أزمة النظام السياسي الفلسطيني وحوارات الفصائل

بقلم ممدوح نوفل في 24/08/1999

اثارت لقاءات الجبهتين الشعبية والديمقراطية بوفد فتح في القاهرة مطلع وأواخر شهر آب، واتصالات خالد الفاهوم “رئيس جبهة القوى المعارضة لعملية السلام” برئيس السلطة الفلسطينية، تعليقات كثيرة في الشارع الفلسطيني، واسئلة متنوعة في اوساط المراقبين ورجال الصحافة والاعلام منها: لماذا اللقاءات الآن وخارج الوطن ؟ وماهي نتائجها وآفاقها المحتملة على العلاقات الداخلية، والمفاوضات مع اسرائيل ؟ وهل يمكن اعتبارها بداية جدية لتصحيح علاقة المعارضة بالسلطة، وتفعيل دور م ت ف وحشد الطاقات على جبهة المفاوضات المتواصلة منذ قرابة 8 سنوات ؟ أم أن أزمة النظام السياسي الفلسطيني “سلطة ومعارضة”، عميقة ومعقدة لا تعالجها لقاءات مطولة او مختزلة تعقد وفق مفاهيم وتقاليد قديمة بين قوى غارقة في أزمات فكرية وتنظيمية وبرنامجية صنعتها لنفسها بنفسها ؟
دون التقليل من قيمتها، لم تحظى لقاءات القاهرة باهتمام شعبي فلسطيني شبيه بالاهتمام الاعلامي الواسع الذي نالته. والحديث عن الاهتمام العربي يذكّر “بالجبهة العربية المساندة للثورة الفلسطينية” التي كانت تتفاعل مع تطورات قضية العرب المركزية وتنقل الهم الفلسطيني لشعوبها، ويدفع بكثيرين الترحم على أيامها. وبصرف النظر عن تقييم الفصائل الفلسطينية القديمة والجديدة لدورها فالاغلبية الشعبية الفلسطينية غير المنتمية للتنظيمات والمكتوية بنيران الاحتلال وقهر المهاجر، فقدت الثقة منذ فترة طويلة بقدرة النظام السياسي الفلسطيني الحالي، “سلطة ومعارضة”، على التصدي لمخططات الاحتلال، واخراج الوضع الوطني العام لبر الامان. وتجارب الحوار الوطني الشامل والناقص منذ التوقيع على اتفاق اوسلو عام 1993 كرس يأس اهل الضفة والقطاع من قدرة الفصائل “اليمينية واليسارية” على معالجة أزماتها الذاتية السياسية والتنظيمية والفكرية المستفحلة والخروج منها بسلام، وباتوا اكثر تحفزا للدفاع المباشر عن ارضهم وحقوقهم ومصالحهم الحياتية اليومية. وأظن ان لقاءات القاهرة الاخيرة لم تغير قناعتهم، خاصة وان بياناتها خلت من أي مواقف جديدة ملموسة قادرة على الانقاذ. وحديث التنظيمات الثلاث قبل وبعد الحوار عن الوحدة الوطنية، والتمسك بالثوابت والخطوط الوطنية الحمر، والصمود في مواجهة المشاريع والاطماع الاسرائيلية، وتاكيد أهمية اعلان الدولة، واحياء وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير..الخ كلام قديم كرر كثيرا، ولم يطمأن اللاجئين والنازحين حول مصيرهم ومصير حقوقهم، ولا يخلص الفلاحين من اخطبوط الاستيطان الذي واصل ابتلاع ارضهم قبل وبعد حوار القاهرة.
وتبين مراجعة مواقف الجبهتين الشعبية والديمقراطية من قضايا الخلاف التي فجرت العلاقات ان توجههما الجديد نحو العمل من داخل أطر م ت ف بعد مقاطعتها 6 سنوات، وعقدهما العزم على بدء مرحلة جديدة من التعاون مع السلطة الفلسطينية، لم يتم بناء على مراجعة ذاتية نقدية جريئة. الى ذلك لم تجري قيادة حركة فتح مراجعة جدية لدورها في قيادة المفاوضات ومفهوم علاقتها كسلطة بقوى المعارضة باطيافها المختلفة، ولم تفكر في بحث حدود مسئوليتها عن الازمة او الازمات المتنوعة الخانقة التي تعيشها السلطة والمنظمة. وظلت متمسكة بمواقفها من عملية السلام، وترى في ما تحقق في اوسلو انجازات وطنية هامة تستحق الثناء والتقدير. وتصرعلى تنفيذ الالتزامات التي تضمنتها الاتفاقات، وطالبت قيادة الجبهتين باحترامها، ومعارضتها بالطرق الديمقراطية اذا ارادت البقاء على مواقفها السابقة.
