رياح الأزمة في إسرائيل تعرقل تنفيذ بقية “واي ريفر”

بقلم ممدوح نوفل في 25/11/1998

أثار توقيع وتنفيذ المرحلة الاولى من اتفاق “واي ريفر” الذي توصل له الفلسطينيون والاسرائيليون برعاية الرئيس كلينتون يوم 23 تشرين الماضي “اكتوبر”، عاصفة قوية في أوساط النظام السياسي الاسرائيلي “سلطة ومعارضة”، لم تهدأ حتى الآن ومرشحة للتواصل في الاسابيع القادمة. فبعد توقيعه إصطدم نتياهو بمعارضة قوية، كانت أقوى داخل الائتلاف الحاكم وفي أوساط المتدينين والمتطرفين العلمانيين الداعمين له منها داخل الكنيست. وعارضه أقطاب في حزب الليكود. وتم تمريره بصعوبه في الحكومة، حيث حصل على موافقة 7 وزراء هم أقل من نصف عدد أعضاءها وعارضه أربعة وامتنع عن التصويت خمسة. ودخل الائتلاف البرلماني أزمة حادة، ولولا الغطاء المؤقت الذي وفرته المعارضة اليسارية لما حصل “اتفاق واي” في الكنيست على عدد من الاصوات “75” فاقت بكثير الحد الادنى المطلوب لإقراره. والطبيعة الانتهازية لبعض الاحزاب والوزراء هي وحدها التي تبقيهم للآن داخل الائتلاف وداخل الحكومة. فالمفروض وفقا للاعراف الحزبية وتشكيل الحكومات في البلدان الديمقراطية أن يغادروا مواقعهم طالموا أنهم يعارضون توجهات سياسية رئيسية. وطالموا لم يفعلوا ذلك، فذات الاعراف كانت ولا تزال تفرض على نتياهو إقالة الوزراء المعارضين لسياسته وتوجهاته، وفك التحالف مع أحزابهم. الا أنه تريث ومنح نفسه وقتا اضافيا ريثما يعيد حساباته، ويحدد توجهاته النهائية تجاه الاتفاق واتجاههم.
وبينت مجريات تنفيذ المرحلة الاولى من الاتفاق أن حالة نتنياهو كانت أقرب لحالة طفل ألزم حضورعرس أمه وحاول تخريب حفل الزواج. فالعملية تمت في ظل أجواء متوترة. وأظهرت سوء نواياه ونوايا أركانه شارون وشيرانسكي، واستعدادهم الدائم لاثارة المشكلات واثارة العقبات. فبعد عودته من واشنطن أجل التنفيذ، وشرع في استفزاز السلطة الفلسطينية، وطالبها بطريقة عنجهية واستعلائية إصدار فورا عدد من المراسيم والقوانين تتعلق بالارهاب والتحريض، وحدد سلفا سقف الانسحاب الثالث ب 1%. وطرح في الصحف يوم 12/11/1998 مناقصة للشروع في البناء في جبل أبو غنيم. وعطل فتح الممر الآمن بين جنوب الضفة والقطاع. وكان يتمنى أن يعلق الفلسطينيون تنفيذ التزاماتهم في اتفاق واي، ويجمدوا المفاوضات التي اتفقوا على البدء بها، وان يتخذوا ذات الموقف الذي اتخذوه قبل 18 شهر بسبب الاستيطان في ذات الجبل. وأدخل في اللحظات الاخيرة تعديلات جوهرية ملموسة على خرائط انسحاب الجيش الاسرائيلي. وأغلب الظن أنه فعل ذلك لارضاء المستوطنيين الذي قدموا له ما يزيد على100 تعديل. وأوعز لأجهزته الأمنية التلاعب في مسألة إطلاق سراح المعتقلين، فأطلقوا 100 معتقل سياسي، واستكملوا العدد المطلوب “150” بإطلاق سراح مسجونيين جنائيين لم تطالب بهم السلطة، بعضهم امضى فترة اعتقاله او اقترب منها.
