إعلان قيام الدولة بين الواقع والضرورة الوطنية

بقلم ممدوح نوفل في 12/10/1998

أولا/ واقع وآفاق عملية السلام على مسارها الفلسطيني
في الرابع من أيار القادم 1999 تنتهي الفترة الانتقالية ومرحلة الحكم الذاتي الفلسطيني الانتقالي التي أسسها إتفاق أوسلو. وبإقتراب هذه المرحلة من نهايتها أصبح الفلسطينيون والاسرائيليون ومعهما الراعي الامريكي وجها لوجه أمام مأزق أخطر من مأزق جمود العملية السلمية وازمة تعثر المفاوضات الذي واجهوه منذ مطلع العام الجاري. وهم الآن في سباق مع الزمن لأملاء الفراغ الذي سينشأ بعد أقل من 7 شهور. وفي إطار ترتيب الملفات وتحضير الاوراق أعلنت السلطة الفلسطينية رسميا نيتها إملاء الفراغ بالاعلان، يوم 4 أيار 1999، قيام الدولة على الاراضي التي أحتلت عام 1967وبسط سيادتها عليها، اذا لم يتم التوصل الى إتفاق حتى ذلك التاريخ. واعتبر نتنياهو ترسيم الموقف الفلسطيني بمثابة إعلان حرب ضد اسرائيل وهدد باتخاذ اجراءات صارمة ضد السلطة الفلسطينية، والغاء كل الاتفاقات الموقعة معها، واتخاذ كل الخطوات والاجراءات السياسية والميدانية الكفيلة بالحفاظ على أمن دولة اسرائيل وعلى مصالحها الاستراتيجية. وطالب بعض المتطرفين الاسرائيليين بالغاء الاتفاقات مع الفلسطينيين وإعادة إحتلال المدن الفلسطينية، وتم وضع سناريوهات للصدام القادم بين الطرفين. وأسرع نتنياهو للتحرك نحو الراعي الامريكي طالبا ثني الفلسطينيين عن المضي قدما في مشروعهم، علما بأنه عمل على مدى عامين وبكل السبل لشل الجهود الامريكية، وللآن لم يعلن موافقته على مبادرتهم التي طرحوها بهدف معالجة الموضوع مبكرا.
وباقتراب أهل المنطقة من 4 أيار وتازم العلاقات بين الطرفين واعلان الفلسطينيين عن توجهاتهم، بعثت اشكال من الحياة في عملية السلام. وشهد شهر أيلول الماضي وتشرين أول الجاري تحركات أمريكية مكثفة، وعقدت مفاوضات ثنائية وثلاثية كثيرة صعبة وعسيرة. والتقى الرئيس كلينتون ووزيرة خارجيته ياسرعرفات ونتياهو في واشنطن ونيويورك عدة مرات. تلتها زيارة اولبرايت للمنطقة بعد غياب طويل، وأقام فيها مساعدوها عدة أيام. ويمكن تلخيص نتائج تلك المفاوضات والتحركات على النحو التالي:
أ) حاول الرئيس كلينتون وأركان الخارجية والبيت الابيض، إنتزاع موافقة إسرائيلية رسمية علنية على مبادرتهم، وإغلاق ملفات المرحلة الثانية من إعادة الانتشار، وقضايا المطار، والمنطقة الصناعية في غزة، والتفاهم الامني، والعلاقة بين الشعبين، ولم ينحجوا ولم يمارسوا ضغوطا جدية عليه، وتمسك نتنياهو بذريعة الأمن وبقي على موقفه.
ب) مارسوا ضغوطهم على الطرف الفلسطيني ونجحوا في انتزاع عدم تحديد 4 أيار 1999 موعدا رسميا للاعلان عن قيام الدولة على الأراضي الفلسطينية التي أحتلت عام 1967 وبسط سيادتهم عليها. ووافق الجانب الفلسطيني على الاقتراح الامريكي الداعي الى تحويل 3% من أراضي الضفة الغربية، من أصل 13% المفترض إنسحاب إسرائيل منها، الى محمية طبيعية يتقاسم الطرفان إدارة شؤونها الامنية والمدنية. ووافق الجانب الفلسطيني على تفعيل عدد من اللجان الثنائية الفرعية قبل التوصل الى اتفاق حول أية قضية جوهرية قبل اعلان الجانب الاسرائيلي موافقته على المبادرة الامريكية.
ج) نجحت الجهود الامريكية في تثبيت يوم 15 تشرين أول الجاري موعدا لقمة ثلاثية أمريكية فلسطينية إسرائيلية ومفاوضات طويلة متواصلة تعقد في “واي بلنتيشن” بضواحي واشنطن على غرار مفاوضات قمة كامب ديفيد. وأكد الرئيس كلينتون التزام الادارة الامريكية بمبادرتها، وعزمه مواصلة المساعي والجهود لأجل التوصل الى إتفاق في اللقاءات اللاحقة. ورغم موافقة الطرفين على عدم اتخاذهما مواقف نهائية واجراءات تؤثرعلى التوجهات الجديدة وعلى المفاوضات اللاحقة، الا أن نتنياهو لم يلتزم، وأعلن عن بناء مستوطنة جديدة في تل رميدة في الخليل، وعن تحويل مستوطنة أرييل مدينة اسرائيلية.
د) نجح عرفات في شد الانظار للمسالة الفلسطينية. وفرضها كقضية لها أولوية على سواها من القضايا الدولية الاساسية المثارة على جدول أعمال الامم المتحدة والدول الكبرى “افغانستان ـ البلقان”، وفرض حركة دولية نشطة لمعالجتها. وكسب مزيد من التعاطف والتضامن المعنوي الرسمي الامريكي. وحصل على وعد من الرئيس الامريكي بتفعيل اللجنة الامريكية الفلسطينية المشتركة، ودراسة مسألة رفع مستوى التمثيل الفلسطيني في واشنطن. ولم يغلق نهائيا الطريق أمام خيار إعلان الدولة. وأبقى الصراع واقفا على حافة الانفجار.
هـ) نجح نتياهو في الخروج من البيت الابيض ومن كل اللقاءات الثنائية والثلاثية دون الإلتزام باعتماد المبادرة الامريكية كقاعدة للمفاوضات اللاحقة. وعطل طرح مشروع إعلان قيام الدولة الفلسطينية على الجمعية العامة للامم المتحدة، وفرّغ الجهود الفسطينية لاستقطاب الرأي العام حولها. ورفض عرض خرائط المناطق التي سيشملها الانسحاب واعادة الانتشارالاولى والثانية. ونجح في ابقاء كل القضايا الكبيرة والصغيرة المختلف حولها معلقة. وفرض أسس وصيغ التحرك السياسي والدبلوماسي اللاحق وجدول أعماله. وجعل المبادرة الامريكية سقفا للتحركات المقبلة.
