الدولة الفلسطينية المستقلة هي الخيار الواقعي الوحيد

بقلم ممدوح نوفل في 20/08/1998

قصة الفلسطينيين والدولة المستقلة قصة طويلة، كانت وما زالت مليئة بالأمل وبالألم والعذاب. ظلوا سنين طويلة يحلمون بها، وكثيرا ما هبط أملهم للحضيض، وارتفع أحيان أخرى الى أعالي السماء. كانت أحلامهم ورؤاهم دوما مليئة بكوابيس مؤرقة عن مطاردة اليهود لهم، وفقدان الارض والهوية، وعن تآمر الانجليز والدول العربية عليهم، وتواطئ العالم وكل الهيئات الدولية ضدهم. وظل القدر يحوّل ما يرونه في مناماتهم الى حقائق وعذابات ملموسة، قال عنها رجال الدين والاتكاليين منهم “هذا امتحان من الله، والله يحب أن يمتحن عباده الصالحين”. وعزوها أحيانا لغضب الله على الفلسطينيين والعرب والمسلمين لأنهم إبتعدوا عن دينهم…
منذ “النكبة” وقيام دولة إسرائيل عام 1947ـ 1948، بقي اللاجئون الفلسطينيون متمسكين بحقوقهم التاريخية في وطنهم فلسطين. ولم يفقدوا الأمل في تحرير أرضهم والعودة إلى مدنهم وقراهم، وبناء دولتهم المستقلة. ورغم نجاح الحركة الصهيونية العالمية في توطيد دعائم دولة إسرائيل وبروزها كقوة عسكرية كبيرة، واحتلالها عام 1967 بقية فلسطين “الضفة الغربية وقطاع غزة”، ومعها كل شبه جزيرة سيناء المصرية والجولان السورية، إلا أن الفلسطينيين لم يستكينوا ولم يستسلموا للأمر الواقع، ولم يفقدوا الأمل بالتحرير والدولة والعودة،. ولم يتخلوا عن طموحاتهم وأحلامهم، وعقدوا العزم على أخذ زمام قضيتهم بيدهم، وتقديم ما يلزم من تضحيات لتحقيق أهدافهم الوطنية، وفي مقدمتها إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. وظلوا يتابعون التطورات السياسية ويراقبون مواقف القوى الإقليمية والدولية، ويحلمون بالدولة وينتظرون العودة لبيوتهم وأرضهم. تارة من خلال التحركات والنشاطات الدولية وبخاصة اجتماعات ونشاطات هيئة الأمم المتحدة وقراراتها، وتارة أخرى على يد جيوش العرب التي راحت تستعد ليوم التحرير.. وثالثة عبر العمل الفدائي والكفاح المسلح وبعده الانتفاضة الشعبية بقيادة منظمة التحرير. ورابعة عبر المفاوضات السرية والعلنية المباشرة وغير المباشرة مع الاسرائيليين.
أواخر عام 1987، وبعد عشرين عاما من القهر والمعاناة، إنفجر الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة في إنتفاضة عارمة في وجه الإحتلال، حددت أهدافها بدقة متناهية في شعارها “لا للاحتلال ونعم للحرية والاستقلال”. ولاحقا أطلقت القيادة الفلسطينية عام 1988 مبادرة سلام قبلت فيها لأول مرة فكرة تقسيم فلسطين، وتبنت شعار “دولتين للشعبين على أرض فلسطين التاريخية”. ووافقت على قراري مجلس الامن الدولي 242 و 338 كأساس لحل الصراع الفلسطيني العربي ـ الاسرائيلي. وفي الخامس عشر من تشرين أول 1988 “اكتوبر” أعلن المجلس الوطني الفلسطيني من الجزائر بالاجماع “إستقلال فلسطين وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي الفلسطينية التي أحتلت عام 1967″. يومها ابتهج الفلسطينيون داخل الوطن وخارجه بالاعلان وهللوا له واعتبروه خطوة رئيسية هامة في الاتجاه الصحيح. وأقسموا على تحويله من وثيقة تعلق في المكاتب والبيوت الى حقيقة ملموسة على الأرض.
