ندوة مؤسسة مواطن = النظام السياسي الفلسطيني بين الداخل والخارج ندوة مواطن

بقلم ممدوح نوفل في 01/05/1999

القسم الأول نشوء النظام السياسي الفلسطيني وتطوره
تعريف النظام السياسي الفلسطيني
قبل بحث أوضاع النظام السياسي الفلسطيني الراهن واشكالياته الفكرية والسياسية والتنظيمية، وآفاقه المستقبلية، لا بد من تعريفه وتحديد مكوناته الاساسية: فهل هو منظمة التحرير أم السلطة وطنية، أو المنظمة والمعارضة ؟ وهل هو نظام جبهوي ديمقراطي أم نظام الحزب الواحد؟ وهل إنتهت مرحلة م ت ف المكون الرئيسي للنظام ؟ وهل يمكن للسلطة الوطنية أن تكون بديلا عن م ت ف ؟ وما هي علاقة الداخل بالخارج وما دور كل منهما نحو الآخر. وماذا عن العلاقة مع داخل الداخل، أي بمليون فلسطيني يحملون الجنسية الإسرائيلية ؟
أعتقد بان التعريف الصحيح يتجسد في إعتبار الحركة الوطنية الفلسطينية بكل اتجاهاتها الفكرية والسياسية هي النظام السياسي الفلسطيني. وبتحديد تفصيلي أدق هي قوى : منظمة التحرير الممثلة لكل الشعب، والسلطة الوطنية، والمعارضة في الداخل والخارج، المشاركة وغير المشاركة في السلطة والمنظمة. وهذا التعريف يشمل كل قوى الشعب باستثناء فلسطيني إسرائيل الذين ما يزالوا خارج النظام السياسي الفلسطيني كله. صحيح ان م ت ف كانت وما تزال الممثل الشرعي والوحيد لكل الشعب الفلسطيني على كل الصعد والمستويات الرسمية العربية والدولية، الا أن الواقع الفلسطيني القائم على الارض لا يمكّن أي طرف من الأطراف المكونة للنظام السياسي الفلسطيني، بما في ذلك م ت ف، الإدعاء بأنه وحده الممثل لكل الشعب والمعبرعن إرادته. فتآكل مؤسساتها السياسية، وإهتراء أطرها الجماهيرية والعسكرية، وتراجع دورها القيادي “عمليا” لصالح السلطة، وبقاء حركة حماس خارج المنظمة يشكل على الصعيد الوطني، وليس التمثيل السياسي، ثغرة في تمثيل المنظمة لكل الشعب، وثغرة في قدرتها التعبير الشامل عن الجميع. فحركة حماس قوة فعلية لها ثقلها في الشارع الفلسطيني، وهي في الوقت الراهن القطب القيادي للمعارضة، وقادرة على التأثير في الحركة السياسية.
وبجانب هذه الثغرة يمكن إعتبار بقاء علاقة فلسطينيي اسرائيل بالنظام السياسي الفلسطيني على ما هي عليه حتى الآن ثغرة أساسية ثانية. فحجمهم الآن يعادل 13% تقريبا من إجمال الفلسطينيين في العالم. ويساوي 25% تقريبا من إجمال الفلسطينيين المقيمين على الأرض الفلسطينية. ومهما كانت محدودية دورهم راهنا في إطار النظام السياسي الفلسطيني، فوضعهم صار يؤثر، بصيغة وأخرى، في النظام السياسي الإسرائيلي، وفي عملية التسوية، ومستقبل السلام الفلسطيني الاسرائيلي. فالمفاوضات حول قضايا اللاجئين وأملاك “الغائب” في اسرائيل تمسهم. ولهم كامل الحق الطبيعي والمشروع في المشاركة في تقرير المصير للشعب الفلسطيني كله، طالما انهم ما زالوا يعتبرون أنفسهم جزء لا يتجزء من الشعب الفلسطيني، وكل قوى الشعب تعتبرهم كذلك. ناهيك عن أهمية إستثمار القيادة الفلسطينية لكل طاقات الشعب في الصراع بغض النظر عن أماكن تجمعه وتواجده
نشوء النظام السياسي الفلسطيني
وفهم واقع النظام السياسي الفلسطيني الحالي وآفاقه المستقبلية بصورة أشمل وأعمق، يتطلب مراجعة تاريخه وسيرته الذاتية، والتعرف على أبرز مراحل تشكلة. ورغم انها كانت دوما متشابكة ومتداخلة فبالامكان رسم حدود كل واحدة منها، وليس عسيرا التعرف على خصوصيتها الوطنية. والمراجعة تظهر حداثته النسبية، وتبدل قواه أكثر من مرة، وبقاء منطلقاتها الفكرية والسياسية متأرجحة بين الوطني والقومي فترة طويلة. مرحلته الاولى بدأت مع بداية القرن وإستمرت حتى النكبة 1947 ـ 1948. ويمكن تسميتها بمرحلة ظهور ونهوض الوطنية الفلسطينية، ورسم ملامح صورة الكيان الفلسطيني وبداية تبلور وتشكل نظام سياسي فلسطيني موحد على الارض. فالوطنية الفلسطينية، باشكالها التي ظهرت مطلع القرن في العهد العثماني، بقيت عاجزة لاعتبارات موضوعية وذاتية، عن تصور قيام كيان فلسطيني مستقل في فلسطين. وبعد الحرب العالمية الاولى وانهيار الامبراطورية العثمانية، وقعت النهضة الوطنية الفلسطينية الاولى، وبرزت فكرة إستقلال فلسطين في إطار إستقلال سوريا الكبرى. في تلك الفترة فرضت التجزئة الاستعمارية للبلاد العربية ووعد “بلفور” عام 1917، على الوطنية الفلسطينية طرح تصورها لمستقبل فلسطين ككيان منفصل عن سوريا الكبرى. وجاء صك الانتداب الذي أصدرته عصبة الامم المتحدة عام 1922، فأجج الوطنية الفلسطينية وعزز فكرة النضال من أجل إقامة كيان فلسطيني مستقل عن سائر الدول العربية. وبرزت مطالبة الفلسطينيين باقامة حكومة فلسطينية مسؤولة أمام برلمان. خاصة وأن الصك الدولي كلف بريطانيا القيام بمهمة “وضع فلسطين في أحوال سياسية وادارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي فيها”. الا أن دولة الانتداب “بريطانيا” رفضت المطالب الفلسطينية وقاومت أفكارهم التحررية. وظلت مصممة على توفير شروط اقامة الوطن القومي اليهودي. وفي10 اب 1922 وضعت بريطانيا “دستور فلسطين”، رفضه الفلسطينيون.
لاحقا مع تزايد الهجرة اليهودية الى فلسطين إتسع إنتشار تيار الوطنية الفلسطينية، وتعددت أطر النظام السياسي الفلسطيني، وظهرت قوى وحركات سياسية ومسلحة جديدة. وبرز جليا شعار “إنهاء الانتداب وإستقلال فلسطين”. وغدا هدفا وطنيا تمسك به الفلسطينيون، وخاضوا من أجل تحقيقه، في الثلاثينات والاربعينات، معارك متنوعة. وقبل وقوع الحرب العالمية الثانية، لم تدرك “الوطنية الفلسطينية” خطورة الدعم الدولي الذي تلقته توجهات الحركة الصهيونية العالمية. وعندما وقعت لم تعي التغيرات التي أحدثتها في أوضاع المنطقة وفي العلاقات الدولية، وتحول المهاجرين اليهود الى قومية محددة الملامح، وقوة إقتصادية وسياسية كبيرة. ومع إحتدام المعارك بين الفلسطينيين والمهاجرين اليهود الجدد والقدامى، تكثفت التحركات الدولية لايجاد حل مناسب للصراع. وبرزت فكرة تقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية. وخطى الفكر السياسي الفلسطيني خطوات كبيرة على طريق طرح تصور متكامل لمستقبل فلسطين. وبرز في النظام السياسي تياران: الاول قومي، رفض التفاهم مع اليهود، وتمسك بدولة فلسطينية مستقلة على كل الأراضي الفلسطينية. والآخر، وكان الأضعف، دعا الى التعايش مع اليهود في إطار دولة يهودية عربية يهودية ديمقراطية موحدة. إلا أن المواقف الدولية، وتعقيدات الصراع، وموازين القوى المختلة لصالح اليهود، حالت دون نجاح هذا الحل الديمقراطي، خاصة وأنه كان مرفوضا بالمطلق من الحركة الصهيونية. وكانت النتيجة صدور قرار التقسيم عن الامم المتحدة عام 1947. وبصدوره إنتقل الفلسطينيون الى واقع جديد، ودخل الفكر والنظام السياسي الفلسطينيين مرحلة نوعية جديدة كليا. وقررت القيادة الوطنية الفلسطينية ممثلة “بالهيئة العربية العليا”، رفض الاعتراف بقرار التقسيم. فمعظم الأرض كانت لهم (90%ـ95%) وكانت تحت سيطرتهم، وكانو هم الاكثرية واليهود أقلية. وبعد الاعلان عن قيام دولة اسرائيل قررت الجامعة العربية في “1/12/1948″ تشكيل حكومة عموم فلسطين برئاسة الحاج أمين الحسيني. الا انها لم تنجح في تكريس ذاتها كجزء من النظام السياسي الفلسطيني ولم تعمر طويلا، وضاع إسمها مع تلاشي وتبخر معظم قواه واندماج بعضها في أطر الحركة القومية العربية.
تشكل داخل وخارج في النظام السياسي
بوقوع “النكبة” وتجسيد نتائجها السياسية والديمغرافية على الارض، دخل النظام السياسي الفلسطيني مرحلة جديدة اختلفت نوعيا عن تلك التي مر بها في النصف الاول من القرن. بدأت بالهزيمة المرة التي لحقت بالجيوش العربية وبالحركة والوطنية الفلسطينية، واستمرت حتى النهضة الوطنية الثانية، وتشكيل م ت ف، وانطلاق الثورة المسلحة عام 1964 ـ 1965. ويمكن تسميتها بمرحلة الاتكالية الفلسطينية على العرب وانتظار الحلول الدولية، وتبعثر مكونات النظام السياسي، وتشكل أرضية حقيقية لقيام جناحين له، الاول في الداخل والثاني في الخارج حيث تواجد اللاجئون. وخلال تلك المرحلة قسمت الارض بين عدد من دول المنطقة “إسرائيل، الاردن، سوريا، لبنان”، وبقيت اراضي قطاع غزة فلسطينية ووضعت تحت الوصاية المصرية. وتبعثر الشعب بين داخل وخارج. أي في الشتات، وفوق أرضه التي صار إسمها إسرائيل، وفوق ما تبقى منها خارج نطاق السيطرة والسيادة الاسرائيلية “الضفة الغربية وقطاع غزة ومنطقة الحمة”. وتلاشت قوى الحركة الوطنية الفلسطينية، وإنتهت مكونات النظام السياسي الفلسطيني. وانخرط طلائع الحركة الوطنية القديمة في حركات وأحزاب قومية عربية واسرائيلية وأممية منها: حزب البعث، حركة الاخوان المسلمين، حركة القوميين العرب، الحزب الشيوعي، حزب التحرير الاسلامي، الاحزاب الاردنية، الاحزاب الاسرائيلية اليمينية واليسارية، الحاكمة والمعارضة في اسرائيل. وتم تبديد الهوية الوطنية بين “الاردنة” و”الاسرلة” وهوية مواطن اللجوء والشتات. واحتفظت أقلية فلسطينية في غزة بهويتها. وظهر منتصف الخمسينات على أرض غزة عدة تنظيمات سياسية ومسلحة لكنها لم ترق لمستوى تشكيل حركة وطنية مستقلة ونظام سياسي فلسطيني واضح المعالم.
عودة الروح للوطنية وهيمنة قوية للخارج
ورغم نجاح الحركة الصهيونية في النصف الثاني من الخمسينات في توطيد دعائم دولة اسرائيل وبروزها كقوة عسكرية كبيرة، إلا أن اللاجئين الفلسطينيين لم يسلموا بوجود دولة اسرائيل، ولم يفقدوا الأمل بالعودة الى بيوتهم والاستقلال وقيام دولتهم. وبعد طول انتظار أدرك طلائع اللاجئين أن إنتظار التحرير على يد الغير لا يحرر الأرض ولا يعيد الحقوق المغتصبة. وظهرت في صفوفهم ميول جدية للنهوض من حالة السبات، والقيام بدورعسكري فلسطيني مستقل ضد إسرائيل. وقامت في قطاع غزة عدة تنظيمات فلسطينية تبنى بعضها الكفاح المسلح، ولقيت رعاية شبه رسمية من النظام المصري بزعامة عبد الناصر. وتخوفت “دول الطوق” المحيطة باسرائيل من نواياها العدوانية وأطماعها في الأراضي والمياه العربية. خاصة بعد أعلانها، أواخر عام 1963، عزمها إتمام المرحلة الاولى من مشروع تحويل وجر مياه نهر الأردن الى منطقة النقب. وعلى خلفية تلك التطورات عقدالزعماء العرب في كانون اول 1964 أول قمة جامعة لهم في القاهرة. اتخذوا فيها، بدفع من عبد الناصر” عدة قرارات منها: “تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية” كأطار لتعبئة وتنظيم وحشد طاقات كل الشعب الفلسطيني في الداخل “اسرائيل” والخارج في معركة التحرير”. وفي ذات العام عقد المجلس الوطني الاول أولى دوراته في القدس وتم ترسيم قيام م ت ف. وصادق على الميثاق “القومي” لمنظمة التحرير وعلى نظامها الاساسي. وقرر فتح معسكرات في الدول العربية لتدريب القادرين على حمل السلاح، والشروع في تشكيل كتائب عسكرية نظامية وكتائب فدائية. ولاحقا في الاول من كانون ثاني 1965 أعلنت حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” عن وجودها كحركة فلسطينية مستقلة تعتمد الكفاح المسلح كأسلوب للتحرير. وقالت “من فوهة البندقية تنبع السياسة”. وتشكيل منظمة التحرير، وإنطلاق “فتح” كحركة مسلحة، وإلتحاق قوى فلسطينية أخرى بذات الإتجاه، دخل النظام السياسي مرحلته الثالثة إستمرت حتى إنطلاقة الإنتفاضة عام 1987. ويمكن تسميتها بمرحلة عودة الروح للوطنية الفلسطينية. وتمرد طلائع ونشطاء الشعب الفلسطيني في الخارج على البيت القومي، ونهوض النظام السياسي الفلسطيني بمكونات جديد، وإنبعاثه كحركة مسلحة من الخارج. وبعد هزيمة العرب الثانية عام 1967، توحدت الأرض الفلسطينية، وتجمع نصف الشعب في الضفة والقطاع مع الفلسطينيين في إسرائيل تحت نظام واحد هو الإحتلال الإسرائيلي. وفي الخارج صعدت مشاعر الإنتماء الوطني بشيء من التعصب والتطرف الوطني. وتبلورت الأهداف الوطنية، وتحددت بتحرير الأرض “كلها” من الإحتلال وإقامة الدولة المستقلة، وعودة اللاجئين والنازحين.
وبعد صراع داخلي قصير توحدت قوى النظام الفلسطيني في إطار م ت ف كنظام جديد يمثل كل الشعب. باستثناء جناحها الملتحق بالتيار الديني. وحاول بعض أطرافها معالجة مشكلة اليهود في فلسطين وتبنى فكرة دولة فلسطينية ديمقراطية موحدة يتعايش فيها العرب واليهود على قدم المساواة أمام القانون. وعلى امتداد السبعينات والثمانينات نشأ شكل من أشكال الوحدة والصراع بين الدور القومي والوطني المستقل. توج بتجذر الوطنية الفلسطينية عند كل أطراف النظام السياسي في الخارج. واذا كان لا مجال لمحاكمة مواقف النظام السياسي الفلسطيني في مرحلة لبنان 1972 ـ 1987 فالثابت أنه (1) نجح في إحياء القضية الوطنية وجعلها قضية دولية لها أولوية في المعالجة. وكرس الترابط الوثيق بين الامن والاستقرار في المنطقة وبين حل المسالة الفلسطينية. (2) بعث حياة جديدة في الوطنية الفلسطينية وأيقظ روحها في صفوف كل الفلسطينيين وخلق حركة فلسطينية مستقلة. ووحد الشعب حول أهداف وطنية واضحة، وأشرك معظم تجمعاته في الخارج في النضال من اجل التحرير والدولة والعودة. (3) أنهى الاحتواء العربي للحركة الفلسطينية وخلصها من الوصاية السياسية،. وكرس م ت ف ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده وانتزع اعتراف عربي ودولي شبه شامل بذلك. (4) بانتزاع م ت ف شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني، وتعاظم نفوذها في صفوف اللاجئين تعزز ثقل الدور الكفاحي لجناح النظام السياسي الفلسطيني في الخارج، وتولى قيادة دفة السفينة. وضعف دور جناح الداخل وصار ملحقا بالخارج. ولم يجري تمثيله عمليا في أطر” النظام السياسي الرسمي” اي المؤسسات التشريعية والتنفيذية للمنظمة والفصائل. فمن جهة عطل الاحتلال أخذ الداخل دوره في هذه الاطر، ومن جهة اخرى أهملت قيادات النظام السياسي في الخارج الوضع في الداخل. ويمكن القول أن نصف ما أنفقته م ت ف والفصائل الفلسطينية في لبنان كان كاف لتأسيس قاعدة اقتصادية وكفاحية قوية في الضفة والقطاع. (5) غرق النظام السياسي الفلسطيني في لبنان في بحور من الصراعات مع النظامين اللبناني والسوري ومع عدد من القوى اللبنانية. أشغلته عن مهامه في “الداخل”. بعضها كان مشروعا فرضته متطلبات الدفاع عن التمثيل وعن استقلالية القرار الوطني، وبعضها الآخر أقحم نفسه فيه عندما تحول الى دولة داخل الدولة وساهم في تفكيك النظام الرسمي اللبناني. (6) تورط النظام السياسي في مهام عسكرية دفاعية رئيسية عن الاراضي اللبنانية في مواجهة الهجمات الاسرائيلية المتواصلة. ألزمته تحويل تشكيلاته القتالية من تشكيلات عصابية تقاتل اسرائيل فوق الاراضي الفلسطينية الى تشكيلات جيوش نظامية ثقيلة الحركة مثقلة بالمعدات بما في ذلك الدبابات، أضعفت قدرته على تطوير أشكال النضال داخل الوطن المحتل. (7) وعلى إمتداد تلك المرحلة “ربع قرن” أرسى النظام السياسي الفلسطيني نمطا من العلاقات الداخلية يمكن وصفها “بديمقراطية التراضي” بين أطرافه الاساسية، وبالديكتاتورية العسكرية في الحياة الداخلية. فرغم وجود الاطر التشريعية والتنفيذية، الا ان طغيان العسكرة على البنى الداخلية، وتغليب المصالح الفصائلية الخاصة على المصلحة الجماعية حالت دون الالتزام بمبدأ حق التباين الاختلاف في وجهات النظر وحق التعبيرعنها، وساد مبدأ “وحدة صراع انشقاق”. وكثيرا ما شهد النظام السياسي الفلسطيني انقسامات داخلية حادة وتشكلت تكتلات “جبهات رفض” وإنتهج الجميع سياسسات تناحرية غير ديمقراطية. ولعل تفاجؤ جميع أطراف النظام السياسي الفلسطيني بإنتفاضة أهل الضفة والقطاع أواخر عام 1987 يبين عمق الهوة التي كانت تفصل بين النظام السياسي في الخارج وبين الناس هناك.
الانتفاضة نقلت ثقل النظام السياسي من الخارج للداخل
بإنطلاقة الانتفاضة في قطاع غزة والضفة الغربية، دخل النظام السياسي الفلسطيني مرحلة جديدة من مراحل نشوءه وتطوره، إستمرت حتى انعقاد مؤتمر السلام في مدريد عام 1991 وتوقيع اتفاق اوسلو عام 1993. يمكن تسميتها بمرحلة انتقال مركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية من الخارج الى “الداخل” الضفة والقطاع. وشروع القوى الدولية بقيادة الولايات المتحدة الامريكة في بحث جدي عن حل للصراع الفلسطيني العربي الاسرائيلي. فالانتفاضة بزخمها وجماهيريتها المذهلة جعلت القضية الفلسطينية قضية ذات أولوية دولية في المعالجة. وأعلن الاردن أواخر تموز 1988 فك ارتباطه رسميا بالضفة الغربية، بعدما ظل قرابة 40 عام متمسك بضمها. وتكرست الهوية والاهداف الوطنية الفلسطينية بقوة عربيا ودوليا. وصعد دور الداخل من جديد، وتشكل داخل الاراضي المحتلة مركزا قياديا “القيادة الوطنية الموحدة” أثبت في المرحلة الاولى كفاءة قيادية عالية في قيادة الجماهير، وأظهر قدرة على تحريكها في الاتجاهات الوطنية السليمة. وربط بين الاهدف والمطالب المباشرة لأبناء الانتفاضة بالأهداف الوطنية للشعب كله، لكنه لم يخرج عن السقف الذي حدده له الخارج. وقدم أبناء فلسطين في داخل الداخل ” اسرائيل” ما إستطاعوا من دعم وإسناد للانتفاضة وأهدافها الوطنية. وباعلان “قاوم” عن نفسها الذراع الضارب لمنظمة التحرير وتيقن القوى الدولية والعربية من ذلك، تعززت مكانة م ت ف على الصعيدين العربي والدولي. وبرز شعور فلسطيني قوي في الداخل والخارج بالاعتزاز بالوطنية الفلسطينية. أجبر حركة حماس على التخلص نسبيا من هويتها الاممية الاسلامية، والتحرر جزئيا من ارتباطها بحركة الاخوان المسلمين العربية. وإنضمت للنظام السياسي الفلسطيني العام وأثبتت وجودها الفاعل في اطار الانتفاضة، وصعد نفوذها في الشارع الفلسطيني. وراحت تشارك بقوة في نشاطات الحركة الوطنية داخل الارض المحتلة. وشكلت أطرها الخاصة بموازاة الاطر الموحدة للانتفاضة.
