كلمة تأبين الشهيد عبد المعطي السبعاوي

بقلم ممدوح نوفل في 29/01/2000

كرام الاخوة قادة فصائل العمل الوطني الفلسطيني
الاخوة قادة وكوادر حركة فتح
الاخوات المناضلا الاخوة المناضلون
عندما شرفني الاخوة لجنة تخليد ذكرى الشهيد عبد المعطي بالقاء كلمة القوى الوطنية، سألت نفسي.. هل أستطيع رثاء اخ وصديق عزيز؟.. وهل يمكن وفاء هذا المناضل الوحدوي حقه بكلمات قليلة تقال في هكذا مناسبة..؟
نعم ايها الاخوة والاخوات؛ يعجز المرء عن رثاء من احب، واذا كان يستحيل سرد سيرة الثورة الفلسطينية في مهرجان فلا يمكن للحركة الوطنية الفلسطينية ايفاء ابو ياسر وامثاله حقهم بحديث لا يزيد عن دقائق معدودة، فسيرة كل واحد منهم تلخص بدقة وامانة قصة ثورتنا بحلوها ومرها. وانا لا اقف امامكم الآن لارثي رفيق درب النضال الطويل الشاق، بل لاعلن ان المناضل عبد المعطي حسين احمد السبعاوي لم يمت.. وهو حي طالما في ثورتنا ناس اوفياء لا ينسون المناضلين الشرفاء.
حقا لقد فاجأنا عبد المعطي رجل المهمات الصعبة.. ورحل في ظروف صعبة وفقدت فلسطين ابنا بارا وهي بأمس الحاجة لامثاله. كان ابو ياسر يفاجئ المقاتلين في لبنان والجولان ويختفي عن الانظار في أوقات حرجة، لكنه كان يظهر بسرعة حاملا اخبار مفرحة ومعلومات تسر الصديق وتغيظ الاعداء. واجزم بان اللواء الركن عبد المعطي سخر من الموت عندما فاجئه في السودانية، وحاول التمرد كعادته. فهو لم يكن يسلم بسهولة بوقائع لا يرغبها ولم يستسلم يوما للخصوم والاعداء.
كانت ثقته بشعبه عالية واعتزازه بفلسطينيته مطلقة. وهو من اوائل من ساهموا، بعيدا عن الاضواء، في صناعة تاريخ ثورة شعبه من اجل الحرية والاستقلال.. أحب ارض بلاده وكره البقاء خارجها، لكن الاقدار فرضت عليه ثلث قرن من الهجرة وتنقل بين الاردن وسوريا ولبنان وتونس. وتحمّل قهر الحنين للوطن بصبر الواثق من العودة.. وظل راسخ الايمان بان “الارض لا تفلحها الا عجولها”، وكان مقداما لدرجة التهور في حرثها وزرعها.
في بداية التحاقه بقوات العاصفة كان ابنا نجيبا؛ امتاز بحب العمل وقلة الكلام وحسن الاستماع لاخوانه ولكل الناس. وكان رائدا في رواد الوحدة الوطنية بامتياز، يحب العمل المنظم ويكره الفوضى وكان دائما في صف الضعفاء والمظلومين، وظل وفيا لرفقة السلاح.
في جنوب الاردن واغواره واحراش جرش وعجلون ناضل الكادر المتقدم عبد المعطي بتفان واخلاص وحام الموت حوله وهو فتى في عز صباه وقابله بشجاعة وانتصر عليه.
لم يعرف المناضل عبد المعطي اليأس في حياته، وظل يؤمن بان الثورة ستبقى حية طالما هناك قهر للفلسطينيين..وظل يحرص على استخلاص دروس التجربة اولا باول… وبعد انحسار غبار حرب اكتوبر عبر المقدم عبد المعطي جبل الشيخ الى لبنان مشيا على الاقدام حاملا على ظهره عدة الشغل الثوري. وهناك بنى علاقة مبدئية كفاحية مع الحركة الوطنية اللبنانية، وناضل بقوة من اجل احترام قرارها. ونسج علاقات خاصة مع قادة الحركة الوطنية والاسلامية اللبنانية. ولم يبخل في دعم رواد تأسيس حزب الله، وبنى علاقة وثيقة مع مرشده الروحي الشيخ فضل الله وأمينه العام الاول الشهيد الشيخ عباس الموسوي.