و) تم بلورة جدول أعمال مفاوضات “واي بلنتيشن” كالتالي: قضايا المرحلة الانتقالية المعلقة وأهمها إستحقاق الانسحاب الاول والثاني من اتفاق الخليل وجدوله الزمني، الممر الامن بين الضفة الغربية وقطاع غزة، تشغيل مطار غزة، إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين، بناء المناطق الصناعية. مصير المرحلة الثالثة من الانسحاب التي إستحقت. وقف الإجراءات أحادية الجانب، مفهوم التبادلية في الالتزامات الامنية. والجدول الزمني لتطبيق بنود المبادرة الامريكية اذا وافق عليها نتياهو. وبجانب قضايا المرحلة الانتقالية ستتناول المفاوضات قضايا المرحلة النهائية المثبتة في اتفاق اوسلو وهي : القدس، اللاجئين، الاستيطان، الحدود، العلاقات المستقبلية الثنائية والعلاقة مع الجوار، وقضية المياه التي رحّلت من الانتقالية للنهائية. فهل ستتمكن القمة والمفاوضات المارثونية القادمة منع وقوع فراغ في 4 أيار القادم، وسيتم التوصل الى اتفاقات جديدة حول كل المسائل الجوهرية ؟ أم أن عملية السلام التي عرفناها في مدريد وأوسلو وطابا إنتهت، وعلاقة الطرفين دخلت طورا جديدا ؟ وما هي الاحتمالات والخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين حتى 4 أيار وفي ظل أية ظروف سيتفاوضون ؟
ظروف انعقاد مفاوضات قمة “واي بلنتيشن”
بديهي القول ان القمة القادمة حاسمة في تقرير مصير مستقبل عملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي. وأعتقد بانها أخطر جولات المفاوضات التي خاضها المفاوضون الفلسطينيون منذ مفاوضات مدريد واوسلو وحتى الآن. وتعقد في ظل موازين قوى مختلة تماما لصالح اسرائيل، وظروف فلسطينية وعربية ودولية بالغة التعقيد، لا تتجه نحو إلزام حكومة نتنياهو المتطرفة قبول حلول عادلة وشاملة للقضايا الاساسية الشائكة. فالامم المتحدة مشلولة ودورها مغيب. وروسيا مشغولة بمشاكلها الداخلية الكبيرة والمعقدة، ودول السوق الاوروبية راضية بالدور الدولي الذي حدده البيت الابيض. أما إدارة كلينتون فلديها من الهموم والشجون الداخلية والدولية ما يكفي لإشغالها عن قضايا المنطقة على مدى العامين الباقيين من عمرها. وهمومها الكبيرة والصغيرة تدفعها الى تغليب مصالحها وقضاياها الخاصة على حساب صنع السلام في المنطقة. وتعقيدات عملية السلام تدفعها الى ممارسة الضغط على الجانب الفلسطيني الضعيف، والى مهادنة اللوبي الصهيوني الامريكي ومهادنة الحكومة الاسرائيلية، باعتبار الصمت عن مواقف الحكومة الاسرائيلية من عملية السلام قضية مفصلية في عملية المهادنة. ويخطئ من يعتقد بان إدارة كلينتون الضعيفة والمرتبكة قادرة على ممارسة ضغوط جدية على نتنياهو وحكومته، وعلى إحداث تغييرات جوهرية في مواقفها والزامها السير في درب صنع السلام العادل. لاسيما وأنها مقتنعة بأن أوضاع المنطقة لا تنذر بإنفجار مشاكل جدية، وليس هناك ما يشير الى أن مصالحها يمكن أن تتعرض للخطر. ولا شك في أن غياب الضغط الدولي الفعّال، وضعف الموقف العربي والفلسطيني، وارتباك قوى السلام الاسرائيلية، تبقي نتياهو وأركان حكومته في وضع مريح وتشجعهم على المضي قدما في مواقفهم المتطرفة وفي ممارساتهم المدمرة لأسس عملية السلام. ولن يترددوا في الهروب باتجاه صناديق الانتخابات إذا تعرضوا لضغوط خارجية أو داخلية جدية.
ثانيا/ الاحتمالات والخيارات المتاحة امام الفلسطينيين
أ) مفاوضات الحل النهائي
من الان وحتى 4 أيار القادم سيصطدم المفاوض الفلسطيني والراعي الامريكي في كل المفاوضات حول قضايا الحل النهائي، “المذكورة اعلاه”، بأيدلوجية الليكود وبمصالح القوى اليمينية المؤتلفة معه. فالحدود الدنيا من الحلول التي يمكن أن يقبل بها الفلسطينيون لقضايا الحل النهائي تتعارض مع مصالحهم وتنسف معتقداتهم. فهم كانوا وما زالوا مخلصين لفكرة ” الضفة الغربية هي أرض الميعاد التي وهبها الرب لبني اسرائيل ولهم الحق في إستيطانها”. والتوصل الى قواسم مشتركة مع الحكومة الاسرائيلية الحالية حول أية قضية من قضايا الحل النهائي شبه مستحيل ودرب من الخيال، حتى لو إستمرت المفاوضات عقد من الزمن. واعتقد بان تعيين شارون وزيرا للخارجية واسناد ملف هذه المفاوضات اليه يعزز هذا الاستخلاص. فمواقفه من قضاياها معروفة للجميع ولا داعي لسردها. واذا كانت مفاوضات تنفيذ اتفاق الخليل وملحقه المتعلق باعادة الانتشار في الضفة الغربية استغرق حتى الان قرابة عامين دون لنتيجة، فليس عسيرا تقدير عدد السنوات الكثيرة التي ستأكلها المفاوضات مع شارون حول القضايا النهائية. واقصى ما تستطيع مفاوضات واشنطن فعله هو الاتفاق على بدء التفاوض حولها دون تحديد سقف زمني للانتهاء منها. اي الموافقة على فتح اتفاق اوسلو وتعديل تاريخ انتهاء المرحلة الانتقالية وتمديدها لاشعار آخر. وسيتعرض المفاوض الفلسطيني لضغوط امريكية وابتزازات اسرائيلية متنوعة، هدفها انتزاع موافقته على هذا التوجه، وربط توقيت اعلان الدولة بنتيجة هذه المفاوضات، التي لن تنتهي طالما بقي الليكود ممسكا بالسلطة.