في تلك الفترة تعرضت فصائل العمل الوطني في الخارج لهزة عنيفة طالت مرتكزاتها الفكرية والسياسية وأساليب عملها التنظيمية والعسكرية. وبدلا من التفاعل الايجابي مع المتغيرات التي أحدثتها الانتفاضة في أوضاع الحركة الوطنية سارعت لإحتوائها وإجهاظها. وعوضا عن معالجة النواقص والثغرات التي كشفتها الانتفاضة، وبخاصة العسكرة ونقص الديمقراطية، نقلت أمراضها الى جسم القيادة الوطنية الموحدة وجسم الانتفاضة كله. وفرضت قوانينها وأسس علاقاتها الجامدة وأساليب عملها على الانتفاضة، وعسكرتها. لقد حاولت الفصائل إدخال جسم الانتفاضة الكبير في أثوابها الضيقة فتشققت أثوابها، وبقي الجسم المنتفض خارجها. ونشأ صراع داخلي مبطن بين الداخل والخارج. وخشيت قيادة الخارج من تبلور قيادة وطنية فعالة موازية لها تشاركها في صياغة القرار الوطني، فبذلت جهودا كبيرة مبطنة لتحجيم دور الداخل وإبقائه أداة تنفيذية وليس أكثر.
في حينه توفرت فرصة كبيرة لجناح الداخل ليأخذ موقعا فاعلا في النظام السياسي الفلسطيني، وللعب دور مؤثر في صياغة القرار الوطني وفي رسم المصير الوطني. الا أن “قاوم”، والشخصيات الوطنية في الداخل، وفروع التنظيمات والأحزاب الوطنية هناك لم تحاول إستثمار دورها في الانتفاضة كما يجب، ولم تستغل التحول النوعي الذي أحدثته في بنية النظام السياسي الفلسطيني. ولم تبذل الجهد اللازم لإعادة الاعتبار لدورها الوطني. وترددت في التقدم لإحتلال مواقع تنظيمية جديدة في النظام السياسي، ولم تحاول فرض صيغ تنظيمية وطنية تكرس مشاركة الداخل مشاركة حقيقية في صناعة القرار الوطني. ولاحقا كرست بيانات القيادة الوطنية الموحدة، وسلوك قيادات الفصائل في الداخل، الدور القيادي للخارج للانتفاضة وللمسيرة الوطنية ككل. ورضيت بتسليم أمرها للخارج، بما في ذلك تدخله في صياغة بيانات “قاوم” وانضبت تماما للتعليمات الاساسية والتفصيلية التي كانت تصلها من الخارج. ونفذت ما طلب منها دون نقاش، بما في ذلك أشكال تحركاتها اليومية. ومع تواصل الإنتفاضة وثبوت تولي م ت ف قيادتها وتوجيهها، أدركت القوى الدولية المعنية باستقرار أوضاع المنطقة بأن تواصل حركة الانتفاضة يؤجج الصراع في المنطقة، ويعرض مصالحها للخطر، خاصة وأنها بدأت في خلق تفاعلات في الشارع العربي ووضعت النظام الرسمي العربي في وضع حرج. وبدأت مرحلة جديدة من التحركات الدولية والاقليمية لحل النزاع بالطرق السلمية. وجددت الادارة الامريكية محاولاتها باتجاه ايجاد تسوية للصراع. وبعد حرب الخليج تقدم الرئيس الامريكي “جورج بوش” بمبادرته المعروفة لصنع السلام في المنطقة. ولاحقا إقتنعت القيادة الاسرائيلية بأن إسستمرار التهرب من معالجة صراعها مع العرب والفلسطينيين يؤجج التطرف في كل انحاء المنطقة، ويلحق بها على المدى المباشر والبعيد خسائر استراتيجية تمس علاقاتها الدولية، وأخرى تطال بنيتها الداخلية وهويتها المستقبلية. واقتنعت بضرورة المشاركة في البحث عن حلول سياسية للصراع. ووافقت على الذهاب الى مؤتمر مدريد للسلام الذي دعت له الادارة الامريكية، ووفق الشروط التي أرادتها.
ويسجل للانتفاضة بأنها سرعت وقوع تحولات نوعية في الفكر السياسي الفلسطيني. وعززت المواقف والتوجهات الواقعية الكامنة في الشارع الفلسطيني، وأضعفت الاتجاهات المتطرفة. وضغطت باتجاه تطوير البرنامج المرحلي للمنظمة والإقرار بشعار دولتين للشعبين والإعتراف بقرار مجلس الامن 242. ويسجل لعدد من أطراف النظام السياسي بانهم أجادوا إستثمار الانتفاضة، ووظفوا تفاعلاتها الداخلية والخارجية لصالح تعزيز مكانة م ت ف. وأجادوا إستثمار التطورات الدولية التي وقعت في تلك الفترة، ووافقوا على المشاركة في مؤتمر مدريد، وفي البحث عن حل عادل للقضية الفلسطينية بالطرق السلمية. وكان واضحا للجميع بأن المشاركة الفلسطينية في المؤتمر الدولي تمت بفضل الانتفاضة وبفضل السياسة الواقعية التي انتهجتها قوى أساسية في النظام السياسي الفلسطيني. وأن قيادة الخارج كانت وستبقى مسئولة، لإشعار آخر، عن كل النتائج الايجابية والسلبية التي تفرزها عملية السلام على القضية الوطنية. ويسجل للفلسطينيين في اسرائيل أنهم ساندوا مواقف الاتجاه الواقعي، وأيدوا قرارات المجلسين الوطني والمركزي. واعتبروها مكسبا فلسطينيا يقوي مواقفهم ويعزز موقعهم في الخارطة الحزبية والسياسية الاسرائيلية.

القسم الثاني عملية السلام ضربت قواعد ومرتكزات النظام السياسي
إنقسام سياسي عميق له ما يبرره
بعد صراع مع الذات ومع الادارة الامريكية حول شروط المشاركة في المؤتمر وافقت القيادة الفلسطينية في الخارج، على مضض، على المشاركة في عملية السلام وفقا للشروط المجحفة التي تضمنتها رسالة الدعوة الامريكية السوفيتية. فالخيار الآخر كان يعني وقوفها عكس تيار دولي اقليمي جارف، وتعرضها لخطر التصفية، لاسيما وأنها خرجت من حرب الخليج مطاردة دوليا وعربيا ومصنفة ضمن القوى التي آزرت النظام العراقي في إحتلال الكويت. وبعد إبلاغ وزير الخارجية الأمريكية بيكر بالموافقة المبدئية على المشاركة في مؤتمر السلام بشقية الثنائي والمتعدد الاطراف، إرتفعت وتيرة الخلاف بين أطراف النظام السياسي الفلسطيني في الخارج، بلغ حد التشكيك في شرعية قيادة م ت ف. وإنقسم النظام السياسي في الداخل والخارج على نفسه إنقساما عميقا، إختلف عن كل الإنقسامات التي سبقته. وكان للإنقسام السياسي ما يبررة، ولوجود معارضة وطنية قوية ضرورات وطنية. فالمسائل المطروحة على بساط البحث تمس المصير الوطني برمته. والمشاركة الفلسطينية حسب رسالة الدعوة كانت ناقصة، حيث تقرر أن تكون في أطار وفد أردني فلسطيني مشترك، وأن لا يضم الوفد المفاوض أي ممثل عن الخارج والقدس. وأن يتم تناول القضايا الفلسطينية على مرحلتين من المفاوضات “انتقالية ونهائية”. وأعلن جناح من النظام السياسي الفلسطيني رفضه لمؤتمر السلام، وظهر تعبير “القوى المعارضة لفريق مدريد”.
ورغم أن المشاركة في عملية السلام تمت بقرار من المجلس الوطني الفلسطيني، وبعده المجلس المركزي واللجنة التنفيذية، الا أن المعارضة أعلنت الحرب ضد مؤتمر السلام وضد القيادة الفلسطينية. ورفضت الأخذ بمبدء تولي الاغلبية دفة القيادة واحتفاظ المعارضة بمواقفها، وأعلنت إنسحابها من الاطر القيادية التنفيذية للمنظمة، وشكلت اطارا خاصا بها جمعها كلها خارج أطر منظمة التحرير. وتبنت فكرة إجراء إستفتاء شعبي حول المشاركة في عملية السلام. وكأن إجراء مثل هذه العملية في الداخل والخارج يمكن أن تتم بقرار فلسطيني، وكأن الدول العربية وقوات الاحتلال ستوافق عليها. وكثر الحديث في أدبيات المعارضة وبياناتها عن أسس اتخاذ القرارات السياسية في المؤسسات التشريعية الفلطسينية. وطالب بعض أطراف المعارضة “باعتماد النصاب السياسي مقابل العدد الميكانيكي للاصوات في الهيئات”، أي إعتماد عدد التنظيمات وليس عدد أعضاء الهيئات، كأساس لتقرير المواقف الوطنية، ورسم التوجهات السياسية المركزية لمنظمة التحرير. وإشتق البعض من هذه المقولة فكرة تعليق أعمال الهيئات الوطنية المشتركة، وإجراء “حوار وطني شامل” خارج الأطر والمؤسسات التشريعية، وهو رديف “لديمقراطية التراضي”. وعليها إستند في الطعن في شرعية تفويض الهيئات القيادة للمنظمة لوفد من الداخل للتفاوض بإسمها. وشكلت جبهة رفض جديدة، خارج أطر المنظمة، مكررة تجربتها الفاشلة في السبعينات. ولم تتورع عن نقل خلافاتها وصراعاتها الى قلب الإنتفاضة وأطرها، وفرضتها كأولويات على حساب القواسم الوطنية المشتركة. في حين كانت المصلحة الوطنية تفرض، وعدم إنزلاق الحوارعن مساره الديمقراطي، وعدم نقل الخلافات الى أطر الانتفاضة. وبقاء تصارع الأفكار والآراء ضمن دائرة الأهداف الإستراتيجية للشعب الفلسطيني. ورفضت المعارضة القيام بدور المراقب لمسيرة التفاوض من داخل المؤسسة ومدى تطابقها مع قرارات المؤسسات التشريعية، وإشعال الضوء الأحمر في الشارع لتعطيل كل محاولات تجاوزها، ومنع الأغلبية الإقتراب من المنزلقات السياسية الخطرة التي تلحق أضرارا إستراتيجية بالقضية الوطنية. وتوحيد طاقات الجميع، معارضة وقيادة، للنهوض بالمهام المشتركة التي يمكن إشتقاقها لمواجهة الإحتلال.
وبعد صراع مع المبعوث الامريكي ومع الذات وافقت القيادة الفلسطينية في الخارج، على مضض، على تشكيل الوفد المفاوض من الداخل، والعمل من خلال المؤتمر على تحسين شروط المشاركة الفلسطينية. وبالمشاركة في ذلك المؤتمر دخل النظام السياسي انعطافة سياسية وتنظيمية حادة. وإنتقل الى واقع جديد، وعبر مرحلة جديدة نوعية من حياته وعلاقاته الداخلية والخارجية ما زلت مستمرة حتى الآن. وإذا كان لا مجال في هذه الورقة للبحث التفصيلي في المواقف التفاوضية للطرفين في مفاوضات مدريد ـ واشنطن، وفي تكتيكات القيادة الفلسطينية لتعطيل تلك المفاوضات وتكريس مشاركة م ت ف مباشرة فيها، والتخلص من صيغة الوفد المشترك، فوقائع الحياة السياسية أكدت أن قيادة الخارج إعتبرت الشروط التي فرضت على المشاركة الفلسطينية، وبخاص صيغة تشكيل الوفد من الداخل، مؤامرة إسرائيلية أمريكية أردنية ضد م ت ف وضد الإستقلال الفلسطيني. هدفها شطب القرار الوطني المستقل، وخلق قيادة بديلة، وإحياء الخيار الأردني من جديد بعدما أنهته الانتفاضة. وصممت منذ البداية على السيطرة على دور الوفد والتحكم في مواقفه وتحركاته وأظهار ذلك للعالم وللقيادة الإسرائيلية. ورغم إعلان الوفد قبل ذهابه الى مدريد، عن ولائه لقيادة م ت ف، بلغ حد مطالبتها بإصدار قرارات وكتب تكليف رسمية لكل عضو من أعضاء الوفد، إلا أن القلق من القيادة البديلة بقي مسيطرا على ذهن قيادة م ت ف في الخارج، وظل متحكما في مواقفها وتوجيهاتها للوفد. ومن جانبها لم تقصر المعارضة في الخارج في مهاجمة الوفد، وفي تحريض القيادة الشرعية ضده، وتخويفها من القيادة البديلة، رغم معرفتها أن الوفد الفلسطيني ينفذ سياسة فلسطينية ولا يقررها. وبعد انعقاد مؤتمر مدريد وإنطلاق جولات المفاوضات واحدة تلو الاخرى ظلت مواقف قيادة م ت ف تدفع الوفد باتجاه التشدد والتطرف، وبذات الوقت كانت ترسل إشارات للأمريكان والإسرائيليين تبدي فيها مرونة سياسية مشروطة بجلوسها خلف طاولة المفاوضات. خلاصتها أن الحل مع قيادة م ت ف أسهل من الحل مع الوفد. وخلال مفاوضات واشنطن أخطأ شامير مرتين، الأولى حين إعتقد بأنه وحدة الذي يعمل على تعطيل تقدم المفاوضات على مسارها الفلسطيني، والثانية عندما هرب من الضغوط الأمريكية باتجاه الإنتخابات. فتعطيل التقدم في المفاوضات كان هدفا للقيادة الفلسطينية في الخارج بمقدار ما كان هدفا له. ونتائج إنتخابات أيار 1996 أطاحت به وأخرجته من مبنى رئاسة الوزراء وأخرجت حزبه من السلطة.
بعد فوز حزب العمل في الإنتخابات، وجدت نفسها حكومة اسرائيل الجديدة برئاسة رابين أمام اللوحة التالية: صراع مزمن لم تحله الحروب، وإنتفاضة مستمرة، وقيادة فلسطينية تقترب من الواقعية وتبدي إستعدادا للدخول في مساومة تاريخية، وإدارة أمريكية راغبة في تواصل المفاوضات وفي ايصالها الى نتائج ملموسة، ومفاوضات إسرائيلية فلسطينية واسرائيلية عربية متعثرة. وبعد فتحها ملف المفاوضات تبين لها أن طريق مدريد ـ واشنطن شبه مقفلة، وأن الوفد الفلسطيني المفاوض برئاسة حيدر عبد الشافي غير قادرعلى تقديم التنازلات اللازمة للتوصل للإتفاقات المطلوبة في الأوقات المطلوبة. ويصر صباح مساء على دور مباشر لقيادة المنظمة. ويقول جهارا “على كل من يرغب في الإتفاق مع الفلسطينيين أن يتوجه مباشرة نحو م ت ف ويجلس مع قيادتها”. أمام هذا الموقف، وتحت تأثير موقف الناخب الإسرائيلي الذي إنتخبه على أساس الوصول الى سلام مع العرب، حاول رابين كسر جمود مفاوضات واشنطن وقدم إغراءات للوفد الفلسطيني عله يقبل تجاوز المنظمة ويعفيه من الجلوس معها. إلا أن الوفد رفض الإغراءات. ولم يكن أبوعمار بغافل عما يدور، بل كان واقفا للوفد ولرابين بالمرصاد. ومرة أخرى خلقت المفاوضات فرصة كبيرة لتعزيز موقع الداخل في إطار النظام السياسي الفلسطيني، وبلورة صيغ جديد من العلاقة التنظيمية الرسمية بين الداخل والخارج، وداخل الفصائل. إلا أن قيادات الداخل ترددت مرة أخرى في تحمل مسؤولياتها الوطنية ولم تستثمر الفرصة، وقبلت أن يبقى دورها تنفيذي وإستشاري محدود. وحرص الوفد الفلسطيني أكثر فاكثرعلى إظهار ولائه لقيادة م ت ف. ولاحقا إلتزم حرفيا بالتعليمات الخطية والشفوية التي كان يتلقاها، وأبدى إنضباطا مذهلا للأسس العلاقات الداخلية شبه العسكرية، رغم قناعته في كثير من الأحيان بعدم صوابيتها وتلحق أضرارا بالموقف التفاوضي الفلسطيني.
بعدها تردد رابين في فتح مفاوضات مباشرة مع قيادة م ت ف وحاول التهرب والمراوغة فتقدم بيريز وطاقم الخارجية الاسرائيلية بقيادة يوسي بيلن باتجاه جس نبض المنظمة وإستطلاع مواقفها. وعندما إلتقطت السنارة الإسرائيلية طرف الخيط الفلسطيني حاول رابين الهروب من شر التفاوض مع المنظمة ومع ياسرعرفات، لكنه لم يفلح، ولم يصمد طويلا. وبعد عدة شهور من المفاوضات السرية توصل سرا ممثلوا م ت ف والحكومة الاسرائيلية في في 18/آب/1993 في اوسلو لاتفاق “اعلان المبادىء حول ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية”. وأصبح رابين أحد أبطال قصة الأتفاق السري الذي عرف باتفاق أوسلو، ونال مع بيريز وأبوعمار جائزة نوبل للسلام، ولاحقا دفع رابين حياته ثمن ذلك.
أوسلو مولود شرعي لكنه لم يعالج الازمات
بصرف النظر عن الطريقة التي أدار فيها الخارج الفلسطيني “خلية أوسلو” المفاوضات فاتفاق أوسلو مولود شرعي ولد بصورة طبيعية تماما. فالمفاوضون والموقعون على الإتفاق من الطرفين يمثلون شعبيهما تمثيلا رسميا، وحصلو على مصادقة مؤسساتهما التشريعية. ولا مبالغة في القول بأنه كان أشبه بزلزال قلب أوضاع النظام السياسي الفلسطيني راسا علىعقب. وإذا كان سابق لأوانه إصدار حكما موضوعيا نهائيا على الإتفاق ونتائجه البعيدة، فوقائع الحياة كشفت تسلسل منطقي لأحداث وتطورات سياسية أقليمية ودولية فرضت على الطرفين الإنقلاب على مفاهيمهم وقناعاتهم التي آمنوا بها سنوات طويلة، وأوصلتهم للاتفاق.
وبعد الإعلان عن الإتفاق ونشره على الملأ ظهرت في الساحة الفلسطينية ثلاثة إتجاهات رئيسية: أحدها أيد الإتفاق وأفرط في التفاؤل، وبسط الأمور وتصور بأن “كل شيء يهون بعد دخول م ت ف أرض الوطن”. واعتقد أصحابه بأن تقاطع المصالح التي أفرزت الإتفاق تدفع أطرافه باتجاه الإلتزام الأمين به، وتسريع تنفيذه. والثاني عارض الإتفاق وأفرط في التشاؤم وطعن في شرعيته، ورفع شعار “اسقاط الإتفاق وإسقاط نهج أوسلو”. وإعتقد بأن “الاتفاق ولد ميتا”، وأنه غير قابل للتنفيذ وانه “سيسقط خلال أسابيع أو شهور معدودة “كما سقط اتفاق “خلدة” اللبناني الإسرائيلي عام 1984″. ولاحقا أطلق أصحاب هذا الإتجاه على الإتفاق إسم “غزة وأريحا أولا وأخيرا”. أما الإتجاه الثالث فظهر عند أهل الأرض المحتلة وتساءل أصحابه عن نصوص الإتفاق حول الإستيطان، والموقف من حقوق الإنسان، واطلاق سراح المعتقلين، وقالوا العبرة في التنفيذ. وجاءت النتائج الاولية للاتفاق ووقائع خمس سنوات من المفاوضات لتؤكد بالملموس أن أهل الأرض المحتلة كانوا الأدرى بالاحتلال وسياساته، وأن تقييمهم كان الأكثر واقعية والأكثر دقة. وأن الآخرين من معارضين ومؤيدين، فصائل وقوى وشخصيات وطنية وإسلامية، شطحوا بعيدا في تقديراتهم، ووضعوا أمنياتهم ورغباتهم محل التقييم الموضوعي. فالإتفاق من جهة بقي على قيد الحياة خمس سنوات نما وكبر خلالها، ومن جهة أخرى تعثرت المفاوضات حوله وحول ما أنتجه من إتفاقات أخرى، وتأخر تنفيذ العديد من بنوده وبنودها. ومهما كانت دوافع مؤيدي ومعارضي الاتفاق والمتحفظين عليه فخمس سنوات من عمره أكدت نجاحه في أدخال الشعبين أعتاب حقبة جديدة في تاريخ صراعهما لا تزال في طور التشكل والتكوين. وأحدث تغييرات نوعية في أسس علاقات اسرائيل بالمنظمة وبمعظم الدول العربية. وثبتت نقاط أساسية لصالح هذا الطرف وأخرى لذاك، ليس سهلا الغائها. وساهم في تكريس حل الصراع بالطرق السلمية، وأنهى لإشعار آخر أفكار الحرب، وأفكار اللاحرب واللاسلم، التي كانت سائدة فترة الحرب الباردة. ولم يحصد منها العرب سوى الفقر والتخلف وضياع الوقت، وتعطيل الديمقراطية، وسيادة الاحكام العرفية.