مطلع عام 1982 أدرك المقدم عبد المعطي بحسه الوطني العالي ان المواجهة الشاملة مع الجيش الاسرائيلي قادمة لا محالة.. وعندما وقعت الواقعة استبسل في الدفاع عن شعبه. وشاهد الموت فاجرا يخطف دون تمييز ارواح الشباب والاطفال والشيوخ والنساء. ورغم صلابته، بكى شهداء صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة والداعوق بكاء مرا. والشيء ذاته حصل يوم فجيعة استشهاد قائده ومعلمه ابو جهاد، واستشهاد ابو اياد وابو الهول وابو محمد العمري. وأقسم لو ان الموت رجل لخنقه بيديه.
ونذ ذلك التاريخ لم يكترث بالموت وتعامل معه بلا مبالاة. وقال “عار علينا الصمت امام استباحة دم قادتنا واطفالنا ونسائنا.. ويجب ان لا نغفر او ننسى فالذاكرة الحية تصون الحقوق وتعبأ الاجيال”. واذا كان تاريخ العرب سجل في ملفاته بطولات الفلسطينيين والوطنيين اللبنانيين لفي مقاومة غزو اسرائيل للبنان فالعقيد الركن ابو ياسر احد روادها.
لم يتهاون ابو ياسر يوما في الدفاع ببسالة عن القرار الوطني المستقل. وعندما شنت قيادة حركة امل حروبها القذرة ضد المخيمات اعتمد مبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع، وقاد مع رفاقه في السلاح التمدد الفلسطيني الى مغدوشة والقرية وجنسنايا شرق عين الحلوة والمية ومية، واجبروا المعتدين ومن ساندهم فك الحصارعن المخيمات.. واذا كان الخبراء والبحاثة العسكريين والاجتماعيين اعتبروا صمود المخيمات في الحصار حدثا كبيرا، فابحاثهم تبقى ناقصة ان لم تؤكد دوره ودور آمنة وعلى ابو طوق ولطفي عيسى ويوسف في صنعه.
ومع انطلاقة الانتفاضة السابقة في الضفة والقطاع انتفض الثائر عبد المعطي وثار ثورة جديدة. ورآى في الانتفاضة اشراقة نور التحرير والعودة الاستقلال. حاول التسلل من جنوب لبنان ليكون مع المنتفضين لكنه اصطدم بعوائق عربية كثيرة. واقتنع ان اهل الانتفاضة ادرى بشجونها ودروبها، وانطلق من عين الحلوة في حركة دائمة لدعمها دون كلل او ملل.
بعد حرب الخليج وتحول الجيوش العربية للخلف ايد العقيد المعطي عملية السلام، واعتبرها نافذه جديدة تفتح على العودة والاستقلال. ولم ينتظر ظهور الخيط الابيض من الاسود واسرع في العودة الى حبيبته غزة. ورست سفينته في ميناء السلطة الوطنية وانخرط فورا في سلك الشرطة وظل يدافع ببسالة عن حقوق ناس الضعفاء ولم يبحث عن ملذات الحياة.
وبعد تلاعب القيادة الاسرائيلية بالاتفاقات، قال “عدنا للوطن ونحن مقتنعين بصنع السلام الشامل فوجدنا مجتمعا اسرائيليا غير ناضج لسلام عادل، وقيادة عنجهية لا ترى ما هو ابعد من انفها، تحاول شطب تاريخ الشهداء وتحويل السلام الى استسلام.
الاخوة المناضلون الاخوات المناضلات
بعد عودتنا للوطن لم اكن اتوقع ان أرثي صديقا عاش 55 عاما من اجل فلسطين وقهر الموت مرات ومرات. واليوم يفتقده ناس الانتفاضة في كفاحهم من أجل تخليص انتفاضتهم من النواقص والثغرات. وسنحتاجه أكثر في مواجهة شارون عندما يصبح رئيس وزراء.