ب) قضايا المرحلة الانتقالية
اما بشأن قضايا المرحلة الانتقالية “المذكورة اعلاه” فالاحتمالات والخيارات التي سيوجهها المفاوض الفلسطيني في واشنطن وحتى 4 أيار 1999 هي :
الاول/ الشروع في المفاوضات حولها وتوصل الطرفين الى اتفاق او اتفاقات حولها، والاتفاق على تنفيذها كلها قبل 4 أيار القادم. وسلفا يمكن الجزم بان لا أفق أمام هذا الاحتمال. فالقضايا المطروحة كبيرة وكثيرة ومعقدة، وليست فرعية من وجهة نظر الليكود. لاسيما وانها تتضمن وقف الاجراءات أحادية الجانب، اي الاستيطان من وجهة نظر الفلسطينيين، وإطلاق سراح المعتقلين، وفتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع، وتتضمن حسب المبادرة الامريكية نسبة من الانسحاب “13,5%” عن المرحلتين الاولى والثانية، ولم يوافق نتنياهو عليها رغم موافقة الجانب الفلسطيني على تحويل 3% منها الى محمية طبيعية. وتتضمن أيضا الاتفاق على تحديد مساحة مرحلة الانسحاب الثالثة. وما يعرضه نتنياهو بشانها “1%” مرفوض فلسطينيا. والواضح ان نتياهو ذاهب الى واشنطن ولم يطلب من حكومته تفويضا بالبت بكل هذه المسائل. ويخطئ من يعتقد بان تعيين شارون وزيرا للخارجية وتسميته عضوا في الوفد الاسرائيلي لمفاوضات واشنطن سيسهل التوصل الى اتفاق حولها، فهو قادم لتعقيد المفاوضات وافشال اي اتفاق يتعارض مع قناعاته الايدلوجية.
الثاني/ توصل السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية بضغوط خارجية، أو بدونها، الى صفقة تتضمن الشروع في مفاوضات متواصلة لبحث قضايا الحل النهائي. وتمديد المرحلة الحكم الذاتي الفلسطيني لفترة زمنية غير محددة، او محددة حتى عام 2000 مثلا، أي فتح اتفاق اوسلو والقفز عن 4 أيار كموعد لانتهاء مفاوضات الحل النهائي. والاتفاق على تشغيل المطار قبل نهاية العام، وتشغيل المنطقة الصناعية في غزة، واطلاق سراح أعداد محدودة من المعتقلين يتفق عليها لاحقا. والاتفاق حول المسائل الامنية، وحول الادارة الامنية والمدنية للمحمية الطبيعية، ووضع جدول زمني للانسحاب من نسبة 10% عن المرحلتين الاولى والثانية، وإحالة الانسحاب الثالث الى لجنة خاصة. وهذا أقصى ما تطمح الادارة الامريكية تحقيقه في اللقاءات القادمة. ويمكن القول ان هذا الخيار يمكن أن يمثل قاسما مشتركا بين معظم أطراف الائتلاف الحاكم في اسرائيل، وسيتعاملون معه باعتباره الحد الاقصى والنهائي الذي يمكن تقديمه. وسيعملون على ربط تنفيذه بشروط تعجزية أخطرها تمديد المرحلة الانتقالية وفرض توقيتات زمية تمكنهم المضي قدما في تنفيذ توجهاتهم والتحلل من التزاماتهم.
وهذا الخيار يفترض رفضه فلسطينيا. فهو يلحق أضرارا فادحة بمصالحهم الوطنية وباستراتيجيتهم التفاوضية. وقبولهم به يعني قبولهم صفقة خاسرة تماما تفقدهم حقوقا أساسية نصت عليها الاتفاقات، وأخرى لم تبدأ المفاوضات حولها حتى الآن. فالدخول في مفاوضات الحل النهائي قبل التوصل الى اتفاق حول جميع قضايا المرحلة الانتقالية، وبخاصة وقف الاستيطان، وتحديد مساحات وتوقيتات مراحل الانسحاب الثلاث، وقبل وضع جدول زمني ملزم وآلية رقابة ملزمة، يعني هدر حقوقهم التي نصت عليها الاتفاقات، أما إحالتها الى مفاوضات الحل النهائي، التي ستبقى تدور في حلقة مفرغة، فيسهل على القيادة الاسرائيلية بناء مزيد من الوقائع الكفيلة بتحويل الحل المرحلي الانتقالي الى حل نهائي دائم.
الثالث/ تمترس الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي عند مواقفهم وخلف أهدافهم الاساسية، وفشل الجهود الامريكية وعدم التوصل الى أي اتفاق من الآن وحتى ايار القادم. يتلوه قيام كل طرف بما يحلو له من خطوات وإجراءات سياسية وعملية، لتكريس أهدافه الأساسية وفرضها على الارض كأمر واقع بالوسائط والقوى المتوفرة والمتاحة له. ويبدو أن حظ هذا الخيار ليس قليل ومواقف الاطراف مندفعة باتجاهه. فمن غير المرئي موافقة الحكومة الاسرائيلية الاقرار ولو من حيث المبدأ بالحقوق الفلسطينية الواردة في الاتفاقات كما يتصورها الفلسطينيون. وبخاصة وقف التوسع في الاستيطان، وتسليمهم مساحات إضافية من الارض. وأظن أن شارون وشيرانسكي ذاهبان للمفاوضات لتكريس احتلال اسرائيل لأوسع مساحة من الارض وليس تقليصه وانهائه. ولا أرى أية عوامل محلية او اقليمية او دولية استثنائية جديدة تفرض على نتياهو التراجع عن مواقفه التي اتخذها منذ تسلمه السلطة، وتجبره على دفع الاستحقاقات التي نصت عليها الاتفاقات. وأظن أنه كرجل أيدلوجي يفضل اغضاب الادارة الامريكية والعالم ، والذهاب الى انتخابات مبكرة على تقديم ما يمكن إعتباره تنازلات تمس مبادئه ومعتقداته.