وبعد صراع مع الذات ومع الآخرين وافق الاسرائيليون والعرب، وضمنهم الفلسطينيون، على نبذ العنف والارهاب ووضع السلاح جانبا واغلاق ملفات الحروب. وذهبوا جميعا أواخر عام 1991 الى مؤتمر مدريد لصنع السلام في الشرق الاوسط. وبعد بدء المفاوضات العربية الفلسطينية ـ الإسرائيلية وتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993 بين دولة إسرائيل وقيادة م ت ف، انتعشت آمال أغلبية الفلسطينيين بقرب قيام الدولة المستقلة على الأراضي التي أحتلت عام 1967 وبحل مشكلة النازحين واللاجئين. واعتقدوا بأن العمل على حل صراعهم مع الاسرائيليين بالطرق السلمية يقربهم من أهدافهم، ويخلق صراعات فكرية وسياسية حقيقية وجدية داخل المجتمع الإسرائيلي. واقتنعوا بأن طريق المفاوضات هي أقصر الطرق لتحقيق أهدافهم الإستراتيجية المقدسة. وعلى إمتداد فترة حكم حزب العمل 1992 ـ 1996 ظل هدف الدولة المستقلة على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة موضع إجماع فلسطيني شعبي ورسمي. ولم يكن هناك فلسطينيون كثيرون يشكون في إمكانية تحقيق هذا الهدف السامي، ولم يشكك احد في جدواه الوطني الاستراتيجي. وكان النقاش الداخلي يدور حول حدود الدولة جغرافيا وليس وجودها. وحول حدود سيادتها على الأرض، وشكل نظامها السياسي، ومستوى صلاحيتها ومسئوليتها عن مجالات حياة الناس، وحول مستقبل علاقتها بجيرانها وبخاصة بإسرائيل. وبعد دخول القيادة الفلسطينية وكوادر أجهزتها المدنية والعسكرية للضفة الغربية وقطاع غزة، وقيام السلطة الوطنية على أجزاء من الارض الفلسطينية، وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية اعتقد معظم الفلسطينيين بأن هدفهم “الدولة الفلسطينية” باتت قاب قوسين أو أدنى.
فوز اليمين الإسرائيلي أربك الجميع
صيف 1996 ذهب الإسرائيليون إلى صناديق الاقتراع لحسم الموقف من عملية السلام. واشتغلت القيادة الفلسطينية، في حينه، وعدد من القادة العرب، وأركان البيت الأبيض، لصالح فوز حزب العمل والقوى المعتدلة فيها، باعتبارها ضمانة تحقيق السلام الدائم بين العرب وإسرائيل. وليلة فرز الأصوات في انتخابات الكنيست سهرت القيادة الفلسطينية في مقر رئيس السلطة الوطنية أمام شاشة التلفزيون تراقب النتائج. كانت ثقتها عالية بفوز حزب العمل، وكانت ملفاتها المتعلقة باستكمال المفاوضات حول قضايا المرحلة الإنتقالية جاهزة. وكانت واثقة تماما من “تشهيل” المباحثات ومن والتوصل إلى اتفاقات حولها، وواثقة أيضا من تنفيذها بسرعة. وكانت تتطلع نحو تحرير مزيد من أراضي الضفة والقطاع، وإقامة الدولة المستقلة في غضون عامين، وليس أكثر، فوق ما يزيد عن 85 % من أرض الضفة الغربية وقطاع غزة. فالمفاوضات الرسمية وغير الرسمية حول قضايا الحل النهائي كانت قد بدأت، وقيادة حزب العمل قدمت وعودا كثيرة بشأن مستقبل العلاقات إذا فاز الحزب في الانتخابات وعاد للسلطة. والأفكار الأولية التي قدمها “يوسي بيلين” تحظى بدعم بيريز وأغلبية قيادة حزب العمل، وتوفر الأرضية اللازمة لمواصلة البحث وتسهل النقاش. وتفتح أبوابا عديدة للوصول إلى صيغة من التفاهم الفلسطيني ـ الإسرائيلي المشترك حول قيام الدولة الفلسطينية، وحول قضايا: القدس، الاستيطان، الحدود، ،المياه، والعلاقات المستقبلية. لكن رياح الانتخابات الإسرائيلية لم تجري كما كانت تشتهيها السفينة الفلسطينية والسفن العربية والدولية. فمع الإعلان عن فوز أحزاب اليمين القومي والديني في الانتخابات، وتشكيل حكومة يمينية متطرفة بقيادة تكتل الليكود، تبدلت لغة الكلام الفلسطيني والعربي عن عملية السلام، وعن العلاقات بين الطرفين. وبدأت الأحلام الفلسطينية، بما فيها الحلم باقتراب قيام الدولة المستقلة، بالتبخر والتلاشي التدريجي. وحل محلها نظرة سوداوية متشائمة حول مستقبل المفاوضات والعلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، وحول مصير الاتفاقات التي تم التوصل لها في عهد حزب العمل. واعتبر البعض نتائج الانتخابات بمثابة انقلاب إسرائيلي أبيض ضد السلام مع الفلسطينيين، وضد التوجهات الدولية التي ظهرت بعد انتهاء الحرب الباردة وبدء مرحلة جديدة من الوفاق الدولي.
