القيادة رقصت وغنت فرحا باعلان استقلال على ورق – الحلقة 3

بقلم ممدوح نوفل في 14/11/1999

بعد الاعلان ابتهج الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وخارجها، ورأى في اعلان الاستقلال وقيام الدولة تحقيق لحلمه الطويل، وحلم الآباء والأجداد والشهداء واطفال المستقبل. لكنه لم يخدع الذات، ولم يوهم النفس بهذا الانجاز، ونظر للاعلان عن قيام الدولة على أنه ترسيم فلسطيني داخلي للهدف، ومشروع نضالي يحتاج الى وقت طويل ونضال شاق لاستكمال شروطه. أسسه توفرت منذ قديم الزمان، والانتفاضة وفرت الشروط الذاتية والعربية والدولية الملائمة لطرحه في صيغة بيان. والأمل معلق على الانتفاضة في تحويله من الاعلان نظري الى بنيان صلب يشاهده العالم ويسكنه جميع الفلسطينيين.
جلسة ليلة الاعلان إستمرت حتى الفجر. النوم طار من العيون، المخيمات والمدن والقرى الفلسطينية سهرت مع أعضاء المجلس طيلة تلك الليلة بإنتظار مخاض الولادة. المطاردون سهروا في العراء، والجرحى بقوا يقظين في المستشفيات، والسجناء والمعتقلون قضوا بعض وقتهم الملل الرتيب في متابعة الخحدث. كلهم سهروا قلقين فرحين متأهبين للصدام، فالمخاض عسير، والعدو يتربص بالمولود الجديد ولا بد من اليقظة وإبراز التكاتف والوحدة، وإقامة الأفراح وجعل ليلة اعلان الاستقلال ليلة الليالي الملاح. وهذا تم في كل أماكن تجمع الشعب الفلسطيني، داخل الوطن وخارجه. في الضفة والقطاع زغردت النسوة في البيوت والشوارع وعلى أسطح المنازل، وكبر المشايخ من على مآذن الجوامع، ودق الرهبان والقساوسة أجراس كنائسهم ورددوا ترانيم الأدعية المقدسة. دعو الرب في اعالي السموات أن يصون المولود الجديد ويحفظه. وبكر الشباب والأطفال والشابات والشيوخ نزلوهم الى الشوارع حاملين المشاعل متحدين قوات الاحتلال غير آبهين الموت.
في حينه ذعر الاحتلال وصدم من هدير حناجرهم وبقي مصدوما فترة طويلة. في الجليل والنقب شربوا انخاب الفرح بالاستقلال، في لبنان إحتفلوا بالرصاص وبإطلاق قذائف المدافع على الطريقة اللبنانية. لم يبق مكان فوق الكرة الارضية وخارجها وداخلها إلا واحتفل الفلسطينيون فيه. في القارات الخمس إحتفلوا، وفي المحيطات والبحار إحتفلوا، في الجبال والسهول والوديان احتفلوا وفي العراء والخيم والقصور إحتفلوا أيضا، فكل هذه الاماكن فيها فلسطينيون يحلمون بالعودة والدولة المستقلة.
أنست الفرحة كل أعضاء المجلس الوطني أن قراءة إعلان الاستقلال لم تستكمل. وأن رئيس اللجنة التنفيذية تلى اقل من نصفه فقط لاغير. بعد خمس دقائق من الهتاف المخلوط بالدموع، حاول الشيخ عبد السائح رئيس المجلس الوطني السيطرة على الاجواء لكن ذلك كان عبثا. بعد عشرة دقائق كرر هو ومساعدوه المحاولة، لكن محاولتهم بقيت دون جدوى ولم يفلحوا، وهات من يسمعهم، او ينضبط لهم. بعد ما يقارب الربع ساعة إضطر سيدي الشيخ رئيس المجلس إبن الخامسة والثمانين لأن يصرخ بأعلى صوته. الكل يعرف شيخنا، عبدالحميد السائح رئيس المجلس الوطني. رجل جليل طاعن في السن، لكن صرخته كانت أقوى من صرخات أبناء العشرين. إعلان الاسقلال وقيام الدولة جدد شبابه وأرجعه الى صباه، وأعطاه قوة جبارة. نهض من فوق كرسيه، ونسى نفسه واقفا، صفق وبكى وأنشد مع المنشدين هتف وغنى لفلسطين. ثم صاح بصوت جهوري هو ومن بعده مساعديه قائلين عشرات المرات: ” أيها الأخوة الأعضاء