آفاق عملية السلام بعد فوز براك في الانتخابات الاسرائيلية

بقلم ممدوح نوفل في 19/05/1999

اخيرا وبعد انتظار طويل دام اكثر من 4 شهور تمت الانتخابات الاسرائيلية، وفاز براك بكرسي رئاسة الوزراء. ولا خلاف على ان سقوط نتنياهو المريع في الانتخابات جنب سقوط المنطقة في دوامة جديدة من العنف والدمار. وأحيا الامل ببقاء عملية السلام على قيد الحياة، بعد الموت السريري الذي بلغته منذ فوز الليكود في السلطة قبل ثلاث سنوات. واعطاها جرعة انعاش نوعية قوية كافية لأخرجها من مأزقها المميت الذي تعانيه على كل المسارات، وهيئها للانتقال فورا من غرفة العناية الفائقة الى غرف المفاوضات في واشنطن وتل ابيب ومناطق السطة الفلسطينية. وخلقت ظروف محلية واقليمية ودولية مواتية لتحقيق تقدم جوهري في المفاوضات على مساراتها الثلاث الفلسطيني والسوري واللبناني. وزادت قدرة الراعي الامريكي على القيام بدوره والتأثير في مسيرة التفاوض وتوجيه حركتها اللاحقة بصورة افعل، وبقدر من الاحراج أقل بكثير من الذي واجهه في عهد حكومة نتياهو. فهل سيعلن المجلس المركزي الفلسطيني في اجتماعه الثاني في حزيران القادم قيام الدولة الفلسطينية والشروع في بسط السيادة على الاراضي التي احتلت عام 1967، بعد زوال الذريعة التي عطلت الاعلان اواخر نيسان الماضي، ام انه سيقرر تمديد المرحلة الانتقالية التي انتهت في 4 أيار الماضي ؟ وهل سيكون براك قائدا سياسيا فذا صانعا للتاريخ، ام سيبقى عسكري يتقن الهجوم بالدبابات ويجيد قيادة العمليات الخاصة برا وبحرا وجوا..؟ قاده تاريخه الامني العسكري، وتخبط الليكود وحماقة نتنياهو الى كرسي رئاسة الوزراء، وستتلبسه شخصية بيريز المتقلبة والمهزوزة عندما يطلب منه شن هجوم لصنع السلام للبشر؟
أسئلة كبيرة كثيرة تنتظر القيادتين الفلسطينية والاسرائيلية. لايمكنهما التهرب طويلا من الاجابة عليهما، خاصة وان الشارعين الفلسطيني والاسرائيلي يلحان على تلقي الجواب، وتنتظره كل الدول المعنية بصنع السلام في المنطقة. وسيصطدمان بها اوائل تموز القادم في اول لقاء رسمي يجمعهما مع الرئيس كلينتون. وتاريخ براك العسكري وقصر فترة عمله في الحقلين السياسي والدبلوماسي تدفع المراقبين للتردد في الاجابة الفورية على الاسئلة المطروحة، ويخشون التسرع في اطلاق احكام جازمة والوصول الى استنتاجات خاطئة. وقد يقول قائل؛ فترة وجود الرجل في الحكم لم تبدء بعد، ولم يشكل حكومته حتى الآن، وفترة قيادته للحزب لا زالت قصيرة، ولا يمكن انصافه اذا اعتمدت كمقياس لمحاكمته. الا ان الاخذ بمقولة المقدمات تدلل على النتائج والمكتوب يقرأ من عنوانه، ينهي هذا المحظور. والتدقيق في مواقفه ابان خدمته العسكرية كرئيس اركان، وفي تعهداته التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية ينهي خلط الوقائع بالاحلام الجاري هذه الايام. ويسهل استقراء توجهاته الرئيسية المتعلقة بعملية السلام، ويبدد الاوهام حول رغبته في حل ازمة المفاوضات على مسارها الفلسطيني حلا جذرا، وتصليح الخراب الذي الحقه نتنياهو بالعلاقة بين الشعبين.