اما الفلسطينيون فمصالحهم الوطنية تفرض عليهم التمسك بكامل حقوقهم المرحلية المنصوص عليها في الاتفاقات، وخير لهم عدم التوصل الى أي إتفاق من التوصل الى إتفاق سيء. فالموافقة على القفز عن 4 أيار 1999 وعدم إعتباره نهاية المرحلة الانتقالية يفتح شهية الحكومة الاسرائيلية ليس فقط باتجاه الابقاء على الوضع القائم على الارض على ما هو عليه الى اشعار آخر، بل وأيضا العودة لقضم ما أمكن من الحقوق الفلسطينية التي تم انتزاعها حتى الآن، ومصادرة مزيد من الاراضي لصالح الاستيطان. ويضعف السلطة الفلسطينية أمام شعبها وأمام العرب والعالم. ويقفل الطريق امام اشكال المؤآزرة والمساندة العربية والدولية للمواقف والحقوق الفلسطينية. ويبين خضوعها لمواقف نتنياهو، ويعقد العلاقات الوطنية ويدفعها نحو صراعات داخلية قد تتخذ أشكال عنيفة.

ثالثا/ مهام وطنية اساسية واتجاهات عمل لها أولوية
بعد تجربة عامين وأكثر من المفاوضات في عهد الليكود، يفترض أن لا يكون هناك خلاف فلسطيني إطلاقا على أن عملية السلام كما عرفناها في مدريد واوسلو وصلت الى نهايتها، ولا أفق لإحيائها طالما بقي نتنياهو وإئتلافه اليميني يتربع على رأس السلطة في إسرائيل. وأظن ان ما يصدر من تصريحات رسمية إسرائيلية حول الحرص على عملية السلام وحول الإلتزام بأسسها وبما إنبثق عنها من إتفاقات على المسار الفلسطيني الاسرائيلي يندرج في إطار قتل الوقت. ومحاولة لتبرئة الذمة أمام الراي العام العالمي والاسرائيلي المؤيد لصنع السلام في منطقة الشرق الاوسط، من الجريمة المرتكبة عن سابق قصد وإصرار بحق إتفاق إوسلو وما تلاه من إتفاقات. واوضاع عملية السلام وآفاقها المستقبلية تفرض على الفلسطينيين:
1) التمسك بالحقوق والتحلي بالصبر وطول النفس
لا شك في ان موازين القوى حاسمة في تقرير طبيعة الحلول الممكنة في كل مرحلة من مراحل الصراع، ومقررة لاشكالها ولكل التبدلات التي يمكن تقع عليها. ورغم اختلالها الفاحش لصالح اسرائيل فتجدد المفاوضات، واقتراب الجميع من 4 أيار تاريخ، وانتهاء المرحلة الانتقالية، تهيئ فرصة هامة لتأكيد الفلسطينيين تمسكهم بحقوقهم الوطنية، وفي مقدمتها حقهم في الاعلان عن قيام دولتهم المستقلة على الاراضي التي أحتلت عام 1967، وإعلان عزمهم بسط سيادتهم عليها. وهذا التوجه الوطني ليس تكرار لاعلان سبقه في الجزائر عام 1988 بل استكمال ضروري له، يتضمن بسط السيادة وتجسيد الاستقلال على الارض. والاخذ به يفرض على السلطة وقيادة م ت ف، اولا وقبل كل خطوة أخرى، اعتباره خيارا استراتيجيا لا رجعة عنه. والتعامل معه على هذا المستوى يملي عليها الاسراع في انهاء حالة البلبلة والارباك التي اصابت، الشارع الفلسطيني وبعض القوى العربية والدولية الصديقة، بعد الخطاب الفلسطيني في الامم المتحدة، حول تصميم القيادة على اعلان الدولة في 4 أيار القادم.
ومن المفيد التذكير بأن الدولة الفلسطينية المستقلة كانت ومازالت وستبقى حتى قيامها، هدفا مركزيا لكل الفلسطينيين. ولن يتوقفوا عن النضال من اجلها حتى تقوم. وكل المفاوضات والاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية تستند في مشروعيتها وشرعيتها الوطنية الى مدى تقريبها للفلسطينيين من حقوقهم الوطنية المشروعة وفي مقدمتها قيام الدولة. وكلها تفقد شرعيتها ومبرر وجودها في نظر الشعب اذا ما ادت الى فصله عن أهدافه الوطنية وفي مقدمتها هدفه المركزي باقامة الدولة. ولا فرق عند الفلسطينيين في الداخل والخارج بين اعلان القيادة الفلسطينية للدولة كاجراء من جانب واحد او اعلانه كنتيجة للمفاوضات.
صحيح أن إنسحاب اسرائيل من 10% من الأرض وتحويل 3% الى محمية طبيعية، ونقل 14% من B الى A يعني دحر جزئي للاحتلال وتحرير أجزاء اضافية من الارض والشعب، الا انه يمكن أن يتحول الى كارثة وطنية اذا كان ثمنه قبول اتفاقات جديدة تقفل الطريق أمام امكانية متابعة النضال لتحصيل بقية الحقوق، وتوفر الغطاء القانوني للاسرائيليين للمضي قدما في تنفيذ مخططاتهم العدوانية التوسعية بعد 4 أيار القادم. واذا كانت مصالح الفلسطينيين وظروفهم تفرض عدم تحملهم مسئولية فشل لقاءات “واي بلنتيشن”، وتحاشي التصادم مع الادارة الامريكية في هذه المرحلة، فالتمسك بالحقوق وبنصوص الاتفاقات التي وقعت في البيت الابيض، وبالمبادرة التي طرحتها، يعني التمترس خلف متاريس واقعية لا تستطيع ادارة كلينتون تجاوزها والقفز عنها او مهاجمتها ومحاربتها واطلاق النيران باتجاهها. وفشل مفاوضات واي بلنتيشن ليس بالضرورة ان يكون نهاية عملية السلام على مسارها الفلسطيني. وإذا كانت المسافة الزمنية التي تفصل اطراف الصراع عن 4 أيار ليست كبيرة، إلا انها بامكانها إستيعاب جولات أخرى من المفاوضات.