وبصرف النظرعن خطاب الجبهتين السياسي والتنظيمي العلني حول مبررات اندفاعهما في هذه الفترة للحوار مع “قيادة فتح”، فلعل من المفيد مصارحتهما والقول بوضوح : ان خطوتها “التصحيحية الداخلية” الجديدة ناقصة وجاءت متاخرة جدا، ولا تعفيهما من مسئوليتهما عن الازمة العامة وبخاصة شل مؤسسات المنظمة وتعطيل دورها. وتوقيت الخطوة لا ولم يساعد على تحقيق شعاراتها وتوجهاتها السياسية والتنظيمية “التصحيحية” العامة. وحديثهما عن انتهاء المرحلة الانتقالية التي اسسها اتفاق اوسلو، وبدء مرحلة مفاوضات الحل النهائي وضرورة حشد الطاقات فيها وخلفها..الخ كمبررات للحوار، لا يمكنه اخفاء دور العوامل الاخرى التي دفعها نحو التراجع عن مواقفها السابقة وسرعت لقاءاتها بحركة فتح. أولها، سقوط الليكود وفوز باراك في الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة، وتيقن المعارضة من قرب انتقال عملية السلام على المسارين السوري واللبناني نحو طور جديد يمس تواجدها في الخارج ويفقدها قدرة التعبير عن مواقفها بحرية. وثانيها انهيار مرتكزات موقفهما السياسي “الرفضاوي” من عملية السلام والمفاوضات والاتفاقات التي انبثقت عنها. وثالثها فشل برامجهما النضالية والتنظيمية “الانعزالية” وتآكل اوضاعهما الداخلية بعد تجميد اوضاعهما سنوات طويلة في المنظمة والسطة ومؤسساتهما التنفيذية والتشريعية المركزية. وعدم اعترافهما بهذه الحقيقة لا يغير صورتها المرئية في الشارع الفلسطيني، واوساط البحثاة والمراقبين والمحللين.
الى ذلك اظهرت حوارات الغرف الغلقة والبيانات التي صدرت عنها ان قضايا الخلاف السياسي والتنظيمي مع “اليمين الفلسطيني” بقيادة حركة فتح لم تعد موضوعة في رأس سلم اولويات الجبهتين، رغم بقاء نبرة الناطقين الرسميين باسمهما مرتفعة. وحوار الجبهتين مع فتح اعلان صريح عن انهيار موقفهما من السلطة، والتمييز بين الجسمين مستحيل وخداع للذات لا ينطلي على أحد. والمعارضة هي التي قالت “فتح هي السلطة ولا سلطة سواها أو لسواه”، واحكام سيطرة فتح على قرار السلطة وبناء مؤسساتها واجهزتها على اسس تنظيمية فئوية شاهد حي. وبصرف النظر عن النوايا تخطئ المعارضة اذا اعتمدت هذا التمييز في المستقبل وبنت حساباتها الجديدة على اساسه. فاعتماده يضيع المسئوليات الوطنية ولا يساعد في معالجة أزمة النظام السياسي الفلسطيني الراهنة وبخاصة أزمة العلاقة بين المنظمة والسلطة. وتدرك الجبهتان وكل أطراف المعارضة طبيعة التحولات النوعية التي طرأت في السنوات الاخيرة على بنية الحركة الوطنية الفلسطينية. واهمها تحول حركة فتح الى “حزب حاكم” يستند في ادارة دفة الحكم ومؤسساته التشريعية والتنفيذية الى قاعدة اجتماعية عريضة قوامها قرابة ربع سكان الضفة والقطاع، هم عائلات 120 الف موظف ومعهم الفتحاوين غير المنخرطين في أجهزة السلطة، والمستفيدين منها بصورة غير مباشرة.