لقد خاض براك معركته الانتخابية تحت شعار “اسرائيل واحدة ودولة للجميع، وبراك رجل الامن والسلام”. وانتخب باعتباره رجل المؤسسة العسكرية الحاصل على اكبر قدر من الاوسمة والنياشين وليس كونه محنكا فذا في فنون السياسة، وتفوقه على نتنياهو بفارق كبير من الاصوات كان بمثابة تفويض قوي للامن اولا وعاشرا للسلام. والتزم أمام ناخبيه ومنافسيه بموقفين سياسيين عمليين كبيرين؛ الاول اجراء استفتاء شعبي حول اي اتفاق يتم يتوصل له مع الفلسطينيين بشأن قضايا الحل النهائي. والثاني، سحب قوات الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان خلال فترة اقصاها عام واحد. وكرر التزامه بشان الثاني في اول كلمة القاها بعد فوزه في الانتخابات ولم يحدد تاريخا لانتهاء مفاوضات الحل النهائي علما ان تاريخها انتهى في 4 أيار الجاري، وفي قيادة العمل واليسار الاسرائيلي من يعتبر الاتفاق مع سوريا وليس النهائي مع الفلسطينيين، مدخلا رئيسيا للانفتاح على العرب وبناء الشرق الاوسط الجديد الذي حلم به بيريز. اعتقد ان براك سيولي مسالة الامن اهمية استثنائية طيلة عهده، وسيتوجه الى الولايات المتحدة الامريكية مطلع تموز القادم وهو يحمل في جعبته اقتراحا باستئناف المفاوضات دفعة واحدة على أربع مسارات متوازية. الاول مع اللبنانيين هدفه وضع ترتيبات امنية تمكن الجيش الاسرائيلي من الانسحاب من جنوب لبنان خلال عام ، وفك ارتباطه بعملائه في “جيش جنوب لبنان”. والثاني متابعة المفاوضات مع السوريين من حيث توقفت في عهد رابين. والثالث مع الفلسطينيين يركز فيه المفاوضون على تنفيذ بقايا اتفاق واي ريفر وبقية قضايا المرحلة الانتقالية، والآخير يتخصص بقضايا المرحلة النهائية. وسلفا يمكن القول ان براك غير مستعد لتقديم تنازلات في وقت واحد على الجبهات الثلاث، السورية واللبنانية والفلسطينية، باعتبار ذلك خطرا على أمن اسرائيل ويفوق قدرة المجتمع الاسرائيلي المنقسم على نفسه على التحمل. واذا كانت تركيبة حكومته هي المقياس لتحديد وجهة حركته الرئيسية، فشبه الاجماع الاسرائيلي على ضرورة الانسحاب من جنوب لبنان يشجعه على الاندفاع نحو التوصل الى اتفاق حول الجولان وآخر حول جنوب لبنان. ويدرك براك ان الانطلاق من النقطة التي توقفت عندها المفاوضات السورية الاسرائيلية، التي يعرفها جيدا بحكم مشاركته الشخصية فيها، يمكّنه من تحقيق هذا الهدف خلال عام وليس اكثر.
أما بشان المفاوضات مع الفلسطينيين حول قضايا المرحلة الانتقالية فتتركز حول تنفيذ مستحقات المرحلة الانتقالية المتأخرة وبقايا اتفاق واي ريفر، وسيعمل على برمجة تنفيذها في جرعات صغيرة ودفعات متباعدة. وسيلمس المفاوض الفلسطيني تشددا اسرائيليا بشان الانسحاب من الارض لا يقل عن الذي لمسه في عهد نتياهو. فبراك نفسه هو صاحب فكرة تقسيم ارض الضفة والقطاع الى مناطق A B C ومرحلة الانسحاب منها على فترات متباعدة، ونجح في حينه باقنع رابين بها خلال فترة رئاسته اركان الجيش الاسرائيلي. اما مفاوضات الحل النهائي فستغرق منذ الجلسة الاولى في قضايا شائكة ومعقدة، وسيعمل براك على اخضاعها للماطلة والتسويف. وسيصدم المفاوض الفلسطيني بمفاهيم براك الامنية ولاءاته “الليكودية” الشهيرة ” لا لعودة اللاجئين، ولا للانسحاب الى حدود 1967، ولا تنازل عن القدس كعاصمة ابدية لاسرائيل”. وباصراره على بقاء التجمعات الاستيطانية الكبيرة في الضفة والقطاع، وضمها لاسرائيل باعتبارها الترجمة لنظريته الداعية للفصل بين الشعبين. واذا كان انجاز القليل من قضايا المرحلة الانتقالية غير المعقدة استغرق 8 سنوات، فبالامكان تقدير عدد سنوات المفاوضات في عهد براك حول قضايا الحل النهائي.
