هل سيتم تنفيذ الاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي الجديد

بقلم ممدوح نوفل في 30/10/1998

هز اتفاق “واي بلنتيشن” حول تنفيذ قضايا المرحلة الانتقالية وبدء مفاوضات الحل النهائي، أوضاع الفلسطينيين والاسرائيليين هزة عنيفة. وأثار عاصفة قوية من النقاش وردود الفعل على كل المستويات الاقليمية والدولية لم تهدأ للآن، ولن تهدأ لفترة طويلة. فبعد توقيعه يوم 24/10/1998 في احتفال نظمته الادارة الامريكية على عجل، ظهر في صفوف أهل المنطقة من رحب به ومن تحفظ عليه، ومن عارضه بشكل متشنج ومنفعل وتوعدة بالاغتيال. وكانت معارضته في إسرائيل أعنف وأشد واتهم نتياهو بالردة والخيانة والانقلاب على العقيدة. وحاول نتنياهو وعرفات الدفاع عن الاتفاق وأعلنوا مفاهيمهم الخاصة لنصوصه، وظهرت تباينات واسعة بينهما. ولم ينجحا في تهدئة خواطر المعترضين وإستمالة مواقف المتحفظين. ولم يتورع نتنياهو عن إرتكاب أول خرق للإتفاق حين أعلن أن الاستيطان سيستمر والاتفاق لن يؤثر عليه، وأجل عرضه على مجلس وزراءه للمصادقة عليه،. فهل سيتم تنفيذ الاتفاق الجديد بدقة واستقامة، وحسب توقيتاته الزمنية ؟ أم ان مصيره لن يكون أفضل من إتفاق الخليل، ومن المستفيد من قتله او تجميد تنفيذه ؟ وماهي نتائجه على أوضاع الطرفين وعلى عملية السلام الجارية بينهما إذا نفذ ؟
بانتظار هدوء العاصفة، وتدخل الراعي الامريكي وبدء تنفيذ الاتفاق يمكن القول ان كل تسوية او اتفاق من النوع الذي نتحدث عنه يجلب معه ردود فعل، ويثير أسئلة كثيرة وآراء متباية، ويجعل الحوار حوله والتباين بشأن تقيمه أمران طبيعيان تماما. ووفقا للحكمة السياسية القائلة الأمور تقاس بنتائجها وبمدى تأثيرها على تحقيق الهدف الأساسي، لا أرى مصلحة فلسطينية في عدم رؤية ما يحققه الاتفاق الجديد وذات الشيء ينطبق على تجميله، وتزيين طريق تنفيذه، واخفاء ثغراته وعيوبه ونواقصه،. فأشدهم حماسا له لا يستطيعون إنكار انه دون الطموحات الفلسطينية ولم يتضمن كل الحقوق التي نصت عليها الاتفاق السابقة، ويحمل في طياته مخاطر كبيرة على مستقبل الديمقراطية والحقوق المدنية للانسان الفلسطيني في الضفة والقطاع.
والتدقيق في نصوصه يبين أنه عبارة عن مجموعة تدابير وترتيبات تستهدف استكمال تطبيق اتفاق مرحلي قديم تأخر تنفيذه عام ونصف بالتمام والكمال. وذكّر من جديد بقضايا المرحلة النهائية المعقدة، وحدد موعد بدء المفاوضات حولها ولم يحدد فترة إنتهائها. ولم يتضمن حلولا عملية لعدد من قضايا المرحلة الانتقالية، منها انسحاب المرحلة الثالثة، واطلاق سراح بقية المعتقلين، وفتح الممر الآمن الثاني بين رام الله وغزة. وأبقاها معلقة بانتظار بدء التفاوض حولها بعد بضعة أيام بموازاة مفاوضات الحل النهائي. ولا مصلحة فلسطينية في انكار ان ظروف مفاوضات واي بلنتيشن وموازين القوى فرضت على الجانب الفلسطيني الموافقة على الدخول في مفاوضات الحل النهائي قبل تنفيذ جميع استحقاقات المرحلة الانتقالية. وسهلت لنتياهو انتزاع معظم مطالبه وشروطه الامنية، وربط دفع الاستحقاقات المطلوبة منه بتنفيذ الجانب الفلسطيني مطالبه الامنية الكثيرة التعجيزية وحسب المقاس الاسرائيلي.