المجلس هنيئا لكم بإعلان ميلاد دولتكم، ولكن نرجوكم باسم فلسطين أن تؤجلوا التعبير عن الفرحة الى ما بعد إنتهاء الجلسة الختامية، ولا تنسوا أن الأخ القائد العام أبوعمار الرئيس المنتظر للدولة لم ينته بعد من قراءة إعلان الاستقلال. نرجوكم المحافظة على الهدوء والسيطرة على المشاعر والعواطف. لدينا عمل كثير،ولا تنسوا أن بيننا ضيوفا أعزاء يحضرون معنا هذه اللحظات التاريخية المباركة، أتعبناهم وعذبناهم ويرغبون بمغادرة المكان ليزفوا البشرى لحكوماتهم وشعوبهم الصديقة. ثم لا تنسوا بأن أجهزة الاعلام المحلية والدولية تنقل كل ما يجري اولا باول مباشرة على الهواء. صراخ الشيخ ومساعدوه لم يجدي نفعا فالأعضاء نسو أنفسهم. الجميع تصرف كالتلاميذ المشاغبين في الصفوف الابتدائية، ووجدوا فرصتهم لعدم الانضباط لاوامر المدير. بعضهم تنبه للميكروفونات الموضوعة أمامهم، فراحوا يستخدمونها في الهتاف لفتح ولحياه ياسرعرفات وانشاد النشيد لفلسطين وفي قراءة الأبيات الشعرية، وبخاصة مطلع قصيدة ابو القاسم الشابي “إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر”. أحدهم حول الميكروفون الى إذاعة محلية. مذيع فلسطيني عمل سابقا في إذاعات صوت فلسطين، صوت الثورة الفلسطينية الذي تنقل من مكان لآخر هربا من قصف الأعداء وقصف الاخوة ومطارادتهم.
تذكر الاخ طاقاته وخبراته كمذيع فقال بصوته الجهوري: هنا صوت فلسطين صوت الدولة الفلسطينية المستقلة. صوت القدس، صوت نابلس صوت يافا والمثلث، صوت عكا وحيفا والجليل، صوت غزة هاشم والقطاع، صوت النقب، صوت الجليل، صوت الخليل، صوت دولة فلسطين الحرة المزدهرة المستقلة، إستمعوا لنا أيها المواطنين في كل مكان، فصوتنا ينطلق على الموجات القصيرة والمتوسطة ليلا ونهارا. وأضاف مازحا، وبثنا يتواصل خلال فترة القيلولة المقدسة عند القيادة الفلسطينية، والتي تستمر في العادة من الثالثة والنصف وحتى السابعة مساء..هنا صوت فلسطين صوت الثورة المنتصرة، على نفسها واعدائها واشقائها واصدقائها. وأضاف، إذاعتنا تبث بكل لغات الكرة الارضية. وأود لفت إنتباه الاخوة الشهداء، كل شهداء فلسطين، من فلسطينيين وعرب وأوروبيين وعجم وسنغال وبنغال وسيرلنكيين وفليبينيين..بأن إذاعتنا ستبث فقراتها الخاصة بهم في الأوقات المعروفة لهم ولرب العالمين فقط. وعلى الذبذبات التي حددها شيوخ الشهداء جمجوم وحجازي وعطا الزير، أبو جلدة وأبو دية والعرميط، وعز الدين القسام، وعبدالقادر الحسيني وحسن سلامة، وعبد الرحيم محمود، وأبو جهاد وأبو علي إياد، وأبو الوليد وأبو صبري، وخالد نزال، والحاج سامي أبو غوش، وغسان كنفاني، وستكون لنا معهم ومعكم مقابلات نفتح فيها كل الحسابات. سيطر المذيع على قاعة المجلس، وبصوته وكلماته المؤثرة أبكى وأسال دموع العديدين من أعضاء المجلس. وقبل أن ينهي بثه ركض نحوه أحد مساعدي رئيس المجلس اوهمس في أذنه كلاما غير مسموع. فجأة أنهى المذيع فقرته الاذاعية بالقول: نهنئكم ونحييكم، ونتمنى عليكم بإسم هيئة رئاسة المجلس أن نفسح للأخ أبوعمار القائد العام للثورة الفلسطينية المجال لاستكمال تلاوة وثيقة إعلان الاستقلال وقيام الدولة المستقلة. وندعوكم بعد ذلك لأمسية تاريخية جميلة تحييها إذاعتنا على شرفكم في الساحة الخارجية أمام قاعة المؤتمرات، اذاعة الشهداء واللاجئين، إذاعة دولة فلسطين، تدعوكم لحفل ساهر كبير.