وسيبقى الوطنيون الفلسطينيون يتذكرون مواقف الشهيد المبدئية الجريئة، يستلهمون منها العزيمة في بناء ما تم تحريره وتحرير ما لم يتحرر وصيانة تاريخ ثورتنا وحماية كرامة الشهداء. ومواجهة المنافقين والمتسلقين ومنعهم سرقة بعضه وتزوير بعضه الآخر.
واذا كانت الحياة تخلد الافكار القيمة فتراث الاخ والرفيق المناضل عبد المعطي السبعاوي ثمين يستحق التدوين. وستبقى ذكراه العطرة حية بيننا ولن تموت.

المجد والخلود لشهيدنا البطل وكل شهداء فلسطين
والنصر لشعب الانتفاضة المستمرة حتى التحرير والاستقلال.

كلمة وفاء للشهيد المناضل عبد المعطي السبعاوي
21/12/2000 ممدوح نوفل
فاجأنا رجل المهمات الصعبة ورحل في ظروف صعبة. احيانا، كان ابو ياسر يفاجأنا ويختفي عن الانظار في أوقات حرجة، لكنه كان يظهر بسرعة حاملا اخبار مفرحة ومعلومات تسر الصديق وتغيظ الاعداء. لكن مفاجئته لنا هذه المرة ليست ككل المفاجئات السابقة. رحل الانسان عبد المعطي السبعاوي رحلته الابدية دون علم الاحباب ودون وداع اعز الاصحاب، وفقدت فلسطين ابنها البار وهي بأمس الحاجة لامثاله. اجزم بان اللواء الركن عبد المعطي سخر من الموت في السودانية شمال قطاع غزة، يوم 18 كانون الاول من العام2000، وحاول التمرد على القدر وطمأن من كان حوله. فهو لم يكن ممن يسلمون بسهولة بالوقائع التي لا يرغبها، وكان من الذين لم يستسلموا يوما للخصوم والاعداء. واظنه كرر مقولته الشهيرة التي كان يقولها بعد كل واقعة مرة؛ (لا تقلقوا عرفت الموت جيدا ورافقني 33عاما من حياتي، صحيح ان الموت ترك بصمات كثيرة على جسدي لكنني هزمته ولم ينال مني).
كانت ثقته بنفسه بلا حدود واعتزازه بفلسطينيته مطلقة تصل حد التعصب في كثير من الاحيان. وهو من اوائل من ساهموا، بعيدا عن الاضواء، في صناعة تاريخ ثورة شعبه من اجل الحرية والاستقلال. أحب ارض بلاده وكره البقاء خارجها لكن الاقدار فرضت عليه ثلث قرن من التنقل بين الاردن وسوريا ولبنان وتونس، وتحمّل قهر الحنين للوطن بصبر الواثق من العودة. وظل راسخ الايمان بان “الارض لا تفلحها الا عجولها”، وكان مقداما لدرجة التهور في حرثها وزرعها.
شاءت الاقدار ان يعيش الفتى عبد المعطي حسين احمد السبعاوي نكبة شعبه في العام 1948، ورآى في مخيمات غزة اذلال وتشريد اللاجئين اهل السبع والمجدل وعسقلان ويافا واللد والرملة.. وفي العام 1967 فاجأه الاحتلال مثله مثل كل ابناء فلسطين، فاستقبل الحدث بهدوء ظاهري وغليان ابن العشرين. حسم امره دون تردد وقرر احتراف النضال وكرس حياته لتحرير ما اغتصب من فلسطين واستعادة حقوق اللاجئين وكرامتهم، ورسم لذاته طريقا اختار اعنفها واخطرها، وثابر على العمل وطارد قوات الاحتلال وعملائها دون كلل وحيث استطاع ولم يقصروا هم في مطاردته.
