الحلقة الرابعة / الأزمة بلغت ذروتها وبحاجة لحلول عملية

بقلم ممدوح نوفل في 01/05/1999

القسم الرابع سبل حل الاشكالية والخروج من الأزمة
يكاد يكون هناك إجماع وطني على أن أزمة النظام السياسي الفلسطيني بلغت ذروتها، فعملية السلام وصلت الى نهاية الطريق المسدود. والاتفاقات التي تم التوصل لها لا تلبي جزء يسيرا من طموحات الفلسطينيين في الداخل والخارج. ومنظمة التحرير مقعدة وتمر بمرحلة من الإحتضار التنظيمي والسياسي وتنتظر العلاج. والسلطة الوطنية عاجزة عن القيام بالمهام الوطنية المسندة لها. وجميع أطرافه “سلطة ومعارضة”، في الداخل والخارج يعانون إشكاليات وأزمات جوهرية متنوعة، ومرتبكون في مواجهة الاحداث والتطورات السياسية التي يمر بها الصراع مع النظام السياسي الاسرائيلي. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف على أن إستمرار الأزمة، بشقيها الذاتي والموضوعي، وتمترس السلطة والمعارضة في خنادقها ومواصلة العمل بالنهج الذي اتبع منذ اوسلو وحتى الآن، تضر بالمصالح الوطنية العليا ولا تنفع أحدا من الفلسطينيين. وأن إعتماد مواقف إنتظارية وقدرية والتأخرعن الشروع الجدي والعملي في معالجتها يعرض مصير الشعب الفلسطيني لأخطار إستراتيجية حقيقية، ويقوده الى كوارث جديدة، تمس حلم الجميع بالعودة والحرية والاستقلال فترة زمنية طويلة. ويلحق أضرارا متنوعة بالقضية الوطنية ويفقدها الكثير من المكاسب التي حققتها في الساحتين العربية والدولية. ويزيد من حالة الإحباط والإرتباك، ويوسع الهوة بين الداخل والخارج. ويفتح آجلا أوعاجلا بابا للصراعات الفلسطينية التناحرية الداخلية، في وقت لاتزال أجزاء واسعة من الارض رازحة تحت الاحتلال، وحقوق الفلسطينين الأساية مغتصبة.
وإذا كان غير مفيد الغوص الآن في تحديد المسؤولية عن ذلك والتمترس عند ضرورة محاسبة الفاعلين، فإلقائها على كاهل الإحتلال وعلى الأوضاع الصعبة التي خلفها ورائه، في الضفة والقطاع، لا يساعد على معالجة الأزمة، بل يعمق الصراع بين السلطة والمعارضة، ويزيد من الأضرار التي لحقت بدورهما. صحيح أن الاحتلال وموازين القوى الدولية والإقليمية ليست بريئة تماما من المعضلات والمشكلات الذاتية والموضوعية التي يواجهها النظام السياسي الفلسطيني، الا أن تحويلها إلى مشجب تحمّل عليه القوى الفلسطينية كل أخطائها وتقصيراتها، يدفع بالتعارض القائم بين السلطة والمنظمة إلى ذروته، وقد يؤدي إلى المزيد من الانفجارات والتشرذمات داخل النظام الفلسطيني. فالقراءة الموضوعية تحمل الاحتلال مسؤولية عدم الالتزام بالاتفاقات، وتدمير الاقتصاد الفلسطيني وزرع أزمة اقتصادية شديدة التعقيد علاجها صعب ويحتاج لمساعدات خارجية، لكن هذا الامر لا ينطبق على أزمة الديمقراطية وأزمة العلاقات الوطنية الداخلية..الخ المستفحلة في النظام السياسي الفلسطيني.
أعتقد بأن فكفكة مكونات الأزمة بعضها عن بعض يسهّل الحل، ويساعد البحاثة وأصحاب القرارعلى رؤية الموضوعي منها والطبيعي الناتج عن الإحتلال، وتمييزه عن الطارئ الناشئ عن زراعة الذات “معارضة وسلطة”، ومن صناعة القيادة الفلسطينية وأداء السلطة الوطنية. وعملا بالحكمة الشعبية القديمة القائلة ” إيقاد شمعة مرة خير من شتم الظلام ألف مرة” فأظن أن المصالح العليا للفلسطينيين تفرض على السلطة الوطنية وقيادة م ت ف وبقية أطراف النظام السياسي الفلسطيني، إعادة النظر في بعض المفاهيم التي تحكمت في التوجهات والعلاقات منذ التوقيع على إتفاق “أوسلو” وحتى الآن، واعتماد حيلة الصبر والنفس الطويل في ادارة الصراع وانتزاع الحقوق الوطنية الوطنية المشروعة. والدخول فورا في حوار وطني شامل غير الحوار الذي عرفناه، ووضع “خطة إنقاذ وطنية ” تقوم على :
أولا / نبذ الأوهام حول عملية السلام الحالية
وبات اصحابها ورعاتها امام احد خيارين اما شق طريق جديد يستند على ما تم قطعه في القديم او السقوط في دوامة مستنقع عنف طويل عريض جديد.