بعد هذه الوصلة المؤثرة جلس الأعضاء في أماكنهم وتابع أبوعمار تلاوة بيان إعلان الأستقلال، “ان دولة فلسطين هي للفلسطينيين اينما كانوا. فيها يطورون هويتهم الوطنية والثقافية، ويتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق. وتصان فيها معتقداتهم الدينية والسياسية وكرامتهم الانسانية، في ظل نظام ديمقراطي برلماني يقوم على اساس حرية الرأي، وحرية تكوين الاحزاب ورعاية الاغلبية حقوق الاقلية واحترام الاقلية قرارات الاغلبية، وعلى العدل والمساواة وعدم التمييز في الحقوق العامة على اساس العرق او الدين او اللون او بين المرأة والرجل، في ظل دستور يؤمن سيادة القانون والقضاء المستقل، وعلى اساس الوفاء الكامل لتراث فلسطين الروحي والحضاري في التسامح والتعايش السمح بين الاديان عبر القرون”.
وأكمل قراءة بقية الفقرات بهدوء، وختمها بترتيل فقرته الأخيرة “وفي هذا اليوم الخالد، في الخامس عشر من تشرين الثاني 1988 ونحن نقف على عتبة عهد جديد ننحني إجلالا أمام أرواح شهدائنا وشهداء الأمة العربية الذين أضاءوا بدمائهم الطاهرة شعلة هذا الفجر العتيد. وإستشهدوا من أجل أن يحيا هذا الوطن..ونرفع قلوبنا على ايدينا لنملأها بالنور القادم من وهج الانتفاضة المباركة، ومن حملة لواء الحرية شيوخنا واطفالنا.. والمرأة الفلسطينية الشجاعة حارسة بقائنا وحياتنا وحارسة نارنا الدائمة.. إننا ندعو شعبنا العظيم الى الالتفاف حول علمة الفلسطيني، والاعتزاز به والدفاع عنه ليظل أبدا رمزا لحريتنا وكرامتنا في وطن سيبقى دائما وطنا حرا لشعب من الاحرار”. وأنهى أبوعمار خطابة بتلاوة آية من القرآن الكريم “قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير” صدق الله العظيم.
بعد الانتهاء من قراءة إعلان الاستقلال رفع سيدي الشيخ الجلسة قائلا معكم استراحة قصيرة، وفورا عادت الأجواء الاحتفالية التي سادت عند بداية الخطاب. وبدات الهتافات تدوي داخل القاعة، وكانت جموع الاعضاء تزحف على الابواب وهو تنشد نشيد بلادي بلادي. ورويدا رويدا بدأت الأصوات المغنين والمنشدين تتردد في كل ارجاء قصرالمؤتمرات ومحيطه. وخرج جميع الأعضاء من القاعة الرئيسة، وتوجهوا الى الساحة وهم يهنئون بعضهم بعضا، فرحين بميلاد دولتهم. وفي الساحة الرئيسية وأمام عدسات التلفزيون تظاهر أعضاء المجلس كما كانوا يتظاهرون في الخمسينات والستينات من أجل الوحدة العربية، وضد توطين اللاجئين، وضد حلف بغداد، وضد المشاريع الأمريكية والاستعمارية. ساروا وعدسات الكميرات المصورين والمراسلين تبث صور الاحتفال على الهواء مباشرة، في مظاهرة ضخمة رفعوا خلالها أبواياد وجورج حبش وأبو الهول على الأكتاف. هتفوا في المظاهرة فلسطين عربية وبالروح بالدم نفديك يا فلسطين، وردد المتظاهرون خلفهم ذات الهتافات. نظمت حلقات الدبكة على الطريقة الفلسطينية القديمة، الجميع دبك ورقص وكل حسب طاقته ومهارته. البنات شبكن أياديهن بايادي الرجال، ودبكوا معا شمالية وغزواية وغورانية وبدوية. الكل إستعاد شبابه، كبار السن إسترجعوا ذكرياتهم، والشباب أبدعوا في الدبكة وفي الغناء وفي إلقاء الأبيات الشعرية الحماسية. خلعوا مواويل ميجانا وعتابا وعلى العين يا أبو الزلف. غنو للارض غنوا للشجر، غنوا للحجر حتى التأليه والتقديس. إستمرت الحفلة ساعة ساعتان، والكل نشيط وحيوي وكأن الوقت اول السمر.
