آفاق المفاوضات السورية الاسرائيلية ونتائجها المحتملة

بقلم ممدوح نوفل في 11/12/1999

فاجأ الطرفان السوري والاسرائيلي القوى السياسية العربية والفلسطينية والمراقبين السياسيين بالاعلان عن استئناف مفاوضاتهما. وجرت مفاوضاتهما على مستوى عال بين رئيس الوزراء الاسرائيلي “باراك” ووزير الخارجية السوري “فاروق الشرع”. وعقد الطرفان برعاية امريكية جولة اولى من مفاوضاتهما يوم 15 كانون الاول الجاري في واشنطن، وسيعودان للقاء ثانية مطلع العام القادم، وقد تنتقل لاحقا الى احدى دول المنطقة. واعلان الرئيس كلينتون عن الاتفاق بعد ابلاغ عدد من الزعماء العرب وضمنهم رئيس منظمة التحرير، لا يقلل من المفاجئة واثرها على العلاقات العربية. ولا يلغي الاستنتاج القائل ان القيادة السورية قررت ادارة معركتها التفاوضية بمعزل عن التنسيق مع مصر ومنظمة التحرير، وبتنسيق محدود مع الاردن في القضايا المشتركة وبما يخدم تطوير العلاقة بين البلدين.
واذا كان لا الرئيس كلينتون ولا اي من الطرفين كشف اسس وقواعد استئناف المفاوضات، فالواضح انها استأنفت من حيث توقفت، وتم البناء على “ما اتفق علية” في لقاءاتهما السرية التي سبقت الاعلان. واتفاقهما على ابقاء اسسها سرية يشير الى انهما توصلا الى تفاهم واسع بشأن قضايا الخلاف الجوهرية التي اعاقت استئنافها اكثر من ثلاث سنوات. وعلاجا مسألة “الوديعة” التي تؤكد استعداد اسرائيل للانسحاب من الجولان حتى حدود 4 حزيران 1967 مقابل ترتيبات امنية تضمن امن اسرائيل واقامة علاقات سلام كامل بين الطرفين. ودخلا مرحلة متقدمة من الثقة المتبادلة عكست نفسها بتسهيل بعضهما لبعض اخراج الموضوع داخليا واقليميا. وتبادلا تأكيد الرغبة القوية بتحقيق انجازات ملموسة خلال فترة قصيرة، وجسدوها بافتتاح مفاوضاتهما بقوة وعلى مستوى عال. وحديث بعض اركان الحكومة الاسرائيلية عن استئنافها دون شروط مسبقة يقع ضمن اطار التسهيل المتبادل، وربما ينم وفقا لتفكير باراك وطريقة تعامله مع وزراءه، عن جهل اصحابها “بما تم الاتفاق عليه”.
واي تكن المسافة التي قطعها الطرفان على طرق الاتفاق عبر مفاوضاتهما السرية المباشرة وغير المباشرة، فمصالحهما الراهنة والاستراتيجية بعيدة المدى تدفعهما للتوصل الى اتفاق قبل تموز القادم، وبالحد الاقصى قبل نهاية ولاية الرئيس كلينتون اواخر عام 2000. فالرئيس كلينتون حريص على مغادرة البيت بانجاز خارجي كبير يسجله التاريخ، ويغطي على كل افعاله التي شوهت سمعته. وحزبه بحاجة لهذا الاتفاق لكسب مزيد من الاصوات في انتخابات الرئاسة وانتخابات الكونغرس، وبخاصة اصوات اليهود الامريكان، للبقاء في السلطة اربع سنوات جديدة. ويعتقد اركان البيت الابيض ان الظروف سانحة للتوصل الى اتفاق على هذا المسار، غير متوفرة على المسار الفلسطيني، قبل رحيل ادارة كلينتون وقبل اجراء الانتخابات. وان الاتفاق اذا تم سيكون بمثابة اختراق نوعي يحققه الرئيس كلينتون على طريق صنع السلام في المنطقة شبيه بالاختراق الاستراتيجي الذي حققه الرئيس الامريكي كارتر في كامب ديفيد في عهد بيغن والسادات.
الى ذلك اظن ان تحقيق المصالح الوطنية العليا السورية في اطار النظام الدولي السائد، يدفع بالقيادة السورية الى تسريع المفاوضات، ودفع ثمن التوصل الى تسوية نهائية للنزاع السوري الاسرائيلي، تسترد فيها الجولان كاملا، وتحفظ لها مصالحها الهامة في لبنان، وتعزز دورها الاقليمي. ويبدو ان الوصول لمثل هذه التسوية بسرعة بات امرا ضروريا ايضا لاعادة ترتيب وتنظيم الاوضاع الداخلية والاقتصادية السورية، وترتيب علاقاتها الخارجية، حيث اصبح لا معنى للانتظار فترة اطول، ومزيد من التأخير يعني تكريس مزيد من الحقائق على ارض المنطقة بمعزل عن دور سوري فاعل فيها.
