اجماع حول اعلان الاستقلال وخلاف حول مبادرة – الحلقة 2

بقلم ممدوح نوفل في 14/11/1999

قبل التصويت على مبادرة السلام إنبرى “أبواياد” صلاح خلف للدفاع عن التوجهات الفلسطينية الجديدة، وعن مشاريع القرارات السياسية، بما فيها الاعتراف بالقرارين 242و 338، وفند ما طالب به امين عام الجبهة الديمقراطية وقال “البعض يحاول التذاكي علينا، المؤتمر الدولي يا اخوان لن ينعقد على اساس جميع قرارات الامم المتحدة التي تضمن قرار التقسيم رقم 181 والقرار الخاص بعودة اللاجئين رقم 194، هذه قضايا توضع على جدول الاعمال وليس كشرط لانعقاد المؤتمر الدولي. من يريد تعطيل انعقاد المؤتمر الدولي بمشاركة م ت ف لحساب الدول العربية ليعلن موقف بصراحة ووضوح ودون مواربة”. ونظرا لما يتمتع به من إحترام فلسطيني وفتحاوي ومن بلاغة في الكلام، وقوة حجة في الدفاع عن قناعاته ومواقفه، فقد كان دفاعه حاسما في توحيد موقف حركة فتح حول التوجهات السياسية الداخلية، وأثر على تصويت الجناح المتشدد في الجبهة الديمقراطية، وفي توجيه تصويت العديد من الشخصيات الوطنية المستقلة. الى ذلك كانت كلمته حاسمة حازمة وواضحة واستنفرت الغرائز الوطنية والفتحاوية حين قال: “هذه لحظات تاريخية، شبيهة بتلك التي مر فيها النضال الوطني الفلسطيني منتصف الستينات. في تلك الفترة المفصلية رفعت حركة القوميين العرب شعار الكفاح المسلح، وشكلت منظمة شباب الثأر وشاركت في تشكيل منظمة أبطال العودة. لكنها ربطت موقفها بالعرب، وقيدته بقرار الرئيس عبد الناصر، فتأخرت عن حمل البندقية وعن ممارسة الكفاح المسلح، فسبقتها اليه حركة فتح، وتقدمت عليها في قيادة الشعب الفلسطيني. والآن أرى أن التاريخ يعيد نفسه، والمشهد يتكرر من جديد. وبالنيابة عن كل عضو في الحركة أقول لكم ولكل ابناء شعبنا بإن حركة فتح قررت أن تقود هذة الانطلاقة الفلسطينية الجديدة. وقررت أن تتحمل المسؤولية التاريخية ولن تهرب منها فهذا قدرها. واقول بكل ثقة واعتزاز، نحن في حركة فتح قادرون على حمل هذا الحمل الوطني الثقيل، وواثقون من النجاح معتمدين على ارادة شعبنا الجبار، وهو اكبر من كل قيادت، مع احترامي الكبير لكل الاخوان. وسيسجل التاريخ الفلسطيني، بأن حركة فتح ومعها الحزب الشيوعي الفلسطيني فقط كانوا رواد الانطلاقة الفلسطينية الجديدة. ولست بحاجة للقسم أمام هذا المجلس بأن حركة فتح ستبقى وفية لمبادئها، ولن توقف النضال حتى يحقق هذا الشعب العظيم كل أهدافه الوطنية التي من أجلها سقط آلآف الشهداء، وبأنها لن تفرط بذرة من تراب فلسطين. فتاريخ حركة فتح خير شاهد على مواقفها ودورها”.
كان ايواياد يتحدث بصوت جوهري عال وكانت جمله وكلماته منتقاه، واثرت في جميع الحاضرين وبخاصة اعضاء فتح في المجلس وعدد آخر من الاعضاء المستقلين. بعد انتهاء مداخلة ابواياد طلب بعض الاعضاء الكلام وكان واضحا ان معظمهم يريدون دعم واسناد موقف ابواياد. لكن ابواياد قال بصوت حازم، سيدي الشيخ رجاء التصويت وعدم فتح الباب لمناقشات جديدة هكذا اتفقنا وهكذا يجب ان يتم. اضاف ابوعمار كلمات حاسمة وجهها للشيخ ” اقفل النقاش يا شيخ واطرح الموضوع على التصويت”. عندها اعلن الشيخ قفل باب النقاش وتم التصويت على القرارات السياسية بصورة علنية، ولم يؤخذ بإقتراح البعض بأن يكون التصويت سريا. وعند التصويت صوت أعضاء الجبههتين الشعبية والعربية وعدد محدود من قيادات وكوادر فتح، ضد الفقرة المتعلقة بالموقف من القرارين 242و338 وبلغ مجموع من صوت ضد هذه الفقرة 46-48عضوا فقط. أما أعضاء الجبهة الديمقراطيية فقد صوت غالبيتهم الساحقة معها، وكان تصويت بعضهم على مضض. وفوجئ عدد من اعضاء المجلس بموقف امينها العام عندما بدّل موقفه ورفع يده مع القرارات.