بعد تجربة عامين وأكثر من المفاوضات في عهد الليكود، يفترض أن لا يكون هناك خلاف فلسطيني إطلاقا على أن عملية السلام كما عرفناها في مدريد واوسلو وصلت الى نهايتها، ولا أفق لإحيائها طالما بقي نتنياهو وإئتلافه اليميني يتربع على رأس السلطة في إسرائيل. وأظن ان ما يصدر من تصريحات رسمية إسرائيلية حول الحرص على عملية السلام وحول الإلتزام بأسسها وبما إنبثق عنها من إتفاقات على المسار الفلسطيني الاسرائيلي يندرج في إطار قتل الوقت. ومحاولة لتبرئة الذمة أمام الراي العام العالمي والاسرائيلي المؤيد لصنع السلام في منطقة الشرق الاوسط، من الجريمة المرتكبة عن سابق قصد وإصرار بحق إتفاق إوسلو وما تلاه من إتفاقات فلسطينية إسرائيلية. وبصرف النظر عن تفاصيل الازمة التي تواجه المفاوضات، فوقائع سبع سنوات من حياة عملية السلام أكدت أن درجة تطور الفكر السياسي في المجتمع الاسرائيلي لم تصل الى مستوى تحقيق مصالحة تاريخية حقيقية بين الشعبين. فالقوى الاسرائيلية المتطرفة صعدت للسلطة في إنتخابات ديمقراطية، وأغلبية الإسرائيليين يرفضون التقدم بإتجاه حل عادل لقضية القدس يقبل به الفلسطينيون. وحق العودة للفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم في عام 47-48 مرفوض بالمطلق ليس فقط من قوى اليمين بل من كل الاحزاب اليمينية واليسارية الاسرائيلية. أما تعويضهم عن أراضيهم وممتلكاتهم التي سلبت منهم فالواضح أنها قضية شائكة ومعقدة، والتفاوض حولها سوف يستغرق سنين طويلة. ولا أظن أن تبدلا نوعيا سيقع في مواقف وقناعات الشارع الاسرائيلي في غضون السنوات القليلة القادمة. وهذا يعني بقاء فلسطينيي الشتات “نصف الشعب” من الان ولسنوات طويلة في أماكن اقامتهم الحالية، وبقاء قضاياهم وكل القضية الفلسطينية معلقة بدون حلول. فقضية اللاجئين هي جوهر القضية الفلسطينة وبدون حلها لاحل للصراع الفلسطيني الاسرائيلي. ولا تستطيع السلطة والقيادة الفلسطينية التصرف بهذه القضايا الكبرى دون الرجوع لكل قوى الشعب في كل اماكن تواجده. فالمفاوضات حول المرحلة الانتقالية وقضاياها شيء، أما قضايا المرحلة النهائية فهي شيء آخر. ولعل تشكيل إطار وطني استشاري غير رسمي يضم ممثلين عن كل التجمعات بما في ذلك المقيمين في اسرائيل له ضروراته الوطنية. فالتشاورالمتواصل مع عرب اسرائيل وممثلي الخارج في قضايا الحل النهائي ضرورة وطنية للحفاظ على وحدة الشعب، ولبورة حل نهائي قابل للحياة يحظى بموافقة أغلبية شعبية كبيرة.
أما الاوضاع الدولية السائدة والمرئية، وموازين القوى القائمة بين الطرفين المرئية من الآن ولعقد كامل من الزمن، فالواضح أنها لا تتجه نحو إلزام إسرائيل بقبول حلول عادلة وشاملة لهذه القضايا الشائكة. ويخطئ من يعتقد بانها قادرة على احداث تغييرات جوهرية في مواقف نتنياهو وحكومته، والزامها بالسير على درب صنع السلام العادل والشامل. ويخطئ اكثر من كل من يراهن على ميلاد عملية سلام جديدة وآلية مفاوضات بديلة جديدة خلال عهد الليكود. واظهار الحقيقة يفرض القول بان المعارضة الاسرائيلية لم تظهر للان غيرة حقيقة على عملية السلام، وعلى الاتفاقات التي وقعت سابقا معها. ولم تستطع التاثيرعلى مواقف نتنياهو المعادية لسلام حقيقي مع العرب، وتحقيق مصالحة تاريخية مع الفلسطينيين. واذا كانت المصالح العليا للشعب الفلسطيني تفرض على القيادة عدم تحمل مسئولية تدمير عملية السلام، والعمل على تطوير مواقف الحلفاء، وتوسيع جبهة الاصدقاء، وتقليص جبهة الاعداء، فذات المصالح تفرض عليها نبذ أية أوهام حول ما يمكن تحقيقه عبر عملية السلام في عهد الليكود.