قاربت عقارب الساعة الرابعة صباحا والكل يعمل من العاشرة صباحا ورغم ذلك كان الجميع يتمتع بحيوية كبيرة وبنشاط عال. ولم تتوقف الحفلة إلا بعد تكرار نداء هيئة رئاسة المجلس بالميكوفونات “نرجو من الأعضاء التوجه الى قاعة الاجتماعات لاستكمال الجلسة ومناقشة توصيات اللجنة السياسية، ونعتذر للاخوة الصحفيين ومراسلي وكالا الانباء، ونشكرهم من الاعماق فالجلسة ستكون مغلقة ومحصورة بالاعضاء العاملين فقط .
بعد ساعات الفرح التأمت الجلسة، وجلس الجميع في مقاعدهم. وتلىاحد اعضاء اللجنة السياسية بقية التوصيات. في حينه اقرت جميعها بسرعة فائقة وبدون جهد كبير الى قرارات، ودونت ملاحظة بضرورة تدقيقها من قبل هيئة رئاسة المجلس. المؤيدون رفعوا أيديهم مع القرارات السياسية، والمعارضون ثبتوا معارضتهم وذات الشيء فعل المتحفظون. فالتوصيات كانت مطبوخة في اللجان سلفا وفقا للعادة الفلسطينية، والمختلف حوله يرفع للقيادة الفلسطينية وهناك تسوى الخلافات وفقا لتقليد التراضي حول المسائل المستعصية. وبفضل “ديمقراطية التراضي” هذه كثيرا ما صدرت القرارات “مفشكلة“ وبصيغة “لعم” تجمع الشيء ونقيضه. بهدف إرضاء هذا الفصيل بكلمة وذاك بجملة، وثالث بنقطة أو فاصلة، تمكنهم من العودة الى كوادرهم وقواعدهم والأدعاء أمامهم بإنتصار مواقفه وخطهم. في حينه أصدر المجلس قراراته وأعلن قيام الدولة الفلسطينية. ولم يعلن أي شيء حول رئيس هذة الدولة، وإكتفي بإحالة هذا الموضوع على المجلس المركزي واللجنة التنفيذية. أما بشأن تشكيل الحكومة الفلسطينية المؤقته فالقرارات أشارت الى أن الحكومة على الطريق..”وخول المجلس الوطني اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي بتشكيلها في الوقت المناسب، ووفقا للظروف الوطنية العامة وحسب ضرورات ومتطلبات النضال الوطني الفلسطيني”.
حقيقة لم يجر التوقف لا في الدورة التاسعة عشرة ولا في التحضيرات التي سبقتها أمام موضوع إنتخاب رئيس لدولة فلسطين. ولم يطرح الموضوع على جدول أعمال المجلس الوطني كنقطة رئيسة، فجميع القوى والأعضاء إعتبروها مسألة إجرائية وغير ملحة يمكن البت بها لاحقا. المهم الآن هو إعلان الاستقلال، والاعلان عن قيام دولة فلسطين، وما عدا ذلك تفاصيل ليس صعبا الاتفاق لاحقا حولها. هكذا كانت المواقف المعلنة وهكذا كان الرأي السائد. أما غير المعلن منها فالشهور القادمة كفيلة بكشفها، خاصة وأن قرارات المجلس منحت اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي صلاحيات إضافية تمكنها من معالجة هذه التفاصيل.. وضمنها مسألة تشكيل الحكومة وإنتخاب رئيس دولة فلسطين.
في حينه كان أبوعمار المرشح الوحيد لهذا المنصب، لكنه هو الذي أصر علنا وبحدة على تاجيل موضوع إنتخاب رئيس دولة فلسطين. بعض القوى وعدد من الاعضاء فضلوا التأجيل، لأن الموضوع يتطلب دراسة قانونية وإتصالات سياسية وإخراج خاص. آخرون حبذوا التأجيل إعتقادا منهم بأن هذا الموضوع سوف يثير شيء من الحساسيات الفلسطينية الداخلية، خاصة وأن البعض طرح فكرة نائب أو نواب للرئيس. على كل حال الموضوع لم يأخذ مداه اللازم في النقاش. وقفز المجلس في قراراته عن الموضوع وتم الاجماع على تأجيله الى إشعار اخر ،وإكتفى بتكليف اللجنة التنفيذية بأن تقوم بمهام الحكومة، وبتكليف رئيس الجنة التنفيذية القيام بمهام رئيس الدولة. وقبل شروق شمس يوم 16 نوفمبر اعلن رئيس المجلس الوطني انتهاء اعمال “دورة الانتفاضة والشهيد ابوجهاد”، وتفرق الاعضاء وذهب كل منهم الى مكان اقامته وهم سعداء فرحين باعلان الاستقلال وقيام الدولة المستقلة.