ومنذ ذلك التاريخ، وحتى الآن، يدور نقاش سلبي واسع في أوساط السياسيين والمفكرين والبحاثة الفلسطينيين حول آفاق عملية السلام، وحول الحلول النهائية للصراع الفلسطيني العربي ـ الإسرائيلي. وبعد تنصل نتنياهو من الاتفاقات والتفاهمات التي تمت في عهد حزب العمل، وانتعاش حركة مصادرة الأراضي، وعمليات التوسع في الاستيطان في الضفة الغربية..الخ ارتفعت وتيرة النقاش حول الدولة الفلسطينية وزادت سلبيته. وسادت الشكوك في إمكانية بقاء عملية السلام على قيد الحياة، وفي فرص تقدم المفاوضات على مسارها الفلسطيني الإسرائيلي. واثر تراجع دور الإدارة الأمريكية في رعاية المفاوضات، وتراجع دور القوى الإقليمية والدولية تجاه صنع السلام في المنطقة، توسعت دائرة البحث السلبي وشملت جهات إقليمية ودولية عديدة. وتنوعت قضاياه عند أقسام واسعة من الفلسطينيين، وطالت فكرة الدولة المستقلة، ومسائل أخرى كثيرة كانت تعتبر مسلمات فلسطينية. وبعثت الحياة من جديد في أفكار قديمة متنوعة نسيها الناس فترة ليست قصيرة منها : الترانسفير، الخيار الأردني، ضم الضفة الغربية لإسرائيل، بقاء الوضع على ما هو عليه، حكم اداري ذاتي موسع، دولة فلسطينية في غزة وتقاسم وظيفي في الضفة..الخ اعتبرت كلها بعد اتفاق أوسلو عام 1993 وبعد انتخاب المجلس التشريعي الفلسطيني عام 1996، في عداد الحلول التي عفى عليها الزمن وتجاوزتها الأحداث. ومع تدهور حالة عملية السلام على كل المسارات وتصاعد عمليات الاستيطان في الضفة الغربية أكثر فأكثر، تم نبش وإحياء عدد من الأفكار الأكثر قدما والأكثر شمولية، من نوع التخلي عن فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة على أرض الضفة والقطاع لصالح فكرة قيام “دولة ديمقراطية علمانية موحدة”، و “دولة ثنائية القومية”، اللتين طرحتهما الفصائل الفلسطينية أواخر الستينات لتطوير موقفها باتجاه الواقعية. وقدمتهما للعالم كبديل لمقولة “تحرير فلسطين وطرد اليهود منها”، التي سادت الفكر السياسي الفلسطيني منذ “النكبة” عام 1948 وحتى هزيمة حزيران 1967.