ثانيا / دمقرطة الحياة الفلسطينية الداخلية
من يراجع تاريخ النظام السياسي الفلسطيني يجد أن القناعة الجماعية النابعة من الوعي الشعبي كانت، على إمتداد العقود الثلاث الاخيرة، المحرك الرئيسي لنضال الشعب الفلسطيني من أجل تحقيق أهدافه الوطنية. وهي التي دفعته للإنخراط في الفصائل والأحزاب والحركات الوطنية والإلتفاف حول م ت ف وحمايتها كممثل شرعي ووحيد له. وتخطئ السلطة الفلسطينية إن هي إعتقدت أن بإمكانها توحيد طاقات الشعب المشتت في شتى أنحاء العالم حولها وحول مواقفها بالإغراء أو بالوعود أو بقوة الإكراه وما شابه ذلك. فلا يمكنها بقوات الشرطة والمخابرات قيادة المرحلة والسيطرة على شعب نصفه فوق أرضه ونصفه الآخر خارجها. قد تستطيع ذلك مؤقتا في غزة وبعض مناطق الضفة الغربية ولكن ماذا بشأن نصف الشعب المقيم في الخارج ؟ لقد مرت على م.ت. ف والساحة الفلسطينية قبل “اوسلو” أحداث جسام هزت أوضاعها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، منها الحروب في لبنان، انشقاق وانقسام م ت ف، إنطلاق الانتفاضة وتوقفها، المواقف من المبادرات الدولية السابقة..الخ بعضها ألحق بالقضية الوطنية خسائر كبيرة، وكلها مرت عليها مرور الكرام. ولم يحاول أي من القوى الفلسطينية اجراء مراجعة موضوعية مجردة من المواقف المسبقة. ولم نسمع من أي منها نقدا ذاتيا جريئا. وكأن الجميع معصوم عن الخطا. واليوم يتكرر ذات السلوك وذات المشهد من المهزلة. وهذا التكرار يبين بان المركزية الشديدة غياب الاعراف والتقاليد الديمقراطية في الحياة السياسية الفلسطينية وطغيان دورالفرد على حساب دور المؤسسات هي التي مكنت وتمكن قوى الحركة الوطنية والاسلامية تمرير مواقفها الخاطئة دون مراجعة ودون محاسبة، وتمكنها من العمل بشعارات إستهلكتها الحياة. ويستطيع كل من يدقق في أوضاع قوى النظام السياسي الراهنة أن يتلمس المخاض الفكري والتنظيمي الذي تمر به منذ انطلاقة الانتفاضة عام 1987 وحتى الآن.
وفي سياق العمل من أجل تجديد بنية النظام السياسي الفلسطيني ودمقرطة أوضاع قواه وتوسيع قاعدتها الشعبية لا بد من الاعتراف بأن تبدلا نوعيا وقع في السنوات الأخيرة “منذ الانتفاضة” على الوزن الشعبي، وثقل الدورالسياسي والكفاحي لقوى وفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية المنضوية تحت لواء م ت ف ومن لازال خارجها. فبعضها “فتح وحماس والجهاد الاسلامي” نما حجمه وثقلة الوطني والاخر”شعبية، ديمقراطية، فدا، نضال، تقلص وزنه وتراجع دوره. وبعد قيام السلطة الوطنية إنتقلت بعض الفصائل من وضعيتها كحركات ثورية الى وضعية الأحزاب الحاكمة. وتشكلت قاعدة إجتماعية لقيام “حزب السلطة” يضم الاغلبية الساحقة من الموظفين وعائلاتهم وكل المنتفعين من السلطة. ووقعت تطورات نوعية في أسسها وبناها الفكرية والتنظيمية وفي علاقاتها الداخلية وعلاقتها بالجماهير. شبيهة بالنقلة التي مرت بها الأحزاب العربية التي إنتقلت من الشارع الى مراكز السلطة. والحالة الفلسطينية أقرب بالاجمال الى النموذج الجزائري، مع خصوصياتها الناتجة عن وجود الاحتلال. فحركة فتح الى “سلطة” شبيهة بسلطة جبهة التحرير الجزائرية أواخر الستينات وبداية السبعينات، يدور في فلكها بعض القوى والاتجاهات، وشكل آخرون معارضة غير موحدة، جناحها الديني هو الاقوى والأفعل سياسيا وجماهيريا.
لاشك أن إعتماد الديمقراطية كأساس في معالجة قضايا الخلاف داخل داخل النظام السياسي الفلسطيني هو السبيل الوحيد لأعطاء كل ذي حق حقه، أما التمترس خلف المواقف ومحاولة فرضها على الأخرين فيقود الى تعميق الصراع، ويدفعة نحو نهاياته الطبيعية أي الاحتراب والاقتتال الداخلي. واذا كان خلق نوعا من إزدواجية السلطة مرفوض ويتعارض مع أسس الديمقراطية، فقمع المعارضة ومنعها من التعبيرعن مواقفها بحرية وبشتى الوسائل، وتشكيل المحاكم الصورية وسيادة نظام الحزب الواحد يقتل الديمقراطية، ويدمر أسس الوحدة الوطنية، ويزرع بذور التمزق في المجتمع، ويؤسس لصراعات داخلية دموية. ولعل تجربة الجزائر وكل الدول التي إبتليت بنظام الحزب الواحد خير دليل على ذلك.