اما الوزير شيرانسكي فعارض الاتفاق وراح يزاود على نتياهو وشارون، رغم أنه كان الساعد الايسر لنتنياهو في مفاوضات واي ريفر. ورئيس البلوماسية الاسرائيلية “شارون” “وزير الخارجية” كان رأيه بعد العودة من واي ريفر أن المعركة النهائية فتحت على مصراعيها، وحان وقت حسمها بالافعال، وبمزيد من مصادرة الاراضي والاستيطان والاكثار من الطرق الالتفافية. “فالارض التي يتم السيطرة عليها حتى موعد الاتفاق النهائي ستكون لاسرائيل وما لا يؤخذ في هذه الفترة يذهب للفلسطينيين”. ودعا الاسرائيليين للركض باتجاه التلال وصعود الجبال، واقامة الممكن من المستوطنات الجديدة في كل مكان. ولم يخيب المستوطنون أمله وسيطروا على ما إستطاعوا من الاراضي الفلسطينية الخاصة والعامة، واقاموا للآن ثمانية مواقع استيطانية والحبل ما زال على الجرار.. وسيذهب بعد ايام لواشنطون ليطالبها بدفع نفقات اعادة الانتشار، وتغطية تكاليف الطرق الالتفافية، وتكاليف بناء تحصينات قوية فيها. وقد يعطل التنفيذ اذا لم تستجب الادارة الامريكية لمطالبه، ومن غير المستغرب أن يحمل السلطة الفلسطينية مسؤولية رفض الامريكان دفع الاموال المطلوبة..!
بعد كل هذه المواقف الاسرائيلية المخالفة للاتفاق والاستفزازات المقصودة، حاولت السلطة الفلسطينية الاستعانة بالادارة الامريكية باعتبارها راعي الاتفاق ومهندسه. وتبين لها انها تعتبرها تفصيلية وغير أساسية لا تسحق تدخل المباشر. واكتفت بحث الطرفين على المضي قدما على طريق واي، فالاهم هو ان يتم التنفيذ بصرف النظرعن الكيفية التي يتم فيها. ونصحت الفلسطينيين عدم الانجرار للاستفزات واغلاق المنافذ والثغرات التي يمكن أن استخدامها لتعطيل وتخريب الاتفاق. وغادر “روس” المنطقة تجنبا للاحراج بعد ان لمس نوايا نتياهو السيئة ورغبته التلاعب بالاتفاق. وقدمت السلطة خطتها الامنية في الوقت المحدد، وأصدر رئيسها مراسيم تتعلق بجمع الاسلحة غير المرخصة، ومنع التحريض ضد اسرائيل وضد السلام، وصادقت اللجنة التنفيذية التنفيذية على رسالة قديمة ارسلها رئيسها للرئيس كلينتون، حدد فيها بنود الميثاق التي تم الغاؤها في المجلس الوطني عام 1996، والتي تتعارض مع السلام ومع الاتفاقات الموقعة بين الطرفين. وبهذه الاجراءات قدمت السلطة الفلسطينية ما طلبه نتياهو، وسحبت من يده الذرائع حسب نصيحة الادارة الامريكية. وراحت تعمل على استكمال التحضيرات الضرورية لاستقبال كلينتون في غزة وبيت لحم.
لقد اعتقد نتنياهو بان مواقفه واستفزازاته للفلسطينيين وتلاعبه بتنفيذ الاتفاق، يمكنها التخفيف من قلق المستوطنيين من الاتفاق، وتهدئة خواطرالمعارضة اليمينية، وتدفعهم نحو العدول عن مواقفهم. لكنهم خيبوا ظنه وحافظوا على قناعاتهم الايدلوجية، واتسعت الهوة بينهم. وظلت الأزمة السياسة الحادة قائمة داخل قوى الائتلاف وتعمقت أكثر فأكثر، وباتت تعرّض حكومته للتفسخ والإنهيارفي كل لحظة. وهي مرشحة لان تزداد قوة بعد زيارة الرئيس كلينتون قطاع غزة. وستصل أوجها عند دخول المرحلة الثانية من اتفاق واي في 18 كانون أول “ديسمبر” حيز التنفيذ. حيث هدد بعض المشاركين في الحكومة بالانسحاب منها اذا تم التنفيذ. فهو يعطي الفلسطينيين 7.1% من الضفة اسرائيل وينقلها من ” ب الى أ”، للسلطة الفلسطينية، وينقل 5% من “ج الى ب”، و1% من “ج الى أ”. ومثل هذه الانسحابات تعني من وجهة نظرهم تنازل وتفريط إضافي “بارض الميعاد” وتهديد خطير لوجود الاستيطان وتطوره، وخطر حقيقي على حياة المستوطنيين. وتشير تصريحات ومواقف زعماء المعارضة اليمينية الى أنهم يفضلون الخروج من الحكومة على البقاء فيها اذا نفذت بقيت بنود الاتفاق. وسيكون نتنياهو مضطرا في الاسابيع القادمة حسم خياره، حيث يتوقع أن تسحب المعارضه الغطاء الذي وفرته لحكومته. ولا يستطيع البقاء مع الواقع المر الذي يعيشه. ولا يمكنه الاستمرار في التعايش مع نسبة كبيرة من وزراءه ومع اركان الليكود يعارضون توجهاته السياسية الجديدة التي التزم بها. ويرجح ان لا يكون خياره لصالح عملية السلام والالتزام بالاتفاقات، وان تكون علاقاته واتفاقاته مع الفلسطينيين الضحية.
