آفاق قمة “واي بلنتيشن” الثلاثية

بقلم ممدوح نوفل في 13/10/1998

يقف أقطاب قمة “واي بلنتيشن” وجها لوجه أمام مأزق أخطر من مأزق جمود العملية السلمية وأزمة تعثر المفاوضات الذي واجهوه منذ مطلع العام الجاري. فالزعماء الثلاثة، كلينتون ونتنياهو وعرفات، ووفودهما في سباق مع الزمن لإملاء الفراغ الخطير الذي سينشئ بعد أقل من 7 شهور “4 أيار القادم”، حين تنتهي الفترة الانتقالية ومرحلة الحكم الذاتي الفلسطيني التي أسسها إتفاق أوسلو قبل 5 سنوات. ويمكن إعتبار مفاوضاتهم أخطر جولات المفاوضات التي خاضها المفاوضون الفلسطينيون منذ مفاوضات مدريد واوسلو وحتى الآن. ونتائجها حاسمة في تقرير مصير المسار الأخير من عملية السلام التي انطلقت من مدريد، قبل 7 سنوات.

والمؤكد ان قمة “واي بلنتيشن” تنعقد وكل القضايا الكبيرة والصغيرة المختلف حولها معلقة. وأمامها جدول اعمال طويل طويل عريض تم تحديده كالتالي: أ) قضايا المرحلة الانتقالية المعلقة وأهمها إستحقاق الانسحاب الاول والثاني من اتفاق الخليل وجدوله الزمني، الممر الامن بين الضفة الغربية وقطاع غزة، تشغيل مطار غزة، إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين، بناء المناطق الصناعية. مصير المرحلة الثالثة من الانسحاب التي إستحقت. وقف الإجراءات أحادية الجانب، مفهوم التبادلية في الالتزامات الامنية. والجدول الزمني لتطبيق بنود المبادرة الامريكية اذا وافق عليها نتياهو. ب) قضايا المرحلة النهائية المثبتة في اتفاق اوسلو وهي : القدس، اللاجئين، الاستيطان، الحدود، العلاقات المستقبلية الثنائية والعلاقة مع الجوار، وقضية المياه التي رحّلت من الانتقالية للنهائية.

فهل ستتمكن مفاوضات “واي بلنتيشن” المارثونية من نزع فتيل الانفجار، والتوصل خلال اسبوع واحد الى اتفاقات جديدة تنقذ المسار الفلسطيني، أم أنه سيلتحق بالمسارات الاخرى، السوري واللبناني والمتعدد الاطراف، التي نسيها أهل المنطقة والمعنيين بصنع السلام فيها ؟ وما هي الاحتمالات والخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين حتى 4 أيار القادم، وفي ظل أية ظروف داخلية وخارجية يتفاوضون ؟
اذا كان نجاح القمم الهامة، حسب الأعراف الدبلوماسية، يتطلب إعدادا جيدا لها وإنجازا أوليا لنسبة كبيرة من المسائل المطروحة على جدول أعمالها. فالتحضيرات الاولية لقمة “واي بلنتيشن” ينطبق عليها المثل القائل “حركة كثيرة وبركة قليلة” ولم تنجزء شيء أساسيا. فاللقاءات الطويلة والكثيرة التي عقدها الرئيس كلينتون ووزيرة خارجيته وأركانهما مع عرفات ونتياهو، في واشنطن ونيويورك والقدس واريحا، أواخر ايلول الماضي وبداية تشرين أول الجاري، لم تفلح في اقناع نتنياهو إعلان موافقته الرسمية على مبادرتهم التي طروحوها مطلع العام الجاري. ورفض إغلاق ملفات المرحلة الثانية تمهيدا للدخول في مفاوضات الحل النهائي. ورفض بإصرار عرض خرائط المناطق التي سيشملها الانسحاب وإعادة الانتشار الاولى والثانية. وتمسك بذريعة الأمن وبأوضاعه الداخلية، وبقي على مواقفه المناقضة للاتفاقات. وخرج من البيت الابيض ومن كل اللقاءات الثنائية والثلاثية دون الإلتزام بشيء. وفرض أسس التحرك السياسي اللاحق وجدول أعماله، وجعل المبادرة الامريكية سقفا لها. ورغم موافقة نتياهو على عدم اتخاذ مواقف وإجراءات تؤثرعلى التوجهات الجديدة وعلى المفاوضات اللاحقة، الا أنه كعادته لم يلتزم، وأعلن عن بناء مستوطنة جديدة في تل رميدة في الخليل، وعن تحويل مستوطنة أرييل مدينة اسرائيلية، وعين شارون وزيرا للخارجية.