والتجربة الفلسطينية بينت بان حشد طاقات الشعب الفلسطيني خلف القيادة لا يمكن أن تتم بدون ديمقراطية حقيقية تشرك الجميع في صناعة القرار الوطني، وبدون برامج وتوجهات واقعية مقنعة قادرة على تفعيل الطاقات الوطنية وتحقيق إنجازات ملموسة. واذا كانت أوضاع وظروف ما قبل عودة قيادة م ت ف من الخارج، وإستكمال مهمة التحرير جعلت الشعب يقبل بعض صيغ وأشكال الديمقراطية الشكلية والناقصة، ودفعته للصمت على بعض الممارسات غير الديمقراطية الخاطئة والمسيئة، فالمرحلة الجديدة، حررته من ذلك. وسياسات وممارسات ما قبل قيام السلطة الفلسطينية لا تصلح لما بعدها. وبديهي القول بأن اللجوء للردح والتنكيت داخل الغرف المغلقة لا يسمن ولا يغني عن جوع، ولا تصلح الخلل ولا تصحح الأخطاء. وإعتماد الديمقراطية في معالجة الخلافات داخل النظام السياسي يعني في الواقع الفلسطيني الراهن : (1) الأقرار بالتعددية السياسية والتنطيمية في إطار إستقلالية الحركة الوطنية الفلسطينية وإستقلالية قرارها الوطني. (2) حق الأقلية في التعبيرعن وجودها وعن مواقفها بكل الاشكال عبر منابرها الخاصة ومنابر منظمة التحرير وانهاء مظاهر واشكال الفردية والاستئثار. (3) أن يبقى الصراع بين مختلف التيارات والاتجاهات يدور في إطاره الفكري والسياسي والتنظيمي وألا يتحول الى صراع تناحري أو إقتتال داخلي. (4) أن تبقى المصلحة الوطنية العليا وبخاصة مواجهة الإحتلال وطرده فوق كل الإعتبارات الفئوية الضيقة التنظيمية والعقائدية. (5) أن تعتمد تيارات وإتجاهات النظام السياسي قواسم عمل ملزمة. وان يلتزم الجميع بقرارات الهيئات المشتركة وأن تعمل على إستفتاء الشعب حول قضايا الخلاف الأساسية حيث أمكن ذلك. 6) وفي كل الأحوال لا مبرر وطني إطلاقا لعدم إجراء إنتخابات بلدية، وداخل الأطر والإتحادات الشعبية الفلسطينية (عمال، طلاب، مرأة، معلمين…الخ) وعدم إعطائها إستقلاليتها عن السلطة والأحزاب حتى الان. فإجراء الإنتخابات على هذا المستوى وإستقلالية هذه المؤسسات يساهم في معالجة بعض الأمراض التي تعانيها هذة المؤسسات، ويساهم في تفكيك بعض المعضلات التنظيميية التي تعيشها منظمة التحرير. وأعتقد بأن المصالح الوطنية العليا، ومستقبل الديمقرايطة، وتعطيل إندفاع حزب السلطة وحماس نحو التصادم، على غرار ما هو حاصل في الجزائر، يتطلب تشكيل حركة ديمقراطية جديدة واقعية تتسع لكل الديمقراطيين الفلسطيين.
ثالثا/ تطوير أوضاع السلطة وإنجاح دورها
لا شك في أن التقييم الموضوعي لقيام السلطة الوطنية يفرض إعتباره تطورا ايجابيا يخدم تصحيح وتطوير مسار الحركة الوطنية الفلسطينية باتجاه تحقيق أهدافها الإستراتيجية. وهذا التطورالايجابي يستوجب تكييف الأوضاع القيادية الفلسطينية بما يمكن من إستثمار كل تفاعلاته وأبعاده الداخلية والخارجية لصالح الفلسطينيين ككل. ويفرض أيضا إحداث تغيرات نوعية في مفاهيم العمل التي كانت سائدة قبل وقوعه، وإحداث تغيرات جذرية على الالية والاسس التنظيمية التي قامت عليها بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، ونظمت على اساسها العلاقات داخل النظام السياسي الفلسطيني وداخل النقابات والمنظمات والإتحادات الشعبية الفلسطينية. وتمني الفشل للسلطة الفلسطينية، أو العمل على إفشال تجربتها أقل مايمكن أن يقال فلسطينيا عنه أنه لايخدم الهدف الوطني الفلسطيني في تأكيد قدرة الشعب الفلسطيني على ان يحكم نفسه بنفسه وأن يدير حياته بنجاح. ففشل تجربة السلطة الفلسطينية هو فشل لكل أطراف الحركة الوطنية الحاكمة والمعارضة. وفي هذا السياق لابد من القول بوضوح أن الأسس التي أعتمدت في تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة لا تتناسب وطبيعة مهام المرحلة، وفي مقدمتها مهمة تحضير الأوضاع للاعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة فوق كل الاراضي الفلسسطيمنية التي احتلت عام 1967، واستنهاض طاقات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجة. وحشد الجهود العربية والدولية لمواجهة مواقف وتصرفات الحكومة الاسرائيلية والمستوطنيين التي لن تستسلم للواقع الجديد الذي سيخلقه إعلان الدولة.
وبالتمعن في طبيعة المشكلات التي تواجهها، وفي نوعية الأمراض التي تنخر جسمها وبخاصة الإنعزالية عن شعبها وعن العرب والدكتاتورية، يصبح من الصعب الحديث عن حل سحري كمخرج فوري للمأزق الذي تعيشه. وتدارك الاوضاع والشروع في تصحيحها، ومعالجة المشكلات التي تواجهها السلطة لا يمكن أن يتم بحقن جسمها ببعض المسكنات التي قد تضر ولا تفيد. ويتطلب الاقدام على العديد من الخطوات الوطنية العاجلة والجريئة، حتى ولو كانت مؤلمة لبعض القوى ولبعض القيادات وأهمها وأكثرها الحاحية : 1) إعادة بناء السلطة على أسس جديدة، غير التي أعتمدت عندما أعيد تشكيلها. وإختزال عدد الوزارات، وتشكيل وزارة إستيعاب وتاهيل العائدين والنازحين واللاجئين. وعدم الجمع بين عضوية اللجنة التنفيذية وعضوية السلطة في كل الأحوال بما في ذلك رئاسة الوزارة. وتقليص نسبة الحزبيين لصالح الكفاءات الوطنية المستقلة، وبخاصة من أبناء الضفة والقطاع من ذوي الكفاءة والخبرة والاختصاص في كل المجالات وبخاصة المجال الاقتصادي والعمل المالي والتربوي والاداري. وممن يتمتعون بالثقة والمصداقية في صفوف اهل الضفة وقطاع غزة، وفي الاوساط العربية والدولية. 