نتائج جولة أولبرايت لن تكون أفضل من لقاءات واشنطن

بقلم ممدوح نوفل في 24/10/1999

إذا سارت الأمور وفق الجدول الزمني الذي إتفق عليه كلينتون نتياهو وعرفات في لقاءاتهم الثنائية والثلاثية التي عقدوها في البيت الابيض أواخر ايلول الماضي، فسيشهد شهر تشرين أول الجاري تحركات أمريكية جديدة مكثفة لانقاذ بقايا عملية السلام، وإخراج المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية من حالة الجمود التي تعيشها منذ أكثر عامين. وسيصل المنطقة وزيرة الخارجية الامريكية اولبرايت ودينس روس منسق عملية السلام. واذا لم يغير نتياهو موقفه فسيعود هو وعرفات الى واشنطن منتصف الشهر ومعهما وفودهما التفاوضية. فهل حان الوقت للتوصل الى إتفاق فلسطيني اسرائيلي جديد طال انتظاره؟ وهل مهدت لقاءات واشنطن الشهر الماضي الطريق أمام روس وأولبرايت للنجاح في تهيئة الاجواء اللازمة لضمان نجاح القمة الجديدة ؟ أم أن الطريق ما يزال طويل، وإنعقاد قمة جديدة أمر غير محسوم، ونوايا نتنياهو غير صادقة واوضاعه الداخلية غير مهيئة ويمكن أن يتراجع عن مواقفه وأقواله ؟
لا شك في أن جهود الادارة الامريكية الشهر الماضي كانت في سباق مع الزمن، بهدف تعطيل التوجهات الفلسطينية بالاعلان من جانب واحد في 4أيار1999، قيام الدولة الفلسطينية على الارض التي أحتلت عام 1967، وبسط سيادتها عليها اذا لم يتم التوصل لاتفاق. وان تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية الرسمية حول الموضوع دفعت نتياهو للتحرك باتجاه البيت الابيض، طالبا من أركانه ثني عرفات عن المضي قدما في الموضوع، وعدم طرحه على جدول أعمال الجمعية العامة للامم المتحدة، باعتبار ذلك تهديدا لامن اسرائيل. ويمكن القول بأن لقاءات واشنطن ونيويورك كانت عسيرة لامست القضايا الجوهرية دون حلها، ولم تسفرعن نتائج عملية ملموسة. لقد حاول الرئيس كلينتون وأركان الخارجية والبيت الابيض، إنتزاع موافقة إسرائيلية رسمية علنية على مبادرتهم ولم ينجحوا. وحاولوا إغلاق ملفات المرحلة الثانية من إعادة الانتشار، وقضايا المطار، والمنطقة الصناعية في غزة، والتفاهم الامني، ليتسنى الانتقال لبحث القضايا الاخرى في المفاوضات والاتصالات المقبلة. ومارسوا ضغوطهم على الطرف الفلسطيني بدلا من ممارستها على نتنياهو. ونجحوا في انتزاع عدم تحديد الوفد الرابع من أيار 1999 موعدا رسميا للاعلان عن قيام الدولة على الأراضي الفلسطينية التي أحتلت عام 1967وبسط سيادتها عليها. ووافق الجانب الفلسطيني على الاقتراح الامريكي الداعي الى تحويل 3% من أراضي الضفة الغربية، من أصل 13% المفترض إنسحاب إسرائيل منها الى محمية طبيعية يتقاسم الطرفان إدارة شؤونها الامنية والمدنية. الا أن جهود الادارة الامريكية المكثفة ومعها التنازلات الفلسطينية الجديدة، لم تنجح ولم يغير نتياهو موقفه. ورفض اغلاق ملفات المرحلة الثانية من اعادة الاتشار وتشغيل المطار والمنطقة الصناعية في غزة، واشترط قبول السلطة بشروطه المتعلقة بالامن وهو ما رفضه الجانب الفلسطيني وبقي متمسكا بذريعة التبادلية. وصمت كلينتون وأركانه، ولم يمارسوا عليه ضغوط جدية لإرغامه الاستجابة لرغباتهما. وأقصى ما إستطاعوا انتزاعه هو تأجيل اتخاذ أي من الطرفين مواقف نهائية تنسف المفاوضات. وتم الاتفاق على نقطتين فقط : الاولى وضع جدول زمني تفصيلي للتحرك الامريكي اللاحق، والثانية تحديد القضايا التي سيتم تناولها في المفاوضات اللاحقة، الثنائية والثلاثية، التي ستجري في المنطقة وفي واشنطن هذا الشهر. وأكد الرئيس كلينتون لرئيس اللجنة التنفيذية التزام الادارة الامريكية بمبادرتها، وعزمه مواصلة المساعي والجهود لأجل التوصل الى إتفاق في اللقاءات اللاحقة.