ويستطيع كل مراقب محايد تقدير مصير المفاوضات القادمة في ظل هكذا أوضاع اسرائيلية داخلية. وبامكانه ببساطة الإستنتاج أنها لا توفرالمناخ الملائم لتنفيذ بقية اتفاق واي، ولا تسهل تحقيق التقدم المطلوب لخلق الثقة بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي للبدء في مفاوضات جدية مثمرة حول الانسحاب الثالث وقضايا الحل النهائي الاكثر صعوبة واشد تعقيد. ويرجح أن تقود تفاعلات الأزمة البرلمانية والحكومية الحادة التي يعيشها الائتلاف الحاكم الى أحد خيارين: الاول، ان يعمل نتنياهو من أجل المحافظة على وحدة حكومته وما تبقى من وحدة أطراف الائتلاف الحاكم، على إفتعال أزمة كبيرة مع الفلسطينيين، وتأجيل تنفيذ المرحلة الثانية من إتفاق “واي ريفر”. ولن يعجزعن ايجاد الذرائع والمبررات، فالشق الأمني من الاتفاق حافل بها، والمفاوضات حول المرحلة الثالثة من الانسحاب قنلة موقوته ابقاها جاهزة للتفجير، لاسيما انه حدد سلفا حدها الادنى 1% ومنح نفسه حق تقرير مساحتها وموقعها على الارض وتوقيت تنفيذها. أما الخيارالثاني فهو الاقدام على حل الحكومة والكنيست والذهاب الى إنتخابات مبكرة. وأظن أن محاولته ترقيع الوضوع البالي لحكومته بدعوة “دافيد ليفي” المستقيل العودة للحكومة، وعودة كتلته البرلمانية الى احضان الائتلاف الحاكم لا تكفي لمعالجة الازمة، بل قد تفجر صراعات حزبية إضافية. وحسب منطق السياسة في اسرائيل يفترض ان لا يكون هناك أفق لتشكيل حكومة وحدة وطنية. فتشكيلها يفسخ وحدة الليكود، ويفقد نتياهو نسبة واسعة من جمهوره المتطرف، ويضعف موقفه في الانتخابات القادمة، وقد تقود الى عدم عودته الى كرسي رئاسة الوزراء. اما حزب العمل، فمصلحته الاساسية والمباشرة تكمن في الاطاحة بحكومة اليمين، ورص صفوفه وتقوية وحدته الداخلية، والمحافظة على تماسك قاعدته، وتفعيل حركتها المعارضة للحكومة. وهذه الدوافع تلغي إمكانية اقدامه على تشكيل حكومة وحدة وطنية قبل أيارالقادم. وذات الشيء ينطبق على مواقف ميريتس وبقية قوى المعارضة اليسارية.
وبصرف النظر عن البر الذي سترسوا عليه والانقسامات والصراعات داخل الحلبة الحزبية، فالواضح انها ستوتر العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية من جديد، وستؤثر سلبا على المفاوضات القادمة، ويرجح أن تجمدها لحين إنتهاء الاسرائيليين من معالجة قضاياهم الداخلية. وإذا كان لا أفق في الشهور القادمة للتوصل الى أي إتفاق حول قضايا الحل النهائي، فالمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تفرض على القيادة الفلسطينية التمسك بخيار السلام، وبكامل الحقوق الفلسطينية التي نصت عليها الاتفاقات بدء من اوسلو وحتى واي، والمضي قدما في مشروع اعلان قيام الدولة على الارض يوم انتهاء المرحلة الانتقالية ” 4 أيار 1999″. والتاكيد العملي على أن لا إنفصام بين أمن اسرائيل وقيام الدولة الفلسطينية. والشروع في تحصين الوضع الداخلي، بعد ان عمق الاستيطان وسلوك نتياهو عدم ثقة الشعب الفلسطيني بمستقبل السلام.