في بداية التحاقه بقوات العاصفة كان ابنا نجيبا امتاز بقلة الكلام وحسن الاستماع لاخوانه ولكل الناس. كان يقول للناس كلمات قليلة وبسيطة؛ “فلسطين ضاعت بالسلاح ولا تعود الا بالتضحية والكفاح”. احب المعرفة واحترم قادة الثورة الاوائل وتتلمذ على أيديهم، وسمى ابنه البكر ياسر وعامله ابو عمار كأب حنون وارسله الى الصين عام 1968 طلبا للعلم، وتعلم الفتى من العلوم ما يخدم تحرير فلسطين.
في اغوار الاردن واحراش جرش وعجلون عرفت عبد المعطي (المحمولة) عن قرب كرفيق سلاح. كان وفيا مخلصا يحب العمل المنظم ويكره الفوضى، ويمقت شخصنة النضال ولا يهتم بصغائر الامور. تميز بميدانيته وبقدرته الخارقة على تجنيد الناس في صفوف الثورة وتعبأة المقاتلين بحب الوطن والتضحية لاجله، وكان دائما في صف الضعفاء والمظلومين. عرفته رائدا في مجال الوحدة الوطنية بامتياز، يكره “الفزلكة” وتنميق الكلام ويكره التعصب الحزبي والفصائلي. ورغم ملاحظاته الكثيرة حول المواقف السياسية المتطرفة والمسلكيات الخاطئة ميز مبكرا بين الاخطاء التكتيكية الضارة والاخطاء الاستراتيجية المدمرة، وظل الوفاء لفلسطين مقياسه الوحيد والاول والاخير .
تعرف المقاتل ابو ياسر جيدا على الموت وهو فتى لا يزال في عز صباه، وقابله شخصيا عشرات المرات بدء من اواخر الستينات في وادي عربة جنوب الاردن، وفي الاغوار الاردنية الغربية الجنوبية والشمالية، وعند كل مخاضات نهر الاردن وفي كل زوايا عمان واحراش جرش وعجلون، وشاهده بام عينية يخطف ارواح الثوار، وحام حوله مئات المرات وخاض معه صراعا باسلا وانتصر عليه..
بعد خروج قوات الثورة الفلسطينية من الاردن عام 1971 لم ييأس الكادر المتقدم عبد المعطي، وركز جهده لاستخلاص دروس التجربة والاستفادة منها في العلاقة مع الجماهير العربية وقواها الوطنية، وفي النضال ضد الاحتلال. وعمل مع معلمه ابو جهاد في ادارة العمل داخل الارض المحتلة (القطاع الغربي)، وصار من “اتباع توما” لا يصدق الا ما يشاهده بعينية ويلمسه بيده. وظل يؤمن بان الثورة ستبقى حية ولا خوف على منظمة التحرير طالما هناك شعب اسمه شعب فلسطين. المهم تأكيد بقاء جسمها العسكري حيا فاعلا وادامة الاحتكاك مع جيش الاحتلال. وشرع مع رفاقه في اعادة بناء القوة المحمولة في الجولان، واتخذ من الحدود السورية اللبنانية مركزا لها. ومن هناك طارد عبد المعطي وربعه الموت في القنيطرة ووادي الرقاد على جبهة الجولان السوري والحمة الفلسطينية وقهروه.
وفي منتصف السبعينات صعدوا قمم جبال صنين لملاقاته، وقابلوة في العرقوب وبقاع شمال وشرق وجنوب لبنان والمتن والشوف، وتغلبوا عليه في أكثر من واقعة حامية. وفي حرب تشرين الاول/ اكتوبر عام 1973 كان في القاهرة، والتحق برفاقه في جيش التحرير الفلسطيني وقاتل معهم على الجبهة المصرية.
وبعد انحسار غبار تلك الحرب عاد الى سوريا وعبر جبل الشيخ مشيا على الاقدام حاملا على كتفيه عدة الشغل الثوري. وهناك تعمق ايمانه بدور الجماهير العربية في دعم واسناد النضال الفلسطيني وبث فكره في كل اتجاه. وكان من ابرز الحريصين على بناء علاقة مبدئية كفاحية مع الحركة الوطنية اللبنانية وناضل بقوة من اجل احترام قرارها. وقال؛ وجود مقاومة لبنانية فعالة بجانب المقاومة الفلسطينية يخلق مناخ لانبعاث مقاومة شعبية عربية شاملة. ونسج علاقات خاصة قيادات الحركة الوطنية وبخاصة مع محسن ابراهيم ووليد جنبلاط ومصطفى سعد، ومع قادة الجماعات الاسلامية في لبنان المؤمنة بالنضال ضد احتلال اسرائيل جنوب لبنان، ولم يبخل في دعم رواد تأسيس حزب الله، وبنى علاقة وثيقة مع مرشده الروحي الشيخ فضل الله وأمينه العام الاول الشيخ عباس الموسوي.