اما بشأن المصالح الاسرائيلية، فباراك خاض معركته الانتخابية تحت شعار “اسرائيل واحدة” ودولة للجميع، وشعاره لم يكن مجرد دعاية مؤقته وجسده في تشكيل حكومته. والتزم أمام ناخبيه ومنافسيه بموقفين أسياسيين عمليين ؛ الاول اجراء استفتاء شعبي حول اي اتفاق يتم التوصل له بشأن قضايا الحل النهائي مع الفلسطينيين، ولم يحدد سقفا زمنيا لذلك. والثاني، سحب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان خلال فترة اقصاها عام “تموز 2000″، والوصول الى ترتيبات أمنية تضمن عدم تعرض المدن والقرى الاسرائيلية في الشمال لهجمات عسكرية تشنها المقاومة اللبنانية، وفك ارتباط اسرائيل بقوات انطوان لحد وبما يعفيها من المسئولية عن مصيرها. وتجربة باراك واركانه العسكريين والمدنيين خلال 6 شهور من الحكم اكدت لهم ان طريق تحقيق الالتزام الاول “تسوية نهائية مع الفلسطينيين” طويلة ومعقدة، واقصى ما يمكن تحقيقه خلال عام لا يتعدى اتفاق اطار فضفاض للمفاوضات حول قضايا الحل النهائي. لا يمنح باراك اي امتياز خاص. وبينت لهم ان الوفاء بالالتزام الثاني يستوجب ليس فقط استئناف المفاوضات مع السوريين، بل وايضا التوصل الى اتفاق معهم حول الجولان، قبل الاتفاق مع اللبنانيين على الانسحاب من جنوب لبنان وتسوية الوضع هناك.
واقتنعوا بان المسارين السوري واللبناني توأمان مترابطان في المصالح ومتلازمان في الحركة على طريق الحرب والسلام، وان لا مصلحة لبنانية في فك ترابطهما، وان الانسحاب من جانب واحد لا يؤمن الاهداف السياسية والعسكرية التي التزم باراك بتحقيقها. ومصالح سوريا العليا تدفع قيادتها نحو العمل لتأخير اي اتفاق لبناني اسرائيلي لحين الاتفاق، كحد ادنى، على الخطوط العريضة “لاعلان مبادئ” لحل مشكلة الجولان. وعلاقاتها باللبنانيين حكومة وبرلمان وقوى سياسية تؤمن لها هذا الهدف التكتيكي. وعدم الاعلان، بذات الوقت، عن استئناف المفاوضات على المسار اللبناني، لا يؤشر على فك ترابط المسارين السوري واللبناني بل كرسه ويشير الى ان باراك سلم بذلك، واقر بان نتائج المفاوضات السورية الاسرائيلية هي التي سوف تحدد آفاق المفاوضات اللبنانية الاسرائيلية ونتائجها.
الى ذلك أكد كلينتون وباراك في اتصالاتهما بالرئيس ياسر عرفات على ان استئناف المفاوضات مع سوريا لن يكون على حساب حركتها على المسار الفلسطيني. اعتقد انهما جادين بحدود، اذا تم حصر الحديث في حدود تنفيذ معظم قضايا المرحلة الانتقالية وليس كلها، وبخاصة ما تم توقيعه في اتفاق شرم الشيخ. لكن حديثهما عن الاستمرار في منح الاولوية للمسار الفلسطيني ولمفاوضات الحل النهائي، يفتقر للدقة والصدق حتى لو كرر عدة مرات. فالرئيس كلينتون لا يستطيع الضغط على اسرائيل في نهاية عهده، ويهمه استرضاء باراك لتمرير الاتفاق مع سوريا. ويمكن القول بثقة ان باراك غير مستعد لتقديم تنازلات جوهرية على الجبهات الثلاث الفلسطينية والسورية واللبنانية دفعة واحدة بوقت واحد. باعتبار ذلك، من وجهة نظره، خطرا على أمن وسلامة اسرائيل، ويعتبرها بعض اركان حكومته تنازلات خطيرة. ومهما كانت درجة اجحافها بالحقوق العربية ستتضمن تنازلات واجراءات اسرائيلية وصفها باراك بالمؤلمة. ويعرف أكثر من سواه، انها لاتزال تفوق قدرة المجتمع الاسرائيلي المنقسم على نفسه على التحمل. وتتعارض مع ” شعاراسرائيل واحدة”، وتحرك بقوة التناقضات الايدلوجية والصراعات الحزبية الكثيرة التي طفت على سطح المجتمع الاسرائيلي خلال وبعد الانتخابات.