2) تحديد مهام السلطة الوطنية بدقة، وفصلها عن مهام التنفيذية، وتخفيف الاعباء غير الضرورية عن كاهلها بفك التداخل الحاصل بين مهامها ومهام اللجنة التنفيذية، وحصرها في إدارة الوظائف والمجالات المنوطة بها. 3) وضع اللوائح والانظمة التشريعية الكفيلة بتنظيم العلاقة بين السلطة و م ت ف وإعتبارها سلطة تنفيذية خاضعة لمحاسبة مراقبة والمؤسسات التشريعية في منظمة التحرير حسب قرار المجلس المركزي الذي تم بموجبه تشكيلها. 4) وقف سياسة التعيينات العشوائية المعتمدة في املاء المراكز والوظائف الشاغرة في مؤسسات السلطة، وحصرها في حدود الملاكات الضرورية وليس اكثر. وإعادة النظر في فائض التعيينات التي تمت في ملاك الوزارات، وتحويل كل المعينين كترضيات حزبية وخاصة، الى وزارة الاستيعاب لتأهيلهم وتشغيلهم في مجالات اخرى اكثر جدوى وانتاجية. واحالة كبار السن والفائضين عن الحاجة الى التقاعد. 5) وقف التضخم في ملاكات أجهزة الامن وأجهزة الوزارات، والحرص على خلق توازن بين الواردات والنفقات، وبين النفقات الجارية والانفاق على بناء مؤسسات السلطة، وإقامة المشاريع الانتاجية القادرة على إمتصاص أقسام من البطالة، وزيادة الدخل القومي. والتنبه سلفا لعدم إغراق الشعب الفلسطيني في الديون الخارجية. 6) تحرير السلطة الفلسطينية من الضغط المعنوي والعملي لعملية المفاوضات الطويلة والشاقة، ومن الابتزاز الشديد الذي يمارسه المفاوض الاسرائيلي. وحصر مهمة متابعة المفاوضات بمؤسسات منظمة التحرير. وغني عن القول ان انجاز هذه المهمة الرئيسية يتطلب احياءاللجنة العليا لمتابعة المفاوضات، واعادة تشكيلها بما يمكنها من متابع كل فروع المفاوضات الثنائية والمتعددة الاطراف. وتشكيل الطواقم المفاوضة، وطواقم المستشارين، على اساس الكفاءة والخبرة والاختصاص.
رابعا/ إحياء م ت ف وتفعيل دورها
بالتمعن في ما آلت الية أوضاع منظمة التحرير، وفي الخطوات التنظيمية والعملية التي تمت بعد تشكيل السلطة وأدت الى تجويفها من الداخل يتبين أن هناك في القيادة الفلسطينية من هو مقتنع بأن إتفاق أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية فرضا العد العكسي لوجود منظمة التحرير الفلسطينية كإطار قيادي جبهوي جامع لقوى الشعب الفلسطيني. ويعتقد أصحاب هذا الرأي بان السلطة الوطنية هي البديل والوريث الشرعي للمنظمة. وهناك من يحاول حرق المراحل وتمويت منظمة التحرير، ظنا منه أن البديل قد وجد. ويحلو لبعض القيادات الفلسطينية الاستشهاد بتجربة بن غورين في تهميش دور الوكالة اليهودية بعد الاعلان قيام دولة اسرائيل وتحويلة الى دور مآزر للحكومة. لكنهم ينسون أن بن غورين أقدم على خطوته بعد إستكمال قيام دولة إسرائيل على الارض. وبعدما هزمت هذه الدولة كل الدول العربية التي شاركت في حرب 1947-1948. وينسون أن بن غوريون والقيادة الصهيونية أبقت على المؤتمر اليهودي العالمي بعد قيام دولة اسرائيل. وأن ماحققه الفلسطينييون حتى الان حكم ذاتي محدود الصلاحيات على جزء بسيط من الأرض وليس أكثر، وان الاستيطان يحاصر هذا الجزء الصغير وينهش جسده يوميا. أضف لذلك ان اتفاق اوسلو لم يوصل الى الحل الذي كان ينتظره الفلسطينيون، ومسار المفاوضات منذ اوسلو وحتى الآن لم يشجعهم على اعتماد هذا المسار كطريق وحيد يعيد لهم حريتهم وكرامتهم. وكلا العنصرين، أوسلو والمفاوضات، لم يقنعا الشعب الفلسطيني حتى الآن باعتماد السلطة الوطنية كوريث كامل لمنظمة التحرير يمكن الاعتماد عليه في تحقيق الأهداف الوطنية التي من اجلها قامت منظمة التحرير.
وتجربة ثلاث سنوات من خلط الهيئات ومهام العمل اليومي بينت أن دخول أعضاء التنفيذية في الوزارة لم يكن مصدر تنشيط وتفعيل لدور السلطة بمقدار ما كان مصدر إرباك لها، وتهميش وإضعاف دور اللجنة التنفيذية، وتدهور واهتراء أوضاع بقية المؤسسات وشلها عن الحركة وتعطيل عملها. وأضعف موقف السلطة الوطنية في نظر الشعب الفلسطيني ونظر القوى الصديقة ولم يقويها في مواجهة الإسرائيليين. وأفقدها مرجعيتها، وفقدت الجهة المعنية عن مسائلتها ومحاسبتها دوريا. لا شك في أن انتخاب المجلس التشريعي وابراز دور السلطة الوطنية وتطويره كاطار قيادي مركزي يصب في صالح النضال الوطني العام، ويخدم هدف بناء الدولة المستقلة على الارض الفلسطينية، ويضع اللبنات الاساسية لعبور مرحلة التحول من حالة الثورة لحالة الدولة. الا أن إلغاء دور م ت ف وتعطيل إجتماعات اللجنة التنفيذية ودمجها هي والوفد المفاوض والسلطة “الوزارة” في اطار واحد “الاجتماع الدوري للقيادة “، ودمج مؤسسات المنظمة بمؤسسات السلطة، لم ولا يفعل دور هيئات الجسمين. واعتقد بان قوى النظام السياسي الفلسطيني ترتكب خطأ كبيرا اذا حاولو القفز بصورة قسرية عن المرحلة الانتقالية التي عبرها النضال الوطني الفلسطيني بعد التوقيع على اتفاق أوسلو.