جدّ في النضال واجتهد في تحصيل العلوم العسكرية، وفي العام 1977 تلقى دورة قادة كتائب في الاكاديمية العسكرية السوفيتية، اتبعها في العام1979، بدورة قادة كتائب دبابات في المعاهد العسكرية المجرية. وجمع بمقدرة عالية بين دور القائد العسكري الميداني والقائد السياسي المحنك، وظهرت خبراته القتالية والفنية العسكرية بأروع صورها، ونفذت وحدته عمليات قتالية نوعية خاصة في عمق اسرائيل، وصعد بجدارة سلم الرتب العسكرية في الثورة وتولى مناصب قيادية رفيعة في قوات الثورة. وفي تموز1981 أدار المقدم عبد المعطي مع رفاقه في جيش التحرير وفصائل الثورة معركة المدفعية الشهيرة.
ومع بداية عام 1982 أدرك عبد المعطي ان المواجهة الشاملة مع الجيش الاسرائيلي قادمة لا محالة. ورغم معرفته باختلال ميزان القوى جهز دباباته لخوضها، واستبسل في الدفاع عن شعبه عندما وقعت الواقعة وغزت اسرائيل لبنان في العام 1982. وبعد الغزو لم يعد العقيد عبد المعطي يكترث بالموت وسخر منه وتعامل معه بلا مبالاة، وقال له اكثر من مرة؛ “ارحل عني وابحث عن سواي فلن تنال مني”. شاهد ابو ياسر الموت فاجرا يخطف ارواح الاطفال والنساء والشيوخ في حروب الاعداء والاشقاء على مخيمات صور والرشيدية والبرج الشمالي وصيدا وعين الحلوة والمية ومية والناعمة والسعيديات والدامور. ورغم صلابته المعروفة بكى بكاء مرا على شهداء صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة والداعوق. وذات الشيء فعل امام فجيعة استشهاد قائده ومعلمه ابو جهاد يوم 16نيسان 1988، واستشهاد قادته الثلاث ابو اياد وابو الهول وابو محمد العمري. وأقسم لو ان الموت رجل لخنقه بيديه. وقال “عار علينا الصمت امام استباحة دم قادتنا واطفالنا ونسائنا وشيوخنا العزل، ويجب ان لا نغفر او ننسى فالذاكرة الحية تصون الحوق وتعبئ الاجيال”. واذا كان التاريخ سجل في ملفاته بطولات مقاومة الفلسطينيين والوطنيين اللبنانيين لغزو اسرائيل للبنان في العام 1982 فالعقيد الركن ابو ياسر احد روادها.
لم يتهاون ابو ياسر يوما في الدفاع ببسالة عن القرار الوطني المستقل، وعندما وقع الانشقاق في فتح في العام 1984ـ 1985، شبه المنشقين بالمرتدين عن الاسلام ولم يتردد في مقاتلتهم في طرابلس وفي مخيمات بيروت وصيدا وصور. وطاب له الموت دفاعا عن اهله في مخيمات لبنان عندما شن المنشقون وحركة امل حروبهم القذرة ضدهم. واعتمد مبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع، وقاد ميدانيا، مع رفاقه في السلاح، التمدد الفلسطيني الى مغدوشة والقرية وجنسنايا شرق مدينة صيدا ومخيماتها، ونجحوا في تأمين العمق الامن الضروري للحفاظ على أمن وسلامة اهل عين الحلوة والمية ومية وصيدا. وفرض على المعتدين ومن ساندهم فك الحصار عن المخيمات. واذا كان الخبراء والبحاثة العسكريين والاجتماعيين اعتبروا صمود المخيمات في الحصار حدثا تاريخيا، فابحاثهم تبقى ناقصة اذا لم تؤكد دوره وآخرين منهم على ابو طوق ولطفي عيسى ويوسف، في صنعه.