ومع اقتراب تاريخ إنتهاء المرحلة الانتقالية، في الرابع من أيار 1999، وتيقن القوى المحلية والإقليمية والدولية من الموت “السريري” لعملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي،، تجدد الحديث حول الدولة الفلسطينية وكانت وجهته سلبية. وطرحت تساؤلات حول آفاق الحل النهائي بعد انتهاء المرحلة الانتقالية. وخطى البحث والنقاش خطوة أخرى إلى الأمام حين أعلن رئيس السلطة الفلسطينية رسميا تصميم الجانب الفلسطيني على ملأ الفراغ بالإعلان يوم 4 أيار القادم عن قيام الدولة الفلسطينية على كل الأراضي الفلسطينية التي احتلت في الخامس من حزيران عام 1967، وأعلن بأن القدس الشرقية المحتلة سوف تكون عاصمة لها. وسخر نتنياهو من التوجهات الفلسطينية واعتبارها إبتزاز وتهديد لأمن إسرائيل. وهدد بإلغاء كل الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين، وباتخاذ الخطوات السياسية والإجراءات العملية التي يراها ضرورية للحفاظ على أمن إسرائيل وعلى وجودها ومصالحها الاستراتيجية، بما ذلك إعادة احتلال الأراضي والمدن الفلسطينية المحررة. وما زالت الحرب الكلامية مشتعلة بين الطرفين، واظنها سوف تحتدم أكثر فأكثر في الاسابيع والشهور القليلة القادمة. وتحدث بعض غلاة اليمين المتطرف عن طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية وضنها لإسرائيل إذا اقدموا على إعلان الدولة من جانب واحد. وفي مواجهة هذا الموقف المتطرف ظهر في صفوف المفكرين الإسرائيليين الواقعيين من إعتبر التوجهات الفلسطينية نتيجة طبيعية لعملية السلام، ولمسار تطور الصراع العربي الفلسطيني ـ بعد خمسين عام. ونتيجة حتمية للواقع السكاني القائم على الأرض في الضفة والقطاع حيث يعيش عليها الآن قرابة ثلاثة ملايين إنسان فلسطيني عدا عن مليون آخر يعيش في إسرائيل. وظهر أيضا في الشارع الإسرائيلي قوى حزبية جدية يتزعمها حزب العمل وحركة ميرتس تدعو إلى مساعدة الفلسطينيين على إقامة دولتهم المستقلة باعتبارها، كما قال يوسي سريد وبيريز، “ضرورة لا غنى عنها لقيام سلام حقيقي مع الفلسطينيين، وضرورة للمحافظة على ديمقراطية دولة إسرائيل وبقاء هويتها يهودية”.
وظهر بالمقابل في صفوف المفكرين والبحاثة الفلسطينيين من يدعو إلى عدم التسرع في الإعلان عن قيام الدولة على الأرض، ومن يتساءل عن قيمة هذا الإعلان ويشكك في جدواه وفي مردوده الوطني. وهناك الآن من يبهت الدولة الفلسطينية المستقلة كتوجه وكفكرة. ويرى بأن الوضع القائم على الأرض ينتج “كيان سياسي” ملتبس المعالم، يمكن أن يطلق علية كل النعوت والصفات والأسماء ما عدا دولة مستقلة. وهناك من يعتقد بأن تطور الصراع ومستقبله يفرض تجاوز موضوع الدولة المستقلة ويستوجب البحث عن صيغة بديلة. ويروج لفكرة “دولة ديمقراطية علمانية موحدة على ارض فلسطين التاريخية”، و “دولة ثنائية القومية عربية يهودية على أ رض فلسطين كلها”، وكأنهما أكثر واقعية من الدولة الفلسطينية المستقلة… وكأن الفلسطينيين في وضع يسمح لهم بتقرير ليس فقط مصيرهم وشكل نظامهم السياسي، بل وأيضا مصير شعب ودولة إسرائيل بما في ذلك تحويلها من دولة يهودية إلى دولة ديمقراطية علمانية موحدة، أو دولة ثنائية القومية..! وكأن الذي يرفض قيام دولة فلسطينية مستقلة على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة، ويهدد باعلان الحرب ضدها، ويعمل بكل السبل لخلق حقائق تحول دون قيامها..الخ سيقبل التخلي عن إسرائيل كدولة يهودية، لصالح قيام “دولة ديمقراطية علمانية موحدة” أو “دولة ثنائية القومية” يتعايش فيها سكانها في ظل العدل والمساواة .