2) أزمة جدية وكبيرة لابد منها
منذ فوز الليكود في الانتخابات صيف عام 1996 جربت السلطة تحسين أوضاعها على الارض، وتقوية مواقفها السياسية من خلال التفاعل مع رغبات الراعي الامريكي. وفي محطات كثيرة قدمت تنازلات فرعية واساسية استجابة لمطالبة ووعودة. وبينت التجربة ان هذا النهج ساعد نتنياهو في تعزيز مواقعه الداخلية ومواقفه الخارجية، ولم يساعد السلطة الفلسطينية في انتزاع حقوق شعبها المنصوص عليها في الاتفاقات. ولم تساهم في تفعيل المواقف العربية والدولية. واذا كان تجميد المفاوضات وتعليق الاتصالات يعتبر تسرعا فلسطينيا ويلحق بعض الاضرار بالعلاقات الفلسطينية الامريكية، فتجربة سبع سنوات من المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية ومن العلاقات العربية الامريكية أكدت انه ما لم تكن هناك أزمة حقيقية على الارض الفلسطينية وفي العلاقات فلن تكون هناك تحركات أوروبية او مبادرات امريكية جدية. وبينت أن استمرار خضوع العرب والفلسطينيين لرغبات الامريكان دون مناقشة او مقاومة لا يساهم في تطوير الموقف الامريكي وتفعيله لصالح مبادئ العدل والسلام. ومن المفيد التذكير بان تراجع نتنياهو عن مواقفه العنجهية التي اتخذها بعد فوزه في الانتخابات، وموافقته على اتفاق الخليل، لم تتم الا بعد “هبة النفق” وبعد حالة القطيعة والتوتر التي سيطرت على العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية. وتجربة آخرعامين أكدت ان استمرار ظهورالفلسطينيين والعرب دون خيارات أخرى يلحق أضرار كبيرة وكثيرة بمواقفهم التفاوضية وبمصالح الوطنية والقومية. والواضح ان الوزيرة اولبرايت ومساعدوها مقنعين أنفسهم بان الاوضاع في الضفة والقطاع وكل أنحاء المنطقة يمكنها ان تستمرعلى المنوال الذي سارت عليه حتى الآن.
واذا كان خيار التازيم عبر صدام الحركة الشعبية على الارض مع قوات الاحتلال لا يتم بقرار سلطوي وشروطه غير متوفرة، فخيار رفع مستوى التأزيم السياسي مقوماته ومبرراته موجودة في تمسك السلطة بالحقوق الفلسطينية، ويمكن التحكم في سقفه ومداه بقرار. وهو في كل الاحوال لن يضر بالفلسطينيين ان لم ينفعهم. وبعض فوائده مؤكدة منها تحضير الاوضاع الشعبية للنهوض بخطوة قيام الدولة على الارض المزمع الاعلان عنها. ومفيد ايضا في تطوير مواقف الدول العربية والاسلامية تجاه تجميد تطبيع علاقاتها باسرائيل.
وبجانب التازيم السياسي الرسمي اظن ان بامكان السلطة الفلسطينية وقوى المعارض العودة لتعبئة الجمهور الفلسطيني ببعض شعارات الانتفاضة منها مثلا العمل بالتدريج على وقف الشغل في المستوطنات، بالتوازي مع ايجاد حلول لمن تجبرهم لقمة العيش على العمل فيها. والبدء بمقاطعة منتوجاتها ووقف كل أشكال التجارة معها، فمن غير المعقول ان تطالب السلطة الفلسطينية دول السوق الاوروبية المشتركة عدم تقديم تسهيلات على استيراد منتوج المستوطنات وتبقى هي تستورده وتستهلكه، وان يبقى العمال الفلسطينيون يبنوها بايديهم فوق ارضهم المصادرة وسلطتهم وقواهم الوطنية تتفرج عليهم.
3) تهيئة الاوضاع لمواجهة كل الاحتمالات
لا شك في ان خيار إعلان الدولة خيار تصادمي مفروض على الفلسطينيين. ويفترض أن لا يكون هناك خلاف على أن هذا التوجه لن يحظى بموافقة إسرائيلية ليكودية. وسيتبعه إجراءات إسرائيلية فورية مضادة من الذات الوزن، وقد تكون أثقل من حيث العيار. والتمسك به يقود حتما الى تصادم سياسي وعنيف بين الطرفين. وردود فعل نتنياهو واليمين الديني والقومي المتطرف عليه تؤكد ذلك. فكلها كانت سلبية ومتوترة، وتضمنت تهديدات باجراءت سياسية وعملية ردعية قاسية. واعتماده كخيار فلسطيني استراتيجي يستوجب الشروع فورا في تحضيرات طويلة وعريضة مسبقة. سيناريو حركته العملية يجب أن تبدأ باعلان المؤسسات التشريعية الفلسطينية عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على الارض الفلسطينية ضمن الحدود التي حددها إعلان الاستقلال الذي أعلنه المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في نوفمبر 1988. والتقدم بطلب للجمعية العامة للامم المتحدة بالاعتراف بالدولة الفلسطينة وبسيادها على الاراضي التي احتلت عام 1967، وتحضير الاجواء الدولية لاستقباله. على ان ترافق هذه الخطوات السياسية مواقف واجراءات داخلية احد أهدافها الرئيسية ردم الهوة بين السلطة والشارع الوطني وتحضيره للمواجهة المحتملة.
ومن يراجع تاريخ م ت ف يجد أن القناعة الجماعية النابعة من الوعي الشعبي كانت، على إمتداد العقود الثلاث الاخيرة، المحرك الرئيسي لنضال الشعب الفلسطيني من أجل تحقيق أهدافه الوطنية. وهي التي دفعته للإنخراط في الفصائل والأحزاب والحركات الوطنية والإلتفاف حول م ت ف وحمايتها كممثل شرعي ووحيد له. وتخطئ السلطة الفلسطينية إن هي إعتقدت أن بإمكانها توحيد طاقات الشعب المشتت في شتى أنحاء العالم حولها وحول مواقفها بالإغراء أو بالوعود أو بقوة الإكراه وما شابه ذلك.
والتجربة الفلسطينية بينت ان حشد طاقات الشعب الفلسطيني خلف القيادة لا يمكن أن تتم بدون ديمقراطية حقيقية تشرك الجميع في صناعة القرار الوطني، وبدون برامج وتوجهات واقعية مقنعة قادرة على تفعيل الطاقات الوطنية وتحقيق إنجازات ملموسة. وإعتماد الديمقراطية في معالجة الخلافات الداخلية يعني في الواقع الفلسطيني الراهن : (أ) الأقرار بالتعددية السياسية والتنطيمية في إطار إستقلالية الحركة الوطنية الفلسطينية وإستقلالية قرارها الوطني. (ب) حق الأقلية في التعبيرعن وجودها وعن مواقفها بكل الاشكال عبر منابرها الخاصة ومنابر منظمة التحرير وانهاء مظاهر واشكال الفردية والاستئثار. (ج) أن يبقى الصراع بين مختلف التيارات والاتجاهات يدور في إطاره الفكري والسياسي والتنظيمي وألا يتحول الى صراع تناحري أو إقتتال داخلي. (د) أن تبقى المصلحة الوطنية العليا وبخاصة مواجهة الإحتلال وطرده فوق كل الإعتبارات الفئوية الضيقة التنظيمية والعقائدية. (هـ) أن تعتمد تيارات وإتجاهات النظام السياسي قواسم عمل ملزمة. وان يلتزم الجميع بقرارات الهيئات المشتركة وأن تعمل على إستفتاء الشعب حول قضايا الخلاف الأساسية حيث أمكن ذلك.
