الفصل والترابط بين مفاوضات المرحلتين على المسار الفلسطيني

بقلم ممدوح نوفل في 24/11/1999

بالرغم عن “أزمة الخرائط” حول الانسحاب الثاني بين السلطة الفلسطينية وحكومة باراك، تواصلت مفاوضات الحل النهائي، وعقد الوفدان الفلسطيني والاسرائيلي برئاسة عبد ربه وعيران، خلال اقل من شهر، ست جولات من المفاوضات. طرح خلالها كل طرف رؤيته لجدول الاعمال، وتلى مفهومه لأسس انهاء النزاع وحل قضايا الحدود والقدس واللاجئين والاستيطان والمياه والامن والعلاقة المستقبلية بين الجانبين ومع الجوار. وتبادلا سيلا واسعا من الاسئلة، واستطلعا الحدود الدنيا والقصوى لموقفيهما. وباشرا لقاءات رسمية وغير رسمية بحثت فيها أسس وقواعد “اتفاقية اطار” تكون مرجعية لمفاوضاتهما اللاحقة ولعمل اللجان المتعددة التي سيجري تشكيلها. الى ذلك تواصلت خلال ذات الفترة، بوتيرة اخف، مفاوضات أخرى برئاسة الوزير صائب عريقات والسفير عيران، على مسرب مستقل حول استحقاقات المرحلة الانتقالية التي لم تنفذ بعد.
وبصرف النظرعن تفاصيل اطروحات الطرفين في المسربين، ومدلولات تعيين باراك رئيس طاقم المفاوضات بدرجة سفير، واستبعاده شمعون بيريز ويوسي بيلين وحاييم رامون وشلومو بن عامي عن المفاوضات ككل، فقد تم التاكيد في المسرب الاول على ان مفاوضات الوضع النهائي ستقود الى تنفيذ قراري مجلس الامن الدوليين 242 و 338. وتمسك الوفدان بتفسيرين مختلفين للقرارين، وبمواقف متناقضة بشأن مفهوم التسوية النهائية وانهاء النزاع التاريخي بين الشعبين. واتفقا على عدم تأجيل بحث اي قضية من قضايا الحل النهائي.. ويأمل الطرفان، رغم تعارض وتناقض مواقفهما، انجاز الصيغة النهائية “لاتفاقية الاطار” خلال شهرين..! حسب الجدول الزمني الذي حدده اتفاق شرم الشيخ بناء على الحاح باراك. ويحاول الجانب الاسرائيلي الايحاء بان هذه المفاوضات تسير بصورة طبيعية وتتقدم تدريجيا للامام، وان آفاق التوصل قبل منصف شهر شباط القادم “لاتفاقية الاطار” واقعية ورحبة، وبالامكان ايجاد صيغة ترضي الطرفين. ولم يبدد الجانب الفلسطيني هذه الاوهام، بل كرسها بالقول “الامكانية قائمة اذا صدقت نوايا الطرف الاخر”. وكأن عنوان رسالته لا يكفي لقراءة مضمونها مسبقا، ومواقفه لا تزال مبهمة، وما يجري في المسرب الثاني لا يكفي لتوضيحها. وموقف باراك العملي والطازج من البؤر الاستيطان حديثه وقديمه لا يدل على شيء، ولاءاته الشهيرة مطروحة للاستهلاك المحلي.