وبالرغم عن كل الاشكالات التي وقعت في المجلس الوطني بين الفصائل حول القرارات السياسية، وبخاصة حول الفقرة المتعلقة بالقرار 242، و338 كان اعلان الاستقلال وقيام الدولة على الأراضي الفلسطينية التي أحتلت في عام 1967 جاهزا للتلاوة قبل إطلالة فجر الخامس عشر من تشرين أول 1988 “نوفمبر”. فوثيقة الاعلان أنجزها بشكل كامل، الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش وسلمها الى أبوعمار منذ مدة. والتدقيق الأول والثاني والعاشر في النص تم، وعرض بصيغته النهائية قبل وخلال أعمال الدورة التاسعة عشر على جميع القوى الفلسطينية، ولا ملاحظات رئيسية عليه. وترجمتة الى الانجليزية، هي الأخرى، أنجزت خلال أعمال المجلس، على يد الفلسطينيان البروفسور إدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد. وصار هو الآخر جاهزا للتوزيع على الصحافة وعلى وكالات الأنباء. وجميع أعضاء المجلس الوطني، دون إستثناء، كانوا مهيئين لاعلان الاستقلال، ومتشوقين لسماع النص. الكل متلهف بانفعال، والكل مستعجل وينتظر بشوق وأمل وألم اقرار الاعلان. وكأن التأخر بضع ساعات اضافية على الاربعين عاما مشكلة عويصة، وتلحق اضرارا فادحة بالقضية الوطنية والمجتمعين.
من قرأ نص الوثيقة من أعضاء المجلس الوطني ومن لم يقرأها، كان واثقا من أن النص باللغة العربية سوف يكون قطعة أدبية جميلة، محبوكة بدقة سياسية. فالكل يسلم بالقدرة العالية على الابداع وبجمال اللغة عند محمود درويش. والثقة في القدرات السياسية والأدبية واللغوية لأدوارد سعيد وابراهيم أبو لغد عالية جدا. صحيح أن القليل من أعضاء المجلس الوطني، كانوا على تماس مباشر معهما إلا أن سمعتهما الوطنية وشهرتهما الأدبية والسياسية عند الغرب وفي أوساط الاكاديميين والمثقفين العرب كانت كافية لمنحهما الثقة الكاملة.
مع إقتراب عقارب الساعة من إشارتها دخول البشرية الدقائق الأولى من فجر 15/10/1988 إلتأمت الجلسة الختامية للمجلس الوطني بحضور كامل الأعضاء. ورغم تأخر الوقت، لبى أركان السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي في الجزائر دعوة الفلسطينيون لحضور تلك الجلسة. الى ذلك ببطئ وتثاقل ناتج عن الكبر في السن صعد رئيس المجلس الى المنصة الرئيسية، وجلس بجانبه مساعدوه. إفتتح سيدي الجلسة وقال “باسم الله الرحمن الرحيم نستكمل اعمالنا، وأدعو الاخ ابوعمار القائد العام للثورة ان يتفضل ويتلو علينا وثيقة اعلان الاستقلال وقيام الدولة. وانا أصر على ذكر صفته كقائد عام لان اعلان الاستقلال يحتاج الى كفاح طويل ومرير حتى تتم ترجمته على ارض فلسطين الطاهرة. وباسمكم جميعا وباسم الشعب الفلسطيني في كل اماكن تواجده أطلب من المناضل ياسرعرفات التقدم للمنصة الرئيسسية”. ولم ينس رئيس المجلس الوطني تنبيه الأعضاء الى ضرورة الاصغاء الجيد لكل جملة وكلمة في نص الوثيقة، قال: “هذه وثيقة هامة جدا وتاريخية، ولا يجوز أن تخرج للعرب وللعالم وللاجيال اللاحقة وفيها أخطاء سياسية أو لغوية او ناقصة او زائدة حرف، فالزائد في علم اللغة والسياسية اخو الناقص”.