وأي تكن الدوافع والأسباب الذاتية التي تدفع الآن ببعض القيادات والقوى والشخصيات الفلسطينية نحو استذكار المنظمة، بين فترة وأخرى، واستذكار لجنتها التنفيذية ومجلسيها المركزي والوطني، والإصرارعلى إحياء دورها القيادي بعد ان غيب إسمها ودورها قرابة 5 سنوات، فالواضح ان هذا الإستذكار لم يعالج الازمة، وان بعضة يتم كنوع من رفع العتب، وبعضه الاخر يتم لاغرض حزبية داخلية صرفة. والقيادة الفلسطينية أخطأت خطأ إستراتيجيا حين إعتقدت بان الاتفاقات مع الاسرائيليين ستفرز تدريجيا إنتهاء دور المنظمة. وان السلطة قادرة على ان تكون بديلها ووريثها. وعندما اعتقدت بأن التعجيل في تسليم الورثة والراية للسطة يسرّع في خلق البديل وتأهيله لتولي دفة قيادة الشعب الفلسطيني كله. ومن البديهي القول أن التراجع عن هذا الخطا ضرورة وطنية، وقديما قالوا “الاعتراف بالخطا والتراجع عنه فضيلة”. وترجمته العملية تتم بالإقرار بأن لا بديل للمنظمة في هذة المرحلة والتمسك بدورها، واعادة بعث الحياة في مؤسساتها والعمل من داخلها، واحياء دورها القيادي. والمناداة بعدم حرق المراحل لا يعني اطلاقا الاستسلام للازمة الفكرية والسياسية والتنظيمية المستفحلة في صفوف م ت ف وعموم قوى الحركة الفلسطينية. ولا يعني ايضا السكون والقبول بالاوضاع التنظيمية والعلاقات الداخلية الخاطئة القائمة، بما في ذلك القبول ببقاء أوضاع م ت ف على ما هي علية الان. فالقبول بذلك قد يقود الى ذات النتائج السلبية التي يفرزها التفكير بتوليد البديل قبل استكمال الفترة الطبيعية للحمل.
وبغض النظرعن التقديرات التي يعطيها هذا المركز أو ذاك الطرف لحجم وثقل هذا الفصيل أوذاك التنظيم فالتباين في التقدير نسبي ولا يلغي ضرورة إعادة النظر في النسب التمثيلية للقوى المشكلة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي نظام الكوتا الفصائلية وإستبدالها بكوتا لحجوم التجمعات الفلسطينية. وإعطاء الفلسطينيين في الشتات حق البحث في أفضل السبل لتمثيل أنفسهم في المجلس الوطني الفلسطيني. والتوجه نحو تقليص الهيمنة الفصائلية لحساب الفعاليات الوطنية المستقلة، وإعادة النظر في اللوائح الداخلية لكل مؤسسات المنظمة وهيئاتها القيادية لصالح تعزيز العمل الجماعي وتعزيز الرقابة على عملها. أما الاستمرار في التمترس عند المواقف القديمة، وإستمرار ادارة الصراع بذات العلقية السابقة، وبذات الأدوات المستهلكة فقد يقود الى كوارث جديدة وعندها لن يفيد تبادل الأتهامات حول المسؤولية عن ذلك. والمصلحة الوطنية العليا تفرض على السلطة والمعارضة الشروع فورا في إجراء تصحيح سريع للخللين الاساسيين الذين وقعا بعد التوقيع على اتفاق أوسلو. الأول انهاء الخلط المتعمد الذي جرى بين مهام الوزارة ومهام اللجنة التنفيذية. والثاني عودة من استقال أوجمد عضويته في المجلس المركزي واللجنة التنفيذية للعمل في إطارهاتين الهيئتين القياديتين الاساسيتين. ولا نظلم أحدا اذا قلنا أن المعارضة وكل المستنكفين عن المشاركة في أعمال اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي يتساوون مع المحتفظين بعضويتهم في المسؤولية عن شلل المنظمة، وعن النتائج الخطيرة التى ترتبت على ذلك حتى الان وتلك التى يمكن أن تظهر مستقبلا. فاذا كان مفهوما أن يكون لهذا الحزب او ذاك الفصيل او تلك الشخصية الوطنية من المعارضين أو المؤيدين لعملية السلام موقفا من المشاركة في السلطة الوطنية (الوزارة) فمن غير المقنع وغير المفهوم اطلاقا استمرارهم في تجميد أدوارهم فى هيئات م.ت.ف، أو الاستمرار في الأنسحاب من اللجنة التنفيذية، الا اذا كانوا مقتنعين ان دورالمنظمة قد انتهى ولم يعد هناك من مبرر لوجودها. واعتقد ان الاستمرار في الاستنكاف والمقاطعة والقاء المسؤولية على الاخرين لا يوقف التدهور الحصل في أوضاع المنظمة، ولا يصوب عمل السلطة، ولا يعالج قضايا الشعب الفسطيني داخل وخارج الوطن. بل يلحق أضرارا فادحة بالمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني. ويخطأ كل من يعتقد انه بموقفه السلبي والاستنكافي عن المشركة في إحياء المنظمة يعاقب أحدا غير الشعب الفلسطيني. ويخطأ اكثر من يعتقد أن بامكانه وراثتها أو تشكيل بديلا لها.
