تناقض تناحري بين الامن الاسرائيلي والسيادة الفلسطينية / الحلقة 2

بقلم ممدوح نوفل في 06/11/1999

رغم تخلي العرب، منذ سنين طويلة، عن الخيار العسكري، وتراجعهم عن أفكارهم الداعية الى تدمير دولة اسرايل، وتخلي الفلسطينيين عن تحرير كل فلسطين وعن الكفاح المسلح كخيار لحل الصراع، ودخولهم مفاوضات مباشرة معها، وعقدهم عدد من اتفاقات الصلح، وتبادل العلاقات الدبلوماسية والتجارية..الخ الا انهم ينجحوا في اقناع اسرائيل بالتخلي عن مفاهيمها الامنية القديمة، ولم يستطيعوا نزع ذريعة الامن من يد القيادة الاسرائيلية واستخدامها كمبرر للهروب من دفع استحقاقات صنع السلام مع سوريا ولبنان والفلسطينيين.
وبصرف النظرعن المواقف العربية والاسرائيلية السابقة، وعن نتائج ثمان سنوات من المفاوضات مع الفلسطينيين، فإنتهاء الفترة الانتقالية التي أسسها اتفاق اوسلو في 4 أيار الماضي 1999، وانتهاء مرحلة الحكم الذاتي الانتقالي وبدء مفاوضات الحل النهائي، وضع الفلسطينيين والاسرائيليين وجها لوجه أمام مسائل صراعية كبرى قديمة وجديدة، لها أبعاد تاريخية تتعلق بالسيادة الفلسطينية من جهة وبامن اسرائيل الاستراتيجي من الجهة الاخرى. فالطرفان إقتربا من موضوع الدولة الفلسطينية وقضايا الحل النهائي القدس، اللاجئون، الحدود، الاستيطان، المياه، مستقبل العلاقة الثنائية ومع الجوار. وكلها مسائل حساسة وسريعة الاشتعال، ويعتبرها الطرفان قضايا مصيرية.
واي تكن اهداف باراك من المبالغة في الحديث عن مسالة الامن، فالحوار مع مؤسسات المجتمع المدني الاسرائيلي بينت أنها عقدة تاريخية حقيقية يعيشها الاسرائيليون، اشكناز وسفارديم، مؤيدون ومعارضون للسلام. نشأت مع المجازر والمحارق التي ارتكبها النازيون في الثلاثينات والاربعينات بحق اليهود الاوروبين، أضيف لها كوابيس اربع عقود من الخوف من العرب الذين يسعون لتدمير دولة اسرائيل وذبح اليهود ورميهم في البحر. الى ذلك ظل احتلال اسرائيل للارض الفلسطينية وقهر شعبها وتشريده عام 1948 و1967 ورفضها الاقرار بحقوقهم الوطنية عقدة تاريخية عاشها الفلسطينيون جيلا بعد جيل.
ورغم تفوق اسرائيل عسكريا على العرب مجتمعين وامتلاكها أسلحة نووية، وادراك الاسرائيليين أن الدولة الفلسطينية سوف تكون ضعيفة عسكريا ومرتبطة إقتصاديا لسنوات طويلة بإسرائيل، فالقوى الاسرائيلية، بيسارها ويمينها حاكمة ومعارضة، موحدة حول مفهوم الامن بابعاده الاستراتيجية، وجميعها تعبر سرا وجهارا عن اربع مخاوف أمنية رئيسية: الأول، خطر وقوع هجوم مباغت تشنه الجيوش العربية يوما ما ضد اسرائيل، تكون أراضي الضفة الغربية وقوات السلطة الفلسطينية رأس حربتة. والثاني تحول الدولة الفلسطينية يوما ما الى دولة معادية لاسرائيل تسعى لتحقيق طموحات الفلسطينيين في ارض فلسطين التاريخية وإعادة اللاجئين والنازحين الى بيوتهم. وتستعين بالفلسطينيين في اسرائيل لتحقيق هذه الاهداف. والثالث ان تعقد يوما تحالفات واتفاقات مع قوى اقليمية معادية لها. والرابع، ان يواصل المتطرفون الفلسطينيون، تنفيذ عمليات إرهابية عبر اراضي الدولة الفلسطينية.