وبصرف النظر عن الكلام الامريكي المعسول الذي سمعته القيادة الفلسطينية قبل وبعد الانتخابات الاسرائيلية حول تسريع مفاوضات الحل النهائي، فاقتراحات براك بشان استئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني تلقى ترحيبا حارا من اركان الادارة الامريكية. وتلبي متطلبات توافق سياسة حزب العمل مع المصالح الامريكية في المنطقة، وتتلائم مع توجهاتها السياسية القائمة على احياء عملية السلام على كل المسارات. ووزير الخارجية “اولبرايت” قالت يوم 8 أيار امام جماعة يهودية امريكية “بعد الانتهاء من الانتخابات الاسرائيلية سنحض الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي ومن دون مزيد من التأخير على تنفيذ الالتزامات المستحقة من اتفاق واي ريفر” وأضافت “وسنكون مستعدين لبذل جهود جديدة لتحقيق التقدم على المسارين السوري واللبناني”. والواضح ان اولبرايت ومساعدوها مقنعين أنفسهم بان تنفيذ بقايا واي ريفر يرضي بصورة واخرى القيادة الفلسطينية. ويعتقدون ان استئناف المفاوضات بين الطرفين، وتحسين الاوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة مع توسيع اضافي محدود لمناطق نفوذ السلطة، تكفي لتعزيز دور السلطة في الشارع وبقاء الاوضاع على ما هي عليه فترة طويلة. وأظن انهم لن يغيروا مواقفهم وقناعاتهم دون أزمة حقيقية في المفاوضات ودون تأزيم جدي للاوضاع على الارض. وعلى اعضاء المجلس المركزي والسلطة الوطنية والمفاوضين الفلسطينيين ان يتذكروا في اجتماعهم في غزة الشهر القادم، ان فوز حزب العمل في الانتخابات يحدث تغيرا في مواقف عدد من الاحزاب العمالية والاشتراكة الحاكمة في عدد من الدول الاوروبية. ويجلب معه ضغوطا امريكية على الفلسطينيين، هدفها انتزاع موافقتهم على منح حكومة العمل وقتا كافيا لتثبيت اقدامها في السلطة، وأخذ ما يعرضه براك دون ازعاجه والاثقال عليه بطلبات كثيرة وكبيرة..، وطوي صفحة اعلان الاستقلال وبسط السيادة الى ما بعد الانتخابات الامريكية اواخر سنة الفين.
واذا كانت المصالح العليا للشعب الفلسطيني تفرض على السلطة وقيادة م ت ف ايلاء وقف زحف الاستيطان اهمية قصوى، وتحرير ما يمكن تحريره من الارض وأخذ ما يمكن اخذه من بقية الحقوق الفلسطينية ومراكمته فوق ما انتزع سابقا، وعدم تحمل مسئولية تدمير عملية السلام، والعمل على تطوير مواقف الحلفاء، وتوسيع جبهة الاصدقاء، وتجنب التصادم مع الامريكية..الخ فذات المصالح تفرض عليها تحضير اوضاعها لمعركة دبلوماسية قاسية ومفاوضات طويلة وصعبة والتمسك بحقها في اعلان قيام الدولة وبسط السيادة على الارض دون تاخير اضافي. وعدم المراهنة على دور الادارة الامريكية في بعث الدولة الفلسطينية الى حيز الحياة في عهد حزب العمل، خاصة اذا حافظ براك على موقفه المعلن من الدولة. فالدولة الفلسطينية لن تقوم عبر المفاوضات مع العمل او الليكود، ولا بموافقة امريكية مسبقة، ولن ترى النور دون أزمة جدية كبيرة مع براك وحكومته وقادة حزب العمل.
الى ذلك لا بد من ربط الدخول في مفاوضات الحل النهائي بثلاثة مسائل وطنية رئيسية: الاولى تحديد تاريخ واضح وجدول زمني محدد “يوم وساعة” لاغلاق ملف قضايا المرحلة الانتقالية كاملة اغلاقا تماما. والثانية الحصول على قرار اسرائيلي رسمي بوقف كل الاعمال الاستيطانية وقفا نهائيا وتشكيل لجنة مراقبة امريكية او مشتركة لمراقبة الوضع على الارض. والاصرار على ازالة كل البؤر والمواقع الاستيطانية التي اقيمت بعد اتفاق واي ريفر بناء على نداء شارون ودعوته للمستوطنيين باحتلال ما يمكن احتلاله من التلال واستيطانها. والثالثة، تحديد سقف زمني لنهاية المفاوضات حول قضايا الحل النهائي. وأظن ان هذه المسائل الوطنية الكبرى تستحق الدخول في اشتباكات تفاوضية قوية مع حكومة براك وتحويلها الى امتحان حقيقي لمواقف بيريز وعوزي برعام وحاييم رامون وشلومو بن عامي وبقية حمائم حزب العمل خاصة وان الاتفاقات تتضمنها بنصوص واضحة، وتعهدات الراعي الامريكي ضمنتها.