من اي اشارة اليها. وخطاب الوزير الشرع بعد الجولة الاولى، لم يتضمن، عن سابق قصد، اي كلمة حول اللاجئين او اي قضية فلسطينية اخرى. اما ترسيم انتهاء النزاع العربي الاسرائيلي فلاشك في انه بحاجة الى قرار قمة عربية وبالحد من الجامعة العربية، ولا يستطيع طرف عربي بمفرده ان ينوب عن الجميع في هذه المسألة الحساسة. واظن ان تدهور الوضع العربي لم يبلغ درجة ترسيم انهاء هذا النزاع قبل حل مشكلة فلسطين .
الى ذلك لن تتمكن سوريا ولبنان في مفاوضاتهما تسوية مشكلة أكثر من 700 الف لاجئ فلسطيني يقيمون في اراضي البلدين. فالقيادتين السورية واللبنانية ليس مخولتين بالبت بمصيرهم، واقتراح سوريا اجراء تعديل في “ملخص كلينتون” باضافة “ايجاد حل لقضية اللاجئين” يعني بقاء هذه القضية معلقة بين الطرفين لحين ايجاد حل لها. واذا كان اتفاق كامب دافيد قبل اكثر من 20 عام والاتفاق الاردني الاسرائيلي عام 1994 نماذج سبقت الاتفاق السوري الاسرائيلي واللبناني الاسرائيلي، ولم يعالجا قضية اكثر من مليوني لاجئ وقرابة مليون نازح فلسطيني يقيمون في الاردن ومصر، فوضعهم في سوريا ولبنان لن يشذ عن هذا النموذج. خاصة وانهما ترفضان من حيث المبدأ توطينهم على اراضيها، ويقابله موقف اسرائيلي جازم يرفض عودتهم الى قراهم ومدنهم التي هجرو منها. واقصى ما يمكن ان يتوصل له الاطراف الثلاثة بشانهم هو القفزعن الموضوع وانتظار نتائج المفاوضات الحل النهائي على المسار الفلسطيني، او نتائج متعدد الاطراف كما تريد اسرائيل. وبديهي القول ان عدم تسوية قضية اربعة ملايين لاجئ يبقى الصراع الفلسطيني الاسرائيلي مستمرا، ولن تستطيع الدول المضيفة وضمنها سوريا عدم الاكتراث بتطلعاتهم او تجاهل مصيرهم.
لا جدال في ان تفاعلات الاتفاق السوري الاسرائيلي وملحقه اللبناني سوف تكون كبيرة وواسعة، وستترك بصماتها على مستقبل الصراع العربي الاسرائيلي لجهة تكريس معالجته بالطرق السلمية، لكنه لن يكون فصل الختام لقرن من الصراع. وتدرك القيادة السورية اكثر من سواها ان النزاع حول الجولان والصراع في جنوب لبنان فرع من فروع القضية الفلسطينية، “جوهر الصراع العربي الاسرائيلي” كما تقول ادبيات حزب البعث، وكتب التعليم للمدارس الابتدائية السورية. وحل قضايا الفروع يبقى جزئيا وناقصا ومؤقتا اذا لم يتم معالجة الاصل. وتجربة المفاوضات الطويلة والاتفاقات الكثيرة على المسار الفلسطيني والاتفاق الاردني الاسرائيلي واتفاقات كامب ديفيد، بينت ان الاتفاقت الثنائية العربية الاسرائيلية تصنع علاقات سلام ثنائية رجراجة وليس سلاما شاملا دائما. وتبقي الامن الاقليمي وضمنه امن فلسطين وسوريا ولبنان واسرائيل عرضة للاهتزاز. وأظن ان لا مبالغة في القول ان الاتفاقات العربية الاسرائيلية التي تم التوصل اليها حتى الان لم تقلل من انشداد الشعوب العربية نحو القدس اولى القبلتين وثالث الحرمين ومكان قيامة المسيح، وهذا الانشداد القومي والديني لن يتآكل بعد الاتفاق السوري الاسرائيلي. والتجربة التاريخية اكدت ان لا امن ولا استقرار في المنطقة اذا لم تستقر اوضاع هذه المدينة المقدسة.