وانقاذ م ت ف تفرض ايضا دعوة المجلسين المركزي والوطني للانعقاد بأسرع وقت ممكن. فليس من حكمة على الاطلاق في عدم عقد اجتماعات منتظمة للمجلس المركزي. ولايمكن فهم هذا الموقف سوى الهروب من المحاسبة والمراقبة. وبغض النظرعن شكلية الدور الذي كان يقوم به هذا المجلس قبل تشكيل السلطة الا ان تعطيل اجتماعاته اضعف دور المنظمة واضعف الوحدة الوطنية، وقلص امكانية البحث عن سبل عقد مصالحة وطنية مع المعارضة، وسبل تنظيم العمل معها. وتعطيل اجتماعاته بحجة الخلاف حول مكان الاجتماع “خارج او داخل” ليس سوى هروب من المواجهة الداخلية. فقد كان ولازال بالامكان حله ببساطة لو صدقت المواقف والنوايا وتوفرت القناعة الحقيقية والرغبة الجدية في تفعيل هذا الاطار القيادي. ولا اظن ان عضوا واحدا في المجلس المركزي يرفض انعقاد اجتماعات هذه الهيئة القيادية الفلسطينية أو أية هيئة اخرى فوق تراب الوطن، اذا تأمنت الشروط الضرورية لانعقادها، وفي مقدمتها حرية وصول أعضاء المجلس الى مكان الاجتماع. وما يقال بشأن انعقاد المجلس المركزي يمكن قوله أيضا بشأن عدم عقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني، وعدم وضع ميثاق وطني جديد يستوعب التطورات التي وقعت على القضية الوطنية وعلى وضع الحركة الوطنية ومنظمة التحرير. أما الاستمرار في التهرب، فأظن أنه يعني من الناحية العملية إعتبار الدورة التي عقدها المجلس الوطني في صيف 1996 آخر دورة في حياة أعلى سلطة تشريعية فلسطينية.
لاشك في ان صراعا فكريا وتنظيميا داخليا يجب ان يخاض من اجل تصويب أوضاع الحركة الوطنية وتصويب برامجها. وان جهدا وطنيا كبيرا يجب ان يبذل من اجل احياء وتجديد بنية م ت ف وتفعيل دورها واعادة النظر في مهامها ووظائفها. وترميم وتصحيح العلاقات الفلسطينية الداخلية الخاطئة السائدة الان، بما في ذلك الاوضاع داخل م ت ف، وعلاقتها مع القوى الوطنية غير الممثلة في أطرها. فتمويت المنظمة يلحق اضرارا بوحدة الشعب ويعرضها للانقسام بين داخل وخارج. ويفقد الحركة الفلسطينية الاطار الموحد للطاقات الشعبية في وقت هي في أمس الحاجة له. فالسلطة لا يمكنها ان تكون بيتا يتسع لجميع القوى والاتجاهات السياسية والفكرية الفلسطينية، أقله خلال المرحلة الانتقالية. ولايمكنها أيضا أن تكون إطارا قادرا على تعبأة طاقات الشعب داخل الوطن وخارجه وتفعيلها في مواجهة الاحتلال. ومن المفيد أن يدرك الجميع بأن بقاء أوضاع النظام السياسي على ما هي عليه الآن يعني سير الجميع نحو كارثة وطنية جديدة. وبعدها لن يكون مفيدا بحث درجات ومستويات المسؤولية عن وقوعها.
خامسا / وضع المصالح العليا فوق الإعتبارات الأخرى
رغم إجماع أطراف النظام السياسي على أن إستمرار وجود الأزمة دون حل يلحق أضرارا فادحة بالقضية الوطنية وبمصالح الشعب في كل مراكز تواجده، الا أننا عند التدقيق في روءآها لأسباب الازمة نجدها متعارضة ومتناقضة. أما مشاريعها للعلاج وللخروج من المأزق فهي متقاطعة ومتداخلة أحيان ومتضاربة أحيان أخرى. فالمعارضة المنضوية تحت لواء منظمة التحرير تحمّل قيادة المنظمة المسؤولية الكاملة عن الأزمة، وتدعو لإستكمال الحوار الوطني الشامل بإعتباره الوسيلة الأنجع لترتيب البيت الفلسطيني والبلسم الشافي لمعالجة الامراض المتنوعة التي تنخر الجسد الوطني. وتضع شروطا غير واقعية حيث تطالب بتجميد المفاوضات وإلغاء الإتفاقات الموقعة مع الإسرائيليين. أما حركة حماس ومعها حركة الجهاد الإسلامي فموقفهما يتقاطع مع مواقف الآخرين بالإقرار بوجود الازمة وبخطورتها وبمسؤولية السلطة عنها. ألا أنه يتباين معهم حول سبل الخروج منها، ويتجه نحو مواقف أكثر تطرفا. وموقفها من مفهوم الحوار الوطني وأهدافه لا يزال غير واضح.
