الدولة الفلسطينية ممر إجباري للحلول التاريخية الاخرى

بقلم ممدوح نوفل في 07/02/1999

مع اقتراب المرحلة الانتقالية، التي أسسها اتفاق اوسلو، من نهايتها في 4أيار القادم، ارتفعت وتيرة النقاش في أوساط السياسيين والمفكرين والبحاثة الفلسطينيين حول الدولة الفلسطينية وآفاق عملية السلام، وطبيعة الحل النهائي للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وظهر من يدعو الى إعلان قيام الدولة في الساعة الاولى من فجر الخامس من أيار 1999، وتأكيد عزمها على بسط سيادتها على الاراضي التي احتلت عام 1967. ويحذر انصار هذا التوجه من مخاطر تمديد المرحلة الانتقالية والدخول في فراغ قانوني وسياسي بعد انتهائها. ويوجد بالمقابل من يحذر من مخاطر الاقدام على هكذا خطوة، ويتساءل عن قيمتها العملية ومردودها الوطني، ويشكك في جدواها السياسي، خاصة اذا اعلنت من طرف واحد وبمعزل عن موافقة الولايات المتحدة الامريكية. ولم تحدث تغيير ملموس في حياه ابناء الضفة والقطاع. ويدعو لعدم التسرع، ويطالب برد الكرة للمعلب الاسرائيلي وعدم التصادم مع الموقف الدولي والاوروبي، وتأجيل الاعلان بضعة أسابيع بعد الانتخابات الاسرائيلية التي ستجري في 17 أيار القادم. ويحذر أصحاب فكرة التأجيل من استغلال اليمين الاسرائيلي بزعامة نتياهو للخطوة الفلسطينية في حملته الانتخابية، ومن أخذها مبررا سياسيا لالغاء الاتفاقات الموقعة بين الطرفين، وتنفيذ تهديده بضم أجزاء واسعة من أراضي الضفة والقطاع التي لا تزال تحت السيطرة الكاملة الامنية والادارية الاسرائيلية والمعروفة بمناطق C.
وبجانب هذا وذاك ظهر مفكرون فلسطينيون بارزون، مشهود لغيرتهم على المصالح الوطنية الفلسطينية، يبهتون الدولة الفلسطينية كتوجه وكفكرة في ظل الاوضاع القائمة على أرض الضفة والقطاع. ويرون أن موازين القوى القائمة بين الطرفين، وأسس ومنطلقات عملية السلام “اوسلو” الجارية، تعطي الفلسطينيين “كيان سياسي” ملتبس المعالم والحدود في أحسن الأحوال، وسيكون ناقص السيادة، يمكن إطلاق كل الأسماء والصفات والنعوت عليه ما عدا دولة مستقلة. وانه لن يكون أوسع من حكم ذاتي موسع الصلاحيات. ومنهم من بدأ بالدعوة الى طي فكرة الدولة الفلسطينية نهائيا، ويروج لافكار أكثر شمولية وجذرية من نوع “دولة ثنائية القومية”. معتقدا أن قيامها هو الحل الحقيقي للصراع بين الطرفين، والسبيل الوحيد لتحقيق سلام ثابت ودائم بين الشعبين. ويتصور بأنها يمكن أن تتكون من “كانتونات فدرالية يهودية فلسطينية” تشمل فلسطين التاريخية، وتقوم على”ممارسة المواطنة بدل الانتماء الاثني والعرقي”، مع “عاصمة مشتركة في القدس”، و”تكافؤ فيما يتعلق بالارض وبالحقوق القضائية”.
لا شك في أن منطلقات دعاة “الدولة الثنائية القومية” من الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي صادقة وسليمة. وتحقيق تصوراتهم يمثل البلسم الشافي للصراع المزمن بين الطرفين، ويؤسس لعلاقة فلسطينية اسرائيلية وعربية يهودية من نوع جديد، ويرسي قواعد قوية وثابتة لبناء شرق أوسط جديد..الخ من الايجابيات الاستراتيجية الكثيرة التي لا مجال للغوص فيها. الا ان ايجابيات هذه الفكرة يجب ان لا تحجب النظر عن رؤية نواقصها وثغراتها الاساسية. فهي كما أراها فكرة نظرية خيالية، مجردة من مقومات الحياة وأقرب الى الاحلام. وفرضية شبه وهمية قد تكون قابلة للتحقيق بعد جيل أو جيلين وقد لا تكون قابلة للتحقق ايضا. وتترك الوضع الراهن مفتوحا على كل الاحتمالات بما في ذلك تشكل حقائق سياسية وديمغرافية تنسفها. وإثارتها الآن يثيرعديد الاسئلة الكبرى منها: هل يعتقد أصحابها أن المجتمعين الفلسطيني والاسرائيلي ناضجين للشروع ببحثها والاستماع لافكار وآراء دعاتها ؟ وهل هي مطروحة كبرنامج نضالي يصلح للتبنيه فلسطينيا واسرائيليا في هذه المرحلة، ودعوة لشروع قوى السلام في العمل على كل المستويات من اجل تحقيقة، أم أنها فكرة استراتيجية مطروحة للاجيال اللاحقة تجدها عندما تتهيأ الظروف الذاتية والاقليمية والدولية الملائمة لتطبيقها ؟ وما هو مصير إعلان الاستقلال الذي أعلنه المجلس الوطني في الجزائر عام 1988 وساهم الاستاذان ادوارد سعيد وابراهيم ابو لغد في صياغته وترجمته الى الانجليزية ؟ وهل هناك موقع للاجئين الفلسطينيين فيها، علما انهم نصف الشعب الفلسطيني ؟ ..الخ