4) تطوير أوضاع السلطة وإنجاح دورها
لا شك في أن التقييم الموضوعي لقيام السلطة الوطنية على الارض الفلسطينية يفرض إعتباره تطورا ايجابيا يخدم تصحيح وتطوير مسار الحركة الوطنية الفلسطينية باتجاه تحقيق أهدافها الإستراتيجية وفي مقدمتها الدولة المستقلة. وهذا التطورالايجابي يستوجب تكييف الأوضاع القيادية الفلسطينية بما يمكن من إستثمار كل تفاعلاته وأبعاده الداخلية والخارجية للصالح الوطني العام. ويفرض أيضا إحداث تغيرات نوعية في مفاهيم العمل التي كانت سائدة قبل وقوعه، وإحداث تغيرات جذرية على الالية والاسس التنظيمية التي قامت عليها بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، ونظمت على اساسها العلاقات الداخلية.
وتمني الفشل للسلطة الفلسطينية، أو العمل على إفشال تجربتها أقل مايمكن أن يقال فلسطينيا عنه أنه لايخدم الهدف الوطني الفلسطيني في تأكيد قدرة الشعب الفلسطيني على ان يحكم نفسه بنفسه وأن يدير حياته بنجاح. ففشل تجربة السلطة الفلسطينية هو فشل لكل أطراف الحركة الوطنية الحاكمة والمعارضة. وفي هذا السياق لابد من القول بوضوح أن الأسس التي أعتمدت في تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة لا تتناسب وطبيعة مهام المرحلة، وفي مقدمتها مهمة تحضير الأوضاع للاعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة فوق كل الاراضي الفلسسطيمنية التي احتلت عام 1967، واستنهاض طاقات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجة. وحشد الجهود العربية والدولية لمواجهة مواقف وتصرفات الحكومة الاسرائيلية والمستوطنيين التي لن تستسلم للواقع الجديد الذي سيخلقه إعلان الدولة.
والتمعن في طبيعة المشكلات التي تواجهها السلطة، وفي نوعية الأمراض التي تنخر جسمها وبخاصة الفردية والإنعزالية عن شعبها وعن العرب، يصبح من الصعب الحديث عن حل سحري كمخرج فوري للمأزق الذي تعيشه. وتدارك الاوضاع والشروع في تصحيحها، ومعالجة المشكلات التي تواجهها السلطة لا يمكن أن يتم بحقن جسمها ببعض المسكنات التي قد تضر ولا تفيد. ويتطلب الاقدام على العديد من الخطوات الوطنية العاجلة والجريئة، حتى ولو كانت مؤلمة لبعض القوى ولبعض القيادات وأهمها وأكثرها الحاحية : 1) إعادة بناء السلطة على أسس جديدة، غير التي أعتمدت عندما أعيد تشكيلها. وإختزال عدد الوزارات، وتشكيل وزارة إستيعاب وتاهيل العائدين والنازحين واللاجئين. وعدم الجمع بين عضوية اللجنة التنفيذية وعضوية السلطة في كل الأحوال بما في ذلك رئاسة الوزارة. وتقليص نسبة الحزبيين لصالح الكفاءات الوطنية المستقلة، وبخاصة من أبناء الضفة والقطاع من ذوي الكفاءة والخبرة والاختصاص في كل المجالات وبخاصة المجال الاقتصادي والعمل المالي والتربوي والاداري. وممن يتمتعون بالثقة والمصداقية في صفوف اهل الضفة وقطاع غزة، وفي الاوساط العربية والدولية. 2) تحديد مهام السلطة الوطنية بدقة، وفصلها عن مهام التنفيذية، وتخفيف الاعباء غير الضرورية عن كاهلها بفك التداخل الحاصل بين مهامها ومهام اللجنة التنفيذية، وحصرها في إدارة الوظائف والمجالات المنوطة بها. 3) وضع اللوائح والانظمة التشريعية الكفيلة بتنظيم العلاقة بين السلطة و م ت ف وإعتبارها سلطة تنفيذية خاضعة لمحاسبة مراقبة والمؤسسات التشريعية في منظمة التحرير حسب قرار المجلس المركزي الذي تم بموجبه تشكيلها. 4) وقف سياسة التعيينات العشوائية المعتمدة في املاء المراكز والوظائف الشاغرة في مؤسسات السلطة، وحصرها في حدود الملاكات الضرورية وليس اكثر. وإعادة النظر في فائض التعيينات التي تمت في ملاك الوزارات، وتحويل كل المعينين كترضيات حزبية وخاصة، الى وزارة الاستيعاب لتأهيلهم وتشغيلهم في مجالات اخرى اكثر جدوى وانتاجية. واحالة كبار السن والفائضين عن الحاجة الى التقاعد. 5) وقف التضخم في ملاكات أجهزة الامن وأجهزة الوزارات، والحرص على خلق توازن بين الواردات والنفقات، وبين النفقات الجارية والانفاق على بناء مؤسسات السلطة، وإقامة المشاريع الانتاجية القادرة على إمتصاص أقسام من البطالة، وزيادة الدخل القومي. والتنبه سلفا لعدم إغراق الشعب الفلسطيني في الديون الخارجية. 6) تحرير السلطة الفلسطينية من الضغط المعنوي والعملي لعملية المفاوضات الطويلة والشاقة، ومن الابتزاز الشديد الذي يمارسه المفاوض الاسرائيلي. وحصر مهمة متابعة المفاوضات بمؤسسات منظمة التحرير. وغني عن القول ان انجاز هذه المهمة الرئيسية يتطلب احياءاللجنة العليا لمتابعة المفاوضات، واعادة تشكيلها بما يمكنها من متابع كل فروع المفاوضات الثنائية والمتعددة الاطراف. وتشكيل الطواقم المفاوضة، وطواقم المستشارين، على اساس الكفاءة والخبرة والاختصاص.