أما القوى المشاركة في السلطة فموقفهما غير موحد. بعضها يبسط الأزمة ويقارن الأوضاع بما كانت عليه قبل إنطلاق عملية السلام. ويستسهل الحلول ويراهن على الزمن، ولا يرى أي أمل يرجى من الحوار الوطني الشامل الذي تدعو له المعارضة. ويعتقد بأن الحوار بمفهومه الفصائلي القديم يضيف للمشكلات الوطنية القائمة مشكلات جديدة. والشعب الفلسطيني من وجهة نظرها في غنى عنها وعنده من الهموم والمشاكل ما يكفيه ويزيد عن طاقته. ويرفض عمليا الدخول في بحث جدي عن قواسم مشتركة مع المعارضة. ورفضه مؤشر واضح على ضعف الديمقراطية، وعدم رسخوها كمنهج تفكير وعدم تحولها الى نهج عمل في الحياة السياسية الفلسطينية. ويتضمن بصيغة وأخرى رغبة في الإستئثار الكامل بالسلطة، وعدم التقيد بقيود وقواعد العمل الوطني المشترك. وهناك من أهل السلطة من يخشى خسارة بعض الإمتيازات الحزبية والفردية المكتسبة من وجوده في السلطة، ومن المشاركة في المفاوضات، ومن العلاقة التي نشأت مع الإسرائيليين. وهناك أيضا من هو محبط تماما ويعقد الأمورعلى نفسه وعلى الآخرين، ولا دور له الا إشاعة أجواء اليأس، والتبشير بمستقبل فلسطيني قاتم. أما الأغلبية الشعبية المكتوية بنيران الأزمة، في الداخل والخارج، وغير المنتمية للتنظيمات، فهي فاقدة الثقة بقدرة السلطة، وقوى الحركة الوطنية الحالية المترهلة، يمينها ويسارها، على معالجة الأزمة والخروج منها بسلام، وعلى إخراج الوضع الوطني العام لبر الأمان. وتجربة جولات الحوار الوطني السابقة الفاشلة كرست عندها هذه القناعات، وباتت أكثر تحفزا للدفاع مباشرة عن حقوقها ومصالحها.
اعتقد ان مواجهة الأخطار المحيطة بالقضية، والمحافظة على وحدة الشعب، ومقاومة خطر الاستيطان والحفاظ على ما تبقى من عروبة القدس، أكبر وأهم من كل المصالح الخاصة التي أعاقت وما تزال تعيق توحدهم في مواجهة نكبة جديدة تحل بقضيتهم وشعبهم. والمسؤولية الوطنية تفرض إقرار القوى الحزبية وبخاصة القوى الحاكمة بأن إعفاء الذات من المسؤولية، وإلقائها على كاهل الآخرين، لا يحل الأزمه وفيه هروب من تحمل المسؤولية. وتفرض إعتراف جميع أطراف النظام السياسي الفلسطيني بأن تبسيط الأزمة أو تجاهل وجودها وإنعكاساتها السلبية لا يعالجها بل يعمقها ويوسع نتائجها الضارة بالجميع. وأن التلكؤ والتأخر في العلاج يضاعف من حجم المسؤولية الوطنية الجماعية والفردية. أما دعوات البعض لتأجيل المراجعة والتقييم فأظنها دعوات إنتهازية تغلف المصالح الذاتية وتقدمها على المصالح الوطنية العليا. وتفرض على الأجيال اللاحقة دفع أثمان باهظة عن أخطاء وتقصيرات إرتكبها غيرهم وليسوا مسؤولين عنها. فليس هناك قائد أو مثقف فلسطيني داعم أو مشارك في السلطة او معارض لها أو صامت عن أخطائها، يستطيع الإدعاء بأنه بريء من المسؤولية عن الأزمة وعن تفاقمها. وإذا كانت المسؤولية عن الأزمة تطال الجميع بنسب متفاوتة فالتطورات السياسية المتلاحقة وانعكاساتها المحتملة على القضية وعلى مستقبل الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، تستوجب الإستعداد الجماعي الجدي لمواجهة القادم قريبا والبعيد أيضا. وتعطي الحق لكل من تطاله بأن يدلي بدلوه ورفع صوته النقدي عاليا، والمطالبة ببقاء المصالح الوطنية فوق كل الاعتبارات الاخرى، والعمل ضمن طاقته لمعالجة الممكن. ولا خلاف على أن رسم الحلول الصحيحة يحتاج الى بحث جماعي حر ومحرر من قيود المواقف الحزبية المسبقة والتسامى فوق الجراح التي ألحقتها الممارسات الخاطئة بهذا الطرف او ذاك. وتفرض على السلطة العمل على خلق الظروف الوطنية المواتية للشروع في العلاج. وتملي على كل أطراف النظام السياسي الفلسطيني وضع المصالح العليا للشعب فوق جميع الاعتبارات الأخرى. وطي صفحة الشروط المسبقة، والقفز عن كل المسائل التفصيلية التي عطلت نجاح حواراتهم السابقة. ويخطئ من يعتقد أن العالم والعرب سيخلصوا الفلسطينيين من أزماتهم إذا هم لم يتحركوا ليخلصوا أنفسهم. فتراجع درجة حرارة الصراع داخل النظام السياسي الفلسطيني لن يبدأ قبل تغليب التناقض الرئيسي مع الاحتلال على ما عداه، وقبل إعادة بناء وتشغيل المؤسسات الوطنية على أسس علمية، وتنظيم العلاقة مع الشعب على أسس ديمقراطية. وأظن بان التاريخ لن يرحم أحدا.