نهض أبو عمار حاملا بيده اليسرى نص الوثيقة. ونهض معه جميع أعضاء المجلس الوطني العاملين والمراقبين، وكل الضيوف وأعضاء السلك الدبلوماسي والمرافقون. صعد الى المنصة بسرعة ونشاط، ووقف في المكان المخصص لالقاء الكلمات، فجلس الاعضاء. أخذ أبوعمار يتلو الاعلان بتأن ووضوح. قرأ المقدمة: “بسم الله الرحمن الرحيم…على أرض الرسالات السماوية الى البشر، على أرض فلسطين ولد الشعب العربي الفلسطيني، نما وتطور، وأبدع وجوده الأنساني والوطني عبرعلاقة عضوية لا إنقسام فيها ولا إنقطاع، بين الشعب والأرض والتاريخ…ومن جيل الى جيل، لم يتوقف الشعب العربي الفلسطيني عن الدفاع الباسل عن وطنه ولقد كانت ثورات شعبنا المتلاحقة تجسيدا بطوليا لارادة الاستقلال الوطني..الخ. خلال تلاوة الفقرة الأولى، كان الصمت الكامل يخيم على القاعة الرئيسة لقصر المؤتمرات، الواقع في احد ضواحي مدينة الجزائر. ورغم ضخامة القاعة، وكثافة الحشد، كان بالامكان سماع صوت سقوط الابرة على الأرض. واصل أبوعمار القراءة، وتلى الفقرة المتعلقة بظلم الفلسطينيين “ومع الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب العربي الفلسطيني بتشريده وبحرمانه من حق تقرير المصير، اثر قرار الجمعية العامة رقم 181 عام 1947 الذي قسم فلسطين الى دولتين، عربية ويهودية، فان هذا القرار ما زال يوفر شروطا للشرعية الدولية تضمن حق الشعب العربي الفلسطيني في السيادة والاستقلال”. ثم تلى الفقرة المتعلقة بالانتفاضة: “إن إنتفاضة الشعب الكبرى المتصاعدة في الارض المحتلة، مع الصمود الأسطوري في المخيمات داخل وخارج الوطن، قد رفعا الادراك الأنساني بالحقيقة الفلسطينية، وبالحقوق الوطنية الفلسطينية، الى مستوى أعلى من الاستيعاب والنضج. وأسدل ستار الختام على مرحلة كاملة من التزييف، ومن خمول الضمير. وحاصرت العقلية الرسمية الاسرائيلية التي أدمنت الاحتكام الى الخرافة والأرهاب في نفيها الوجود الفلسطيني”..الخ. خلال تلاوة هذة الفقرة قوطع بالتصفيق والهتاف بحياة الانتفاضة، ووقف جميع الأعضاء والمراقبين والضيوف تحية للانتفاضة وللمنتفضين. ثم تابع القراءة وإقترب من الجملة التي تتضمن النص المباشرعلى أعلان الاستقلال وقيام دولة فلسطين على الارض الفلسطينية التي احتلت عام 1967. توقف أبوعمار للحظة، وتظاهر بالرهبة والانفعال، ثم تابع القراءة وقال: “..إستنادا الى الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني للشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين، وتضحيات أجياله دفاعا عن حرية وطنهم وإستقلاله. وإنطلاقا من قرارات القمم العربية، ومن قوة الشرعية الدولية التي تجسدها قرارات الأممم المتحدة منذ عام 1947، وممارسة من الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير، والاستقلال السياسي والسيادة فوق أرضه، فإن المجلس الوطني الفلسطيني يعلن بإسم الله، وبإسم الشعب العربي الفلسطيني، قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف”. وكرر قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف مرتين.
بالكاد أنهي أبوعمار هذه الجملة المركزية في الخطاب، حتى نهض جميع الحاضرين، ودوت قاعة قصرالصنوبر بالتصفيق والهتاف وبالصراخ بأعلى الأصوات “الله اكبر، عاشت فلسطين حرة عربية”. رددها الحاضرون بصوت، واحد وبدون تحضير مسبق، ثم إرتفعت الأصوات وتداخلت الهتافات. البعض إستمر يصيح بأعلى صوته الله أكبر عاشت فلسطين عربية، والبعض الآخر راح يهتف “بالروح بالدم نفديك يافلسطين”. وآخرون راحوا يرددون بأعلى أصواتهم ومن أعماق حناجرهم نشيد “بلادي بلادي لك حبي وفؤادي”. جميع الحاضرين نساء ورجالا، أمناء عامين وأعضاء لجنة تنفيذية، ومكاتب سياسية ولجان مركزية للفصائل، هتفوا وصفقوا كالأطفال، وبعضهم إستعاد أيام شبابه، وذكريات المظاهرات من أجل فلسطين. دموع الفرح سالت من عيون الكثيرين. الرجال قبل النساء، الكبار قبل الصغار من اعضاء المجلس بكوا فرحا، ةصرخوا الله أكبر، المجد لفلسطين، الله أكبر والمجد للانتفاضة والنصر للثورة ولمنظمة التحرير.