ونجح كل من عرفات ونتياهو في تسجيل هدف سلبي في مرمى الآخر. الاول شد الانظار للمسالة الفلسطينية وحشد الجمهور باتجاه ملعبها. وفرضها كقضية لها أولوية في العلاج على سواها من القضايا الدولية المثارة على جدول أعمال الامم المتحدة والدول الكبرى “افغانستان ـ البلقان”، وفرض حركة دولية نشطة لمعالجتها. وكسب مزيد من التعاطف والتضامن المعنوي الرسمي الامريكي. وحصل على وعد من الرئيس الامريكي بتفعيل اللجنة الامريكية الفلسطينية المشتركة، ودراسة مسألة رفع مستوى التمثيل الفلسطيني في واشنطن. ولم يغلق عرفات نهائيا الطريق أمام خياراته الاخرى. وتمسك بالرؤية الفلسطينية التفصيلية لمسألة التبادلية والندية في المسائل الامنية، وقدم الوفد مذكرة تتضمن ست نقاط. وأبقى الصراع مع نتياهو واقفا على حافة الانفجار. اما الثاني “نتنياهو” فقد عطل طرح فكرة إعلان الدولة على الجمعية العامة للامم المتحدة، وتحديد الرابع من ايار موعدا رسميا لبدء ممارستها سيادتها على الارض، وفرّغ الجهود الفسطينية لاستقطاب الرأي العام حولها. وفرض أسس وصيغ التحرك الدبلوماسي الجديد وجدول أعماله. ولم يقدم إلتزامات ملموسة باعتماد المبادرة الامريكية كقاعدة للمفاوضات اللاحقة. ورفض عرض خرائط المناطق التي سيشملها الانسحاب واعادة الانتشارالاولى والثانية. ونجح في ابقاء كل القضايا المختلف حولها معلقة وأهمها: استحقاق الانسحاب الاول والثاني وجدوله الزمني، مصير المرحلة الثالثة التي إستحقت، الجدول الزمني لتطبيق بنود المبادرة الامريكية، وقف الإجراءات أحادية الجانب، مفهوم التبادلية في الالتزامات الامنية، القضايا العالقة في الاتفاق المرحلي منها الممر الامن بين الضفة والقطاع وتشغيل المطار واطلاق سراح المعتقلين.
واذا كان من المبكر اصدار حكما نهائيا على نتائج المبارزة الجديدة التي لم تنتهي بعد، فاستقراء مواقف الأطراف وتوجهاتهم ومصالحهم في هذه الفترة تساعد في التعرف على مسارها اللاحق وعلى ملامح نتائجها. وقول “فدرين” وزير خارجية فرنسا ” لا يمكن القول للاسف أن عملية السلام وضعت على سكتها السليمة مجددا، ولم نرى نتيجة بعد”، يلخص بدقة نتائج لقاءات نيويورك وواشنطن. وبالتدقيق في القضايا الكبيرة والكثيرة المختلف حولها، يستطيع كل مراقب محايد الجزم بان وجود دينس روس في المنطقة مدة اسبوع “6 ـ12 أيار”، وجولة يومين “6 ـ 8″ للوزيرة أولبرايت غير كافية إطلاقا للتوصل. فمواقف نتنياهو قبل وبعد لقاءات واشنظن تظهر نواياه ونوايا حكومته السيئة. والمعضلة في لقاءات نيويورك واشنطن الاخيرة لم تكن ضيق الوقت، بل في عدم رغبة نتنياهو التوصل الى اتفاق واصراه على فرض مواقفه الهادفة دفن عملية السلام على مسارها الفلسطيني، وايضا في عدم رغبة او عدم قدرة ادارة كلينتون المهزوزة ممارسة ضغوط جدية على حكومة الليكود. وأعتقد انه طالما لم يعلن نتياهو في واشنطن قبولة بالمبادرة الامريكية يبقى الوضع مفتوحا على كل الاحتمالات. بما في ذلك تفكيك عناصر المبادرة وتحويلها الى سلسلة مبادرات تفصيلية غير مترابطة لا في الزمن ولا في الموضوعات. وبأن ما لم ينجح به الرئيس كلينتون ليس