حقائق ملموسة لا يمكن تجاوزها
لاشك في أن التباين الفلسطيني الداخلي حول صيغ الحل النهائي للقضية الفلسطينية طبيعي، ويبقى الخلاف حول صيغة العلاقة بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي وأسس إنهاء الصراع بينهما صحي تماما. فلكل وجهة نظر ركائزها النظرية والعملية، وعند أصحابها أسلحة فكرية وسياسية تمكنهم من استخدامها في الدفاع عن وجهات نظرهم. إلا أن أحدا لا يستطيع إنكار أن قبول القيادة الاسرائيلية التفاوض مع ممثلي الشعب الفلسطيني وتوصلهم الى اتفاقات ثنائية أقفل الطريق أمام أي دور عربي مركزي في حل المسألة الفلسطينية. وأن الإعتراف الاسرائيلي بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، وتوقيع العديد من الاتفاقات معها، دفن الخيار العربي كطريق ووسيلة لإنهاء الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وثبّت الخيار الفلسطيني طريق رئيسي إن لم يكن الوحيد لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المزن. وبعد هذه الاتفاقات وما تم من خطوات عملية كثيرة وكبيرة على الأرض لم يعد بالامكان أحد إعادة اوضاع الضفة وقطاع غزة الى ما كانت عليه قبل عام 1967، أي الحاق الاولى بالأردن والثانية بمصر. ولا مجال للتعاطي أردنيا أو فلسطينيا مع الافكار الاسرائيلية التي كانت تدعو الى إجراء نوع من التقاسم الوظيفي لأرض الضفة الغربية وشعبها، بحيث تأخذ اسرائيل الارض وتترك للاردن إدارة حياة السكان. وبديهي القول إن بقاء الوضع على ما هو عليه غير ممكن. فالوضع القائم الآن مرفوض من الفلسطينيين والعرب ولم ينهي الصراع. ويحمل في طياته عوامل وعناصر متعددة قادرة على إشعال حرائق كبيرة في أكثر من مكان في المنطقة.
والواضح أن مواقف حزب الليكود المتطرفة، وتجربة السلطة الوطنية الفلسطينية منذ قيامها وحتى الآن، هي التي أثارت وتثير الأسئلة حول دقة وصحة الاستمرار في إعتماد خيار الدولة المستقلة على أرض الضفة والقطاع كهدف مركزي للفلسطينيين. وأن اختلال ميزان القوى لصالح اسرائيل، وانغلاق آفاق عملية السلام، دفعت بعدد من البحاثة الفلسطينيين والعرب والإسرائيليين لإعتبار فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة مستحيلة التحقيق في المدى المنظور، ولا تمثل حلا عمليا للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وأظن أن إنتعاش كل هذه الأفكار ووجهات النظر، الجديدة القديمة، هو إنتعاش عابر ومؤقت، وما كان لها تبرز من جديد وتحتل المكان الذي تحتله الآن لو فاز حزب العمل في الانتخابات. ولا أدري إذا كان أصحابها سيواصلون التمسك بها والترويج لها إذا مثلا تشكلت حكومة وحدة وطنية في إسرائيل، وتحركت عملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي من جديد، ونفذ نتنياهو استحقاقات المرحلة الانتقالية، أو جرت انتخابات مبكرة وفاز حزب العمل فيها، أو تحولت أقوال السيدة الأمريكية الأولى هيلري كلينتون” حول الدولة الفلسطينية الى موقف أمريكي رسمي، مثلا ؟
أعتقد بأن خطئا فادحا يرتكبه البحّاثة والمفكرون الفلسطينيون إذا هم أخضعوا تفكيرهم في المصير الفلسطيني وتحديدهم الخيارات الفلسطينية الاستراتيجية، لتقلبات موقف الناخب في الشارع الإسرائيلي. ويخطئون أكثر إذا اخضعوا فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة لمواقف اليمين القومي والديني المتطرف الحاكم الآن في إسرائيل، الرافض لها الآن. وإذا سمحوا لتعقد عملية السلام وانغلاق آفاقها المستقبلية حاليا، وتراجع دور رعاتها الدوليين، بالتأثير على خيارهم وتوجهاتهم الوطنية الاستراتيجية. وإذا إنساقوا وراء الأحلام والأفكار النظرية الجميلة المجردة، وسيطرت أمنياتهم ورغباتهم الذاتية على أذهانهم. وتجاوزوا عدد من الحقائق والوقائع وأهمها:
طريق السلام يؤدي الى دولة مستقلة