وتؤكد مسيرة عملية السلام والاتفاقات التي تم التوصل اليها ان هذه المخاوف تحكمت بالموقف الاسرائيلي في عهد حزب العمل كما الليكود. والمؤكد انها في عهد باراك “جندي الامن الاول” ستتحكم في المفاوضات اللاحقة مع الفلسطينيين والسورين واللبنانيين. وستسعى حكومة باراك في المفاوضات، كتدبير وقائي، الى فرض قيود عسكرية على الكيان الفلسطيني وترتيبات أمنية، يتم صياغتها في إتفاقات مشهود عليها دوليا تنتقص من السيادة الفلسطينية.
وعلى المفاوض الفلسطيني ان يتوقع، في مفاوضات الحل النهائي، اسقاط المفاوض الاسرائيلي كل ما له علاقة بالسيادة والأمن الفلسطينيين. حتى لو اعلن عن قيام دولة فلسطينية مستقلة واعترفت اسرائيل فيها. وستكون لاءات باراك الشهيرة التي التزم بها في الانتخابات مرشد له وسيصر المفاوض الاسرائيلي على: 1) ضمان تجريد الضفة الغربية وقطاع غزة من السلاح الثقيل، وضمان عدم قيام الدولة الفلسطينية بتصنيعه. وعدم التزود بالدبابات وبالمدافع المضادة لها، وبالطائرات والأسلحة المضادة لها. وأن لا تمتلك قوى جوى او بحرية قوية مسلحة باسلحة ثقيلة حديثة. وسيصرعلى بقاء المجال الجوي الفلسطيني تحت السيطرة الأسرائيلية المطلقة. وبقاء المياه الإقليمية الفلسطينية تحت راقبتهاالامنية الدائمة.
2) ضمان سيطرة الاجهزة الامنية الفلسطينية على الأمن داخل حدود “الدولة الفلسطينية”. ومنع تحول أراضيها الى قواعد إنطلاق لعمليات عسكرية صغيرة او كبيرة ضد إسرائيل، وضد الاسرائيليين وضمنهم المستوطنين. ومنع التحريض ضدها او القيام بأعمال عنف ضد وجودها المدني والعسكري في الضفة وقطاع غزة. وضمان التنسيق الأمني الثنائي المشترك وتطويره حسب الحاجة ووفق تطور الوضع ميدانيا. وابقاء الامن الفلسطيني خاضعا للتجربة والاختبار فترة طويلة. والشق الأمني من اتفاق “واي ريفر” نموذج مصغر لما ستسعى اسرائيل فرضه على “الدولة الفلسطينية”. 3) تعهد “الدولة الفلسطينية” بعدم الدخول في أحلاف واتفاقات ومعاهدات امنية وعسكرية مع اي طرف آخر بصرف النظر عن طبيعة علاقته باسرائيل. 4) إجراء تعديلات جوهرية على حدود عام 1967. وحدود دولة اسرائيل الامنية في نظر باراك والليكود هي نهر الاردن. وتمتد الى حيث تتواجد المستوطنات، وخزانات المياه الجوفية التي يرغب ضمها لاسرائيل. وبرامج احزاب اليسار الإسرائيلي تؤكد مشاركتها باراك بصيغة وأخرى موقفه الداعي الى اجراء تعديلا واسعة على حدود الضفة الغربية. واكثر اوساطها اعتدالا يعتقد ان استقطاع نسبة 8 ـ 12% من أراضي الضفة الغربية أمر ضروري للأغراض الأمنية الحيوية، ولابقاء بعض التجمعات الاستيطانية تحت السيادة الإسرائيلية. صحيح أن بعضهم تحدث عن مبادلة الأراضي المنوي ضمها بمساحات مماثلة من اراضي النقب المجاورة لقطاع غزة، إلا أن أصحاب هذه الأطروحات لم يوضحوا أفكارهم وأبقوها في إطار جس النبض وإستطلاع ردود الفعل الفلسطينية. 5) نشر الجيش الاسرائيلي على طول الحدود مع الاردن ومصر. وبقاء المعابر الدولية الى الضفة والقطاع تحت السيطرة الامنية الاسرائيلية بما في ذلك الإشراف على الموانئ والمطارات والممر بين الضفة وغزة لضمان الامن. والتحكم بنوعية الحركة ومنع تدفق اللاجئين والنازحين الى أراضي الدولة الفلسطينية، وحرمان الدولة الفلسطينية من اي تماس مباشر مع الدول العربية المجاورة. 6) الاحتفاظ بعدد من القواعد العسكرية القوية على طول الحدود. واقامة محطات الإنذار المبكر في مرتفعات الضفة الغربية وعلى سواحل قطاع غزة وحدوده مع مصر، وحيث تراها ضروريا لأغراض الأمن الأستراتيجي والأعمال الإستخبارية. وضمان حرية وسلامة حركة الجيش الإسرائيلي الى هذه القواعد، وتعاون الفلسطينيين في حمايتها من الإعتداءات المحلية. 7) ضمان عدم بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية تحصنات عسكرية قوية من نوع زرع الألغام وحفر الخنادق على الحدود وإقامة السواتر والدشم القتالية..الخ.