سهلا أن ينجح به روس وأولبرايت، ويرجح أن لا تستطيع السيدة الوزيرة أولبرايت زف بشرى الاتفاق الذي طال إنتظاره. لاسيما وانها قادمان ولا يحملان عصا سحرية غليظة، وغير مسلحين بموقف امريكي حازم. ويرجح عدم نجاح مهمة اولبرايت وروس حسب المعايير الفلسطينية. وسوف يصطدمان مرة أخرى بمصالح نتنياهو الحزبية وبعقيدة الليكود التي تعتبر الضفة الغربية أرض الميعاد التي وهبها الرب لبني اسرائيل. وجل ما يمكن أن تخرج به الوزيرة ومساعدها النجاح في أحسن الاحوال، في تسوية عدد من القضايا الجزئية من نوع تشغيل المطار وافتتاح المنطقة الصناعية في غزة. وسيسمع منها أهل المنطقة إعلان مكررعن تقريب وجهات نظر الطرفين حول عدد من القضايا الهامة..وترحيل الأخرى الى مفاوضات واشنطن. وللتغطية على فشلها ستعلن بانها أبقت روس في المنطقة لاستكمال بحث الافكار التي طرحتها وانجاز مزيد من الاعمال. وستنجح حتما في شد أنظار الراي العام الدولي باتجاه أزمة المنطقة وقضياها، وشد أنظار الرأي العام الامريكي جزئيا نحو قضية أخرى غير “قضية مونيكا “، التي تشغل الرئيس كلينتون وتطغى على ذهنه على ما عداها من قضايا أخرى، بما في ذلك قضايا الصراع في المنطقة والتوصل الى اتفاق صادق جديد.
أما بشان عقد قمة ثلاثية جديدة في واشنطن منتصف الشهر الجاري، فليس بالضرورة أن تعقد في موعدها رغم الاتفاق المسبق على ذلك. واذا عقدت ليس بالضرورة أن تتوصل الى اتفاق، واذا تم التوصل الى اتفاق ليس بالضرورة أن ينفذ. وهذه لن تكون المرة الاولى ولا الأخيرة التي يلتقي فيها نتنياهو مع الرئيس الامريكي ويخرج رافضا الاستجابة لرغباته، أو التي يتراجع فيها عن وعوده والتزاماته ويتلاعب بالاتفاقات. والشواهد الحية على ذلك كثيرة، أولها تلاعبة باتفاق الخليل الذي وقعه، وآخرها زيارته الاخيرة للبيت الابيض. ولن يعجزعن ايجاد الذرائع والمبررات لتعطيل انعقادها. فقبل وصول اولبرايت هدد زعماء حزبا المفدال وموليدت بتاييد تقديم الانتخابات للكنيست اذا وافق نتنياهو على تنفيذ النبضة الثانية من الانسحاب وإعادة الانتشار. وسنسمع في الاسبوعين من أطراف الائتلاف الحاكم في إسرائيل كلاما كبيرا مشابها. وهذه اللوحة لمواقف الاطراف المحتملة، وقول الرئيس كلينتون حول المفاوضات “لا أعرف إذا كانوا سيتوصلون الى إتفاق، وطبعا أرغب في ذلك بشدة ” يفرض على الفلسطينيين المتفائلين بقرب التوصل الى اتفاق تخفيف تفائلهم. ويفرض على السلطة الفلسطينية المضي قدما في تحضير الاوضاع الداخلية والعربية والدولية للاعلان يوم4 أيارالقادم عن قيام الدولة الفلسطينية على الأراضي التي احتلت عام 1967 وبدء ممارسة سيادتها عليها، والاسراع في انهاء حالة البلبة والارباك التي اصابت الشارع الفلسطيني حول تصميم القيادة على اعلان الدولة في الرابع من ايار 1999. وخير للفلسطينيين شعبا وقيادة عدم التوصل الى إتفاق وبقاء وضع المسار الفلسطيني مأزوما، من التوصل الى إتفاق سيء. يضعف الجبهة الداخلية، ويفكك التضامن العربي والدولي. وآمل أن لا تقدم حركة حماس الى نتنياهو مخرجا مريحا، والشيء ذاته ينطبق على الفلسطينيين المتعجلين والمتسرعين.