إن موت عملية السلام الحالية لا يعني بأن لا أفق لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المزمن بالطرق السلمية، وإن خيار الحرب أصبح الخيار الوحيد لحله من الآن ولسنوات طويلة قادمة. فالجميع سار على درب السلام لحل خلافه مع الطرف الآخر بالطرق السلمية لإعتبارات دولية وإقليمية. ونتيجة إدراك جميع أطراف الصراع بان تجربة الحرب لم ولا تحقق أهدافهم. صحيح أنهم كانوا متشككين في إمكانية تحقيق خطوات جدية نحو أهدافهم عبر المفاوضات، لكنهم الآن وبعد تحقيق ما تحقق من إتفاقات ومن علاقات أصبحوا أسرى لهذه العملية ومتورطين في تفاصيلها، وبعضهم إنتقل للتعاطي معها كاستراتيجية. وإذا كانت القيادة الإسرائيلية، لاعتبارات عملية متنوعة داخلية وخارجية، ليست بحاجة لشن حروب كبيرة لتنفيذ توجهاتها، فالواضح أن موازين القوى العسكرية العربية الإسرائيلية، ومواقف القوى الدولية لا تشجع النظام الرسمي العربي على العودة إلى خيار الحرب لحل الخلاف مع إسرائيل، ولفرض حلولهم التي تعيد لهم حقوقهم الوطنية والقومية المغتصبة. وإذا كان لا زال هناك من يفكر من العرب والاسرائيليون بالحرب، لتحسين مواقفه وتعديل ميزان القوى، فأظنهم يدركون بأن النتيجة الوحيدة لاية حرب جديدة هي العودة للمفاوضات على ذات القواعد والأسس تقريبا التي ساروا عليها منذ عام 1991 وحتى لآن. والتطورات الدولية ومصالح القوى الكبرى التي ألزمت العرب والإسرائيليين بالذهاب إلى مدريد، وفرضت عليهم السير في دروب التفاوض لحل خلافاتهم كبديل عن طريق الحروب والقتال ما زالت قائمة حتى لو قل إهتمام الإدارة الأمريكية والعالم بصنع السلام في المنطقة. ولا يستطيع المشككون في خيار الدولة المستقلة الإدعاء بأن تجدد عملية السلام الحالية بصيغة وأخرى، أو ميلاد عملية سلمية جديدة تقفل الأبواب أمام إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة. لكن بالإمكان الجزم بأنها لم ولن تتضمن ما يمكن أن يكون له صلة ما بفكرة الدولة العلمانية الموحدة، أو الدولة ثنائية القومية. فكلا الفكرتين مرفوضتين بالمطلق من أحد طرفي الصراع والطرف الثاني لم يعد يفكر فيهما.
الإتفاقات تفتح الأبواب على الدولة المستقلة
رغم تخاذل الادارة الامريكية في الدفاع عن الإتفاقات التي رعتها، إلا أنه لا يجوز، ومن الخطأ، إعتبار نتياهو مطلق الحرية في التصرف. ويجب التمييز بين رغباته الذاتية ورغبات أركان حكومته وبين إمكانية تنفيذها. فالتعمق في دراسة أسس عملية السلام والاتفاقات التي انبثقت عنها يبين بأنها ذات أبعاد دولية، ولها قيمتها ووزنها في حسابات الربح والخسارة عند جميع الاطراف المتورطة في النزاع. ولا مصلحة لاي طرف الإقدام من جانب واحد على الغائها. فرغم كل التطورات السلبية التي طرات على حالة عملية السلام وتلك التي قد تقع على صعيد العلاقات الفلسطينية الاسلرائيلية، فبعض الأفكار التي يفكر بها اليميين الاسرائيلي إنتهى وبعضها شبه مستحيل اعادة الحياة فيه. وإذا كان إستمرار الليكود في السلطة يعطل امكانية تطوير وتوسيع الاتفاقات الموجودة، ويعرقل مواصلة التقدم على طريق الدولة الفلسطينية، فذلك لا يعني بانه قادر على نسف الحقائق الفلسطينية الملموسة التي خلقت على أرض الضفة والقطاع منذ مؤتمر مدريد وحتى الآن، وإلغاء كل النتائج العملية للاتفاقات التي وقعتها اسرائيل. وتوقف المفاوضات على كل مساراتها وانتهاء عملية السلام الجارية لا يقود بالضرورة الى انتهاء العمل بالاتفاقات التي تم توقيعها بين الأردن وإسرائيل وبين منظمة التحرير وإسرائيل. فهذ الاتفاقات بنت لذاتها مرتكزات قوية على الأرض وأصبحت جزء من العلاقات الدولية والاقليمية. وتجربة صمود إتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عشرين عاما نموذجا لذلك، ولمصير أية اتفاقات عربية إسرائيلية في ظل موازين القوى السائدة، حتى لو توترت العلاقات العربية الاسرائيلية توترا شديدا.