وبالمقابل لا يستطيع ألد أعداء الاتفاق تلبيسه تهمة إغلاق الطريق أمام الشعب الفلسطيني لمتابعة الصراع وتحقيق بقية حقوقه الوطنية الكثيرة المغتصبة. فتجربة مدريد واتفاقات اوسلو وطابا والخليل أكدت ان تأجيل بحث مسائل جوهرية أو فرعية لا يقود بالضرورة الى التنازل عنها أو ضياعها. ومسيرة العلاقات بين الطرفين أكدت ان صنع السلام الحقيقي القابل للحياة، ونجاح التدابير الامنية في مكافحة التطرف والارهاب لها مفاهيمها واستحقاقاتها المتبادلة، وبدون دفعها مقدما او متاخرة تتحول عملية السلام الجارية الى نوع من الهدنة الرجراجة او التسوية المؤقتة في أحسن الاحوال.
والقراءة الموضوعية للاتفاق تؤكد بان له ما بعده من نتائج وآثار على حياة واوضاع الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي وبخاصة الاوضاع الحزبية والسياسية والاجتماعية والامنية داخل اسرائيل. ومعارضي الاتفاق وكل المتحفظين عليه لا يستطيعون انكار انه يقرب الفلسطينيين “اذا نفذ” من اهدافهم في التحرير وإقامة الدولة. ويحقق لهم مكاسب اضافية تساعد على تصليب اوضاعهم فوق أرضهم، وينقلها الى حالة جديدة وحياة أفضل لا يمكن اطلاقا مقارنتها بأوضاعهم وحياتهم القائمة الآن في ظل الاحتلال. ويحسن مواقفم على الصعيدين العربي والدولي ومع الاسرائيليين. ويعزز أوراقهم التفاوضية ويقوي مواقفهم في المفاوضات اللاحقة. فالانسحاب من 10% من الأرض، ونقل 14% من B الى A يعني دحر جزئي للاحتلال وتحرير أجزاء اضافية من الارض يرفع نسبتها الاجمالية الى 43% . وتحرير أعداد اضافية من السكان “نصف مليون تقريبا” ويرفع نسبتهم الى ما يزيد على 95%. ناهيك عن القيمة المعنوية الكبيرة لتحرير750 معتقلا من السجون الاسرائيلية. وغني القول أن بناء الميناء وتشغيل مطار غزة، وفتح الممر الامن بين الضفة والقطاع وضمان استمرارهما مفتوحين يساعد على توحيد اقتصاد السوق الفلسطيني. وينهي الكثير من عذابات المواطنيين الفلسطينيين من التنقل والاعتقال على المعابر والطرقات، ويمكنهم قطف بعض ثمارعملية السلام التي حرموا من تذوقها. ويقود الى فقدان الجانب الاسرائيلي عددا من اوراق الابتزاز والضغط الامني والاقتصادي والاجتماعي التي يستخدمها ضد الفلسطينيين سلطة وشعب. ويحسن موقع السلطة في صفوف قطاع واسع من الفلسطينيين وبخاصة الغزيين المحرومين من الوصول للضفة الغربية للقاء باهلهم والدراسة والعلاج. وقد يخلص القيادة الفلسطينية من تهمة نسيان قضايا الناس والقفز عن حرية حركتهم مقابل أقل من 400 بطاقةV I P منحتها اسرائيل لقيادة وكوادر السلطة. وعلى اعداء الاتفاق عدم نسيان ان الكفاح المسلح الفلسطيني وتضحيات الجيوش العربية لم تحرر على مدى نصف قرن شبرا من الارض الفلسطينية، وتعطيل تنفيذ الاتفاق يعني بقاء اجزاء من الارض تحت الاحتلال واطلاق العنان لمزيد من الاستيطان. وان تراكم هذه الانجازات فوق ما سبقها يعني من الناحية الاستراتيجية وقوع تحسن نوعي في ميزان القوى لصالح العرب والفلسطينيين.