ومع انطلاقة الانتفاضة السابقة في الضفة والقطاع اواخر العام 1987انتفض الثائر عبد المعطي وثار ثورة جديدة وعادت له حيوية الشباب، ورآى في الانتفاضة اشراقة نور التحرير والعودة الاستقلال. ورآى نفسه، في المنام، يتنقل بين شواطئ غزة ورفح وجبال الضفة الغربية ووديان اريحا. حاول التسلل من جنوب لبنان ليكون مع المنتفضين في القرى والمخيمات لكنه اصطدم بعوائق كبيرة كثيرة. واقتنع ان اهل الانتفاضة ادرى بشجونها ودروبها وانطلق من عين الحلوة في حركة دائمة لدعمها دون كلل او ملل.
بعد وقوع حرب الخليج وتحويل الجيوش العربية للخلف، ايد عملية السلام واعتبر الذهاب الى مؤتمر مدريد للسلام نافذه تطل على الاستقلال. ورآى فيها وفي اتفاق اوسلو وبقية الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية خطوات اولية على طريق العودة وتحرير الارض والانسان الفلسطيني ومنع تفاقم الاستيطان، واعتبرها نافذ للعودة وبناء الاستقلال. ولم ينتظر ظهور الخيط الابيض من الاسود واسرع بالعودة الى غزة. ورست سفينته في ميناء السلطة الوطنية وجمع بجدارة بين عمله مدير عمليات قوات الشرطة الفلسطينية والمناضل الأمين المدافع عن حقوق ناس. وانخرط فورا في ورشة استكمال مهمة طرد الاحتلال وبناء مقومات الدولة المستقلة. وبعد بدء القيادة الاسرائيلية التلاعب بالاتفاقات، قال “عدنا للوطن ونحن مقتنعين بصنع السلام الشامل فوجدنا مجتمعا اسرائيليا غير ناضج لسلام عادل، وقيادة عنجهية لا ترى ما هو ابعد من انفها، تحاول شطب تاريخ الشهداء وتحويل السلام الى استسلام مذل”. وراح يعمل بجد في بناء مرتكزات الدولة باعتبارها نقيض الاحتلال.
بعد عودتنا للوطن لم اكن اتوقع ان أرثي صديقا عاش 55 عاما من اجل فلسطين وقهر الموت مرات ومرات. واجزم ان المناضل الواقعي عبد المعطي حسين احمد السبعاوي، رفيق الدرب الطويل، قد اعترف في لحظات حياته الاخيرة بان الموت حق لا يقهر. واذا كانت الحياة تخلد فقط الافكار والذكرى العطرة، فذكرى ابو ياسر ستبقى حية ولن تموت. وسنبقى نفتقده فنحن لا نزال في امس الحاجة اليه ولمواقفه المبدئية الجريئة لبناء ما تم تحريره من الارض على اسس صحيحة، وتحرير ما لم يتحرر بعد. وسيحتاجه رفاقه في معركة صنع مستقبل اطفالنا وحماية كرامة الشهداء وصيانة تاريخهم وتاريخ الثورة. ومواجهة المنافقين والمتسلقين الذين صعدوا في غفلة من الزمن ويحاولون سرقة بعض هذا التاريخ وتزوير بعضه الآخر.
أجزم ان هذه الكلمات لا تفي الشهيد الصديق حقه، وأتمنى ان يبادر رفاقه واصحابه الى تخليد ذكراه وجمع وتوثيق تاريخه المجيد. فسيرة رموز الثورة تختصر مسيرة الالم والامل، وترفع عاليا صور الحلم الفلسطيني الطويل في النصف الثاني من القرن العشرين، وفيها بذور الأمل المشرق في القرن الجديد. وفقدان تراث عبد المعطي خسارة كبيرة يصعب تعويضها.