وإذا كان بإمكان نتنياهو وقف عملية السلام عند حدودها الحالية دون أن يدفع ثمن ذلك، فلا يمكنه القيام بخطوات من نوع إعادة الوضع الى ما كان عليه قبل بدء عملية السلام، واحتلال قطاع غزة من جديد مثلا، وتنفيذ عملية ترانسفير للفلسطينيين، أو ضم الضفة الغربية وغزة لإسرائيل، أو إعلان من جانب واحد إلحاقهما بالأردن. ولا تستطيع حكومة الليكود تحمل المسئولية أمام شعبها وشعوب الدول المجاورة لها وأمام العالم عن النتائج والآثار المدمرة التي تحملها أية محاولات من جانبها فرض الخيارات المرفوضة من الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية والاسلامية. ومن البداهة القول بأنه إذا كان من المشكوك فيه أن تفتح عملية السلام الجارية والاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية على دولة فلسطينية مستقلة، فالمؤكد انها تقفل النوافذ والابواب على الدولة الديمقراطية أو ثنائية القومية. ويعرف قادة حزب الليكود والمفكرون الإسرائيليون في قرارة أنفسهم بأن منح الفلسطينيين حكما ذاتيا محدودا أو واسعا لا ينهي الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي وإنما يبقى ناره متأججة تحت الرماد. فالحكم الذاتي كحل نهائي للقضية الفلسطينية رفضته القيادة الفلسطينية، ورفضه الشعب الفلسطيني أيام مباحثات كامب ديفيد وخلال الانتفاضة، ولا زال مرفوضاً حتى الآن. وأعتقد بانه سيبقى مرفوضا في المستقبل، لأنه يبقى على الاحتلال بصيغة أو أخرى، والشعب الفلسطيني لا يجد فيه الحرية والاستقلال، والتي من أجلها تحمّل صنوف الألم والعذاب وقدم تضحيات جسيمة.
وإذا كانت خيارات الضم والالحاق، الترانسفير، الخيار العربي، الحكم الذاتي الموسع، وبقاء الوضع الحالي ـ بعضها مرفوض من قبل التكتل اليميني الحاكم، وبعضها الآخر ترفضه المعارضة الاسرائيلية ويرفضه الفلسطينيون، فلا يبقى أمام الحكومة الاسرائيلية إلا أن تختار أحد أمرين أحلاهما مر في نظر كثير من الإسرائيليين: الأول التفاعل ايجابا مع الرغبات الدولية ومع التطلعات الفلسطينية وتسهيل قيام دولة مستقلة غير معادية لاسرائيل، والثاني تجميـد الأوضـاع تحت سقف الحـكم الذاتي بصيغتـه القـائمـة الآن أو المحسنـة قليلاً، وتعطيل كل إمكانية تحويل “دويلة الحكم الذاتي” القائمة إلى دولة مستقلة. واعتماد هذا الخيار ممكن إسرائيليا، لكنه مرفوض فلسطينيا وعربيا ودوليا. وثمنه سيكون باهظاً على إسرائيل اولا وعلى الفلسطينيين وكل شعوب المنطقة ثانيا. فسيقتل عملية السلام في منتصف الطريق وسيؤجج الصراع بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. وستمتد نيرانـه بالتدريج إلى كل الدول والشعـوب المحيطـة بفـلسطيـن حتى لو كان بينها وبين إسرائيل معاهدات أو إتفاقات سلام. وسيعيد الأوضاع الى أسوء مما كانت عليه قبل انطلاق عملية السلام، وستكون العداوة أكبر والحقد والكراهية أعمق. وسيؤدي إلى إضعاف مميت للاتجاهات الواقعية عند الطرفين وفي المنطقة ككل. ويقوي الارهاب والتطرف والتعصب، بكل أشكاله الديني والقومي والوطني، ويساعده في السيطرة على أوضاع المنطقة وتولي دفة قيادتها لسنوات طويلة، وزجها في صراعات دموية، طائفية، ودينية، وعرقية، يصعب التكهن بنتائجها منذ الآن. واختيار القيادة الإسرائيلية لهذا الخيار ورفضها الخيار الآخر يعني السباحة والتجديف عكس تيار الوفاق الدولي، الدافع بقوة باتجاه حل النزاعات ذات الأبعاد الدولية. ويتعاكس مع رغبات قوى سياسية واجتماعية وازنة في المجتمع الاسرائيلي تمثل نصف الاسرائيليين تقريبا.