وألد أعداء الاتفاق لا يستطيعون تجريده من انجازاته منها: تحرير أجزاء صغيرة هامة من الأرض، وأزاح نير الإحتلال وقهره اليومي جزئيا عن ظهر قطاعات واسعة من الشعب في الضفة والقطاع. وأنهى ومعه المعاهدة الاردنية الاسرائيلية أفكار كانت تنادى بها بعض الأحزاب اليمينية الإسرائيلية المتطرفة من نوع الترانسفير للفلسطينيين للأردن، وتحويله وطن بديلا لهم وثبتت الخيار الفلسطيني طريقا لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وحرر القرار الوطني الفلسطيني من الوصاية والإحتواء، ونقله رسميا وعمليا من العواصم العربية للمدن الفلسطينية. وحل معضلة إنفصال القيادة عن أرضها وشعبها، وصحح وضعية الهرم الفلسطيني الذي ظل مقلوبا على رأسه منذ تشكيل ت ف عام 1964. ومثّل محطة فاصلة، في تاريخه ومستقبله وأحدث تطورات هامة على بنية م ت ف وعلاقاتها الداخلية والحارجية. فقد وتر علاقاتها مع عدد كبير من القوى العربية الحاكمة وغيرالحكومية. وعجل في عزل أطراف النظام السياسي الفلسطيني المرتبطة بالانظمة العربية “منظمة الصاعقة المرتبطة بسوريا، الجبهة العربية الموالية للعراق، وفتح الانتفاضة المرتبطة بالسوريين والليبين” وأضعف دورها في الحركة الفلسطينية، وأفقدها تأثيرها، المحدود اصلا، في القرارالفلسطيني. اما القوى الاخرى فأدى الاتفاق الى تراجع فعل بعضها وضعف وزنها السياسي والجماهيري لدرجة تقترب من التلاشي. ونمو ثقل بعضها الآخر “حماس” وصعود دورها. وهناك من لم يوفق للآن في تأمين إستقراره الفكري والتنظيمي. واذا كان اليمين الإسرائيلي ما زال يتصرف باعتبار الضفة الغربية “أرض الميعاد التي وهبها الرب لبني إسرائيل”، فأوسلو وما إنبثق عنه من إتفاقات وخطوات عملية على الأرض أنهى “نظريا” هذه المقولة. ووضع القيادة الاسرائيلية وجها لوجه مع الحقيقة الفلسطينية التي تهربت منها أكثر من أربعين عاما. فإعترفت بأن هناك شعب إسمه الشعب الفلسطيني، ولهذا الشعب ممثل شرعي ووحيد هو م ت ف، وأقرت بوجود كيان خاص على ذات الأرض لشعب أعتبر يوما ما شعبا زائدا.
وإذا كان ضروري تعريف الكيان الفلسطيني الوليد وتسميته بإسمه الحقيقي، فهو الآن “حكم ذاتي” في صيغة “دويلة فلسطينية” على جزء هام صغير من الأرض. ناقص السيادة، محدود الصلاحيات. لكنه يملك مقومات الحياة وقابل للنمو والتطور، إذا أجاد أهله إستغلال المواقف الدولية المؤيدة لحريتهم واستقلالهم. ونعته بابشع النعوت من نوع، كيان أوسلو، دويلة مسخ وهزيلة ناقصة السيادة، أو تابعة اقتصادياً وأمنياً لإسرائيل..الخ لا يغير الواقع الجديد. ويفرض على أطراف النظام السياسي عدم التمترس في الخنادق القديمة في مواجهة الحقائق، والخروج منها والشروع فورا في معالجة الاشكاليات الكثيرة والازمات الخطيرة التي يعيشها النظام السياسي الفلسطيني منذ ما قبل أوسلو وللآن. وبديهي القول إن إنجازات أوسلو كان لها ثمن. والحديث عن الايجابيات ليس من مهمة البحاثة والطامحين للتصحيح والتجديد، وقد يساهم في التضليل ولا يعالج المشكلات بل يطمسها. اما قمع الحديث عن النواقص والازمات المتنوعة فتجارب الشعوب والدول تؤكد بانه لا يعالجها بل يزيدها تعقيدا، ويفجرها الواحدة تلو الاخرى في اوقات غير مناسبة. ويقطع الطريق على امكانية الاستفادة من العلاج الصحيح ومن استخدامه في الوقت الصحيح. وقديما قالوا “درهم وقاية خير من قنطار علاج”.

القسم الثالث واقع النظام السياسي واشكالياته بعد اوسلو
نشوء وتشكيل السلطة الوطنية
قبل انطلاق عملية السلام من مدريد عام 1991 لم تستطع التوجهات الفلسطينية نحو “اقامة السلطة الوطنية على أي جزء من الأرض يتم تحريره” شق طريقها للحياة. وبعد حرب 1982 وترحيل قيادة وكوادر م ت ف من بيروت تراجعت الفكرة وانضمت للأحلام والأوهام الفلسطينية، وكاد أصحابها ينسوها، ومع الاعلان عن إتفاق أوسلو عادت الروح اليها، وعاد الصراع الفلسطيني حولها للظهور من جديد. فالاتفاق نص تحت بند هدف المفاوضات ” أن هدف المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية ضمن عملية السلام الحالية في الشرق الاوسط، هو من بين أمور أخرى، إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية ـ المجلس المنتخب ـ للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية لا تتجاوز خمس سنوات، وتؤدي الى تسوية دائمة تقوم على أساس قراري مجلس الامن 242و338 “. في حينه كانت الخلية الفلسطينية التي أدارت مفاوضات أوسلو بحاجة، لإعتبارات معنوية وسياسية داخلية، مقاربة نص الاتفاق حول السلطة مع نص قرار المجلس الوطني. وحاولت تثبيت تعبير “السلطة الوطنية” بدلا من “حكومة ذاتية انتقالية”، لتؤكد لشعبها وللمعارضة الفلسطينية بأنها لم تخرج عن قرارات المجلس التي وافقوا عليها. لكن محاولتها جوبهت بالرفض الاسرائيلي ، وثبت النص كما طرحه رابين. وبعد إتفاق طابا عاد ووافق على التسمية الفلسطينية وعلى استخدام كلمة سلطة ووزارة ووزراء.
وبعد توقيع “أوسلو” في حديقة البيت الابيض يوم 13/9/93، وتمهيدا للإعلان عن تشكيل السلطة، عقدت القيادة الفلسطينية سلسلة إجتماعات في تونس، قاطعتها حركة حماس وجميع القوى الفلسطينية التي عارضت الاتفاق. وكان واضحا للجميع بأن إتفاق أوسلو بالكاد عالج قضايا المرحلة الانتقالية، وأن القضايا الأساسية “القدس الاستيطان اللاجئيين الحدود..الخ ” مؤجلة الى مفاوضات المرحلة النهائية. وكان مفهوما للداخل والخارج بأن السلطة المنوي تشكيلها ليست بديلة للمنظمة، ولا يمكنها أن تكون كذلك. وبعد تشكيلها ستكون ممثلة لسكان الضفة والقطاع فقط ولفترة زمنية انتقالية حددها الاتفاق بخمس سنوات، ومهامها محصورة في إدارة الوظائف والمجالات التي نص عليها الاتفاق فقط. وتوقف المجتمعون أمام عدد من الأسئلة المركزية منها : كيف وعلى أية أسس نشكل السلطة الوطنية كجسم قيادي جديد ؟ هل نشكلها من خارج التنفيذية ونحافظ على تنفيذية المنظمة كمرجعية ؟ أم نضيف مهام السلطة للجنة التنفيذية ونبقيها كما هي؟ هل نضيف للتنفيذية عددا من قيادات الداخل، وكيف نضيفهم بدون عقد إجتماع للمجلس الوطني؟ وما هو دور المنظمة بعد قيام السلطة، وكيف نحل التعارض القادم بين الجسمين؟ وهل نحافظ على ثقل رئيس اللجنة التنفيذية المعنوي خارج السلطة أم نزجه فيها ؟
خلال النقاش أبدى البعض تخوفه على دور المنظمة بعد تشكيل السلطة وعلى وجودها. وأكد الجميع أهمية المحافظة على مكانتها ككيان سياسي وكإطار تنظيمي، وإبقائها سلطة عليا لكل الشعب الفلسطيني وممثله الشرعي والوحيد داخل وخارج الارض المحتلة،. أما حول تشكيل السلطة فطرحت أفكار متعددة منها: أن تكون من قيادات الداخل فقط، ولا يدخلها أعضاء التنفيذية. يتم تشكيلها من التنفيذية أساسا مع إضافات محدودة من الداخل. أن تكون غير سياسية وتشكل من التكنوقراط والكفاءات والاخصائيين. أصوات قليلة دعت لتفويض رئيس اللجنة التنفيذية بتشكيلها وفقا لما يراه مناسبا. وكان الحاضرون من أعضاء التنفيذية ضد الفصل بين الجسمين، ومع تشكيلها من التنفيذية كأساس. ولا بئس عندهم من إستكمال عددها بشخصيات من الداخل، وأن يكون ابوعمار بصفته رئيس التنفيذية رئيسا لها. وبرز إتجاه آخر، من الداخل ومن المستقلين، معاكس لإتجاه أغلبية التنفيذية. دعا الى فصل تشكيل ومهام الجسمين بعضهما عن بعض. وشدد أصحابه على ضرورة تقليص عدد أعضاء التنفيذية في السلطة، إذا كان لابد من مشاركتهم فيها، وأن لا يكون رئيس التنفيذية ضمنهم. وأن يحافظ على ثقله السياسي والمعنوي في إطار م ت ف باعتبارها القيادة العليا لكل الشعب.
وكان المستقلون من الداخل هم الأكثر جرأة في نقد الأوضاع الداخلية الفلسطينية، وفي تشخيص الأمراض التي تنخر جسم القيادة الفلسطينية ومؤسساتها. وأكثروا من الحديث عن مضار الفئوية والفصائلية في العمل الفلسطيني، وأظهروا مخاطر سحبها على تشكيلة السلطة الوطنية. وذكّروا بما فعلته هذه الظواهر المرضية في الانتفاضة. وقالوا: التفرد بالقرار يتعارض مع الديمقراطية، والفئوية تتعارض مع الوحدة الوطنية ومع الديمقراطية، ومرحلة الدولة تختلف عن مرحلة الثورة. وخلال النقاش أبدى معظم أعضاء التنفيذية عدم إرتياحهم لهذا الموقف، ودافعوا بقوة عن آرائهم. وانتهت إجتماعات القيادة الفلسطينية في حينه دون اتخاذ قرار محدد. ولخص رئيسها حصيلة المناقشات بالقول: “القرار من صلاحيات اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي، ومعنا الوقت الازم لاجراء مزيد من المشاورات والاتصالات مع إخواننا العرب وبعض الحلفاء والأصدقاء الاجانب”.
عشية إنعقاد المجلس المركزي الفلسطيني عقدت اللجنة التنفيذية يوم 9/10/93 إجتماعا ناقشت فيه الموضوع. وأقرت الدفع في المجلس المركزي باتجاه تشكيل السلطة من الداخل والخارج، وتكون سياسية ويترأسها ابوعمار، ويشارك فيها أعضاء من اللجنة التنفيذية لم يحدد عددهم. يوم 10 /10/93 بدأ المجلس المركزي دورة أعماله بحضور83 عضوا من أصل 110 أعضاء شارك فيها عدد كبير من المراقبين بلغ عددهم ما يقارب ضعفي عدد أعضاء المجلس. جاءوا من مختلف أماكن تواجد الشعب الفلسطيني بما في ذلك إسرائيل. ورغم كثرة النقاط المدرجة على جدول الأعمال، إلا أن جميع الحاضرين، عاملين ومراقبين، كانوا يدركون بأن المجلس المركزي مدعو لإقرار نقطتين أساسيتين: الأولى الموافقة على إتفاق اوسلو، والثانية اتخاذ قرار تشكيل السلطة الوطنية. وكرر عدد من الأعضاء وبخاصة المستقلين تخوفهم الحقيقي على مصير المنظمة بعد تشكيل السلطة. وبعد مناقشات إستغرقت يومين كاملين، صوت أعضاء المجلس على “إتفاق إعلان المبادئ” أمام وسائل الاعلام ونال أغلبية الأصوات. ووافق المجلس بأغلبية 68 على: ” إقامة السلطة الوطنية على كل الأراضي التي ينسحب عنها الاحتلال. ويفوض المجلس المركزي اللجنة التنفيذية وفقا لقرار المجلس المجلس الوطني تشكيل هذه السلطة من الداخل والخارج وتكون م ت ف مرجعيتها، ويترأسها رئيس اللجنة التنفيذية “. في تلك الفترة لم يتعجل أبوعمار في تشكيل السلطة، ورغب في إعلان تشكيلها على أرض الوطن. وأخّر قراره إلى ما بعد توقيع بروتوكولات القاهرة في أيار 1994. ولاحقا أعلن أسماء أعضائها بعد إصرار إسرائيل على تسلم الاسماء قبل دخول الدفعة الاولى من أفراد الشرطة، وسلمها على دفعات. وتهالك بعض أعضاء التنفيذية على دخولها، وفضل آخرون الانتظار. ورحب الشارع الفلسطيني بالخطوة واعتبرها إنجاز هام. أما قوى المعارضة فكررت مواقفها وشككت في شرعية قرار تشكيل السلطة. نظريا كان الخلاف في القيادة الفلسطينية الرسمية يدور حول أفضل صيغ وأسس وأشكال بناء السلطة الوطنية، إلا أنه واقعيا كان يخفي صراعا في إطار المنظمة حول موقع السلطة الوطنية في النظام السياسي الفلسطيني، وحول المواقع الشخصية والتنظيمية. فالكل كان يدرك بأن إنتقال مركز ثقل الحركة الوطنية والنشاط السياسي من الداخل للخرج يعني تراجع دور المنظمة. وأن قيام السلطة الوطنية وترؤس أبوعمار لها يعني إنتقال ثقل القرار الوطني لهذه الهيئة وتوليها قيادة العمل الفلسطيني، لاسيما وأن العالم سيرمي بثقله لصالح تكريس دور الجسم القيادي الجديد. في حينه بشر البعض بإنتهاء دور المنظمة من الناحية العملية، وقالوا “دعونا نحضّر في غزة وأريحا مراسم التشييع”. ولم تعد، بل وايضا
إشكالية العلاقة بين السلطة والمنظمة
لا اكتشف البارود اذا قلت بان الدول العصرية والديمقراطية لم تعتمد في تحليل وتشخيص مشكلاتها، ورسم توجهاتها واتخاذ قراراتها على الطاقات الذهنية والفكرية والعلمية للوزراء فقط. وانها تعتمد ما تنتجه مراكز الابحاث والدراسات وما تقدمه باستمرار لمركز صناعة القرار. وهذه الدول تحرص دوما على تشجيع مراكز الابحاث والدراسات وتدعمها ماديا ومعنويا، ولا تتدخل في شؤونها البحثية. وتنفق أقسام كبيرة من موازناتها على بنائها كمؤسسات مستقلة، وعلى تطوير مراكز الدراسات في الجامعات الاكاديمية، وتسعى لتمكينها ضم أفضل العقول. وتعطيها الحرية والامان لاجراء ما تشاء من بحوث، وتضع تحت تصرفها ما تطلبه اعمالها البحثية، ولا تحجب عنها اية معلومات. وفي سياق الاجتهاد الفردي في تشخيص اشكالية العلاقة بين السلطة والمنظمة يمكن القول أنه بتشكيل السلطة الوطنية الاولى في أيار1994 وعبورها الوطن وتوليها عددا محدودا من المجالات في غزة واريحا، دخلت علاقتها مع المنظمة حيزها الرسمي والعملي الملموس. وترعرعت في ظل أجواء مأزومة داخليا وخارجيا، وعاشت منذ البداية حالة مد وجزر من التوتر، ولم تشهد يوما حالة توافق وإنسجام. ولعل من المفيد التذكير بأن أوضاع م ت ف، المكون الرئيسي للنظام السياسي الفلسطيني، لم تكن على مايرام منذ ما قبل مدريد وأسلو. وكانت مصابة قبل وبعد رحيلها القسري من لبنان عام 1982، بأمراض متنوعة جوهر بعضها موضوعي غير مصطنع، وبعضها ذاتي، كان مصدرا من “الخارج”. فمنطلقاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية التي بنيت عليها عام 1964 هرمت وشاخت. وبقي الميثاق الوطني والنظام الاساسي على حالهما فترة ربع قرن دون أي تجديد أو تعديل. وكثيرا ما تم الإصطدام بنصوصهما الجامدة وغير الديمقراطية، وفي كثير من المحطات السياسية الحاسمة تم تجاوزها. واذا كان لا مجال لاجراء جردة كاملة بمواقع وتواريخ الصدامات والتجاوزات فقرارات دورة المجلس الوطني عام 1974 التي أقرت البرنامج المرحلي، وقرارات الدورة التاسعة عشر التي إعترفت بقراري مجلس الأمن 242 و338 كأساس لحل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وأعلن فيها عن قيام دولة فلسطينية بجانب دولة اسرائيل شواهد تاريخية على ذلك. ويفترض أن لا يكون هناك خلاف على أن م ت ف، كمؤسسة وفصائل، عانت في تلك المرحلة من تراجع دورها الكفاحي في مواجهة الاحتلال. ومن غياب الديمقراطية وعسكرة علاقتها الداخلية وعلاقاتها مع الناس، ومن انحسار شعبيتها داخل وخارج الوطن المحتل. إضافة الى سيادة نظام “الكوتا” الفصائلية في تكوين مؤسساتها، وهيمنة التنظيمات على تركيبتها من أعلى هيئة قيادية وحتى أصغر مؤسسة أو سفارة. وكانت أطرها القيادة قد ترهلت تماما ومؤسساتها نخرتها البيرقراطية وتحولت الى مجال إرتزاق لآلاف الكوادر، مارست داخلها بطالة مقنعة فترة زمنية طويلة. ولا تستطيع قيادة النظام السياسي الفلسطيني القديم تحميل عملية السلام والسلطة الوطنية وحدهما المسئولية الكاملة عن زرع كل الامراض البنيوية المزمنة في جسد المنظمة وعن الأزمة العريقة التي ما زالت تعانيها حتى الآن. فجميع الفصائل المكونة للمنظمة والمهيمنة على قيادتها ساهمت في بنائها على أسس غير ديمقراطية، وشل عمل مؤسساتها بدء من المجلس الوطني مرورا بالمجلس المركزي واللجنة التنفيذية، وإنتهاء بأدنى لجنة فرعية من لجان المجلس الوطني. وكانت راضية عن تلك الأوضاع ومتعايشة معها ومستفيدة منها.
وبمعزل عن مواقف أطراف النظام السياسي المؤيدة او المعارضة للسلطة الوطنية فلا أحد يستطيع إنكار ان تشكيلها شكل امتحانا حاسما لفكر وطاقات وخبرات الفلسطينيين وقدرتهم على إدارة شؤونهم بأنفسهم، وعلى بناء أول سلطة فلسطينية لهم على أجزاء من أرضهم. وعند التشكيل كان مفهوما للجميع أن إمتحان بناء وادارة مؤسسات “الدولة”، وتنظيم حياة مجتمع مدني يضم ما يقارب مليوني إنسان أعقد وأصعب من قيادة الثورة، ومن إدارة شؤون بضعة الآف من الكوادرالعسكرية والمدنية.