الى ذلك فحوار القاهرة تم ايضا بعد قبول الجبهتان ما عرضته قيادة فتح عليهما. وتراجعتا في اللقاءات التمهيدية عن مواقفهما السياسية والتنظيمية السابقة، المدونة في وثائقهما الداخلية وبياناتهما العلنية. وتخلتا عن الكفاح المسلح باعتباره احد اشكال النضال الرئيسية لطرد الاحتلال. ولم تتمسكا بتغيير قواعد عملية السلام و”اعتماد جميع قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية قاعدة للمفاوضات..الخ”، شروطا مسبقة للمشاركة في المفاوضات..الخ ولم يعد الغاء اتفاق اوسلو “الخياني” والتخلص من “مظالمة الجائرة” شرطا ضروريا للحوار بين السلطة والمعارضة. ولم تعد تتبنى “مواصلة النضال لاسقاطه بكل الوسائل المتاحة كما سقط اتفاق خلدة”، وتخلت عن تقديرها “بسقوطه خلال شهور” وسلمت به كأمر واقع. وأقرت، دون اعتراف كامل صريح، ببقائه ناظم للعلاقة بين الفلسطينيين واسرائيل لاشعار آخر، وأظنه كان حاضرا في حوارهم حول سبل النهوض بالعمل المشترك في المرحلة المقبلة. الى ذلك فمفاوضات الحل النهائي التي تطالب الجبهتان بالمشاركة في ادارتها لم تهبط من السماء فجأة. وتعرف المعارضة انها استمرار لمفاوضات مدريد واوسلو وطابا..الخ ستجري وفق نصوص الاتفاقات الكثيرة التي انبثقت عنها. وستبقى متداخلة لفترة طويلة مع مفاوضات المرحلة الانتقالية لتنفيذ ما لم ينفذ من اوسلو وطابا وواي ريفر. ومشاركتها في مفاوضات القضايا النهائية يعني المشاركة في مفاوضات ممزوجة ومخلوطة بعضها ببعض.
في عهد الثورة، وعند الانعطافات الحادة والازمات الكبيرة الداخلية والخارجيية التي واجهتها الحركة الوطنية الفلسطينية اعتادت القوى والتنظيمات والشخصيات الفلسطينية، اللقاء والدخول في حوارات وطنية شاملة ومصغرة. واكدت التجربة السابقة ان تلك اللقاءات والحوارات الداخلية كانت دوما مفيدة للقضية وللاطراف الوطنية قاطبة، حتى لو كانت نتائجها محدودة ولم تتعدى تبادل وجهات النظر وترطيب الاجواء واستخلاص بعض العبر. وبصرف النظر عن الظروف الداخلية والخارجية التي حثت خطى الجبهتين نحو الحوار مع حركة فتح، وعن حجم نتائجه الوطنية، يمكن ادراجه ضمن هذا الاطار واعتباره امتداد لذلك التراث، يستحق تشجيع الجميع. واذا كان معالجة ازمة النظام السياسي الفلسطيني يتطلب نفضة تنظيمية وسياسية قوية، وهي اكبر واعمق من ان تحل في لقاءات قصيرة او مطولة بين فصائل ثلاث، فلقاءات القاهرة تصب الآن في خدمة الاتجاه الواقعي الصحيح، وتساهم في تعميق عزلة الاتجاهات القومية والدينية المتطرفة. وتعزز الموقف الفلسطيني في المفاوضات، وتحسن صورة م ت ف خارجيا، وتجرد بعض القوى الامريكية والاسرائيلية من موقفها السلبي المستند الى تطرف بعض اطرافها. الى ذلك تكبر فوائد الحوار اذا تخلصت الجبهتان من مفهوم معالجة الازمات “بكولسة بين قيادات الفصائل”، وتخلتا عن احياء مبدأ “التراضي والتوافق” حول الامور الوطنية. وتصبح عملية وملموسة اكثر اذا اعتمدت الجبهتان مبادئ الديمقراطية كناظم للعلاقات الوطنية، وبادرتا باجراء مراجعة نقدية علنية صريحة لسياستهما الخاطئة، وبدونها لا يمكنهما الخروج من عزلتهما الجماهيرية والسياسية، واستعادة دورهما المؤثر في صناعة القرار. وايضا اذا شاركتا في النضال لانتزاع بقية استحقاقات المرحلة الانتقالية، ودعمت نضال المجلس التشريعي لحماية حقوق الناس في الضفة والقطاع. ونجحتا في فصل مؤسسات م ت ف عن مؤسسات السلطة. فالفصل بين الجسمين ضرورة وطنية ونقلة نوعية على طريق احياء دور المنظمة، وتفعيل دور السلطة ومأسسة العمل الفلسطيني.