في سياق البحث في الفكرة والاجابة عن الاسئلة المطروحة لعل من مفيد التذكير بان فكرة “الدولة الديمقراطية الموحدة”، وفكرة “الدولة الديمقراطية ثنائية القومية” ليستا بجديدتين على الفكر السياسي الفلسطيني. فقد سبق وطرحتهما، أواخر الستينات، بعض الفصائل الفلسطينية الاساسية، في سياق تطوير مواقفها باتجاه الواقعية. وقدمتهما حركة فتح والجبهة الديمقراطية عام 1968 ـ 1969 للشعب الفلسطيني والعرب والعالم كبديل لفكرة “تحرير فلسطين وطرد اليهود منها”، التي سادت الفكر الفلسطيني منذ “النكبة عام 1948 وحتى هزيمة حزيران 1967. لكن قيادتا التنظيمين أقلعتا عام 1974عن التفكير بهما وعن طرحهما عندما تخلتا عن مواقفها التي اعتبرت مثالية متطرفة. وطرحوا “برنامجهم المرحلي” الواقعي لحل الصراع، الذي بني على أساس “اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الاراضي التي يتم دحر الاحتلال عنها”. وتحول لاحقا الى برنامج وطني يسترشد به كل الشعب.
وبصرف النظر عن الاسباب التي دفعت البعض لتجديد الحياة في الفكرة، فبروزها الآن على سطح الفكر السياسي الفلسطيني يأتي كما هو واضح في سياق البحث عن مخارج استراتيجية من المازق الذي عبره النضال الوطني الفلسطيني، بعد تعثر عملية السلام واصدامها بالمواقف الايدلوجية المتزمتة والمتطرفة لليمين الاسرائيلي الديني والعلماني. وأظن أن الحقائق المرة المدمرة للسلام التي بناها الاحتلال وبخاصة الاستيطان على أرض الضفة والقطاع والقدس، لها دور رئيسي في عودة البعض إليها هذه الايام. وأحسب ان واقع السلطة وحالة العجز التي تعيشها أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية وصورة الدولة الفلسطينية “المشوهة” التي يمكن إنتاجها من المفاوضات الجارية، لها تأثيرها في بعثها للحياة مجددا.
واذا كانت هذه العوامل ومعها موازين القوى المختلة لصالح اسرائيل تدفع بالعديد من البحاثة والمفكرين الفلسطينيين والعرب والاسرائيلين الى إعتبار فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة مستحيلة التحقيق في المدى المنظور، ولا تمثل حلا جذريا وعمليا للصراع الفلسطيني الاسرائيلي، فليس كل ما يلمع ذهبا، وليس كل ما يخطر في الذهن من أفكار يصلح لكل زمان، وبامكانه أن يكون منتجا ويصنع حلولا عملية على الارض. وقادر على حشد القوى الوطنية وزجها في الاتجاهات الصحيحة وفي الاوقات المطلوبة. والواضح ان فكرة الدولة الثنائية القومية لا تعالج الواقع ولا تصلح كشعار لتعبئة الطاقات الشعبية الفلسطينية في مهام نضالية مباشرة، وقد تزيد من احباط اللاجئين والنازحين. وتتجاهل التطورات والاحداث المتوقعة من الآن ولحين أقتناع الطرفين بها وتبنيها كتوجه مشترك. وأتصور ان بإمكانها التحول من فكرة مثالية الى فكرة عملية، فقط في حال تخلي أغلبية كبيرة يهودية عن الدولة اليهودية. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف على أن وقوع مثل هذا التحول في المجتمع الاسرائيلي غير مرئي الآن ولا في المستقبل المنظور. وكل الدلائل والاستفاءات تشيرالى ذهاب المجتمع الإسرائيلي في إتجاه عكسي. وانه لا يزال يتجه نحو مزيد من الفرز لصالح تعزيز التعصب الديني والتطرف القومي.