حالة هستيرية سادت قاعة المجلس، هيئة رئاسة المجلس بقيت في مكانها، ورئيس اللجنة التنفيذية بقي واقفا خلف المنصة بانتظار استكمال قراءة الوثيقة. الا ان ذلك كان مستحيلا. العواطف تغلبت على كل شيء آخر، الاعضاء نسوا انفسهم، الحلم الفلسطيني بالدولة تحول الى حقيقة، والكل يعرف بانها حقيقية نظرية مسجلة على ورق فلسطيني. فلأول مرة في تاريخ الشعب الفلسطيني يطلع الفجر الفلسطيني حاملا نور الحلم بالاستقلال. الضيوف والاشقاء الجزائرين اصحاب البيت فوجئوا برد فعل الفلسطينيين. بعض الحاضرين من الاعضاء والمراقبين لم يصدق أنه صار لشعب فلسطين دولة أسوة بشعوب الأرض. تعانق الأعضاء بحرارة وهنئوا بعضهم البعض. الجميع ردد “واللقاء حتما في القدس إنشاء الله”. وبعضهم قال “اليوم على الورق وغدا على الأرض إنشاء الله”. الكل فرح من الأعماق رغم معرفته الأكيدة أن الثمن المدفوع باهظ وباهظ جدا. وافقوا على أقل بكثير مما رفضه الآباء والاجداد كي لا تضيع البقية الباقية، وكي يثبتوا اسم فلسطين على الخرائط والارض، ويسهلوا على الاجيال اللاحقة سبل الحياة ويأسسوا لهم قاعدة يقرروا منها مستقبلهم ومستقبل علاقتهم بكل جيرانهم. قبلوا عن قناعة ما رفضوه سابقا وتركوا للاجيال اللاحقة الحرية الكاملة في اصدار حكمهم، آملين ان يكون الحكم منصفا وعادلا، وان يتم بعد قراءة التاريخ والجغرافيا التي عاشوها. فمن أجل الاعلان عن الاستقلال وعن قيام الدولة الفلسطينية على 27% فقط من أرض فلسطين التاريخية، تنازل ممثلوا الشعب الفلسطيني عن بقية الأرض الفلسطينية، وأقروا أن إسمها صار إسرائيل. وقدم الشعب الفلسطيني في الربع الاخير من القرن العشرين فقط مئات الألوف من الشهداء والجرحى والمعوقين. وبالحساب النسبي، هذا الرقم يفوق ما قدمه أي شعب آخر من أجل مثل هذا الهدف النبيل والمقدس. ومن اجل تحرير جزء من الارض والعودة اليه وبناء الدولة المستقلة فوقه عانى الشعب الفلسطيني داخل وطنه وخارجه من الظلم والقهر والقتل والتعذيب ما لم يعانيه شعب آخر، وصل في كثير من الأحيان، وفي بعض المواقع، حدود الإبادة الجماعية، كالتي حصلت في دير ياسين، وكفر قاسم، وقبية، وفي مخيمات لبنان. حتى لا تكون هناك دولة فلسطينية، وتقوم على أرضهم دولة “للأغيار” القادمين من شتى أنحاء المعمورة. وكان نصف القرن الأخير بحق فترة عذاب وألم وأمل الفلسطينيين. ولم يعاني شعب آخر من شعوب الارض ما عاناه شعب فلسطين. ودلوني على صنف من صنوف الآلام والمعاناة والعذاب أدلكم على فرد أو عائلة أو حمولة أو عشيرة أو قرية أو مدينة أو مخيم فلسطيني عاشها وعان منها. كل الشعب، نسائه، شيوخه، شبابه اطفاله طالهم شيء من العذاب. ومن لم يقتل بالرصاص داسته جنازير الدبابات، أو مات بالبلطات، أو تحت سياط الجلاد. او تناثرت أشلاءه في الهواء، أو إنطمرت في أعماق الأرض مع شظايا القذائف والصواريخ مختلفة العيارات. الى ذلك دلوني على بطولة خارقة صنعها الانسان منذ قدم التاريخ، فردا أو مجموعات، أدلكم على فلسطينية وفلسطيني أو فلسطينيين قاموا بما هو أعظم منها.