اما على المسرب الآخر ” قضايا الانتقالية ” فلم يتفق الجانبان في اربع جولات على تنفيذ اي قضية من قضاياها الكثيرة والهامة، ماديا ومعنويا للفلسطينيين ولاعادة المصداقية لعملية السلام التي فقدتها في صفوفهم. ولا يزال الجانب الاسرائيلي يصر على التفرد في تحديد مناطق الانسحاب، ويتهرب من اعادة احتساب مساحاتها بالقياس لمساحة الضفة الغربية كاملة، ومن اجراء اي تعديل في خرائط التي قدمها للجانب الفلسطيني. ويرفض علنا وعلى رؤؤس الاشهاد وقف مصادرة الاراضي وتجميد الاستيطان والدخول في مفاوضات جدية حول “تنظيم عودة النازحين، ويرفض الالتزام بوضع اي سقف زمني للاتفاق حولها كما تم في اطار الاطار. ويماطل في بحث تنفيذ المرحلة الثالثة من الانسحاب المقررة في20 كانون الثاني وتعادل6.1% من مساحة الضفة والقطاع “الاصلية”، حسب نصوص اتفاق واي ريفر وجرى تاكيدها في بروتوكول شرم الشيخ. ويرفض ايضا الدخول في مفاوضات جدية حول المرحلة الثالثة “شبه المنسية” من الانسحابات التي نص عليها اتفاق طابا، والتي تفرض انسحاب الجيش الاسرائيلي من كل اراضي الضفة والقطاع باستثناء مدينة القدس والمواقع العسكرية المحددة والمستعمرات بحدودها التي قائمة في ذلك التاريخ. ويتهرب من الالتزام باطلاق سراح بقية المعتقلين، وفتح الممر الامن الشمالي، وفتح شارع الشهداء في الخليل، وتنفيذ اكثر من 30 استحقاق آخر يتحدث عنها يوميا الوزير صائب عريقات.
اعتقد ان تركيبة الوفد الاسرائيلي لمفاوضات الحل النهائي، ومواقفه من القضايا المطروحة في المسربين الانتقالي والنهائي تتقاطع مع مواقف المتطرفين الاسرائيليين. ولا تنسجم “ظاهريا” مع رغبة باراك والحاحه الشديد، كما ظهر في قمة شرم الشيخ، على تحديد فترة عام واحد “للتوصل الى اتفاق شامل حول كافة مسائل مفاوضات الحل النهائي، والتوصل خلال الخمسة أشهر الاولى الى “اتفاقية اطار لمفاهيم هذه المسائل”. وتؤكد عدم جديته في التوصل عبر المفاوضات العلنية الجارية الى اتفاق. ويتعامل مع وفد “عيران” كقوة استطلاع مهمتها استكشاف مواقع ومواقف الطرف الفلسطيني، والتعرف على نقاط ضعفه ومكامن قوته، ومحاولة انضاج بعض افكاره. ومصمم على التحكم شخصيا في ايقاع العملية كلها، ويراهن على ما يتم في قنوات الاتصال الثنائية، وعلى دوره المباشر في القمة الثلاثية الفلسطينية الامريكية الاسرائيلية المقرر عقدها في شهر شباط القادم. ويحرص على استمرار المفاوضات والاتصالات بكل اشكالها ومستوياتها وتحاشي تأزيمها حتى ذاك التاريخ، ويحاول خلق انطباعات دولية واقليمية زائفة حول مجرياتها. وسيظل يماطل في تعديل خرائط الانسحاب وفي تنفيذ الانسحابات الاخرى التي نصت عليها الاتفاقات، بانتظار “قبول الفلسطينيين غدا ما يرفضوه اليوم”، ووصول الوزيرة اولبرايت للمنطقة بعد اقل من اسبوعين، ودعمها موقفه.
ويعتقد باراك منذ كان رئيسا للاركان بان اطالة المدى الزمني للانسحابات من الارض، يسهل على القيادة الاسرائيلية استمرار التحكم في ايقاع المفاوضات، ويوسع من قدرتها على الضغط على القيادة الفلسطينية وابتزازها، ويحد من قدرتها على تحدي الاطروحات الاسرائيلية. واظن انه سيواصل اتباع هذا التكتيك خلال الشهرين القادمين، وسيستخدم ورقة الانسحابات ومعها ورقة الاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة في المساومة حول صيغة “اتفاق الاطار” التي يجري العمل على اعدادها. ويعتقد ان بامكانه في قمة شباط القادم تضمينها نصا يؤكد على انتهاء النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي. وانتزاع موافقة فلسطينية على نص آخر يشير بصيغة واخرى الى اجراء تعديلات في حدود 1967 وتبادل الاراضي، يمكّنه قضم مساحات واسعة من اراضي الضفة الغربية وتجميع المستوطنات فيها وضمها لاسرائيل.