5) إحياء م ت ف وتفعيل دورها
بالتمعن في ما آلت الية أوضاع منظمة التحرير، وفي الخطوات التنظيمية والعملية التي تمت بعد تشكيل السلطة وأدت الى تجويفها من الداخل يتبين أن هناك في القيادة الفلسطينية من هو مقتنع بأن إتفاق أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية فرضا العد العكسي لوجود منظمة التحرير الفلسطينية كإطار قيادي جبهوي جامع لقوى الشعب الفلسطيني. ويعتقد أصحاب هذا الرأي بان السلطة الوطنية هي البديل والوريث الشرعي للمنظمة. وهناك من يحاول حرق المراحل وتمويت منظمة التحرير، ظنا منه أن البديل قد وجد.
ويحلو لبعض القيادات الفلسطينية الاستشهاد احيانا بتجربة بن غورين في تهميش دور الوكالة اليهودية بعد الاعلان قيام دولة اسرائيل وتحويلة الى دور مآزر للحكومة. لكنهم ينسون أن بن غورين أقدم على خطوته بعد إستكمال قيام دولة إسرائيل على الارض. وبعدما هزمت هذه الدولة كل الدول العربية التي شاركت في حرب 1947-1948. وينسون أن بن غوريون والقيادة الصهيونية أبقت على المؤتمر اليهودي العالمي بعد قيام دولة اسرائيل. وأن ماحققه الفلسطينييون حتى الان حكم ذاتي محدود الصلاحيات على جزء بسيط من الأرض وليس أكثر، وان الاستيطان يحاصر هذا الجزء الصغير وينهش جسده يوميا. أضف لذلك ان اتفاق اوسلو لم يوصل الى الحل الذي كان ينتظره الفلسطينيون، ومسار المفاوضات منذ اوسلو وحتى الآن لم يشجعهم على اعتماد هذا المسار كطريق وحيد يعيد لهم حريتهم وكرامتهم. وكلا العنصرين، أوسلو والمفاوضات، لم يقنعا الشعب الفلسطيني حتى الآن باعتماد السلطة الوطنية كوريث كامل لمنظمة التحرير يمكن الاعتماد عليه في تحقيق الأهداف الوطنية التي من اجلها قامت منظمة التحرير.
وتجربة ثلاث سنوات من خلط الهيئات ومهام العمل اليومي بينت أن دخول أعضاء التنفيذية في الوزارة لم يكن مصدر تنشيط وتفعيل لدور السلطة بمقدار ما كان مصدر إرباك لها، وتهميش وإضعاف دور اللجنة التنفيذية، وتدهور واهتراء أوضاع بقية المؤسسات وشلها عن الحركة وتعطيل عملها. وأضعف موقف السلطة الوطنية في نظر الشعب الفلسطيني ونظر القوى الصديقة ولم يقويها في مواجهة الإسرائيليين. وأفقدها مرجعيتها، وفقدت الجهة المعنية عن مسائلتها ومحاسبتها دوريا.
لا شك في أن انتخاب المجلس التشريعي وابراز دور السلطة الوطنية وتطويره كاطار قيادي مركزي يصب في صالح النضال الوطني العام، ويخدم هدف بناء الدولة المستقلة على الارض الفلسطينية، ويضع اللبنات الاساسية لعبور مرحلة التحول من حالة الثورة لحالة الدولة. الا أن إلغاء دور م ت ف وتعطيل إجتماعات اللجنة التنفيذية ودمجها هي والوفد المفاوض والسلطة “الوزارة” في اطار واحد “الاجتماع الدوري للقيادة “، ودمج مؤسسات المنظمة بمؤسسات السلطة، لم ولا يفعل دور هيئات الجسمين. واعتقد بان قوى النظام السياسي الفلسطيني ترتكب خطأ كبيرا اذا حاولو القفز بصورة قسرية عن المرحلة الانتقالية التي عبرها النضال الوطني الفلسطيني بعد التوقيع على اتفاق أوسلو.
وأي تكن الدوافع والأسباب الذاتية التي تدفع الآن ببعض القيادات والقوى والشخصيات الفلسطينية نحو استذكار المنظمة، بين فترة وأخرى، واستذكار لجنتها التنفيذية ومجلسيها المركزي والوطني، والإصرارعلى إحياء دورها القيادي بعد ان غيب إسمها ودورها قرابة 5 سنوات، فالواضح ان هذا الإستذكار لم يعالج الازمة، وان بعضة يتم كنوع من رفع العتب، وبعضه الاخر يتم لاغرض حزبية داخلية صرفة. والقيادة الفلسطينية أخطأت خطأ إستراتيجيا حين إعتقدت بان الاتفاقات مع الاسرائيليين ستفرز تدريجيا إنتهاء دور المنظمة. وان السلطة قادرة على ان تكون بديلها ووريثها. وعندما اعتقدت بأن التعجيل في تسليم الورثة والراية للسطة يسرّع في خلق البديل وتأهيله لتولي دفة قيادة الشعب الفلسطيني كله. ومن البديهي القول أن التراجع عن هذا الخطا ضرورة وطنية، وقديما قالوا “الاعتراف بالخطا والتراجع عنه فضيلة”. وترجمته العملية تتم بالإقرار بأن لا بديل للمنظمة في هذة المرحلة والتمسك بدورها، واعادة بعث الحياة في مؤسساتها والعمل من داخلها، واحياء دورها القيادي.
وبغض النظرعن التقديرات التي يعطيها هذا المركز أو ذاك الطرف لحجم وثقل هذا الفصيل أوذاك التنظيم فالتباين في التقدير نسبي ولا يلغي ضرورة إعادة النظر في النسب التمثيلية للقوى المشكلة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي نظام الكوتا الفصائلية وإستبدالها بكوتا لحجوم التجمعات الفلسطينية. وإعطاء الفلسطينيين في الشتات حق البحث في أفضل السبل لتمثيل أنفسهم في المجلس الوطني الفلسطيني. والتوجه نحو تقليص الهيمنة الفصائلية لحساب الفعاليات الوطنية المستقلة، وإعادة النظر في اللوائح الداخلية لكل مؤسسات المنظمة وهيئاتها القيادية لصالح تعزيز العمل الجماعي وتعزيز الرقابة على عملها. أما الاستمرار في التمترس عند المواقف القديمة، وإستمرار ادارة الصراع بذات العلقية السابقة، وبذات الأدوات المستهلكة فقد يقود الى كوارث جديدة وعندها لن يفيد تبادل الأتهامات حول المسؤولية عن ذلك.