واذا كان من المبكر إطلاق أحكام نهائية جازمة على دور السلطة وعلى آفاقها المستقبليه، فمراجعة تجربتها القصيرة يظهر أنها لم تستطع تحقيق ما كان يتمناه الفلسطينيون في الضفة والقطاع. وصورتها حتى الآن فلسطينيا وعربيا ودوليا ليست ايجابية على الاطلاق. ولا نظلم أحدا إذا قلنا ان السلطة الوطنية الاولى حملت منذ البداية إرث منظمة التحرير بصنفيه السلبي والايجابي. وأن اللجنة التنفيذية لم تنجز التحضيرات الضرورية لانجاح عمل السلطة علما بانها كان لديها فسحة كبيرة من الوقت، وفرص التاهيل المطلوب للكوادر توفرت. وهي المسئولة عن تشكيل السلطة على ذات الأسس التي بنيت عليها تنفيذية المنظمة وذات الشيء ينطبق على الثانية. وأنه كان للاشكالات الذاتية والميلاد غير الطبيعي “عملية قيسرية” دورا مركزيا في تغذية الاشكاليات الموضوعية وسرعت نموها. فطغيان الاعتبارات الحزبية والسياسة على أسس تشكيلها وتركيبتها ضيق قاعدتها الشعبية الضيقة أصلا. والتعيينات العشوائية والانتقائية ذات الصبغة الحزبية زادت من طغيان الفصائلية على بنيانها التنظيمي. وأظهرت العصبوية التنظيمية بأبشع صورها. ووسعت الصراع على السلطة بين القادمين من الخارج والمقيمين أصلا فوق أرض الوطن. وبين كوادر مختلف التنظيمات وكوادر التنظيم الواحد. وجعلها أقرب إلى سلطة الحزب الواحد ومن لون سياسي واحد. مليئة بالسياسيين وناقصة أخصائيين وخبراء في شتى مجالات العمل اليومي المنوط بها. كل هذا جرى ويجري في وقت سئم الشارع الفلسطيني من كل الفصائل والتنظيمات والاحزاب بصيغها وعلاقاتها وممارساتها العسكرتارية السابقة، وبات يتطلع الى اطر تنظيمية وأحزاب سياسية أكثر ديمقراطية وأقل بيروقراطية ودكتاتورية. خاصة وأن أي من هذه الفصائل والاحزاب المعرفة لم يحاول تجديد نفسه ودمقرطة أوضاعه الدخلية وعلاقاته الجماهيرية. ولم يحدث أي منها أي تعديل أو تغيير في أسسه ولوائحه التنظيمية. ولم يبادر أي منها الى طرح برامج عملية واقعية تتناسب مع حاجات الناس وتلبي متطلبات اجتياز المرحلة الجديدة التي عبرها النضال الفلسطيني بعد اوسلو وبعد تشكيل السلطة.
وبجانب الصراع على مناصب السلطة أثقلت التعيينات الواسعة جدا كاهل السلطة الفلسطينية بأعباء مالية ضخمة شوشت وشوهت صورتها في عيون شعبها. وخلقت هوة واسعة بينها وبين الناس في قطاع غزة والضفة الغربية. وفرض على السلطة الفلسطينية إنفاق معظم وارداتها المحلية المساعدات المالية التي تصلها في مجالات غير منتجة. ويستطيع كل خبير اقتصادي أن يقدر ثقل العبىء المالي الكبير، وأثره على مستقبل الاقتصاد الفلسطيني وعلى علاقات الانتاج فيه، اذا عرف أن م ت ف والسلطة الوطنية مضطرة لدفع رواتب ما يزيد عن مئة الف موظف مدني وأمني وعسكري حتى الان.. منهم ما يزيد عن 30 الف رجل أمن وشرطة. أما المصادمات العنيفة وعدم الاحتكام للقانون وأساليب المعالجة غيرالديمقراطية التي ورثتها عن المنظمة واتبعتها في معالجة قضايا الخلاف مع المعارضة، والاحاديث الكثيرة ـ الحقيقية أو المبالغ فيها ـ عن الرشوة والفساد والمحسوبية..الخ فأظهرت السلطة أمام الجميع بأنها فاشلة ينخرها الفساد وعاجزة عن القيام بالمهام الأساسية الملقاة على عاتقها. ودفعت بقطاعات إضافية من الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج وبخاصة الواقعيين الديمقراطيين والمتطلعين نحو قيام سلطة ديمقراطية ونزيه، للنفور من السلطة والانفضاض من حولها. ورسمت صورة في ذهن المواطن الفلسطيني مطابقة لصورة الأنظمة العربية المتخلفة والدكتاتورية، التي طالما إنتقدها ورفضها نموذجا لحكمه وسلطته. ولاحقا جاءت وقائع المفاوضات التي أدارتها السلطة مع الاسرائيليين، وتعثر تنفيذ الاتفاقات لتضغط على ذهن السلطة كهيئة وكوزراء، ولتجعل من المهام السياسية وبخاصة إدارة المفاوضات وتنظيم العلاقات مع الاسرائيلين، وملاحقة الدول المانحة للمساعدات، مهاما ذات أولوية على سواها من المهام التي تهم حياة الناس. وبهذا غرقت السلطة الفلسطينية في بحر من المشكلات التي أعاقت نهوضها بالمهام وبالالتزامات التي أخذتها على عاتقها.
أما تركيز القيادة على المولود الجديد “السلطة”، وعدم وضوح طبيعة العلاقة بين الجسمين وبقائها ملتبسة، فقد أضعف الوضع المعنوي للمنظمة وبهت وجودها، وأثار تساؤلات شعبية وفصائلية حول دورها ومستقبل وجودها. ولم يمضي وقت طويل حتى سلبت السلطة، عمليا، منظمة التحرير معظم مهامها وشلت حركتها اليومية وحلت محلها دون أن تملأ كل الحيز الجماهيري والخارجي الموجود للمنظمة. وأعطت نفسها منذ اليوم لتشكيلها حق تجاوز اللجنة التنفيذية مرجعيتها الاساسية. وعانت كل مؤسسات المنظمة الرسمية التشريعية والتنفيذية “مجلس وطني، مجلس مركزي، لجنة تنفيذية” من تآكل داخلي ومن تغييب واقعي لدورها، وصارت شبه محالة على التقاعد. وبغض النظر عن النوايا، فالخلط بين مهام الوزارة والوزراء وبين مهام اللجنة التنفيذية ولجنة المفاوضات كهيئة وكأفراد أبقى العديد من المهام الوطنية الكبرى مهملة، ولم تعد تجد من يهتم بها ويتابعها. وتآكل علاقات م ت ف بقوى حركة التحرر الوطني العربية، وعدم متابعة قضايا الفلسطينيين في الخارج، والتخبط في إدارة المفاوضات خير أدلة وشواهد على ذلك. فلا الوزراء أعضاء التنفيذية قادرين على تحمل مسؤوليات إضافية لمهامهم اليومية الكثيرة والمعقدة، ولا الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل تسمح لهم إن هم حاولوا ذلك. أما أعضاء التنفيذية من غير الوزراء فهم موزعين بين من يقتله الفراغ وعاطل عن العمل. ومنهم من ينتظر عقد إجتماع للهيئة التي ينتمي لها “اللجنة التنفيذية” او إستلام موازنة دائرته. ودوائر وسفارات منظمة التحرير فقدت هي الأخرى من يتابعها، وحرمت من إمدادها بكل المستلزمات الضرورية لعملها. وأظن أننا في غنى عن سوق الشواهد على ذلك فهي كثيرة ومتنوعة ومحزنة. ولا ضرورة لسرد ما يعانيه سفراء ومدراء مكاتب م ت ف وكل العاملين في سفارات فلسطين منذ تشكيل السلطة الفلسطينية وحتى الآن. فهي تعيش حالة من الشلل والضياع وإضمحلال الموازنات. أما المنظمات والاتحادات الشعبية، المرأة العمال، الطلاب، الكتاب والصحفيين، المعلمين، المهندسين، الفلاحين…الخ فقد تعرضت هيئاتها للشلل والتفكيك، ولم تعد تجد من يلملم أوضاعها. فأمنائها العامون وأعضاء أماناتها تشتتوا وتبعثروا واستوعبوا في وزارات السلطة الوطنية الفلسطينية. وعملية الاستيعاب والتعيين طالت أيضا العديد من سفراء م ت ف. وكأن وظائفهم ومهامهم في اتحاداتهم ومنظماتهم الجماهيرية وسفاراتهم قد انتهت. أو أن هناك من يفكر في دمج هذه المنظمات في أجهزة السلطة بما في ذلك قوات الأمن والشرطة.
ومن يدقق في الأوضاع القيادة للمنظمة وفي المهام التي تقوم بها الوزارة والمجلس التشريعي، يخرج بإستنتاج رئيسي خلاصته أن القيادة الفلسطينية، وقعت في أوهام حول عملية السلام حين تصورت أنها ستسير في خط مستقيم، وحين اعتقدت أنه لم يعد هناك حاجة وطنية لتفعيل مؤسسات المنظمة القيادية والوسيطة وجيرت دورها لصالح السلطة. صحيح أنه منذ تشكيل السلطة الفلسطينية وحتى الآن لم يصدر تصريح رسمي أو شخصي من أي مسؤول فلسطيني يمس وجود المنظمة أو ينتقص من دورها، إلا أن “الاعمال ليست بالنوايا” فالانقسام السياسي التنظيمي إستفحل وتعمق وتحول الى نوع من الصراع التناحري بين الاطراف المكونة لها. وندرة إجتماعات هيئاتها القيادية التشريعية التنفيذية أفقدها حضورها الشعبي والرسمي وعطل دورها القيادي. وإستيعاب الكوادر القيادية الاولى للمنظمات والاتحادات الشعبية والسفارات في وظائف رسمية في مختلف أجهزة السلطة، مع بقائهم في مناصبهم السابقة، أضعفها وحولها الى هياكل خاوية، وأفقدها صلتها بمن تمثل وفقدت مبرر وجودها من وجهة نظرهم. ورحم الله ايام التحركات الطلابية والعمالية الفلسطينية في العالمين الغربي والعربي خلال فترة حصار بيروت، واثناء “الزنقات” الكثيرة التي مرت بها الحركة الوطنية الفلسطينية، فالحالة الفلسطينية الراهنة في أمس الحاجة لها. ويستطيع كل مراقب محايد أن يرى ببساطة ان أدق تشخيص للوضع الوطني الفلسطيني، وأعلى وتائر نقد حالته السائدة، هو الذي يتم بين فترة وأخرى في اوساط القوى المشاركة في السلطة، وبخاصة الوزراء، وذوي المناصب العليا فيها. لكنه، للأسف الشديد، يجري خارج الاجتماعات الرسمية، وداخل الاطرالحزبية الضيقة في أحسن الاحوال. والتدقيق في مضامين الحديث والنقاش الموسمي، المعلن وغير المعلن، حول الازمة سبل الخروج منها، يبين بأن بعضه واقعي وشمولي. يتمحور حول قضايا جوهرية تهم الشأن الوطني العام، ويميز جوانبها الموضوعية عن الذاتية. ويأخذ بعين الاعتبار ارث الاحتلال الثقيل، ودوره في تعطيل تطورالاوضاع الفلسطينية. ويراعي موازين القوى والظروف الموضوعية المحيطة بالوضع الفلسطيني. اما بعضه الآخر فهو ارادوي هروبي، يسقط دور العوامل الموضوعية الخارجية وممارسات الاحتلال في خلق الازمة وتفاقمها يوميا. ويهتم بالشأن الذاتي وبالمصالح الحزبية الضيقة. ويعفي الذات من المسؤولية، ولا يقصر في جلد الغير. وهناك ايضا من اهل السلطة من يحاول ان يطمس الحقائق الثابتة ويخفي الوقائع الملموسة، ويغطي “الشمس بالغربال”، ويتلطى بوجود الاحتلال وممارساته اليومية، وبتخلي العرب عن القضية المقدسة. ويتناسى دور قصور السلطة واجهزتها في بقاء الازمة تراوح مكانها. اما أوساط قوى المعارضة فاسخن حديثها عن الازمة يتركز حول الامورالسياسية، وبخاصة حالة عملية السلام والمفاوضات والاتفاقات التي تم التوصل لها مع الاسرائيليين، وحول المسؤولية الفردية والحزبية لاطراف السلطة. وكأن الازمة الوطنية محصورة في المفاوضات فقط، والمشاركة في عملية السلام هي السبب الوحيد، والخروج منها هو الدواء.
إشكالات موضوعية خلقها أوسلو
وبجانب هذه الاشكالات الذاتية واجه الفكرالسياسي الفلسطيني بعد أوسلو وتشكيل السلطة الوطنية، ولا يزال يواجه، عددا من المعضلات الموضوعية المعقدة. معالجة بعضها لا يتوقف على رغبات الفلسطينيين وحدهم، فالموقف الإسرائيلي لازال حاسم في معظمها إن لم يكن كلها وأهمها. (1) نشوء تناقض حقيقي بين قانونية التزام منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية بالاتفاقات التي توصلت لها مع الحكومة الإسرائيلية، وبين شرعية استمرار المنظمة كمؤسسة وكإطار وطني ملتزم أمام الشعب بقيادة النضال الوطني وتنظيم أشكال النضال المناسبة ضد الاحتلال حتى العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة. فالاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية تلزم م ت ف والسلطة الوطنية بوقف حملات التعبئة العدائية ضد إسرائيل، وبوقف العنف بكل أنواعه ضد قوات الاحتلال، والحفاظ على أمن إسرائيل والإسرائيليين، بما في ذلك المستوطنات والمستوطنين المقيمين على الأراضي الفلسطينية، وبمعاقبة كل الأفراد والجماعات الذين يمارسونه. في وقت لم تقدم هذه الاتفاقات حلولا مرضية للشعب الفلسطيني ولم تعالج قضاياه الأساسية ـ اللاجئين، القدس، الحدود، النازحين، المستوطنين والمستوطنات،…الخ. ناهيك عن عدم توقف الاحتلال عن أعماله القمعية للفلسطينيين في المناطق الخاضعة لسيطرته (2) عدم القدرة على التوفيق بين متطلبات نهوض السلطة الوطنية بمهمة بناء مؤسساتها المدنية والاقتصادية والعسكرية الأمنية في غزة والضفة الغربية، مع متطلبات الحفاظ على وحدة مؤسسات م ت ف ودورها كإطار وطني قيادي لكل الشعب يضم قوى متعددة متعارضة ومتناقضة في مواقفها من القضايا الجوهرية ومن ضمنها إتفاق إعلان المبادئ الذي مكّن المنظمة من تشكيل السلطة. فمواقف القوى المشكلة للنظام السياسي تتراوح بين من يشارك في السلطة وراض عن تشكيلتها، ومن لايزال داخل المنظمة وخارج السلطة وغير راض عن تشكيلها وعن التزاماتها مع الاسرائيليين. وهناك من هو خارج المنظمة وخارج السلطة ويعارض الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية ويعمل بكل السبل على الإطاحة بها، ويتمنى الفشل للسلطة ويسعى لتفشيلها حيث إستطاع ذلك سبيلا. (3) صحيح أن مرحلة الكفاح المسلح قد انتهت، إلا أن مسار المفاوضات وتلاعب اسرائيل بالاتفاقات، وحالة السلطة لم تدفع الشعب في الداخل والخارج الى إعتماد السلطة الوطنية كبديل او كوريث كامل للمنظمة قادر على قيادة المرحلة، ويمكن الاعتماد عليه في تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى والاساسية. خاصة وان مسيرة المفاوضات متعثرة والاتفاقات لم تعالج قضايا الصراع الكبرى. وهذه المعادلة تنعش ليس فقط القوى والأفكارالمتطرفة، بل تبعث الحياة من جديد في الافكار والدوفع التي وقفت خلف تأسيس م ت ف. وقد تدفع، يوما ما، قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، وبخاصة اللاجئين، الى ادارة الظهر للمنظمة التي نعرفها اذا لم تؤخذ مصالحهم بعين الاعتبار، ولم تعالج الحلول السياسية قضاياهم بصورة مرضية، ولم يجدوا من يدافع حقوقهم في بلدان الشتات. وقد يتوجهون للبحث ولو “بعد زمن “عن صيغة بديلة يعبرون فيها عن أنفسهم وعن تطلعاتهم، ويتحركون من خلالها للدفاع عن مصالحهم وإستعادة حقوقه المغتصبة. وأعتقد ان إستمرار تعثر المفاوضات، وفوز حزب الليكود في إنتخابات الكنيست القادمة، وإقدام نتنياهو على الاعلان رسميا عن ضم ما يهدد بضمه من أراضي الضفة الغربية يسّرع خطاهم في هذا الاتجاه، ويبعدهم أكثر فأكثر عن النظام السياسي الحالي. (4) تمشيا مع روح عملية السلام والتزاما بالاتفاقات شطب المجلس الوطني في دورة غزة “ربيع 1996″ بنود الميثاق المتعارضة مع الاتفاقات، وتلك التي كانت تتحدث عن الكفاح المسلح أسلوبا للتحرير، وبقيت المنظمة للان بدون ميثاق. في حينه لم يحظى شطب تلك البنود بإجماع فصائل وقوى المنظمة أو من هو خارجها، ولم يستفتى الشعب حول الموضوع. صحيح أن ميثاق المنظمة هرم وشاخ قبل الغائه، وكان بحاجة لتطوير منذ زمن طويل، ووصفه رئيس اللجنة التنفيذية قبل سنوت “بالكادوك”، إلا أن بقاء المنظمة دون ميثاق يجعلها أشبه بباخرة تبحر في بحر هائج دون بوصلة تحدد لها تجاه حركتها. ويخطئ من يعتقد بأن التسريع في تمويت المنظمة يمنح الحياة للسلطة ويطيل عمرها، ويعزز مكانتها، ويسرّع في تحولها لبديل مقبول. فالمنظمة كانت ولا تزال وطن اللاجئين عبره يعبرون عن تطلعاتهم الوطنية. وإنتفاء مبرر وجود المنظمة رهن بقيام الدولة المستقلة وحل مشكلة اللاجئين، وليس قيام السلطة الوطنية فقط.

القسم الرابع سبل حل الاشكالية والخروج من الأزمة
الأزمة بلغت ذروتها وبحاجة لحلول عملية
يكاد يكون هناك إجماع وطني على أن أزمة النظام السياسي بلغت ذروتها، وأن جميع أطرافه
“سلطة ومعارضة”، في الداخل والخارج يعانون من إشكاليات وأزمات جوهرية متنوعة، ومرتبكون في مواجهة الاحداث والتطورات السياسية التي يمر بها الصراع مع النظام السياسي الاسرائيلي. ومنظمة التحرير مقعدة وتمر بمرحلة من الإحتضار التنظيمي والسياسي وتنتظر العلاج. والسلطة الوطنية عاجزة عن القيام بالمهام الوطنية المسندة لها. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف على أن إستمرار الأزمة، بشقيها الذاتي والموضوعي، وتمترس السلطة والمعارضة في خنادقها ومواصلة العمل بالنهج الذي اتبع منذ اوسلو وحتى الآن، تضر بالمصالح الوطنية العليا ولا تنفع أحدا من الفلسطينيين. وأن إعتماد مواقف إنتظارية وقدرية والتأخرعن الشروع الجدي والعملي في معالجتها يعرض مصير الشعب الفلسطيني لأخطار إستراتيجية حقيقية، ويقوده الى كوارث جديدة، تمس حلم الجميع بالعودة والحرية والاستقلال فترة زمنية طويلة. ويلحق أضرارا متنوعة بالقضية الوطنية ويفقدها الكثير من المكاسب التي حققتها في الساحتين العربية والدولية. ويزيد من حالة الإحباط والإرتباك، ويوسع الهوة بين الداخل والخارج. ويفتح آجلا أوعاجلا بابا للصراعات الفلسطينية التناحرية الداخلية، في وقت لاتزال أجزاء واسعة من الارض رازحة تحت الاحتلال، وحقوق الفلسطينين الأساية مغتصبة.
وإذا كان غير مفيد الغوص الآن في تحديد المسؤولية عن ذلك والتمترس عند ضرورة محاسبة الفاعلين، فإلقائها على كاهل الإحتلال وعلى الأوضاع الصعبة التي خلفها ورائه، في الضفة والقطاع، لا يساعد على معالجة الأزمة، بل يعمق الصراع بين السلطة والمعارضة، ويزيد من الأضرار التي لحقت بدورهما. صحيح أن الاحتلال وموازين القوى الدولية والإقليمية ليست بريئة تماما من المعضلات والمشكلات الذاتية والموضوعية التي يواجهها النظام السياسي الفلسطيني، الا أن تحويلها إلى مشجب تحمّل عليه القوى الفلسطينية كل أخطائها وتقصيراتها، يدفع بالتعارض القائم بين السلطة والمنظمة إلى ذروته، وقد يؤدي إلى المزيد من الانفجارات والتشرذمات داخل النظام الفلسطيني. فالقراءة الموضوعية تحمل الاحتلال مسؤولية عدم الالتزام بالاتفاقات، وتدمير الاقتصاد الفلسطيني وزرع أزمة اقتصادية شديدة التعقيد علاجها صعب ويحتاج لمساعدات خارجية، لكن هذا الامر لا ينطبق على أزمة الديمقراطية وأزمة العلاقات الوطنية الداخلية..الخ المستفحلة في النظام السياسي الفلسطيني.