ورغم اهتزاز شباك مفهوم الامن الاسرائيلي خلال خمسين عاما من الصراع اكثر من مرة، ومجريات الصراع اكدت في أكثر من محطة بارزة، ان التفوق العسكري وإحتلال أراضي الغير بالقوة لم ولا يوفران الامن الاستراتيجي لاسرائيل، الا ان مخاوفها الامنية المقرونة بالمطامع التوسعية، وبالشعور بالتفوق العسكري والاقتصادي، تنسيها كل الدروس المستخلصة من التجربة بما في ذلك تلك التي إستخلصها خبراؤها الامنيون من الانتفاضة، ومن حرب اكتوبر 1973. ويخطئ من يعتقد ان مواقف قوى اليمين واليساري مطروحة للإستهلاك المحلي، أو من باب رفع سقف الموقف الإسرائيلي في المفاوضات الجارية.
الى ذلك لا خلاف فلسطيني على ان المطالب والشروط الامنية الاسرائيلية تبقى مساحات واسعة من الاراضي الفلسطينية تحت الاحتلال، وتفقد اي كيان فلسطيني معظم مقومات السيادة والاستقلال حتى لو سمي دولة مستقلة واعترف العالم بها. واذا كان بقايا الفكر الصهيوني العنصري التوسعي يعطل الوصول خلال عام الى حل يوفق بين الامن الاسرائيلي والسيادة الفلسطينية، ولا افق لحل امريكي او دولي يفرض على اسرائيل، فلا خيار امام الفلسطينيين في هذه المرحلة سوى الصمود في المفاوضات ورفض المفاهيم الامنية الاسرائيلية التوسعية التي تقوض السيادة الفلسطينية وتبقي النار متاججة تحت الرماد. والاصرار على زوال الاحتلال ومرتكزاته باعتبارها اعتداء صارخ وبالجرم المشهود على امن الشعب الفلسطيني وكل ما هو فوق ارضه وفي باطناها. والتمسك بقرارات الامم المتحدة الدولية التي تدعو الى إنسحاب إسرائيل من كل اراضي الضفة الغربية والقدس وغزة والعودة الى حدود عام 1967. ورفض المساومة على مقايضة الاعلان عن قيام الدولة الفلسطينية منقوصة السيادة بحقوق اللاجئين او اي حقوق اخرى اكدتها الشرعية الدولية. والعمل على تكريس سيادتهم على ارضهم بكل السبل المتاحة وحيث امكن. ومواصلة العمل لاقناع الجمهور الاسرائيلي باستحالة الجمع على سطح واحد بين مفهوم امن اسرائيل القائم على الهيمنة والتوسع، وسعي الفلسطينيين للعيش بامان وتجريد سلطتهم من مقومات السيادة.
واذا كانت القيادة الاسرائيلية لا تثق بدور بقوى الامن الفلسطينية في حماية الحدود بين الدولتين، وتخشى تولي اجهزة الامن الفلسطينية مهام امن المعابر والحدود معها ومع مصر والاردن، فالاستعانة لفترة زمنية يتفق عليها بقوات دولية او امريكية او متعددة الجنسيات يسهل حل التناقض القائم بين مفهوم الامن الاسرائيلي وطموح الفلسطينيين في التخلص من الاحتلال وبناء دولة ذات سيادة يطورون بها حياتهم وثقافتهم.