والمصلحة الوطنية العليا تفرض على السلطة والمعارضة الشروع فورا في إجراء تصحيح سريع للخللين الاساسيين الذين وقعا بعد التوقيع على اتفاق أوسلو. الأول انهاء الخلط المتعمد الذي جرى بين مهام الوزارة ومهام اللجنة التنفيذية. والثاني عودة من استقال أوجمد عضويته في المجلس المركزي واللجنة التنفيذية للعمل في إطارهاتين الهيئتين القياديتين الاساسيتين. ولا نظلم أحدا اذا قلنا أن المعارضة وكل المستنكفين عن المشاركة في أعمال اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي يتساوون مع المحتفظين بعضويتهم في المسؤولية عن شلل المنظمة، وعن النتائج الخطيرة التى ترتبت على ذلك حتى الان وتلك التى يمكن أن تظهر مستقبلا. فاذا كان مفهوما أن يكون لهذا الحزب او ذاك الفصيل او تلك الشخصية الوطنية من المعارضين أو المؤيدين لعملية السلام موقفا من المشاركة في السلطة الوطنية (الوزارة) فمن غير المقنع وغير المفهوم اطلاقا استمرارهم في تجميد أدوارهم فى هيئات م.ت.ف، أو الاستمرار في الأنسحاب من اللجنة التنفيذية، الا اذا كانوا مقتنعين ان دورالمنظمة قد انتهى ولم يعد هناك من مبرر لوجودها. واعتقد ان الاستمرار في الاستنكاف والمقاطعة والقاء المسؤولية على الاخرين لا يوقف التدهور الحصل في أوضاع المنظمة، ولا يصوب عمل السلطة، ولا يعالج قضايا الشعب الفسطيني داخل وخارج الوطن. بل يلحق أضرارا فادحة بالمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني. ويخطأ كل من يعتقد انه بموقفه السلبي والاستنكافي عن المشركة في إحياء المنظمة يعاقب أحدا غير الشعب الفلسطيني. ويخطأ اكثر من يعتقد أن بامكانه وراثتها أو تشكيل بديل لها.
وانقاذ م ت ف يفرض دعوة المجلسين المركزي والوطني للانعقاد بأسرع وقت ممكن. فليس من حكمة على الاطلاق في عدم عقد اجتماعات منتظمة للمجلس المركزي. ولايمكن فهم هذا الموقف سوى الهروب من المحاسبة والمراقبة. وبغض النظرعن شكلية الدور الذي كان يقوم به هذا المجلس قبل تشكيل السلطة الا ان تعطيل اجتماعاته اضعف دور المنظمة واضعف الوحدة الوطنية، وقلص امكانية البحث عن سبل عقد مصالحة وطنية مع المعارضة، وسبل تنظيم العمل معها. وتعطيل اجتماعاته بحجة الخلاف حول مكان الاجتماع “خارج او داخل” ليس سوى هروب من المواجهة الداخلية. فقد كان ولازال بالامكان حله ببساطة لو صدقت المواقف والنوايا وتوفرت القناعة الحقيقية والرغبة الجدية في تفعيل هذا الاطار القيادي. وما يقال بشأن انعقاد المجلس المركزي يمكن قوله أيضا بشأن عدم عقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني، وعدم وضع ميثاق وطني جديد يستوعب التطورات التي وقعت على القضية الوطنية وعلى وضع الحركة الوطنية ومنظمة التحرير. أما الاستمرار في التهرب، فأظن أنه يعني من الناحية العملية إعتبار الدورة التي عقدها المجلس الوطني في صيف 1996 آخر دورة في حياة أعلى سلطة تشريعية فلسطينية.
وأعتقد بأن ذهاب الوفد الفلسطيني الى مفاوضات “واي بلنتيشن” بعد عقد جلسة طارئة موسعة للمجلس المركزي، يقوي مواقفه ولا يضعفها في مواجهة شارون ونتياهو ومن معهما. وذات الشيء ينطبق على انضمام بعض رموز المعارض الفلسطينية للوفد الذاهب للمفاوضات.
لاشك في ان صراعا فكريا وتنظيميا داخليا يجب ان يخاض من اجل تصويب أوضاع الحركة الوطنية وتصويب برامجها. وان جهدا وطنيا كبيرا يجب ان يبذل من اجل احياء وتجديد بنية م ت ف وتفعيل دورها واعادة النظر في مهامها ووظائفها. فتمويت المنظمة يلحق اضرارا بوحدة الشعب ويعرضها للانقسام بين داخل وخارج. ويفقد الحركة الفلسطينية الاطار الموحد للطاقات الشعبية في وقت هي في أمس الحاجة له. فالسلطة لا يمكنها ان تكون بيتا يتسع لجميع القوى والاتجاهات السياسية والفكرية الفلسطينية، أقله خلال المرحلة الانتقالية. ولايمكنها أيضا أن تكون إطارا قادرا على تعبأة طاقات الشعب داخل الوطن وخارجه وتفعيلها في مواجهة الاحتلال.
خاتمة
ومهما كانت نتائج مفاوضات واشنطن، فوقائع سبع سنوات من حياة عملية السلام أكدت أن درجة تطور الفكر السياسي في المجتمع الاسرائيلي لم تصل الى مستوى تحقيق مصالحة تاريخية حقيقية بين الشعبين. فالقوى الاسرائيلية المتطرفة صعدت للسلطة في إنتخابات ديمقراطية. والمعارضة الاسرائيلية لم تستطع التاثيرعلى مواقف اليمين المعادية لسلام حقيقي مع العرب، ولم تظهر غيرة حقيقة على الاتفاقات التي وقعت سابقا معها. وأغلبية الإسرائيليين يرفضون التقدم بإتجاه حل عادل لقضية القدس يقبل به الفلسطينيون. وحق العودة للفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم في عام 47-48 مرفوض بالمطلق من كل الاحزاب اليمينية واليسارية الاسرائيلية. ولا أظن أن تبدلا نوعيا سيقع في قناعات الشارع الاسرائيلي في السنوات القليلة القادمة. وستبقى شعوب المنطقة على أعصابها من الان وحتى عام 2000 دون تحقيق خطوات نوعية باتجاه سلامها المنشود. وسيبقى “نصف الشعب” في أماكن اقامتهم الحالية، ومع بقائهم في المهاجر ستبقى القضية الفلسطينية معلقة بدون حلول. فقضية اللاجئين هي جوهر القضية الفلسطينة وبدون حلها لاحل للصراع الفلسطيني الاسرائيلي، وبدون نيلهم حقوقهم الوطنية لن يتوقفوا عن المطالبة بها. وتجارب الشعوب اكدت ان الحلول المفروضة قد تجمد الصراع فترة قد تطول وقد تقصر، لكنها لا تصنع سلام عادل ودائم.