أعتقد بأن فكفكة مكونات الأزمة بعضها عن بعض يسهّل الحل، ويساعد البحاثة وأصحاب القرارعلى رؤية الموضوعي منها والطبيعي الناتج عن الإحتلال، وتمييزه عن الطارئ الناشئ عن زراعة الذات “معارضة وسلطة”، ومن صناعة القيادة الفلسطينية وأداء السلطة الوطنية. وعملا بالحكمة الشعبية القديمة القائلة ” إيقاد شمعة مرة خير من شتم الظلام ألف مرة” فأظن أن المصالح العليا للفلسطينيين تفرض على السلطة الوطنية وقيادة م ت ف وبقية أطراف النظام السياسي الفلسطيني، إعادة النظر في بعض المفاهيم التي تحكمت في التوجهات والعلاقات منذ التوقيع على إتفاق “أوسلو” وحتى الآن، واعتماد حيلة الصبر والنفس الطويل في ادارة الصراع وانتزاع الحقوق كل الوطنية الوطنية المشروعة. والدخول فورا في حوار وطني شامل غير الحوار الذي عرفناه، ووضع “خطة إنقاذ وطنية ” تقوم على :
أولا / نبذ الأوهام حول عملية السلام الحالية
بعد تجربة عامين وأكثر من المفاوضات في عهد الليكود، يفترض أن لا يكون هناك خلاف فلسطيني إطلاقا على أن عملية السلام كما عرفناها في مدريد واوسلو وصلت الى نهايتها، ولا أفق لإحيائها طالما بقي نتنياهو وإئتلافه اليميني يتربع على رأس السلطة في إسرائيل. وأظن ان ما يصدر من تصريحات رسمية إسرائيلية حول الحرص على عملية السلام وحول الإلتزام بأسسها وبما إنبثق عنها من إتفاقات على المسار الفلسطيني الاسرائيلي يندرج في إطار قتل الوقت. ومحاولة لتبرئة الذمة أمام الراي العام العالمي والاسرائيلي المؤيد لصنع السلام في منطقة الشرق الاوسط، من الجريمة المرتكبة عن سابق قصد وإصرار بحق إتفاق إوسلو وما تلاه من إتفاقات فلسطينية إسرائيلية. وبصرف النظر عن تفاصيل الازمة التي تواجه المفاوضات، فوقائع سبع سنوات من حياة عملية السلام أكدت أن درجة تطور الفكر السياسي في المجتمع الاسرائيلي لم تصل الى مستوى تحقيق مصالحة تاريخية حقيقية بين الشعبين. فالقوى الاسرائيلية المتطرفة صعدت للسلطة في إنتخابات ديمقراطية، وأغلبية الإسرائيليين يرفضون التقدم بإتجاه حل عادل لقضية القدس يقبل به الفلسطينيون. وحق العودة للفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم في عام 47-48 مرفوض بالمطلق ليس فقط من قوى اليمين بل من كل الاحزاب اليمينية واليسارية الاسرائيلية. أما تعويضهم عن أراضيهم وممتلكاتهم التي سلبت منهم فالواضح أنها قضية شائكة ومعقدة، والتفاوض حولها سوف يستغرق سنين طويلة. ولا أظن أن تبدلا نوعيا سيقع في مواقف وقناعات الشارع الاسرائيلي في غضون السنوات القليلة القادمة. وهذا يعني بقاء فلسطينيي الشتات “نصف الشعب” من الان ولسنوات طويلة في أماكن اقامتهم الحالية، وبقاء قضاياهم وكل القضية الفلسطينية معلقة بدون حلول. فقضية اللاجئين هي جوهر القضية الفلسطينة وبدون حلها لاحل للصراع الفلسطيني الاسرائيلي. ولا تستطيع السلطة والقيادة الفلسطينية التصرف بهذه القضايا الكبرى دون الرجوع لكل قوى الشعب في كل اماكن تواجده. فالمفاوضات حول المرحلة الانتقالية وقضاياها شيء، أما قضايا المرحلة النهائية فهي شيء آخر. ولعل تشكيل إطار وطني استشاري غير رسمي يضم ممثلين عن كل التجمعات بما في ذلك المقيمين في اسرائيل له ضروراته الوطنية. فالتشاورالمتواصل مع عرب اسرائيل وممثلي الخارج في قضايا الحل النهائي ضرورة وطنية للحفاظ على وحدة الشعب، ولبورة حل نهائي قابل للحياة يحظى بموافقة أغلبية شعبية كبيرة.
أما الاوضاع الدولية السائدة والمرئية، وموازين القوى القائمة بين الطرفين المرئية من الآن ولعقد كامل من الزمن، فالواضح أنها لا تتجه نحو إلزام إسرائيل بقبول حلول عادلة وشاملة لهذه القضايا الشائكة. ويخطئ من يعتقد بانها قادرة على احداث تغييرات جوهرية في مواقف نتنياهو وحكومته، والزامها بالسير على درب صنع السلام العادل والشامل. ويخطئ اكثر من كل من يراهن على ميلاد عملية سلام جديدة وآلية مفاوضات بديلة جديدة خلال عهد الليكود. واظهار الحقيقة يفرض القول بان المعارضة الاسرائيلية لم تظهر للان غيرة حقيقة على عملية السلام، وعلى الاتفاقات التي وقعت سابقا معها. ولم تستطع التاثيرعلى مواقف نتنياهو المعادية لسلام حقيقي مع العرب، وتحقيق مصالحة تاريخية مع الفلسطينيين. واذا كانت المصالح العليا للشعب الفلسطيني تفرض على القيادة عدم تحمل مسئولية تدمير عملية السلام، والعمل على تطوير مواقف الحلفاء، وتوسيع جبهة الاصدقاء، وتقليص جبهة الاعداء، فذات المصالح تفرض عليها نبذ أية أوهام حول ما يمكن تحقيقه عبر عملية السلام في عهد الليكود.
ثانيا / دمقرطة الحياة الفلسطينية الداخلية
من يراجع تاريخ النظام السياسي الفلسطيني يجد أن القناعة الجماعية النابعة من الوعي الشعبي كانت، على إمتداد العقود الثلاث الاخيرة، المحرك الرئيسي لنضال الشعب الفلسطيني من أجل تحقيق أهدافه الوطنية. وهي التي دفعته للإنخراط في الفصائل والأحزاب والحركات الوطنية والإلتفاف حول م ت ف وحمايتها كممثل شرعي ووحيد له. وتخطئ السلطة الفلسطينية إن هي إعتقدت أن بإمكانها توحيد طاقات الشعب المشتت في شتى أنحاء العالم حولها وحول مواقفها بالإغراء أو بالوعود أو بقوة الإكراه وما شابه ذلك. فلا يمكنها بقوات الشرطة والمخابرات قيادة المرحلة والسيطرة على شعب نصفه فوق أرضه ونصفه الآخر خارجها. قد تستطيع ذلك مؤقتا في غزة وبعض مناطق الضفة الغربية ولكن ماذا بشأن نصف الشعب المقيم في الخارج ؟ لقد مرت على م.ت. ف والساحة الفلسطينية قبل “اوسلو” أحداث جسام هزت أوضاعها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، منها الحروب في لبنان، انشقاق وانقسام م ت ف، إنطلاق الانتفاضة وتوقفها، المواقف من المبادرات الدولية السابقة..الخ بعضها ألحق بالقضية الوطنية خسائر كبيرة، وكلها مرت عليها مرور الكرام. ولم يحاول أي من القوى الفلسطينية اجراء مراجعة موضوعية مجردة من المواقف المسبقة. ولم نسمع من أي منها نقدا ذاتيا جريئا. وكأن الجميع معصوم عن الخطا. واليوم يتكرر ذات السلوك وذات المشهد من المهزلة. وهذا التكرار يبين بان المركزية الشديدة غياب الاعراف والتقاليد الديمقراطية في الحياة السياسية الفلسطينية وطغيان دورالفرد على حساب دور المؤسسات هي التي مكنت وتمكن قوى الحركة الوطنية والاسلامية تمرير مواقفها الخاطئة دون مراجعة ودون محاسبة، وتمكنها من العمل بشعارات إستهلكتها الحياة. ويستطيع كل من يدقق في أوضاع قوى النظام السياسي الراهنة أن يتلمس المخاض الفكري والتنظيمي الذي تمر به منذ انطلاقة الانتفاضة عام 1987 وحتى الآن.
وفي سياق العمل من أجل تجديد بنية النظام السياسي الفلسطيني ودمقرطة أوضاع قواه وتوسيع قاعدتها الشعبية لا بد من الاعتراف بأن تبدلا نوعيا وقع في السنوات الأخيرة “منذ الانتفاضة” على الوزن الشعبي، وثقل الدورالسياسي والكفاحي لقوى وفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية المنضوية تحت لواء م ت ف ومن لازال خارجها. فبعضها “فتح وحماس والجهاد الاسلامي” نما حجمه وثقلة الوطني والاخر”شعبية، ديمقراطية، فدا، نضال، تقلص وزنه وتراجع دوره. وبعد قيام السلطة الوطنية إنتقلت بعض الفصائل من وضعيتها كحركات ثورية الى وضعية الأحزاب الحاكمة. وتشكلت قاعدة إجتماعية لقيام “حزب السلطة” يضم الاغلبية الساحقة من الموظفين وعائلاتهم وكل المنتفعين من السلطة. ووقعت تطورات نوعية في أسسها وبناها الفكرية والتنظيمية وفي علاقاتها الداخلية وعلاقتها بالجماهير. شبيهة بالنقلة التي مرت بها الأحزاب العربية التي إنتقلت من الشارع الى مراكز السلطة. والحالة الفلسطينية أقرب بالاجمال الى النموذج الجزائري، مع خصوصياتها الناتجة عن وجود الاحتلال. فحركة فتح تحولت الى “سلطة” شبيهة بسلطة جبهة التحرير الجزائرية أواخر الستينات وبداية السبعينات، يدور في فلكها بعض القوى والاتجاهات، وشكل آخرون معارضة غير موحدة، جناحها الديني هو الاقوى والأفعل سياسيا وجماهيريا.
لاشك أن إعتماد الديمقراطية كأساس في معالجة قضايا الخلاف داخل داخل النظام السياسي الفلسطيني هو السبيل الوحيد لأعطاء كل ذي حق حقه، أما التمترس خلف المواقف ومحاولة فرضها على الأخرين فيقود الى تعميق الصراع، ويدفعة نحو نهاياته الطبيعية أي الاحتراب والاقتتال الداخلي. واذا كان خلق نوعا من إزدواجية السلطة مرفوض ويتعارض مع أسس الديمقراطية، فقمع المعارضة ومنعها من التعبيرعن مواقفها بحرية وبشتى الوسائل، وتشكيل المحاكم الصورية وسيادة نظام الحزب الواحد يقتل الديمقراطية، ويدمر أسس الوحدة الوطنية، ويزرع بذور التمزق في المجتمع، ويؤسس لصراعات داخلية دموية. ولعل تجربة الجزائر وكل الدول التي إبتليت بنظام الحزب الواحد خير دليل على ذلك.
والتجربة الفلسطينية بينت بان حشد طاقات الشعب الفلسطيني خلف القيادة لا يمكن أن تتم بدون ديمقراطية حقيقية تشرك الجميع في صناعة القرار الوطني، وبدون برامج وتوجهات واقعية مقنعة قادرة على تفعيل الطاقات الوطنية وتحقيق إنجازات ملموسة. واذا كانت أوضاع وظروف ما قبل عودة قيادة م ت ف من الخارج، وإستكمال مهمة التحرير جعلت الشعب يقبل بعض صيغ وأشكال الديمقراطية الشكلية والناقصة، ودفعته للصمت على بعض الممارسات غير الديمقراطية الخاطئة والمسيئة، فالمرحلة الجديدة، حررته من ذلك. وسياسات وممارسات ما قبل قيام السلطة الفلسطينية لا تصلح لما بعدها. وبديهي القول بأن اللجوء للردح والتنكيت داخل الغرف المغلقة لا يسمن ولا يغني عن جوع، ولا تصلح الخلل ولا تصحح الأخطاء. وإعتماد الديمقراطية في معالجة الخلافات داخل النظام السياسي يعني في الواقع الفلسطيني الراهن : (1) الأقرار بالتعددية السياسية والتنطيمية في إطار إستقلالية الحركة الوطنية الفلسطينية وإستقلالية قرارها الوطني. (2) حق الأقلية في التعبيرعن وجودها وعن مواقفها بكل الاشكال عبر منابرها الخاصة ومنابر منظمة التحرير وانهاء مظاهر واشكال الفردية والاستئثار. (3) أن يبقى الصراع بين مختلف التيارات والاتجاهات يدور في إطاره الفكري والسياسي والتنظيمي وألا يتحول الى صراع تناحري أو إقتتال داخلي. (4) أن تبقى المصلحة الوطنية العليا وبخاصة مواجهة الإحتلال وطرده فوق كل الإعتبارات الفئوية الضيقة التنظيمية والعقائدية. (5) أن تعتمد تيارات وإتجاهات النظام السياسي قواسم عمل ملزمة. وان يلتزم الجميع بقرارات الهيئات المشتركة وأن تعمل على إستفتاء الشعب حول قضايا الخلاف الأساسية حيث أمكن ذلك. 6) وفي كل الأحوال لا مبرر وطني إطلاقا لعدم إجراء إنتخابات بلدية، وداخل الأطر والإتحادات الشعبية الفلسطينية (عمال، طلاب، مرأة، معلمين…الخ) وعدم إعطائها إستقلاليتها عن السلطة والأحزاب حتى الان. فإجراء الإنتخابات على هذا المستوى وإستقلالية هذه المؤسسات يساهم في معالجة بعض الأمراض التي تعانيها هذة المؤسسات، ويساهم في تفكيك بعض المعضلات التنظيميية التي تعيشها منظمة التحرير. وأعتقد بأن المصالح الوطنية العليا، ومستقبل الديمقرايطة، وتعطيل إندفاع حزب السلطة وحماس نحو التصادم، على غرار ما هو حاصل في الجزائر، يتطلب تشكيل حركة ديمقراطية جديدة واقعية تتسع لكل الديمقراطيين الفلسطيين.
ثالثا/ تطوير أوضاع السلطة وإنجاح دورها
لا شك في أن التقييم الموضوعي لقيام السلطة الوطنية يفرض إعتباره تطورا ايجابيا يخدم تصحيح وتطوير مسار الحركة الوطنية الفلسطينية باتجاه تحقيق أهدافها الإستراتيجية. وهذا التطورالايجابي يستوجب تكييف الأوضاع القيادية الفلسطينية بما يمكن من إستثمار كل تفاعلاته وأبعاده الداخلية والخارجية لصالح الفلسطينيين ككل. ويفرض أيضا إحداث تغيرات نوعية في مفاهيم العمل التي كانت سائدة قبل وقوعه، وإحداث تغيرات جذرية على الالية والاسس التنظيمية التي قامت عليها بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، ونظمت على اساسها العلاقات داخل النظام السياسي الفلسطيني وداخل النقابات والمنظمات والإتحادات الشعبية الفلسطينية. وتمني الفشل للسلطة الفلسطينية، أو العمل على إفشال تجربتها أقل مايمكن أن يقال فلسطينيا عنه أنه لايخدم الهدف الوطني الفلسطيني في تأكيد قدرة الشعب الفلسطيني على ان يحكم نفسه بنفسه وأن يدير حياته بنجاح. ففشل تجربة السلطة الفلسطينية هو فشل لكل أطراف الحركة الوطنية الحاكمة والمعارضة. وفي هذا السياق لابد من القول بوضوح أن الأسس التي أعتمدت في تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة لا تتناسب وطبيعة مهام المرحلة، وفي مقدمتها مهمة تحضير الأوضاع للاعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة فوق كل الاراضي الفلسسطيمنية التي احتلت عام 1967، واستنهاض طاقات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجة. وحشد الجهود العربية والدولية لمواجهة مواقف وتصرفات الحكومة الاسرائيلية والمستوطنيين التي لن تستسلم للواقع الجديد الذي سيخلقه إعلان الدولة.
وبالتمعن في طبيعة المشكلات التي تواجهها، وفي نوعية الأمراض التي تنخر جسمها وبخاصة الإنعزالية عن شعبها وعن العرب والدكتاتورية، يصبح من الصعب الحديث عن حل سحري كمخرج فوري للمأزق الذي تعيشه. وتدارك الاوضاع والشروع في تصحيحها، ومعالجة المشكلات التي تواجهها السلطة لا يمكن أن يتم بحقن جسمها ببعض المسكنات التي قد تضر ولا تفيد. ويتطلب الاقدام على العديد من الخطوات الوطنية العاجلة والجريئة، حتى ولو كانت مؤلمة لبعض القوى ولبعض القيادات وأهمها وأكثرها الحاحية : 1) إعادة بناء السلطة على أسس جديدة، غير التي أعتمدت عندما أعيد تشكيلها. وإختزال عدد الوزارات، وتشكيل وزارة إستيعاب وتاهيل العائدين والنازحين واللاجئين. وعدم الجمع بين عضوية اللجنة التنفيذية وعضوية السلطة في كل الأحوال بما في ذلك رئاسة الوزارة. وتقليص نسبة الحزبيين لصالح الكفاءات الوطنية المستقلة، وبخاصة من أبناء الضفة والقطاع من ذوي الكفاءة والخبرة والاختصاص في كل المجالات وبخاصة المجال الاقتصادي والعمل المالي والتربوي والاداري. وممن يتمتعون بالثقة والمصداقية في صفوف اهل الضفة وقطاع غزة، وفي الاوساط العربية والدولية. 2) تحديد مهام السلطة الوطنية بدقة، وفصلها عن مهام التنفيذية، وتخفيف الاعباء غير الضرورية عن كاهلها بفك التداخل الحاصل بين مهامها ومهام اللجنة التنفيذية، وحصرها في إدارة الوظائف والمجالات المنوطة بها. 3) وضع اللوائح والانظمة التشريعية الكفيلة بتنظيم العلاقة بين السلطة و م ت ف وإعتبارها سلطة تنفيذية خاضعة لمحاسبة مراقبة والمؤسسات التشريعية في منظمة التحرير حسب قرار المجلس المركزي الذي تم بموجبه تشكيلها. 4) وقف سياسة التعيينات العشوائية المعتمدة في املاء المراكز والوظائف الشاغرة في مؤسسات السلطة، وحصرها في حدود الملاكات الضرورية وليس اكثر. وإعادة النظر في فائض التعيينات التي تمت في ملاك الوزارات، وتحويل كل المعينين كترضيات حزبية وخاصة، الى وزارة الاستيعاب لتأهيلهم وتشغيلهم في مجالات اخرى اكثر جدوى وانتاجية. واحالة كبار السن والفائضين عن الحاجة الى التقاعد. 5) وقف التضخم في ملاكات أجهزة الامن وأجهزة الوزارات، والحرص على خلق توازن بين الواردات والنفقات، وبين النفقات الجارية والانفاق على بناء مؤسسات السلطة، وإقامة المشاريع الانتاجية القادرة على إمتصاص أقسام من البطالة، وزيادة الدخل القومي. والتنبه سلفا لعدم إغراق الشعب الفلسطيني في الديون الخارجية. 6) تحرير السلطة الفلسطينية من الضغط المعنوي والعملي لعملية المفاوضات الطويلة والشاقة، ومن الابتزاز الشديد الذي يمارسه المفاوض الاسرائيلي. وحصر مهمة متابعة المفاوضات بمؤسسات منظمة التحرير. وغني عن القول ان انجاز هذه المهمة الرئيسية يتطلب احياءاللجنة العليا لمتابعة المفاوضات، واعادة تشكيلها بما يمكنها من متابع كل فروع المفاوضات الثنائية والمتعددة الاطراف. وتشكيل الطواقم المفاوضة، وطواقم المستشارين، على اساس الكفاءة والخبرة والاختصاص.

رابعا/ إحياء م ت ف وتفعيل دورها
بالتمعن في ما آلت الية أوضاع منظمة التحرير، وفي الخطوات التنظيمية والعملية التي تمت بعد تشكيل السلطة وأدت الى تجويفها من الداخل يتبين أن هناك في القيادة الفلسطينية من هو مقتنع بأن إتفاق أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية فرضا العد العكسي لوجود منظمة التحرير الفلسطينية كإطار قيادي جبهوي جامع لقوى الشعب الفلسطيني. ويعتقد أصحاب هذا الرأي بان السلطة الوطنية هي البديل والوريث الشرعي للمنظمة. وهناك من يحاول حرق المراحل وتمويت منظمة التحرير، ظنا منه أن البديل قد وجد. ويحلو لبعض القيادات الفلسطينية الاستشهاد بتجربة بن غورين في تهميش دور الوكالة اليهودية بعد الاعلان قيام دولة اسرائيل وتحويلة الى دور مآزر للحكومة. لكنهم ينسون أن بن غورين أقدم على خطوته بعد إستكمال قيام دولة إسرائيل على الارض. وبعدما هزمت هذه الدولة كل الدول العربية التي شاركت في حرب 1947-1948. وينسون أن بن غوريون والقيادة الصهيونية أبقت على المؤتمر اليهودي العالمي بعد قيام دولة اسرائيل. وأن ماحققه الفلسطينييون حتى الان حكم ذاتي محدود الصلاحيات على جزء بسيط من الأرض وليس أكثر، وان الاستيطان يحاصر هذا الجزء الصغير وينهش جسده يوميا. أضف لذلك ان اتفاق اوسلو لم يوصل الى الحل الذي كان ينتظره الفلسطينيون، ومسار المفاوضات منذ اوسلو وحتى الآن لم يشجعهم على اعتماد هذا المسار كطريق وحيد يعيد لهم حريتهم وكرامتهم. وكلا العنصرين، أوسلو والمفاوضات، لم يقنعا الشعب الفلسطيني حتى الآن باعتماد السلطة الوطنية كوريث كامل لمنظمة التحرير يمكن الاعتماد عليه في تحقيق الأهداف الوطنية التي من اجلها قامت منظمة التحرير.