أعتقد أن خطئا فادحا يرتكبه البحّاثة والمفكرون إذا هم أخضعوا تفكيرهم في المصير الفلسطيني والخيارات الاستراتيجية الفلسطينية لأمنياتهم الذاتية المثالية. وانساقوا وراء تقلبات الفكر السياسي الاسرائيلي، وإذا انتهجوا سياسة سلبية هروبية انتظارية. ويخطئون أكثر إذا أخضعوا فكرة الدولة الفلسطينية “المستقلة” لمواقف اليمين القومي والديني المتطرف الحاكم في إسرائيل. وسمحوا لتعقد عملية السلام، وتراجع دور رعاتها بالتأثيرعلى خياراتهم وتوجهاتهم الاستراتيجية. واذا كان البعض يشك في أن عملية السلام الجارية والاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية تفتح على دولة فلسطينية مستقلة، فالثابت والمؤكد ان القناعات الايدلوجية والمواقف السياسية السائدة في المجتمع الاسرائيلي والمرئية في المدى المنظور تقفل جميع النوافذ والابواب على الدولة الديمقراطية أو دولة ثنائية القومية. فكلا الفكرتين مرفوضتين بقوة وبصورة أعنف من قبل اليسار واليمين الصهيوني على حد سواء. وأظن أنه أسهل على المواطن اليهودي الاسرائيلي، يساري أو يميني، القبول بقيام دول فلسطينية مستقلة وذات سيادة كاملة بجانب دولة إسرائيل، من تقبل فكرة تقوده حتما الى التخلي عن الهوية اليهودية لدولة اسرائيل، وتحويلها الى دولة علمانية “ثنائية القومية” عربية يهودية. وأظن أن غالبية يهود العالم المؤمنيين بالفكر الصهيوني يفضلون استمرار الصراع مئة سنة اخرى على التخلي عن عقيدتهم وعن يهودية دولتهم. صحيح أن المفكرين الإسرائيليين سوف يواجهون بعد عشرين سنة مشكلة وجود أكثر من 8 مليون فلسطيني على أرض فلسطين التاريخية، منهم 2 مليون يعيشون في اسرائيل ويحملون الجنسية الاسرائيلية، إلا أن نمو التيار الديني والقومي المتعصب يدفع بأغلبية المجتمع الاسرائيلي الى عدم رؤية هذه التطورات. وعدم التفكير في حلها. وعندما تحين لحظة مواجهة هذه الحقيقة من الصعب التكهن بتوجهات إسرائيل والحركة الصهيونية العالمية. والمقدمات التي نعيشها ترجح الميل نحو البحث عن حلول أخرى غير تغيير هوية الدولة اليهودية. ولا شك في ان تخليص الاسرائيليين من عقدة الخوف من العرب الراغبين في “إبادتهم”، التي زرعت في أذهانهم وتثقفوا بها طيلة حياتهم في إسرائيل، ضرورة لا غنى عنها لدفعهم نحو التفكير في نمط من الحياة المشتركة مع الفلسطينيين. وأظن أن إنتعاش فكرة الدولة ثنائية القومية إنتعاش عابر ومؤقت. ولا أدري إذا كان أصحابها سيواصلون التمسك بها والترويج لها إذا فاز حزب العمل في الانتخابات الاسرائيلية، وتحركت عملية السلام من جديد. أو تحولت أقوال السيدة الأمريكية الأولى “هيلري كلينتون” حول الدولة الفلسطينية المستقلة الى موقف أمريكي رسمي؟
في كل الأحوال تبقى الدولة الفلسطينية المستقلة على أرض الضفة والقطاع ممرا إجباريا للسلام وللدولة الديمقراطية ثنائية القومية على أرض فلسطين التاريخية بصرف النظر عن تاريخ إعلانها. ومحطة لا غنى عنها للانتقال لأي صيغ أخرى من التعايش المشترك في ظل نظام سياسي موحد، أو نظامين متداخلين ومتجاورين ومنفصلين في آن واحد. وهي الصيغة الواقعية والعملية التي بإمكانها إشباع جوع الفلسطينيين وعطشهم للتحرر وممارسة حقهم في تقرير المصير والاستقلال الوطني، وتبقى بعض الامل عند اللاجئين. وعبرها يمكنهم استكمال وحدتهم السياسية وتطوير علاقاته المجتمعية والثقافية، والتخلص من رواسب تمزيق وطنهم وتبديد هويتهم سنوات طويلة، وبدونها لا يمكن تخليصهم من عقدة الخوف من اليهود والحقد على إسرائيل التي تسببت في نكبتهم وفي المآسي التي حلت بهم منذ قيامها وحتى الآن.
وبالرغم عن الملاحظات الكثيرة المتنوعة التي يمكن تسجيلها على فكرة الدولة ثنائية القومية يبقى إشغال الذهن فيها مفيد لجهة تنوير وتثقيف الاجيال من الفلسطينيين والاسرائيليين بحلول مثالية. ولا بئس من الاستمرار في طرحها في سياق سرد وتعداد أنواع الحلول لقضايا الصراع بين الشعوب، شريطة عدم التأثير على مهمة معالجة الاوضاع الفلسطينية الداخلية المأزومة، وعدم تشتيت الجهود الفلسطينية والاسرائيلية المطلوب بذلها لمنع اليمين الاسرائيلي من التحكم بالقرار الاسرائيلي وبعلاقة الطرفين في السنوات القادمة. وعدم التشويش على الفعل الفلسطيني في الداخل والخارج في الاتجاهات الواقعية ممكنة التحقيق وبخاصة فكرة الدولة المستقلة على أرض الضفة والقطاع.