واذا كانت اتجاهات الرأي العام الاسرائيلي وتركيبة حكومته تؤشرالى وجهة حركته الرئيسية، فشبه الاجماع الاسرائيلي على ضرورة الانسحاب من جنوب لبنان يشجعه على الاندفاع نحو التوصل الى اتفاق حول الجولان، وآخر حول جنوب لبنان. ويعرف براك ان الانطلاق من النقطة التي توقفت عندها المفاوضات السورية الاسرائيلية، التي يعرفها جيدا بحكم مشاركته الشخصية فيها، والبناء على “ما تم مؤخرا”، يمكّنه من تحقيق هذا الهدف خلال اقل من 6 اشهر. الى ذلك يدرك اركان حزب العمل ان بامكانهم، بمتاعب قليلة، ضمان موافقة قوى الائتلاف الحكومي على اي اتفاق حول الانسحاب من الجولان وجنوب لبنان، وضمان تمريره في استفتاء شعبي. وان اغلبية الاسرائيليين باتت مقتنعة ان السلام مع سوريا بات ممكنا، وان الحركة على اوتستراد التطبيع مع العرب عبر طريق حيفا ـ دمشق اقصر واسرع من الطريق التي يصنعها مسار التفاوض مع الفلسطينيين. ويعرفون تماما ان اي اتفاق حول قضايا الحل النهائي مع الفلسطينيين سوف يكون اشد ايلاما، واكثر اثارة للاوضاع الداخلية من الاتفاق مع السوريين، وتمريره في استفتاء شعبي غير مضمون. فهو يستنفر قوى اجتماعية اوسع من القوى التي يستنفرها الاتفاق حول الانسحاب من الجولان، ويخلق متاعب متنوعة كبيرة داخل الائتلاف الحكومي قد تفجر اوضاع الحكومة.
وبصرف النظر عن راي القوى الفلسطينية والعربية الرسمية والشعبية المعارضة لعملية السلام، او التي قد تتحفظ على الاتفاق السوري اللبناني ـ الاسرائيلي القادم، فاستئناف المفاوضات السورية الاسرائيلية، يؤكد بدء مرحلة جديدة من السلام العربي الاسرائيلي، وسوف يكون لاتفاقهما القادم نتائج واثار واسعة على مجمل اوضاع المنطقة. الواضح منها ارساء اسسا نوعية اضافية لبناء مزيد من العلاقات السلمية بين شعوب المنطقة، وصنع سلام شامل بين دولها. ويعزز افكار ومواقع المعتدلين وقوى السلام في اسرائيل على حساب القوى والافكار اليمينية المتطرفة. ويخلق حقائق اضافية تجعل طريق السلام نهجا ثابتا لا رجعة عنه لسنوات طويلة قادمة، ويصلب عود الاتفاق الاردني الاسرائيلي الطري، ويفتح آفاقا جديدة لعلاقة اردنية سورية خاصة. ويحرر اراضي فلسطينية هامة “منطقة الحمة ومثلثات كعوش”، يمكنها استيعاب بعضا من اللاجئين. ويوفر للمفاوض الفلسطيني ثلاث نماذج يمكنه المطالبة بتطبيقها في مفاوضاته مع الاسرائيليين. الاولى تنفيذ القرارين 242 و338 والانسحاب حتى حدود 4 حزيران 1967، والثانية مصير مستوطنات الجولان ويرجح ان يتم اخلاؤها، وان لا يعتمد الطرفان نموذج ياميت وتدميرها، والثالثة حل مشكلة المياة.
لا شك بان من حق القيادة السورية توقيع الاتفاقات التي تمكنها من استرداد الجولان، ومن حق لبنان العمل على استرداد جنوبه الغالي، تماما كما مارست القيادة الفلسطينية حقها في توقيع اوسلو وما تلاه من اتفاقات. الا ان هذا الحق لا يعني للحظة واحدة التخلي عن الحقوق العربية في فلسطين، وترك الجانب الاسرائيلي يستفرد بمنظمة التحرير. ويفرض على القيادتين السورية واللبنانية التشاور مع القيادة الفلسطينية حول موضوع اللاجئين، ومستقبل الحمة الفلسطينية التي ظلت وديعة عند السوريين منذ نكبة عام 1948. واخطر ما يواجهه النظام الرسمي العربي بعد استئناف المفاوضات السورية الاسرائيلية، هو الدخول في تسابق بين المسارات، وفتح الابواب امام موجة جديدة من الصراعات الداخلية تزيده عجزا على حالة العجز التي يعيشها منذ مطلع الثمانينات.
الى ذلك مفيد تذكير الادارة الامريكية وباراك وقادة حزب العمل وكل المعنيين باستقرار اوضاع المنطقة ان وقائع الحياة اكدت ان الاتفاقات الثنائية العربية الاسرائيلية تصنع ترتيبات امنية وتسويات مؤقتة رجراجة. وان السلام الدائم يتحقق فقط بعد حل المشكلة الفلسطينية حلا عادلا. وتجربة نصف قرن من الصراع اكدت ان لا امن ولا استقرار في المنقة بدون حل مشكلة القدس واللاجئين حلا عادلا وقيام الدولة الفلسطينية.