اما بشان آفاق تنفيذه فالتجربه تؤكد ان لا تواريخ أو نصوص مقدسة في تعامل الاسرائيليين، عماليين وليكوديين، مع الاتفاقات التي وقعوها مع الفلسطينيين. وان انتهاء معركة صياغة الاتفاقات معهم تعني بدء معركة تثبيتها وتنفيذها، ودائما كانت الأصعب والأقسى على الفلسطينيين. ويمكن الجزم بان اتفاق واي بلنتيشن لن يشذ عن هذه القاعدة وساذج من يعتقد ان تنفيذه سيتم دون مشاكل وسيسير في خط مستقيم. واذا كانت المفاوضات حول القضايا المؤجلة، والالتزام بتنفيذ ما اتفق عليه هما مواد الامتحان الكفيل باظهار درجة تكيف نتنياهو مع طريق اوسلو ومع متطلبات عملية السلام، فمن الآن يمكن الجزم ان طريق تنفيذ الاتفاق مليء بالالغام وبالصعوبات ولن يجتازها بهدوء وسلام. ونوايا نتياهو ليست سليمة وموافقته على الاتفاق لم تتم عن طيب خاطر. وإعلانه بعد مواجهة قصيرة مع اركان اليمين بان الاتفاق لا يقيد الاستيطان، ومبالغته في الحديث عن الامن لا يبشر بالخير، ولا يساعد على نجاح المفاوضات اللاحقة. وتبين رغبته في التنصل من بعض اسس الاتفاق، والتلاعب في تفسير نصوصه، والتهرب من تنفيذه. تماما كما فعل عندما بعث الجرافات الى جبل ابو غنيم بعد اتفاق الخليل. وموضوعية التقييم تفرض الاقرار ان تنفيذه يوجه ضربة قوية للفكر الصهيوني اليميني المتطرف الذي يعتبر الضفة والقطاع “أرض أسرائيل الكبرى “الميعاد” التي منحها الرب لبني اسرائيل”، ويسجل سابقة في تاريخه تفرض عليه التراجع والانكماش على الذات. فتنفيذه يثبت موافقة الليكود على الوحدة الجغرافية للضفة والقطاع كما نص عليها إتفاق أوسلو. ويظهر تراجع مشروع اليمين الصهيوني الداعي لفصل الضفة عن قطاع غزة، ويساويه بموقف حزب العمل وبقية قوى اليسار. ولعل الصراعات الحقيقية الحادة التي تفجرت داخل الائتلاف الحاكم وردود الفعل العنيفة عند المستوطنيين، والمشاكل المفتعلة التي اثارها نتنياهو، مؤشر عملي على منحى تفاعلاته اللاحقة في اسرائيل.
واذا كان لا افق للتوصل الى اي اتفاق حول قضايا الحل النهائي من الان وحتى 4 ايار القادم، فالفترة الزمنية الطويلة “12 اسبوع” التي منحها الاتفاق للطرفين تبقي تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية عرضة للتاثر بالاحداث. وتفسح المجال لاعدائه المحليين والاقليميين تحضير اوضاعهم الذاتية وتوحيد جهودهم وطاقاتهم والقيام بما يربك ويعطل التنفيذ. ومجريات احداث الايام الاخيرة اكدت انهم ليسوا ضعفاء ولديهم القوى والوسائط الكافية لتخريب الاتفاق. فقد نجحوا خلال اقل من اسبوع في تنفيذ اربع هجمات مسلحة إصابت جسد الاتفاق بجروح بارزة، وأوقعت قتلى وجرحى فلسطينيين واسرائيليين أبرياء، في بيت فوريك والقدس والخليل ومفرق غوش قطيف في قطاع غزة. وتفاعلات الاسبوع الاول من عمر الاتفاق زادت الموقف تعقيدا، وباتت تفرض تدخلا امريكيا قويا. فهل سيتخل مرة أخرى ليفرض التزام الطرفين تنفيذه مثلما فرض عليهما نصوصه؟ في هذا السياق لعل مفيد التذكير بان مفاوضات واي بلنتيشن أكدت ان الرئيس كلينتون ليس ضعيفا بالقدر الذي تصوره معظم الفلسطينيون والعرب بعد المشاكل الداخلية التي أثارتها في وجهه فضيحة مونيكا. وان اسرائيل الليكودية كما العمالية غير قادرة على التمرد على الادارة الامريكية اذا جد الجد ووضعت المصالح الامريكية العليا في الميزان.
والمصالح الفلسطينية العليا نفرض على الوطنيين الفلسطينيين وبخاصة المعارضة التعامل بواقعية مع الاتفاق الجديد، وعدم تقديم الذرائع لليمين الاسرائيلي، وترك الصراعات تأخذ مداهل الكامل في الشارع السياسي الاسرائيلي، وعدم نقلها للبيت الفلسطيني. وتفرض على السلطة بذل أقصى الجهود للوفاء بالتزاماتها في اطار الحرص على سلامة العلاقات الوطنية.
30/10/1998