وبدلا من الضغط على نتنياهو سلط كلينتون وأركانه ضغوطهم على الطرف الفلسطيني الضعيف. ونجحوا في إنتزاع عدم تحديد 4 أيار 1999 موعدا رسميا للاعلان عن قيام الدولة على الأراضي الفلسطينية التي أحتلت عام 1967 وبسط سيادتهم عليها، وفرغوا الجهود الفلسطينية لإستقطاب الرأي العام حولها. ووافق الجانب الفلسطيني على الاقتراح الأمريكي الداعي الى تحويل 3% من أراضي الضفة الغربية، من أصل 13% المفترض إنسحاب إسرائيل منها، الى محمية طبيعية يتقاسم الطرفان إدارة شؤونها الامنية والمدنية. ووافق على تفعيل عدد من اللجان الثنائية الفرعية قبل التوصل الى اتفاق حول أية قضية جوهرية، وقبل إعلان الجانب الاسرائيلي موافقته على المبادرة الامريكية.

واذا كانت التحضيرات التي سبقت قمة “واي بلنتيشن” لم تعالج أي من القضايا الجوهرية والفرعية فالظروف المحيطة باجتماعات الوفود لا تبشر بالخير. فالقمة تعقد في ظل موازين قوى مختلة تماما لصالح اسرائيل، وظروف فلسطينية وعربية ودولية بالغة التعقيد، لا تتجه نحو إلزام حكومة نتنياهو المتطرفة قبول حلول عادلة وشاملة للقضايا الاساسية الشائكة. صحيح أن الرئيس كلينتون جدد التزام ادارته بمبادرتها، وأكد عزمه مواصلة المساعي والجهود لأجل التوصل الى إتفاق. الا ان التجربة أكدت أن مواقف ورغبات رئيس الولايات المتحدة في المسائل المتعلقة بإسرائيل شيء يختلف تماما عن إمكانية تحقيقها. وسيواجه الوفد الفلسطيني الخيارات التالية، والواضح أن أحلاها مر.

أ) مفاوضات الحل النهائي

سيصطدم عرفات وكلينتون في جلسات المفاوضات حول قضايا الحل النهائي، “المذكورة اعلاه”، بأيدلوجية الليكود وبمصالح القوى اليمينية المؤتلفة معه. فالحدود الدنيا من الحلول التي يمكن أن يقبل بها الفلسطينيون لقضايا الحل النهائي تتعارض مع مصالحهم وتنسف معتقداتهم. فهم كانوا وما زالوا مخلصين لفكرة ” الضفة الغربية هي أرض الميعاد التي وهبها الرب لبني اسرائيل ولهم الحق في إستيطانها”. والتوصل الى قواسم مشتركة مع الحكومة الاسرائيلية الحالية حول القدس واللاجئين والحدود والاستيطان..الخ شبه مستحيل ودرب من الخيال، حتى لو إستمرت المفاوضات عقد من الزمن. واعتقد بان تعيين شارون وزيرا للخارجية وإسناد ملف هذه المفاوضات اليه يعزز هذا الاستخلاص. فمواقفه من قضاياها معروفة للجميع ولا داعي لسردها. واذا كانت مفاوضات تنفيذ اتفاق الخليل وملحقه المتعلق باعادة الانتشار في الضفة الغربية استغرق حتى الان قرابة عامين دون لنتيجة، فليس عسيرا تقدير عدد السنوات الكثيرة التي ستأكلها المفاوضات مع شارون حول القضايا النهائية. وأقصى ما تستطيع مفاوضات واشنطن فعله هو الاتفاق على بدء التفاوض حولها دون تحديد سقف زمني للانتهاء منها. أي الموافقة على فتح اتفاق أوسلو وتعديل تاريخ إنتهاء المرحلة الانتقالية وتمديدها لإشعار آخر. وسيتعرض المفاوض الفلسطيني لضغوط امريكية وابتزازات اسرائيلية متنوعة، هدفها إنتزاع موافقته على هذا التوجه، وربط توقيت إعلان الدولة بنتيجة هذه المفاوضات، التي لن تنتهي طالما بقي الليكود ممسكا بالسلطة. وخير للرئيس عرفات والوفد المرافق له إبقاء ملف هذه المفاوضات مقفل الى إشعار آخر من فتحه على طاولة واحدة مع شارون.