وتجربة ثلاث سنوات من خلط الهيئات ومهام العمل اليومي بينت أن دخول أعضاء التنفيذية في الوزارة لم يكن مصدر تنشيط وتفعيل لدور السلطة بمقدار ما كان مصدر إرباك لها، وتهميش وإضعاف دور اللجنة التنفيذية، وتدهور واهتراء أوضاع بقية المؤسسات وشلها عن الحركة وتعطيل عملها. وأضعف موقف السلطة الوطنية في نظر الشعب الفلسطيني ونظر القوى الصديقة ولم يقويها في مواجهة الإسرائيليين. وأفقدها مرجعيتها، وفقدت الجهة المعنية عن مسائلتها ومحاسبتها دوريا. لا شك في أن انتخاب المجلس التشريعي وابراز دور السلطة الوطنية وتطويره كاطار قيادي مركزي يصب في صالح النضال الوطني العام، ويخدم هدف بناء الدولة المستقلة على الارض الفلسطينية، ويضع اللبنات الاساسية لعبور مرحلة التحول من حالة الثورة لحالة الدولة. الا أن إلغاء دور م ت ف وتعطيل إجتماعات اللجنة التنفيذية ودمجها هي والوفد المفاوض والسلطة “الوزارة” في اطار واحد “الاجتماع الدوري للقيادة “، ودمج مؤسسات المنظمة بمؤسسات السلطة، لم ولا يفعل دور هيئات الجسمين. واعتقد بان قوى النظام السياسي الفلسطيني ترتكب خطأ كبيرا اذا حاولو القفز بصورة قسرية عن المرحلة الانتقالية التي عبرها النضال الوطني الفلسطيني بعد التوقيع على اتفاق أوسلو.
وأي تكن الدوافع والأسباب الذاتية التي تدفع الآن ببعض القيادات والقوى والشخصيات الفلسطينية نحو استذكار المنظمة، بين فترة وأخرى، واستذكار لجنتها التنفيذية ومجلسيها المركزي والوطني، والإصرارعلى إحياء دورها القيادي بعد ان غيب إسمها ودورها قرابة 5 سنوات، فالواضح ان هذا الإستذكار لم يعالج الازمة، وان بعضة يتم كنوع من رفع العتب، وبعضه الاخر يتم لاغرض حزبية داخلية صرفة. والقيادة الفلسطينية أخطأت خطأ إستراتيجيا حين إعتقدت بان الاتفاقات مع الاسرائيليين ستفرز تدريجيا إنتهاء دور المنظمة. وان السلطة قادرة على ان تكون بديلها ووريثها. وعندما اعتقدت بأن التعجيل في تسليم الورثة والراية للسطة يسرّع في خلق البديل وتأهيله لتولي دفة قيادة الشعب الفلسطيني كله. ومن البديهي القول أن التراجع عن هذا الخطا ضرورة وطنية، وقديما قالوا “الاعتراف بالخطا والتراجع عنه فضيلة”. وترجمته العملية تتم بالإقرار بأن لا بديل للمنظمة في هذة المرحلة والتمسك بدورها، واعادة بعث الحياة في مؤسساتها والعمل من داخلها، واحياء دورها القيادي. والمناداة بعدم حرق المراحل لا يعني اطلاقا الاستسلام للازمة الفكرية والسياسية والتنظيمية المستفحلة في صفوف م ت ف وعموم قوى الحركة الفلسطينية. ولا يعني ايضا السكون والقبول بالاوضاع التنظيمية والعلاقات الداخلية الخاطئة القائمة، بما في ذلك القبول ببقاء أوضاع م ت ف على ما هي علية الان. فالقبول بذلك قد يقود الى ذات النتائج السلبية التي يفرزها التفكير بتوليد البديل قبل استكمال الفترة الطبيعية للحمل.
وبغض النظرعن التقديرات التي يعطيها هذا المركز أو ذاك الطرف لحجم وثقل هذا الفصيل أوذاك التنظيم فالتباين في التقدير نسبي ولا يلغي ضرورة إعادة النظر في النسب التمثيلية للقوى المشكلة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي نظام الكوتا الفصائلية وإستبدالها بكوتا لحجوم التجمعات الفلسطينية. وإعطاء الفلسطينيين في الشتات حق البحث في أفضل السبل لتمثيل أنفسهم في المجلس الوطني الفلسطيني. والتوجه نحو تقليص الهيمنة الفصائلية لحساب الفعاليات الوطنية المستقلة، وإعادة النظر في اللوائح الداخلية لكل مؤسسات المنظمة وهيئاتها القيادية لصالح تعزيز العمل الجماعي وتعزيز الرقابة على عملها. أما الاستمرار في التمترس عند المواقف القديمة، وإستمرار ادارة الصراع بذات العلقية السابقة، وبذات الأدوات المستهلكة فقد يقود الى كوارث جديدة وعندها لن يفيد تبادل الأتهامات حول المسؤولية عن ذلك. والمصلحة الوطنية العليا تفرض على السلطة والمعارضة الشروع فورا في إجراء تصحيح سريع للخللين الاساسيين الذين وقعا بعد التوقيع على اتفاق أوسلو. الأول انهاء الخلط المتعمد الذي جرى بين مهام الوزارة ومهام اللجنة التنفيذية. والثاني عودة من استقال أوجمد عضويته في المجلس المركزي واللجنة التنفيذية للعمل في إطارهاتين الهيئتين القياديتين الاساسيتين. ولا نظلم أحدا اذا قلنا أن المعارضة وكل المستنكفين عن المشاركة في أعمال اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي يتساوون مع المحتفظين بعضويتهم في المسؤولية عن شلل المنظمة، وعن النتائج الخطيرة التى ترتبت على ذلك حتى الان وتلك التى يمكن أن تظهر مستقبلا. فاذا كان مفهوما أن يكون لهذا الحزب او ذاك الفصيل او تلك الشخصية الوطنية من المعارضين أو المؤيدين لعملية السلام موقفا من المشاركة في السلطة الوطنية (الوزارة) فمن غير المقنع وغير المفهوم اطلاقا استمرارهم في تجميد أدوارهم فى هيئات م.ت.ف، أو الاستمرار في الأنسحاب من اللجنة التنفيذية، الا اذا كانوا مقتنعين ان دورالمنظمة قد انتهى ولم يعد هناك من مبرر لوجودها. واعتقد ان الاستمرار في الاستنكاف والمقاطعة والقاء المسؤولية على الاخرين لا يوقف التدهور الحصل في أوضاع المنظمة، ولا يصوب عمل السلطة، ولا يعالج قضايا الشعب الفسطيني داخل وخارج الوطن. بل يلحق أضرارا فادحة بالمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني. ويخطأ كل من يعتقد انه بموقفه السلبي والاستنكافي عن المشركة في إحياء المنظمة يعاقب أحدا غير الشعب الفلسطيني. ويخطأ اكثر من يعتقد أن بامكانه وراثتها أو تشكيل بديلا لها.
وانقاذ م ت ف تفرض ايضا دعوة المجلسين المركزي والوطني للانعقاد بأسرع وقت ممكن. فليس من حكمة على الاطلاق في عدم عقد اجتماعات منتظمة للمجلس المركزي. ولايمكن فهم هذا الموقف سوى الهروب من المحاسبة والمراقبة. وبغض النظرعن شكلية الدور الذي كان يقوم به هذا المجلس قبل تشكيل السلطة الا ان تعطيل اجتماعاته اضعف دور المنظمة واضعف الوحدة الوطنية، وقلص امكانية البحث عن سبل عقد مصالحة وطنية مع المعارضة، وسبل تنظيم العمل معها. وتعطيل اجتماعاته بحجة الخلاف حول مكان الاجتماع “خارج او داخل” ليس سوى هروب من المواجهة الداخلية. فقد كان ولازال بالامكان حله ببساطة لو صدقت المواقف والنوايا وتوفرت القناعة الحقيقية والرغبة الجدية في تفعيل هذا الاطار القيادي. ولا اظن ان عضوا واحدا في المجلس المركزي يرفض انعقاد اجتماعات هذه الهيئة القيادية الفلسطينية أو أية هيئة اخرى فوق تراب الوطن، اذا تأمنت الشروط الضرورية لانعقادها، وفي مقدمتها حرية وصول أعضاء المجلس الى مكان الاجتماع. وما يقال بشأن انعقاد المجلس المركزي يمكن قوله أيضا بشأن عدم عقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني، وعدم وضع ميثاق وطني جديد يستوعب التطورات التي وقعت على القضية الوطنية وعلى وضع الحركة الوطنية ومنظمة التحرير. أما الاستمرار في التهرب، فأظن أنه يعني من الناحية العملية إعتبار الدورة التي عقدها المجلس الوطني في صيف 1996 آخر دورة في حياة أعلى سلطة تشريعية فلسطينية.
لاشك في ان صراعا فكريا وتنظيميا داخليا يجب ان يخاض من اجل تصويب أوضاع الحركة الوطنية وتصويب برامجها. وان جهدا وطنيا كبيرا يجب ان يبذل من اجل احياء وتجديد بنية م ت ف وتفعيل دورها واعادة النظر في مهامها ووظائفها. وترميم وتصحيح العلاقات الفلسطينية الداخلية الخاطئة السائدة الان، بما في ذلك الاوضاع داخل م ت ف، وعلاقتها مع القوى الوطنية غير الممثلة في أطرها. فتمويت المنظمة يلحق اضرارا بوحدة الشعب ويعرضها للانقسام بين داخل وخارج. ويفقد الحركة الفلسطينية الاطار الموحد للطاقات الشعبية في وقت هي في أمس الحاجة له. فالسلطة لا يمكنها ان تكون بيتا يتسع لجميع القوى والاتجاهات السياسية والفكرية الفلسطينية، أقله خلال المرحلة الانتقالية. ولايمكنها أيضا أن تكون إطارا قادرا على تعبأة طاقات الشعب داخل الوطن وخارجه وتفعيلها في مواجهة الاحتلال. ومن المفيد أن يدرك الجميع بأن بقاء أوضاع النظام السياسي على ما هي عليه الآن يعني سير الجميع نحو كارثة وطنية جديدة. وبعدها لن يكون مفيدا بحث درجات ومستويات المسؤولية عن وقوعها.

خامسا / وضع المصالح العليا فوق الإعتبارات الأخرى
رغم إجماع أطراف النظام السياسي على أن إستمرار وجود الأزمة دون حل يلحق أضرارا فادحة بالقضية الوطنية وبمصالح الشعب في كل مراكز تواجده، الا أننا عند التدقيق في روءآها لأسباب الازمة نجدها متعارضة ومتناقضة. أما مشاريعها للعلاج وللخروج من المأزق فهي متقاطعة ومتداخلة أحيان ومتضاربة أحيان أخرى. فالمعارضة المنضوية تحت لواء منظمة التحرير تحمّل قيادة المنظمة المسؤولية الكاملة عن الأزمة، وتدعو لإستكمال الحوار الوطني الشامل بإعتباره الوسيلة الأنجع لترتيب البيت الفلسطيني والبلسم الشافي لمعالجة الامراض المتنوعة التي تنخر الجسد الوطني. وتضع شروطا غير واقعية حيث تطالب بتجميد المفاوضات وإلغاء الإتفاقات الموقعة مع الإسرائيليين. أما حركة حماس ومعها حركة الجهاد الإسلامي فموقفهما يتقاطع مع مواقف الآخرين بالإقرار بوجود الازمة وبخطورتها وبمسؤولية السلطة عنها. ألا أنه يتباين معهم حول سبل الخروج منها، ويتجه نحو مواقف أكثر تطرفا. وموقفها من مفهوم الحوار الوطني وأهدافه لا يزال غير واضح.
أما القوى المشاركة في السلطة فموقفهما غير موحد. بعضها يبسط الأزمة ويقارن الأوضاع بما كانت عليه قبل إنطلاق عملية السلام. ويستسهل الحلول ويراهن على الزمن، ولا يرى أي أمل يرجى من الحوار الوطني الشامل الذي تدعو له المعارضة. ويعتقد بأن الحوار بمفهومه الفصائلي القديم يضيف للمشكلات الوطنية القائمة مشكلات جديدة. والشعب الفلسطيني من وجهة نظرها في غنى عنها وعنده من الهموم والمشاكل ما يكفيه ويزيد عن طاقته. ويرفض عمليا الدخول في بحث جدي عن قواسم مشتركة مع المعارضة. ورفضه مؤشر واضح على ضعف الديمقراطية، وعدم رسخوها كمنهج تفكير وعدم تحولها الى نهج عمل في الحياة السياسية الفلسطينية. ويتضمن بصيغة وأخرى رغبة في الإستئثار الكامل بالسلطة، وعدم التقيد بقيود وقواعد العمل الوطني المشترك. وهناك من أهل السلطة من يخشى خسارة بعض الإمتيازات الحزبية والفردية المكتسبة من وجوده في السلطة، ومن المشاركة في المفاوضات، ومن العلاقة التي نشأت مع الإسرائيليين. وهناك أيضا من هو محبط تماما ويعقد الأمورعلى نفسه وعلى الآخرين، ولا دور له الا إشاعة أجواء اليأس، والتبشير بمستقبل فلسطيني قاتم. أما الأغلبية الشعبية المكتوية بنيران الأزمة، في الداخل والخارج، وغير المنتمية للتنظيمات، فهي فاقدة الثقة بقدرة السلطة، وقوى الحركة الوطنية الحالية المترهلة، يمينها ويسارها، على معالجة الأزمة والخروج منها بسلام، وعلى إخراج الوضع الوطني العام لبر الأمان. وتجربة جولات الحوار الوطني السابقة الفاشلة كرست عندها هذه القناعات، وباتت أكثر تحفزا للدفاع مباشرة عن حقوقها ومصالحها.
اعتقد ان مواجهة الأخطار المحيطة بالقضية، والمحافظة على وحدة الشعب، ومقاومة خطر الاستيطان والحفاظ على ما تبقى من عروبة القدس، أكبر وأهم من كل المصالح الخاصة التي أعاقت وما تزال تعيق توحدهم في مواجهة نكبة جديدة تحل بقضيتهم وشعبهم. والمسؤولية الوطنية تفرض إقرار القوى الحزبية وبخاصة القوى الحاكمة بأن إعفاء الذات من المسؤولية، وإلقائها على كاهل الآخرين، لا يحل الأزمه وفيه هروب من تحمل المسؤولية. وتفرض إعتراف جميع أطراف النظام السياسي الفلسطيني بأن تبسيط الأزمة أو تجاهل وجودها وإنعكاساتها السلبية لا يعالجها بل يعمقها ويوسع نتائجها الضارة بالجميع. وأن التلكؤ والتأخر في العلاج يضاعف من حجم المسؤولية الوطنية الجماعية والفردية. أما دعوات البعض لتأجيل المراجعة والتقييم فأظنها دعوات إنتهازية تغلف المصالح الذاتية وتقدمها على المصالح الوطنية العليا. وتفرض على الأجيال اللاحقة دفع أثمان باهظة عن أخطاء وتقصيرات إرتكبها غيرهم وليسوا مسؤولين عنها. فليس هناك قائد أو مثقف فلسطيني داعم أو مشارك في السلطة او معارض لها أو صامت عن أخطائها، يستطيع الإدعاء بأنه بريء من المسؤولية عن الأزمة وعن تفاقمها. وإذا كانت المسؤولية عن الأزمة تطال الجميع بنسب متفاوتة فالتطورات السياسية المتلاحقة وانعكاساتها المحتملة على القضية وعلى مستقبل الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، تستوجب الإستعداد الجماعي الجدي لمواجهة القادم قريبا والبعيد أيضا. وتعطي الحق لكل من تطاله بأن يدلي بدلوه ورفع صوته النقدي عاليا، والمطالبة ببقاء المصالح الوطنية فوق كل الاعتبارات الاخرى، والعمل ضمن طاقته لمعالجة الممكن. ولا خلاف على أن رسم الحلول الصحيحة يحتاج الى بحث جماعي حر ومحرر من قيود المواقف الحزبية المسبقة والتسامى فوق الجراح التي ألحقتها الممارسات الخاطئة بهذا الطرف او ذاك. وتفرض على السلطة العمل على خلق الظروف الوطنية المواتية للشروع في العلاج. وتملي على كل أطراف النظام السياسي الفلسطيني وضع المصالح العليا للشعب فوق جميع الاعتبارات الأخرى. وطي صفحة الشروط المسبقة، والقفز عن كل المسائل التفصيلية التي عطلت نجاح حواراتهم السابقة. ويخطئ من يعتقد أن العالم والعرب سيخلصوا الفلسطينيين من أزماتهم إذا هم لم يتحركوا ليخلصوا أنفسهم. فتراجع درجة حرارة الصراع داخل النظام السياسي الفلسطيني لن يبدأ قبل تغليب التناقض الرئيسي مع الاحتلال على ما عداه، وقبل إعادة بناء وتشغيل المؤسسات الوطنية على أسس علمية، وتنظيم العلاقة مع الشعب على أسس ديمقراطية. وأظن بان التاريخ لن يرحم أحدا.

ملخص مواطن / ندوة 22/10/1998
* شكر مؤسسة مواطن على تنظيم الندوة، وحسن إختيار موضوعاتها.
* الندوة تتيح فرصة حقيقية لإجراء مراجعة مسئولة للمسيرة الوطنية، ودراسة الوضع الوطني القائم الآن، واسشفاف آفاقه المستقبلية.
* الندوة تنعقد وهناك إجماع وطني على أن أزمة النظام السياسي بلغت ذروتها، وأن جميع أطرافه “سلطة ومعارضة”، في الداخل والخارج يعانون إشكاليات وأزمات جوهرية متنوعة، ومرتبكون في مواجهة الاحداث والتطورات السياسية. وإعتماد مواقف إنتظارية وقدرية والتأخرعن الشروع الجدي والعملي في معالجة الازمة بشقيها الذاتي والموضوعي يعرض مصير الشعب الفلسطيني لأخطار إستراتيجية. ويزيد من حالة الإحباط والإرتباك، ويوسع الهوة بين الداخل والخارج. ويفتح آجلا أوعاجلا بابا للصراعات الفلسطينية التناحرية الداخلية.
* واذا كان الحوار الوطني الشامل ضرورة وطنية في هذه المرحلة فدور هذا الحشد الواسع هو اجراء مثل هذا الحوارالحرغير الرسمي، المساهمة الجادة في تشخيص وتحليل أزمة الوضع الوطني الراهن، والوصول الى نتائج موثقة تحدد بدقة وموضوعية المخارج الواقعية والحلول العملية للازمة، وتقديمها للمعنيين بالأمر، وفي المقدمة منهم المواطن الفلسطيني .
* الموضوع متشعب، وقصة الداخل والخارج طويلة عمرها نصف قرن.
ـ يوجد ورقة تغطي باستفاضة كافة جوانب الموضوع. وسأتوقف عند عدد من المحطات البارزة، وسأتناول القضايا التي أعتقد أنها بحاجة لتعميق البحث والنقاش وهي:
اولا/ تعريف النظام السياسي. ثانيا/ تشكل الداخل والخارج وتطور إشكالية العلاقة بينهما.
ثالثا/ نتائج وانعكاسات عملية السلام على النظام السياسي الفلسطيني في الداخل والخارج. رابعا/ سبل الخروج من المازق ومعالجة إشكاليات الداخل والخارج.
* واخيرا ارجو الحكم على الورقة وما سأطرحه وفقا للحكمة القائلة “للمجتهد اجران اذا اصاب، واجر واحد اذا أخطأ.

النظام السياسي الفلسطيني بين الداخل والخارج
تعريف النظام السياسي الفلسطيني
قبل الدخول في بحث أوضاع النظام السياسي الفلسطيني الراهن واشكالياته الفكرية والسياسية والتنظيمية، وآفاقه المستقبلية، لا بد من تعريفه وتحديد مكوناته الاساسية: فهل هو منظمة التحرير أم السلطة وطنية، أو المنظمة والمعارضة ؟ وهل هو نظام جبهوي ديمقراطي أم نظام الحزب الواحد؟ وهل إنتهت مرحلة م ت ف المكون الرئيسي للنظام ؟ وهل يمكن للسلطة الوطنية أن تكون بديلا عن م ت ف ؟ وما هي علاقة الداخل بالخارج وما دور كل منهما نحو الآخر. وماذا عن العلاقة مع داخل الداخل، أي بمليون فلسطيني يحملون الجنسية الإسرائيلية ؟
أعتقد ان التعريف الصحيح هو الذي يعتبر المنظمة والسلطة الوطنية والمعارضة في الداخل والخارج، المشاركة وغير المشاركة في السلطة والمنظمة، هي النظام السياسي الفلسطيني. وهذا التعريف يثير اشكاليتين: الاولى موقع عرب اسرائيل من الأعراب أو في التعريف. فهم خارجه علما بانهم يمثلون 13% من اجمال الشعب، و25/ من الموجود على الارض.
ـ بناء اطار تشاوري محدد غير رسمي يجمعهم بالآخرين ويشركهم في رسم التوجهات.
فوضعهم يؤثر، بصيغة وأخرى، في النظام السياسي الإسرائيلي، وفي عملية التسوية. والمفاوضات حول قضايا اللاجئين وأملاك “الغائب” في اسرائيل تمسهم.