الى ذلك يخطئ المفاوض الفلسطيني اذا اعتقد ان حيث باراك حول عدم انطباق قرار مجلس الامن 242 على الضفة والقطاع ناتج عن جهل بنصوص الاتفاقات الدولية، ونقص في المعلومات، وعدم تدقيق ببنود الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية وآخرها اتفاق شرم الشيخ الذي اكد على تنفيذ هذا القرار. وايضا اذا اعتقد بان المعركة حوله قد حسمت لصالحة، وان باراك سيلتزم بقرارات الشرعية الدولية وبنصوص الاتفاقات التي وقعها هو ومن سبقه من رؤساء حكومات اسرائيل بمفهومها الفلسطيني، والتي نصت على “ان مفاوضات الحل النهائي 242 ستقود الى تنفيذ قراري مجلس الامن الدوليين 242و338 “.
اعتقد ان مجريات المفاوضات في الشهر الاخير، وبخاصة على مسرب قضايا المرحلة الانتقالية، تفرض على القيادة الفلسطينية اعادة النظر في تكتيكها التفاوضي، لجهة ايلاء مفاوضات قضايا المرحلة الانتقالية أولوية على مفاوضات الحل النهائي. وتسليط الاضواء السياسية والاعلامية على مواصلة حكومة باراك تقرير اجراءات احادية الجانب تجحف بمفاوضات الحل النهائي. وتفردها في تقرير مناطق الانسحاب، وتتناقض مع منطلقات عملية السلام واهدافها، ومماطلتها في تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية، وبخاصة وقف مصادرة الاراضي وشق الطرق الطولية والعرضية، وتوسيع المستوطنات، وتغير معالم مدينة القدس وعزلها عن الضفة. وابراز تهرب باراك من الدخول في مفاوضات جدية حول تنظيم عودة النازحين، واطلاق سراح بقية المعتقلين، وفتح الممر الآمن الشمالي بين الضفة والقطاع.
واذا كانت القيادة الفلسطينية قد قبلت، لاعتبارات تتعلق بالعلاقات الفلسطينية الامريكية والاوروبية، الدخول في مفاوضات الحل النهائي قبل انتزاع الاستحقاقات الانتقالية، فمن الخطأ الفاحش قبول ربطها بالتوصل الى “اتفاقية الاطار”، ورهن تنفيذها بالتقدم في تنفيذ هذه الاتفاقية. ولعل مفيد التذكير بان قرار القيادة الفلسطينية بفصل الوفدين تم على خلفية اعطاء اولوية لانتزاع الحقوق الفلسطينية التي نصت عليها اتفاقات المرحلة الانتقالية، وقطع الطريق امام تكتيك باراك الهادف الى دمجها بالمرحلة النهائية، وليس لتسليط الاضواء على مفاوضات الحل النهائي و”اتفاقية اطار” لا ضرورة لها طالما لم يلتزم باراك بما وقع عليه. الى ذلك اعتقد ان دعم المفاوض الفلسطيني في نضاله من اجل انتزاع هذه الحقوق الوطنية الهامة، تفرض ليس فقط خفض وتيرة مفاوضات الحل النهائي، بل وايضا ربط متابعة البحث في بنود “اتفاق الاطار” بمدى التزام الجانب الاسرائيلي بتنفيذها. و”تمترس” وفد مفاوضات الحل النهائي في خندق الدفاع عن الارض الفلسطينية في مواجهة زحف الاستيطان، والتمسك بضرورة ازالة كل البؤر الاستيطانية التي انشأت بعد اتفاق واي ريفر، حتى لو دخلت المفاوضات في أزمة فعلية، وتوترة العلاقات بين الجانبين. فاستقبال الوزير اولبرايت بعد اسبوعين بأزمة حقيقية مع الجانب الاسرائيلي حول تنفيذ جميع قضايا الانتقالية، خير من استقبالها باجواء توحي بان كل شيء على ما يرام، ومفاوضات الحل النهائي تبشر بالخير وتسير بهدوء وانتظام، وآفاق التوصل الى “اتفاقية الاطار” رحبة. خاصة وان المفاوضات على المسربين مرشحة للدخول بعد زيارة اولبرايت في اجازة قسرية فترة شهر رمضان، وستسير طيلة فترة الاعياد والاحتفالات ببدأ الالفية الثالثة دون رعاية امريكية. وكسبا للزمن لابد من انجاح خطوة القوى الشعبية في قطاع غزة بمقاطعة منتوجات المستوطنات، وتعزيز صمود العمال الذين استجابوا لنداء وقف العمل فيها، والقيام باجراءات مماثلة في الضفة الغربية.