ب) قضايا المرحلة الانتقالية

اما بشأن قضايا المرحلة الانتقالية “المذكورة أعلاه” فالاحتمالات والخيارات التي سيوجهها المفاوض الفلسطيني في واشنطن وحتى 4 أيار 1999 هي :

الاول) الشروع في التفاوض حولها وتوصل الطرفين الى إتفاق أو إتفاقات حولها، والاتفاق أيضا على تنفيذها كلها قبل 4 أيار القادم. وسلفا يمكن الجزم بأن لا أفق أمام هذا الاحتمال. فالقضايا المطروحة كبيرة وكثيرة ومعقدة، وليست فرعية من وجهة نظر الليكود. لاسيما وانها تتضمن إضافة لوقف الاجراءات أحادية الجانب، أي وقف الاستيطان من وجهة نظر الفلسطينيين، وإطلاق سراح المعتقلين، وفتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع، وتتضمن حسب المبادرة الأمريكية نسبة من الانسحاب “13,5%” عن المرحلتين الاولى والثانية، ولم يوافق نتنياهو عليها رغم موافقة الجانب الفلسطيني على تحويل 3% منها الى محمية طبيعية. وتتضمن أيضا الاتفاق على تحديد مساحة مرحلة الانسحاب الثالثة. وما يعرضه نتنياهو بشانها “1%” مرفوض فلسطينيا. والواضح أن نتياهو ذاهب الى واشنطن ولم يطلب من حكومته تفويضا بالبت بكل هذه المسائل. ويخطئ من يعتقد بان تعيين شارون وزيرا للخارجية وتسميته عضوا في الوفد الاسرائيلي لمفاوضات واشنطن سيسهل التوصل الى اتفاق حولها، فهو قادم لتعقيد المفاوضات وافشال أي اتفاق يتعارض مع قناعاته الايدلوجية.

الثاني/ توصل السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية بضغوط خارجية، أو بدونها، الى صفقة تتضمن الشروع في مفاوضات متواصلة لبحث قضايا الحل النهائي. وتمديد المرحلة الحكم الذاتي الفلسطيني لفترة زمنية غير محددة، أو محددة حتى عام 2000 مثلا، أي فتح اتفاق أوسلو والقفز عن 4 أيار كموعد لانتهاء مفاوضات الحل النهائي. والاتفاق على تشغيل المطار قبل نهاية العام، وتشغيل المنطقة الصناعية في غزة، وإطلاق سراح أعداد محدودة من المعتقلين يتفق عليها لاحقا. والاتفاق حول المسائل الامنية، وحول الادارة الامنية والمدنية للمحمية الطبيعية، ووضع جدول زمني للانسحاب من نسبة 10% عن المرحلتين الاولى والثانية، وإحالة الانسحاب الثالث الى لجنة خاصة. وهذا أقصى ما تطمح الادارة الامريكية تحقيقه في اللقاءات القادمة. ويمكن القول ان هذا الخيار يمكن أن يمثل قاسما مشتركا بين معظم أطراف الائتلاف الحاكم في اسرائيل، وسيتعاملون معه بإعتباره الحد الاقصى والنهائي الذي يمكن تقديمه. وسيعملون على ربط تنفيذه بشروط تعجزية أخطرها تمديد المرحلة الانتقالية وفرض توقيتات زمية تمكنهم المضي قدما في تنفيذ توجهاتهم والتحلل من التزاماتهم.