ولهم كامل الحق الطبيعي والمشروع في المشاركة في تقرير المصير للشعب الفلسطيني كله، طالما انهم ما زالوا يعتبرون أنفسهم جزء لا يتجزء من الشعب الفلسطيني، وكل قوى الشعب تعتبرهم كذلك. ناهيك عن أهمية وضرورة إستثمار القيادة الفلسطينية لكل طاقات الشعب في الصراع.
الاشكالية الثانية: تمثيل النظام السياسي الحالي لكل الشعب الفلسطيني.
ـ المنظمة ممثل رسمي لكن قاعدته ضامرة، وجسده متآكل، وهناك قوى فاعلة خارجه.
ـ نسبة المنتمين والواثقين بالنظام السياسي الحالي “معارضة وسلطة ومنظمة ” محدودة جدا.
* الحل سناتي علية لاحقا في سياق البحث والنقاش.

إشكالية العلاقة بين الداخل والخارج
ـ بدأ تشكل جناحين “داخل وخارج” في النظام السياسي الفلسطيني مع النكبة وظهور قضية اللاجئين. وكان الداخل حتى عام 1967 يعني الفلسطينيين في اسرائيل.
ـ هزيمة 67 احدثت تبدل في تعريف الداخل بحيث ضم ابناء الضفة والقطاع. وبعد الاعتراف باسرائيل هل أصبح عرب إسرائيل جزء من الخارج. الجواب الرسمي. مؤلم نعم. ـ مجريات العملية السياسية الجارية وآفاقها تؤكد بان وجود داخل وخارج في النظام السياسي الفلسطيني سيستمر لسنوات، صعب تقديرها. ويفرض توازن العمل على الجبهتين.
ـ أما اشكالية او اشكاليات العلاقة بين الداخل والخارج قديمة، فقد مرت في مراحل متعددة، وتبدلت اشكالها ومضامينها عدة مرات ابرزها:
* أدى اندثار الحركة الفلسطينية في الخمسينات، وطغيان الفكر القومي الى اهمال الداخل والتعامل معه بنوع من الريبة والشك. حيث أسرل الخارج عرب اسرائيل”، وتأسرل بعضهم.
* انبعاث الوطنية الفلسطينية من جديد أواخر الخمسينات،. وتشكل م ت ف عام 64، وانطلاق الثورة المسلحة عام 1965 في الخارج، وهزيمة حزيران 67 أدت الى :
ـ تولي جناح الخارج دفة القيادة وهيمنته على الوضع الوطني العام، وغاب دور الداخل. وطغت المفاهيم العسكرية على العلاقات الداخلية وسيطرت على أشكال النضال.
ـ أهمل الخارج “القيادة” وضع الداخل وتعامل معه باعتباره فرع، وساحة من ساحات العمل والنضال. وعجز جناح الداخل، لاعتبارات موضوعية وذاتية، عن فرض ذاته.
ـ منذ منتصف الستينات وعلى امتداد السبعينات غرق النظام السياسي الفلسطيني في الخارج في همومة وصراعاته وخلافاته الداخلية، وصراعاته مع بعض العرب دفاعا عن استقلالية الحركة الفلسطينية وقرارها المستقل، وكان بعضها على حساب العمل في الداخل.
ـ في السبعينات خاصة بعد حرب اكتوبر73، وقعت تحولات في الفكر السياسي الفلسطيني باتجاه الواقعية أدت الى إعادة الاعتبار جزئيا لدور الداخل ولموقع العمل الجماهيري. وتوحد الداخل والخارج حول البرنامج المرحلي الذي تم تبنية رسميا عام 1977.
ـ أخطاء السبعينات في الاردن ولبنان أثرت سلبا على النظام السياسي الفلسطيني ككل وعلى العلاقات بين جناحيه في الداخل والخارج..
ـ حرب 82 في لبنان، وتشتت النظام السياسي في اكثر من بلد عربي، وفقدان التماس مع اسرائيل عززت موقع الداخل في الفكر السياسي الفلسطيني وفي التوجهات النضالية. الا انه لم يترجم عمليا في الهيئات القيادية الوطنية والفصائلية. وبقي الداخل، عمليا، غير ممثل فيها.
*الانتفاضة أحدثت تبدل في العلاقة وفي درجة أهمية الموقع بين الداخل والخارج.
ـ تفاجئ الخارج بالانتفاضة تعبير عن طبيعة العلاقة في تلك المرحلة. وهي نتاج ادراك الداخل عجز الخارج الفلسطيني والعربي عن تحريره، ونتاج معاناة طويلة من الاحتلال.
ـ نقلت ثقل الحركة الوطنية من الخارج الى الداخل بعد ان ظل عشرين سنة متمركزا هناك.
ـ الإنتفاضة أنقذت جناح الخارج، وغطت على أخطائه، وكرسته ككمثل شرعي للجميع. ودفعت النظام الاردني الى فك الارتباط بالضفة، واعادة النظر في علاقته بالمنظمة.
ـ خلقت صراع خفي بين الجناحين. بسبب تخوف الخارج من مشاركة الداخل في القيادة او
ظهور قيادة وطنية بديلة. وضغطت على التيار الديني ودفعته نحو مواقع وطنية فلسطينية.
ـ أولى الخارج إهتمام جدي بإنتفاضة الداخل لاعتبارات وطنية وأخرى تتعلق بالهيمنة. ونجح في احتواء الانتفاضة واطرها وحولها الى ادوات تنفيذية وليس أكثر. وهو المسئول عن زرع امراض العسكرة وضعف المشاركة الشعبية التي ظهرت في حياة الانتفاضة وعلاقاتها.
ـ إستسلم جناح الداخل للخارج وحسّن جزئيا موقعه في المنظمة وداخل الفصائل. واضاع فرصة كبيرة لفرض دوره في قيادة السفينة، والمشاركة في تقرير حركتها اللاحقة.
ـ الانتفاضة ضغطت على الخارج ودفعته باتجاهات أكثر واقعية. ولولاها لما كان إعلان الاستقلال ومبادرة السلام التي أطلقتهما قيادة المنظمة عام 1988.
ـ الانتفاضة إستدرجت عروض دولية لحل الصراع تضمنت اسس وقواعد أفضل من أسس وقواعد مدريد واسلو منها مبادرة شولتس الاولى عام 1988 ـ المرحلة الانتقالية 6 شهور فقط. ومبادرة اندرسون وزير خارجية السويد. وما طرحه الهولنديين. في تلك الفترة. الا ان قيادة الخارج أهملت العروض وبالغت في تقدير ما يمكن تحققه عبر الانتفاضة..
المواقف إبان حرب الخليج
* في سياق الحديث عن مواقف الخارج والداخل يجدر تذكر محطة حرب الخليج.
ـ اكدت وقائع الحياة ان موقف الداخل الواضح في ادانة غزو الكويت والمطالبة الصريحة بانسحاب القوات العراقية كان اسلم من موقف الخارج الذي ادى، بصرف النظر عن النوايا، الى : ـ نكبة وتهجير فلسطيني الكويت. ـ توتر في علاقة م ت ف مع عدد من الدول العربية ـ فرض حالة حصار ومطاردة عربية ودولية لقيادة م ت ف أنهكتها، واضعفت مواقفها عند بدء التحركات الدولية لمعالجة الصراع العربي الاسرائيلي.
الداخل والخارج خلال مرحلة عملية السلام
ـ لولا الانتفاضة ومبادرة السلام وانهيار سور برلين وانتهاء الحرب الباردة لما تم اشراك الفلسطينيين في عملية السلام التي انطلقت من مدريد.
ـ ضعف النظام السياسي الفلسطيني، والظروف الاقليمية والدولية، فرضت الموافقة على اسس وشروط اقل مما عرض من قبل.
ـ مؤتمر مدريد كان انقلاب فلسطيني اسرائيلي على الذات طال المفاهيم والمعتقدات والاهداف ووسائل العمل. والمشاركة الفلسطينية تمت بصورة شرعية وبموافقة اغلبية ساحقة في الداخل والخارج. ونتيجة لتكامل دورهما. الداخل خلق مشكلة وفرض على العالم الدخول في بحث جدي لها. وقال الحل مع المنظمة في الخارج. والخارج استوعب التطورات الدولية وتبنى مواقف واقعية تمثلت بمبادرة السلام واعلان الاستقلال عام 1988.
ـ اسس المبادرة، وصيغة تشكيل الوفد المفاوض، خلقت اشكالية جديدة بين الداخل والخارج، وداخل جناح الخارج. صراع الخارج مع الداخل تتضمن صراع على السلطة. وصراع الخارج مع الخارج كان صراع مع المفاهيم القديمة، وعدم قراءة التطورات الدولية جيدا.
ـ الاتصال الامريكي المباشر مع الداخل وتجاوز الخارج خلقت خوف حقيقي عند كل الخارج من تشكيل قيادة بديلة.
ـ فكرة الوفد المشترك خلقت خوف حقيقي من الخيار الاردني.
ـ بروز قيادات جدية من الداخل في مدريد وواشنطن فرض مشاركة جزئية للداخل في صياغة التوجهات الوطنية
ـ صيغة المشاركة والموافقة على الوفد من الداخل رافقها موقف مضمر من الخارج خلاصته
* السعي بكل السبل والوسائل لاضعاف الوفد واحتوائه، واظهار تبعيته للخارج للعالم :امثلة
* تعطيل قدم الماوضات بكل السبل طالما م ت ف خارج غرف الماوضات: امثلة كثيرة.
* العمل بكل السبل لفرض مشاركة مباشرة للخارج، منها فتح قنوات خلفية واظهار مرونة عالية، ودفع الوفد للتصلب..الخ
ـ خلاصة الصراع من مدريد وحنى اوسلو
* انضباط زائد عن اللزوم من الداخل للخارج “تماما كما حصل خلال فترة الانتفاضة”
* نجاح الخارج في اقناع العالم والطرف الاسرائيلي باستحالة التقدم في الماوضات مع الوفد،
“حديث بيريز مع رابين حول لقاءاته مع شخصيات من الداخل”.
* نجح الخارج في فرض الذات وتولى زمام ادارة المفاوضات في اوسلو
* حاول الوفد القيام بعملية تمرد ضعيفة استمرت عدة ايام “الاستقالات” قمعت بسرعة، وتوقيتها المتاخر جدا ساعد في اجهاضها وكانت نتيجتها مزيد من ضعف الوفد.
ـ المشاركة في عملية السلام مزقت الخارج بصورة خطيرة. وانتجت اعادة اصطفاف” حماس مع المعارضة الديمقراطية”. وشلت المنظمة وخلقت تيارين مختلطين من الفصائل.
ـ مواقف الوفد استدرجت عروض اسرائيلية افضل مما عرض في اوسلو. مستوطنات غزة.
قصة الداخل والخارج مع أوسلو
ـ اوسلو شرعي، ونتائجه الايجابية والسلبية معروفة ولا داعي لاعادة استعراضها تفصيليا.
حقق انجازات وتضمن تنازلات ولا شيء بدون ثمن. والمقياس مقارنة ما قبل اوسلو بالحالي
ـ خلية اوسلو مسؤولة تاريخيا وكان بالامكان ان يكون افضل ولا علاقة للداخل بنتائجة.
ـ الاستعجال في التوصل الى اتفاق افرز صيغ حمالة اوجه، وابقى مسائل رئيسية معلقة
ـ ضعف الوفد وقلة الخبرة وسريةالمفاوضات وموازين القوى عطلت امكانية الابداع الفلسطيني، وسهلت على الطرف الاسرائيلي تمرير مواقفه، وفرض اوراقه كاساس لبحث.
ـ بعد الاعلان عن اوسلو ظهر ثلاث مواقف فلسطينية: اصحابه بسطوا وبالغوا في تقدير نتائجه الايجابية. المعارضة اعتبرته شيطان رجيم ما زال يتلبسها. الداخل العبرة في النتائج والتنفيذ. وكان هو الاسلم.
ـ بجانب الاشكالات الذاتية التي خلقها اوسلو واجه الفكرالسياسي الفلسطيني عددا من المعضلات الموضوعية المعقدة. أهمها. (1) نشوء تناقض حقيقي بين قانونية التزام منظمة التحرير الفلسطينية بالاتفاقات التي توصلت لها مع الحكومة الإسرائيلية، وبين شرعية استمرارها كمؤسسة وكإطار وطني ملتزم أمام الشعب بقيادة النضال الوطني وتنظيم أشكاله المناسبة ضد الاحتلال حتى العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة. فالاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية تلزم م ت ف والسلطة الوطنية بوقف حملات التعبئة العدائية ضد إسرائيل، وبوقف العنف بكل أنواعه ضد قوات الاحتلال، والحفاظ على أمن إسرائيل والإسرائيليين، بما في ذلك المستوطنات والمستوطنين المقيمين على الأراضي الفلسطينية، وبمعاقبة كل الأفراد والجماعات الذين يمارسونه. في وقت لم تقدم هذه الاتفاقات حلولا مرضية للشعب الفلسطيني ولم تعالج قضاياه الأساسية ـ اللاجئين، القدس، الحدود، النازحين، المستوطنين والمستوطنات،…الخ (2) عدم القدرة على التوفيق بين متطلبات نهوض السلطة الوطنية بمهمة بناء مؤسساتها المدنية والاقتصادية والعسكرية الأمنية في غزة والضفة الغربية، مع متطلبات الحفاظ على وحدة مؤسسات م ت ف ودورها كإطار وطني قيادي لكل الشعب يضم قوى متعددة متعارضة ومتناقضة في مواقفها من القضايا الجوهرية. وهناك من هو خارج المنظمة وخارج السلطة ويعارض الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية ويعمل بكل السبل على الإطاحة بها، ويسعى لتفشيلها حيث إستطاع ذلك سبيلا. (3) صحيح أن مرحلة الكفاح المسلح قد انتهت، إلا أن مسار المفاوضات وتلاعب اسرائيل بالاتفاقات، وحالة السلطة لم تدفع الشعب في الداخل والخارج الى إعتماد السلطة الوطنية كبديل او كوريث كامل للمنظمة قادر على قيادة المرحلة، ويمكن الاعتماد عليه في تحقيق الأهداف الوطنية. وهذه المعادلة تنعش القوى والأفكارالمتطرفة، وتبعث الحياة من جديد في الافكار والدوفع التي وقفت خلف تأسيس م ت ف. وقد تدفع، يوما ما، قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، وبخاصة اللاجئين، الى ادارة الظهر للمنظمة التي نعرفها اذا لم تؤخذ مصالحهم بعين الاعتبار، ولم تعالج الحلول السياسية قضاياهم بصورة مرضية، ولم يجدوا من يدافع حقوقهم في بلدان الشتات. وقد يتوجهون للبحث ولو “بعد زمن “عن صيغة بديلة يعبرون فيها عن أنفسهم وعن تطلعاتهم، ويتحركون من خلالها للدفاع عن مصالحهم وإستعادة حقوقه المغتصبة. (4) تمشيا مع روح عملية السلام والتزاما بالاتفاقات شطب المجلس الوطني في دورة غزة “ربيع 1996″ بنود الميثاق المتعارضة مع الاتفاقات، وتلك التي كانت تتحدث عن الكفاح المسلح أسلوبا للتحرير، وبقيت المنظمة للان بدون ميثاق. في حينه لم يحظى شطب تلك البنود بإجماع فصائل وقوى المنظمة أو من هو خارجها، ولم يستفتى الشعب حول الموضوع. صحيح أن ميثاق المنظمة هرم وشاخ قبل الغائه، وكان بحاجة لتطوير منذ زمن طويل، ووصفه رئيس اللجنة التنفيذية قبل سنوت “بالكادوك”، إلا أن بقاء المنظمة دون ميثاق يجعلها أشبه بباخرة تبحر في بحر هائج دون بوصلة تحدد لها تجاه حركتها. ويخطئ من يعتقد بأن التسريع في تمويت المنظمة يمنح الحياة للسلطة ويطيل عمرها، ويعزز مكانتها، ويسرّع في تحولها لبديل مقبول. فالمنظمة كانت ولا تزال وطن اللاجئين عبره يعبرون عن تطلعاتهم الوطنية. وإنتفاء مبرر وجود المنظمة رهن بقيام الدولة المستقلة وحل مشكلة اللاجئين، وليس قيام السلطة الوطنية فقط.
الازمة بلغت الذروة والشروع في الحل ضرورة وطنية
إذا كان غير مفيد الغوص الآن في تحديد المسؤولية عن تعمق واستفحال أزمة النظام السياسي الفلسطيني في الداخل والخارج، فإلقائها على كاهل الإحتلال لا يساعد على معالجتها.
واذا كان الاحتلال وموازين القوى الدولية والإقليمية مسئولة نسبيا عن تفاقم الازمة فتحويلهما إلى مشجب تحمّل عليه القوى الفلسطينية أخطائها وتقصيراتها يدفع بتعارضاتها إلى ذروته، وقد يؤدي إلى المزيد من الانفجارات والتشرذمات داخل النظام الفلسطيني. فالاحتلال ليس مسئول عن أزمة الديمقراطية وازمة م ت ف وازمة السلطة الوطنية وأزمة العلاقات الوطنية الداخلية..الخ المستفحلة.
أعتقد بأن فكفكة مكونات الأزمة بعضها عن بعض يسهّل الحل، ويساعد البحاثة على رؤية الموضوعي منها والطبيعي الناتج عن الإحتلال، وتمييزه عن الطارئ الناشئ عن زراعة الذات “معارضة وسلطة”. وعملا بالحكمة الشعبية القديمة القائلة ” إيقاد شمعة مرة خير من شتم الظلام ألف مرة” فالمصالح العليا للفلسطينيين تفرض على السلطة الوطنية وقيادة م ت ف وبقية أطراف النظام السياسي الفلسطيني، إعادة النظر في بعض المفاهيم التي تحكمت في التوجهات والعلاقات منذ التوقيع على إتفاق “أوسلو” وحتى الآن، واعتماد حيلة الصبر والنفس الطويل في ادارة الصراع. والدخول فورا في حوار وطني شامل غير الحوار الذي عرفناه، ووضع “خطة إنقاذ وطنية ” تقوم على :
أولا / نبذ الأوهام حول عملية السلام الحالية
تجربة عامين وأكثر من المفاوضات في عهد الليكود، تؤكد أن عملية السلام كما عرفناها في مدريد واوسلو وصلت الى نهايتها، ولا أفق لإحيائها طالما بقي نتنياهو وإئتلافه اليميني يتربع على رأس السلطة في إسرائيل. والتوصل الى اتفاق في واي بلنتيشن لا يغير النتيجة. فسيكون آخر اتفاق هذا اذا نفذ.
وبصرف النظر عن تفاصيل أزمة المفاوضات، فوقائع 7 سنوات من عملية السلام أكدت:
ـ أن درجة تطور الفكر السياسي في المجتمع الاسرائيلي لم تصل الى مستوى تحقيق مصالحة تاريخية حقيقية بين الشعبين. فالقوى المتطرفة صعدت للسلطة في إنتخابات ديمقراطية، وأغلبية الإسرائيليين يرفضون التقدم بإتجاه حل عادل لقضية القدس والحدود والمستوطنات يقبل به الفلسطينيون. وحق اللاجئين في العودة مرفوض بالمطلق ليس فقط من قوى اليمين بل من كل الاحزاب اليمينية واليسارية الاسرائيلية. وتعويضهم عن أراضيهم وممتلكاتهم التي سلبت منهم قضية شائكة ومعقدة، والتفاوض حولها سوف يستغرق سنين.
ـ لا أظن أن تبدلا نوعيا سيقع في مواقف وقناعات الشارع الاسرائيلي في غضون السنوات القليلة القادمة وبخاصة قضايا اللجئين والنازحين. وهذا يعني بقاء “نصف الشعب” من الان ولسنوات طويلة في أماكن اقامتهم الحالية، وبقاء قضاياهم وكل القضية الفلسطينية معلقة بدون حلول. فقضية اللاجئين جوهر القضية الفلسطينة وبدون حلها لاحل للصراع الفلسطيني الاسرائيلي. ولا تستطيع السلطة والقيادة الفلسطينية التصرف بهذه القضايا الكبرى فالمفاوضات حول المرحلة الانتقالية شيء، أما قضايا المرحلة النهائية فهي شيء آخر.
ـ واذا كانت المصالح الفلسطينية العليا تفرض على القيادة عدم تحمل مسئولية تدميرعملية السلام، والعمل على تطوير مواقف الحلفاء، وتوسيع جبهة الاصدقاء، وتقليص جبهة الاعداء، فذات المصالح تفرض نبذ أية أوهام حول ما يمكن تحقيقه عبر عملية السلام في عهد الليكود.
ـ ولعل تشكيل إطار وطني استشاري غير رسمي يضم ممثلين عن كل التجمعات بما في ذلك المقيمين في اسرائيل له ضروراته الوطنية للحفاظ على وحدة الشعب، ولبورة حل نهائي قابل للحياة يحظى بموافقة أغلبية شعبية كبيرة.
ثانيا/ إحياء م ت ف وتفعيل دورها
* بالتمعن في أوضاع منظمة التحرير، وفي الخطوات التنظيمية والعملية التي تمت بعد تشكيل السلطة وأدت الى تجويفها من الداخل يتبين أن هناك في القيادة الفلسطينية من هو مقتنع بأن أوسلو وقيام السلطة فرضا العد العكسي لوجود م ت ف كإطار قيادي جبهوي جامع لقوى الشعب الفلسطيني. ويعتقد أصحاب هذا الرأي بان السلطة الوطنية هي البديل والوريث الشرعي للمنظمة.