وهذا الخيار يفترض رفضه فلسطينيا بسبب الأضرار الفادحة التي يلحقها بمصالحهم الوطنية وبإستراتيجيتهم التفاوضية. وقبوله يعني قبولهم صفقة خاسرة تماما تفقدهم حقوقا أساسية نصت عليها الاتفاقات، وأخرى لم تبدأ المفاوضات حولها حتى الآن. فالدخول في مفاوضات الحل النهائي قبل التوصل الى إتفاق حول جميع قضايا المرحلة الانتقالية، وبخاصة وقف الاستيطان، وتحديد مساحات وتوقيتات مراحل الانسحاب الثلاث، وقبل وضع جدول زمني ملزم وآلية رقابة ملزمة، يعني هدر حقوقهم التي نصت عليها الاتفاقات، أما إحالتها الى مفاوضات الحل النهائي، التي ستبقى تدور في حلقة مفرغة، فيسهل على القيادة الاسرائيلية بناء مزيد من الوقائع الكفيلة بتحويل الحل المرحلي الإنتقالي الى حل نهائي دائم.

الثالث/ تمترس الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي عند مواقفهم وخلف أهدافهم الاساسية، وفشل الجهود الامريكية وعدم التوصل الى أي اتفاق من الآن وحتى ايار القادم. يتلوه قيام كل طرف بما يحلو له من خطوات وإجراءات سياسية وعملية، لتكريس أهدافه الأساسية وفرضها على الأرض كأمر واقع بالوسائط والقوى المتوفرة والمتاحة له. ويبدو أن حظ هذا الخيار ليس قليل ومواقف الأطراف مندفعة باتجاهه. فمن غير المرئي موافقة الحكومة الاسرائيلية الاقرار ولو من حيث المبدأ بالحقوق الفلسطينية الواردة في الاتفاقات كما يتصورها الفلسطينيون. وبخاصة وقف التوسع في الاستيطان، وتسليمهم مساحات إضافية من الارض. وأظن أن شارون وشيرانسكي ذاهبان للمفاوضات لتكريس إحتلال اسرائيل لأوسع مساحة من الارض وليس تقليصه وإنهائه. ولا أرى أية عوامل محلية أو اقليمية أو دولية إستثنائية جديدة تفرض على نتياهو التراجع عن مواقفه التي اتخذها منذ تسلمه السلطة، وتجبره على دفع الاستحقاقات التي نصت عليها الاتفاقات. وأظن أنه كرجل أيدلوجي يفضل إغضاب الادارة الامريكية والعالم ، والذهاب الى إنتخابات مبكرة على تقديم ما يمكن إعتباره تنازلات تمس مبادئه ومعتقداته.

اما الفلسطينيون فمصالحهم الوطنية تفرض عليهم التمسك بكامل حقوقهم المرحلية المنصوص عليها في الاتفاقات. فالموافقة على القفز عن 4 أيار 1999 وعدم إعتباره نهاية المرحلة الانتقالية يفتح شهية الحكومة الاسرائيلية ليس فقط باتجاه الابقاء على الوضع القائم على الارض على ما هو عليه الى اشعار آخر، بل وأيضا العودة لقضم ما أمكن من الحقوق الفلسطينية التي تم إنتزاعها حتى الآن، ومصادرة مزيد من الأراضي لصالح الاستيطان. ويضعف السلطة الفلسطينية أمام شعبها وأمام العرب والعالم. ويقفل الطريق امام أشكال المؤآزرة والمساندة العربية والدولية للمواقف والحقوق الفلسطينية. ويبين خضوعها لمواقف نتنياهو، ويعقد العلاقات الوطنية ويدفعها نحو صراعات داخلية قد تتخذ أشكال عنيفة. وخير لهم عدم التوصل الى أي إتفاق من التوصل الى إتفاق سيء.