* وهناك من يحاول حرق المراحل وتمويت منظمة التحرير، ظنا منه أن البديل قد وجد. وينسون وأن ما تحقق هو حتى الان حكم ذاتي محدود الصلاحيات على جزء بسيط من الأرض وليس أكثر. ومسار المفاوضات لم يشجعهم على اعتماده كطريق وحيد يعيد لهم حريتهم وكرامتهم.
* وتجربة ثلاث سنوات من خلط الهيئات ومهام العمل اليومي بينت أن دخول أعضاء التنفيذية في الوزارة لم يكن مصدر تنشيط وتفعيل لدور السلطة بمقدار ما كان مصدر إرباك لها، وتهميش وإضعاف دور اللجنة التنفيذية. وأضعف موقف السلطة الوطنية في نظر الشعب الفلسطيني والقوى الصديقة ولم يقويها في مواجهة الإسرائيليين. وأفقدها مرجعيتها، وفقدت الجهة المعنية عن مسائلتها ومحاسبتها دوريا.
* لا شك أن انتخاب المجلس التشريعي وابراز دور السلطة وتطويره كاطار قيادي مركزي يصب في صالح النضال الوطني العام، ويخدم هدف بناء الدولة المستقلة، ويضع اللبنات الاساسية لعبور مرحلة التحول من حالة الثورة لحالة الدولة. الا أن إلغاء دور المجلسي الوطني والمركزي وتعطيل إجتماعات اللجنة التنفيذية ودمجها هي والسلطة “الوزارة” في اطار واحد “الاجتماع الدوري للقيادة “، ودمج مؤسسات المنظمة بمؤسسات السلطة، لم ولا يفعل دور هيئات الجسمين. وقوى النظام السياسي الفلسطيني ترتكب خطأ كبيرا اذا حاولو القفز بصورة قسرية عن المرحلة الانتقالية التي عبرها النضال الوطني الفلسطيني بعد التوقيع على اتفاق أوسلو. والمناداة بعدم حرق المراحل لا يعني اطلاقا الاستسلام للازمة الفكرية والسياسية والتنظيمية المستفحلة في صفوف م ت ف وعموم قوى الحركة الفلسطينية. والقبول بالاوضاع التنظيمية والعلاقات الداخلية الخاطئة القائمة، فالقبول بذلك قد يقود الى ذات النتائج السلبية التي يفرزها التفكير بتوليد البديل قبل استكمال الفترة الطبيعية للحمل
* وأي تكن الدوافع والأسباب الذاتية التي تدفع الآن ببعض القيادات والقوى والشخصيات الفلسطينية نحو استذكار المنظمة، بين فترة وأخرى، واستذكار لجنتها التنفيذية ومجلسيها المركزي والوطني، والإصرارعلى إحياء دورها القيادي بعد ان غيب إسمها ودورها قرابة 5 سنوات، فهذا الإستذكار لم يعالج الازمة، وبعضة يتم كنوع من رفع العتب، وبعضه الاخر يتم لاغرض حزبية داخلية صرفة.
* والقيادة الفلسطينية أخطأت خطأ إستراتيجيا حين إعتقدت بان الاتفاقات مع الاسرائيليين ستفرز تدريجيا إنتهاء دور المنظمة. وان السلطة قادرة على ان تكون بديلها ووريثها. وعندما اعتقدت بأن التعجيل في تسليم الورثة والراية للسطة يسرّع في خلق البديل وتأهيله لتولي دفة قيادة الشعب الفلسطيني كله. والتراجع عن هذا الخطا ضرورة وطنية. وترجمته تتم بالإقرار بأن لا بديل للمنظمة في هذة المرحلة والتمسك بدورها، واعادة بعث الحياة في مؤسساتها والعمل من داخلها، واحياء دورها القيادي.
* وصرف النظرعن التقديرات التي يعطيها هذا المركز أو ذاك الطرف لحجم وثقل هذا الفصيل أوذاك التنظيم فالتباين في التقدير نسبي ولا يلغي ضرورة إعادة النظر في النسب التمثيلية للقوى المشكلة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي نظام الكوتا الفصائلية وإستبدالها بكوتا لحجوم التجمعات الفلسطينية. وإعطاء الفلسطينيين في الشتات حق البحث في أفضل السبل لتمثيل أنفسهم في المجلس الوطني الفلسطيني. والتوجه نحو تقليص الهيمنة الفصائلية لحساب الفعاليات الوطنية المستقلة. أما الاستمرار في التمترس عند المواقف القديمة، وإستمرار ادارة الصراع بذات العلقية السابقة، وبذات الأدوات المستهلكة فقد يقود الى كوارث وعندها لن يفيد تبادل الأتهامات حول المسؤولية عن ذلك.
• والمصلحة الوطنية العليا تفرض على السلطة والمعارضة الشروع فورا في إجراء تصحيح سريع للخللين الاساسيين الذين وقعا بعد التوقيع على اتفاق أوسلو. الأول انهاء الخلط المتعمد الذي جرى بين مهام الوزارة ومهام اللجنة التنفيذية. والثاني عودة من استقال أوجمد عضويته في المجلس المركزي واللجنة التنفيذية للعمل في إطارهاتين الهيئتين القياديتين الاساسيتين.
* ولا نظلم أحدا اذا قلنا أن المعارضة وكل المستنكفين عن المشاركة في أعمال اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي يتساوون مع المحتفظين بعضويتهم في المسؤولية عن شلل المنظمة، وعن النتائج الخطيرة التى ترتبت على ذلك حتى الان وتلك التى يمكن أن تظهر مستقبلا. فاذا كان مفهوما أن يكون لهذا الحزب او ذاك الفصيل او تلك الشخصية الوطنية من المعارضين أو المؤيدين لعملية السلام موقفا من المشاركة في السلطة الوطنية (الوزارة) فمن غير المقنع وغير المفهوم اطلاقا استمرارهم في تجميد أدوارهم فى هيئات م.ت.ف، أو الاستمرار في الأنسحاب من اللجنة التنفيذية، الا اذا كانوا مقتنعين ان دورالمنظمة قد انتهى ولا مبرر لوجودها. ويخطأ كل من يعتقد انه بموقفه السلبي والاستنكافي عن المشاركة في إحياء المنظمة يعاقب أحدا غير الشعب الفلسطيني.
* وانقاذ م ت ف تفرض ايضا دعوة المجلسين المركزي والوطني للانعقاد بأسرع وقت ممكن. فليس من حكمة على الاطلاق في عدم عقد اجتماعات منتظمة للمجلس المركزي. ولايمكن فهم هذا الموقف سوى الهروب من المحاسبة والمراقبة. وشكلية الدور الذي كان يقوم به هذا المجلس قبل تشكيل السلطة لا يبرر تعطيل اجتماعاته. فتعطيلها اضعف دور المنظمة واضعف الوحدة الوطنية. وما يقال بشأن انعقاد المجلس المركزي يمكن قوله أيضا بشأن عدم عقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني، وعدم وضع ميثاق وطني جديد يستوعب التطورات التي وقعت على القضية الوطنية وعلى وضع الحركة الوطنية ومنظمة التحرير. أما الاستمرار في التهرب، فأظن أنه يعني من الناحية العملية إعتبار الدورة التي عقدها المجلس الوطني في صيف 1996 آخر دورة في حياة أعلى سلطة تشريعية فلسطينية.
* لاشك في ان صراعا فكريا وتنظيميا داخليا يجب ان يخاض من اجل تصويب أوضاع الحركة الوطنية وتصويب برامجها. وترميم وتصحيح العلاقات الفلسطينية الداخلية الخاطئة السائدة الان. وتمويت المنظمة يلحق اضرارا بوحدة الشعب ويعرضها للانقسام بين داخل وخارج. ويفقد الحركة الفلسطينية الاطار الموحد للطاقات الشعبية في وقت هي في أمس الحاجة له. فالسلطة لا يمكنها ان تكون بيتا يتسع لجميع القوى والاتجاهات السياسية والفكرية الفلسطينية. ولايمكنها أيضا أن تكون إطارا قادرا على تعبأة طاقات الشعب داخل الوطن وخارجه وتفعيلها في مواجهة الاحتلال.
ثالثا/ تصحيح اوضاع السلطة وانجاح دورها
* التقييم الموضوعي لقيام السلطة الوطنية يفرض إعتباره تطورا ايجابيا يخدم تصحيح وتطوير مسار الحركة الوطنية الفلسطينية. ويستوجب تكييف الأوضاع القيادية الفلسطينية بما يمكن من إستثمار تفاعلاته وأبعاده الداخلية والخارجية. ويفرض أيضا إحداث تغيرات نوعية في مفاهيم العمل التي كانت سائدة قبل وقوعه، وإحداث تغيرات جذرية في الاسس التنظيمية التي قامت عليها بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، ونظمت على اساسها العلاقات داخل النظام السياسي الفلسطيني وداخل النقابات والمنظمات والإتحادات الشعبية الفلسطينية.
* وتمني الفشل للسلطة الفلسطينية، أو العمل على إفشال تجربتها أقل مايمكن أن يقال فلسطينيا عنه أنه لايخدم الهدف الوطني في تأكيد قدرة الشعب الفلسطيني على ان يحكم نفسه بنفسه ويدير حياته بنجاح. ففشل تجربة السلطة هو فشل لكل أطراف الحركة الوطنية الحاكمة والمعارضة.
* ويجب القول بوضوح أن الأسس التي أعتمدت في تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة لا تتناسب وطبيعة مهام المرحلة، وفي مقدمتها مهمة تحضير الأوضاع للاعلان عن قيام الدولة فوق كل الاراضي الفلسسطينية التي احتلت عام 1967، واستنهاض طاقات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجة. وحشد الجهود العربية والدولية لمواجهة مواقف وتصرفات الحكومة الاسرائيلية والمستوطنيين .
* وبالتمعن في طبيعة المشكلات التي تواجهها، وفي نوعية الأمراض التي تنخر جسمها وبخاصة الإنعزالية عن شعبها وعن العرب والفردية، يصبح من الصعب الحديث عن حل سحري كمخرج فوري للمأزق الذي تعيشه. وتدارك الاوضاع والشروع في تصحيحها، ومعالجة ازمة السلطة لا يمكن أن يتم بحقن جسمها ببعض المسكنات التي قد تضر ولا تفيد. ويتطلب الاقدام على العديد من الخطوات الوطنية العاجلة والجريئة، حتى ولو كانت مؤلمة لبعض القوى والقيادات وأهمها وأكثرها الحاحية : 1) إعادة بناء السلطة على أسس جديدة، غير التي أعتمدت عندما أعيد تشكيلها. وإختزال عدد الوزارات، وتشكيل وزارة إستيعاب وتاهيل العائدين والنازحين واللاجئين. وعدم الجمع بين عضوية اللجنة التنفيذية وعضوية السلطة في كل الأحوال بما في ذلك رئاسة الوزارة. وتقليص نسبة الحزبيين لصالح الكفاءات الوطنية المستقلة، وبخاصة من أبناء الضفة والقطاع من ذوي الكفاءة والخبرة والاختصاص في كل المجالات. وممن يتمتعون بالثقة والمصداقية في صفوف اهل الضفة وقطاع غزة، وفي الاوساط العربية والدولية. 2) تحديد مهام السلطة الوطنية بدقة، وفصلها عن مهام التنفيذية، وتخفيف الاعباء غير الضرورية عن كاهلها بفك التداخل الحاصل بين مهامها ومهام اللجنة التنفيذية، وحصرها في إدارة الوظائف والمجالات المنوطة بها فقط. 3) وضع اللوائح والانظمة التشريعية الكفيلة بتنظيم العلاقة بين السلطة و م ت ف وإعتبارها سلطة تنفيذية خاضعة لمحاسبة مراقبة والمؤسسات التشريعية في منظمة التحرير حسب قرار المجلس المركزي الذي تم بموجبه تشكيلها. 4) وقف سياسة التعيينات العشوائية المعتمدة في املاء المراكز والوظائف الشاغرة في مؤسسات السلطة، وحصرها في حدود الملاكات الضرورية وليس اكثر. وإعادة النظر في فائض التعيينات التي تمت في ملاك الوزارات، وتحويل كل المعينين كترضيات حزبية وخاصة، الى وزارة الاستيعاب لتأهيلهم وتشغيلهم في مجالات اخرى اكثر جدوى وانتاجية. واحالة كبار السن والفائضين عن الحاجة الى التقاعد. 5) وقف التضخم في ملاكات أجهزة الامن والوزارات، وخلق توازن بين الواردات والنفقات، وبين النفقات الجارية والانفاق على بناء مؤسسات السلطة، وإقامة المشاريع الانتاجية القادرة على إمتصاص أقسام من البطالة، وزيادة الدخل القومي. والتنبه سلفا لعدم إغراق الشعب الفلسطيني في الديون الخارجية. 6) تحرير السلطة الفلسطينية من الضغط المعنوي والعملي لعملية المفاوضات الطويلة والشاقة، ومن الابتزاز الشديد الذي يمارسه المفاوض الاسرائيلي. وحصر مهمة متابعة المفاوضات بمؤسسات منظمة التحرير. وغني عن القول ان انجاز هذه المهمة الرئيسية يتطلب احياءاللجنة العليا لمتابعة المفاوضات، واعادة تشكيلها بما يمكنها من متابع كل فروع المفاوضات الثنائية والمتعددة الاطراف. وتشكيل الطواقم المفاوضة، وطواقم المستشارين، على اساس الكفاءة والخبرة والاختصاص.

رابعا/ دمقرطة الحياة الفلسطينية الداخلية
* مراجعة تاريخ النظام السياسي الفلسطيني تؤكد أن القناعة الجماعية النابعة من الوعي الشعبي كانت، على إمتداد العقود الثلاث الاخيرة، المحرك الرئيسي لنضال الشعب الفلسطيني. وهي التي دفعته للإنخراط في الفصائل والأحزاب الوطنية والإلتفاف حول م ت ف وحمايتها. وتخطئ السلطة إن هي إعتقدت أن بإمكانها توحيد طاقات الشعب المشتت في شتى أنحاء العالم حولها وحول مواقفها بالإغراء أو بالوعود أو بقوة الإكراه. فلا يمكنها بقوات الشرطة والمخابرات قيادة المرحلة والسيطرة على شعب نصفه خارجها. قد تستطيع ذلك مؤقتا في غزة والضفة الغربية ولكن ماذا بشأن نصف الشعب المقيم في الخارج؟
* لقد مرت على م.ت. ف والساحة الفلسطينية قبل “اوسلو” أحداث جسام هزت أوضاعها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، وبعضها ألحق بالقضية الوطنية خسائر كبيرة، ولم يحاول أي من القوى الفلسطينية اجراء مراجعة موضوعية. ولم نسمع من أي منها نقدا ذاتيا جريئا. وكأن الجميع معصوم عن الخطا. واليوم يتكرر ذات السلوك وذات المشهد من المهزلة. وهذا التكرار يبين بان المركزية الشديدة غياب الاعراف والتقاليد الديمقراطية وطغيان دورالفرد على حساب دور المؤسسات هي التي مكنت وتمكن القوى الوطنية والاسلامية تمرير مواقفها الخاطئة دون مراجعة ودون محاسبة، وتمكنها من استمرار العمل بشعارات إستهلكتها الحياة.
* وفي سياق العمل من أجل تجديد بنية النظام السياسي الفلسطيني ودمقرطة أوضاع قواه وتوسيع قاعدتها الشعبية لا بد من الاعتراف بأن تبدلا نوعيا وقع في السنوات الأخيرة “منذ الانتفاضة” على الوزن الشعبي، وثقل الدورالسياسي والكفاحي لقوى وفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية المنضوية تحت لواء م ت ف ومن لازال خارجها. فبعضها “فتح وحماس والجهاد الاسلامي” نما حجمه وثقلة الوطني والاخر”شعبية، ديمقراطية، فدا، نضال، تقلص وزنه وتراجع دوره. وبعد قيام السلطة الوطنية إنتقلت بعض الفصائل من وضعيتها كحركات ثورية الى وضعية الأحزاب الحاكمة. وتشكلت قاعدة إجتماعية لقيام “حزب السلطة” قوامه 100 ألف موضف وعائلاتهم، وكل المنتفعين من السلطة. كما وقعت تطورات نوعية في أسسها وبناها الفكرية والتنظيمية وفي علاقاتها الداخلية وعلاقتها بالجماهير. شبيهة بالنقلة التي مرت بها الأحزاب العربية التي إنتقلت من الشارع الى مراكز السلطة. والحالة الفلسطينية أقرب بالاجمال الى النموذج الجزائري، مع خصوصياتها الناتجة عن وجود الاحتلال. فحركة فتح تحولت الى “سلطة” شبيهة بسلطة جبهة التحرير الجزائرية أواخر الستينات وبداية السبعينات، يدور في فلكها بعض القوى والاتجاهات، وشكل آخرون معارضة غير موحدة، جناحها الديني هو الاقوى والأفعل سياسيا وجماهيريا.
* لاشك أن إعتماد الديمقراطية كأساس في معالجة قضايا الخلاف داخل داخل النظام السياسي الفلسطيني هو السبيل الوحيد لأعطاء كل ذي حق حقه، أما التمترس خلف المواقف ومحاولة فرضها على الأخرين فيقود الى تعميق الصراع، ويدفعة نحو نهاياته الطبيعية أي الاحتراب والاقتتال الداخلي. واذا كان خلق نوعا من إزدواجية السلطة مرفوض ويتعارض مع أسس الديمقراطية، فقمع المعارضة ومنعها من التعبيرعن مواقفها بحرية وبشتى الوسائل، وتشكيل المحاكم الصورية وسيادة نظام الحزب الواحد يقتل الديمقراطية، ويدمر أسس الوحدة الوطنية، ويزرع بذور التمزق في المجتمع، ويؤسس لصراعات داخلية دموية. ولعل تجربة الجزائر وكل الدول التي إبتليت بنظام الحزب الواحد خير دليل على ذلك.
والتجربة بينت ان حشد الطاقات خلف القيادة لا يمكن أن تتم بدون ديمقراطية حقيقية تشرك الجميع في صناعة القرار الوطني، وبدون برامج وتوجهات واقعية مقنعة قادرة على تفعيل الطاقات الوطنية. واذا كانت أوضاع وظروف ما قبل عودة قيادة م ت ف من الخارج، وإستكمال مهمة التحرير جعلت الشعب يقبل بعض صيغ وأشكال الديمقراطية الشكلية والناقصة، ودفعته للصمت على بعض الممارسات غير الديمقراطية الخاطئة والمسيئة، فالمرحلة الجديدة، حررته من ذلك. وبديهي القول بأن اللجوء للردح والتنكيت داخل الغرف المغلقة لا يسمن ولا يغني عن جوع، ولا تصلح الخلل ولا تصحح الأخطاء.
* وإعتماد الديمقراطية في معالجة الخلافات يعني في الواقع الفلسطيني الراهن : (1) الأقرار بالتعددية السياسية والتنطيمية في إطار إستقلالية الحركة الفلسطينية وإستقلالية قرارها الوطني. (2) حق الأقلية في التعبيرعن وجودها وعن مواقفها بكل الاشكال عبر منابرها الخاصة ومنابر منظمة التحرير وانهاء مظاهر واشكال الفردية والاستئثار. (3) أن يبقى الصراع بين مختلف التيارات والاتجاهات يدور في إطاره الفكري والسياسي والتنظيمي وألا يتحول الى صراع تناحري أو إقتتال داخلي. (4) أن تبقى المصلحة الوطنية العليا وبخاصة مواجهة الإحتلال وطرده فوق كل الإعتبارات الفئوية الضيقة التنظيمية والعقائدية. (5) أن تعتمد تيارات وإتجاهات النظام السياسي قواسم عمل ملزمة. وان يلتزم الجميع بقرارات الهيئات المشتركة وأن تعمل على إستفتاء الشعب حول قضايا الخلاف الأساسية حيث أمكن ذلك. 6) وفي كل الأحوال لا مبرر وطني إطلاقا لعدم إجراء إنتخابات بلدية، وداخل الأطر والإتحادات الشعبية الفلسطينية (عمال، طلاب، مرأة، معلمين…الخ) وعدم إعطائها إستقلاليتها عن السلطة والأحزاب حتى الان. فإجراء الإنتخابات على هذا المستوى وإستقلالية هذه المؤسسات يساهم في معالجة بعض الأمراض التي تعانيها هذة المؤسسات، ويساهم في تفكيك بعض المعضلات التنظيميية التي تعيشها منظمة التحرير.
* وأعتقد بأن المصالح الوطنية العليا، ومستقبل الديمقرايطة، وتعطيل إندفاع حزب السلطة وحماس نحو التصادم، على غرار ما هو حاصل في الجزائر، يتطلب تشكيل حركة ديمقراطية جديدة واقعية تتسع لكل الديمقراطيين الفلسطيين.
ومن المفيد أن يدرك الجميع بأن بقاء أوضاع النظام السياسي على ما هي عليه الآن يعني سير الجميع نحو كارثة وطنية جديدة. وبعدها لن يكون مفيدا بحث درجات ومستويات المسؤولية عن وقوعها.