الخيارات الاخرى غير واقعية ومرفوضة
اذا كانت موازين القوى، وحالة عملية السلام، وسياسة فرض الامر الواقع التي ينتهجها اليمين الاسرائيلي وبخاصة التوسع في الاستيطان، دفعت بالعديد من البحاثة والمفكرين الفلسطينيين والعرب والاسرائيلين إعتبار فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة مستحيلة التحقيق في المدى المنظور، ولا تمثل حلا جذريا وعمليا للصراع الفلسطيني الاسرائيلي، فليس كل ما يلمع في الذهن من أفكار يمكن أن ينتج ذهبا، ويصنع حلولا عملية على الارض. والدعوة الآن الى “دولة ثنائية القومية” على كل أرض فلسطين التاريخية، أو “دولة ديمقراطية علمانية موحدة” يتعايش فيها العرب واليهود دون إضطهاد أو تمييز عرقي أو ديني..الخ تندرج في هذا الاطار، والتفكير بهما درب من تشغيل الفكر في قضايا نظرية مجردة غير قابلة للتطبيق. ولا أتجنى على أحد إذا قلت بأن هذه الافكار وهمية وغير واقعية. والفلسطينيون أقلعوا عن التفكير بها وعن طرحها عندما تخلوا عن مواقفهم المثالية المتطرفة وعندما طرحوا للعالم عام 1974 برنامجهم المرحلي لحل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. وإذا كانت موازين القوى القوى المحلية والإقليمية والدولية حاسمة في فرز الحلول وتقرير طبيعتها، وتواريخ وأشكال تبدلها وتغيّرها ـ كما حصل مثلا في إنشطار ألمانيا وإعادة توحدها ـ فموازين القائمة بين العرب واسرائيل والمرئية لسنوات طويلة تؤكد استحالة فرض هذه الافكارعلى الاسرائيليين حتى لو آمن بها كل الفلسطينيين والعرب. فاذا كان خيار الدولة الفلسطينية المستقلة على أرض الضفة وقطاع غزة مرفوض من قبل اليمين الاسرائيلي فخيار الدولة الديمقراطية الموحدة، أو ثنائية القومية، مرفوضة أكثر وبصورة أعنف من قبل اليسار واليمين الإسرائيلي على حد سواء. وأظن أنه أسهل على المواطن اليهودي الاسرائيلي، يساري أو يميني، ألف مرة استمرار الصراع العربي الاسرائيلي، أو القبول بقيام دول فلسطينية مستقلة بجانب دولة إسرائيل، من قبول أفكار تقوده حتما الى التخلي عن الهوية اليهودية لدولة اسرائيل أو تحويلها الى دولة عربية يهودية.
وفكرة الدولة الديمقراطية الموحدة أو ثنائية القومية يمكنها أن تتحول الى أفكار عملية فقط في حال تخلي أغلبية كبيرة يهودية عن الدولة اليهودية. ووقوع مثل هذا التحول غير مرئي الآن ولا في المستقبل المنظور. وكل الدلائل الموضوعية تشير الى أن المجتمع الإسرائيلي يسير في إتجاه معاكس تماما، أي يميل نحو مزيد من التطرف القومي والتعصب الديني. صحيح أن المفكرين الإسرائيليين سوف يواجهون بعد عشرين سنة مشكلة وجود أكثر من 8 مليون على أرض فلسطين التاريخية، منهم 2 مليون يعيشون في اسرائيل ويحملون الجنسية الاسرائيلية، إلا أن نمو التيار القومي المتعصب يدفع بأغلبية المجتمع الاسرائيلي الى عدم رؤية هذه التطورات وعدم التفكير في حلها الان. وعندما تحين لحظة مواجهة هذه الحقيقة من الصعب التكهن بتوجهات إسرائيل والحركة الصهيونية العالمية. والمقدمات التي نعيشها ترجح الميل نحو البحث عن حلول أخرى غير تغيير هوية الدولة اليهودية. واعتقد بأنه إذا فرضت الأقدار يوما ما على يهود إسرائيل العيش في دولة ديمقراطية نصفها أو أغلبيتها عرب، فأظنهم سيفضلون العيش في ظل نظام ديمقراطي أمريكي أو أوروبي. وفي كل الأحوال تبقى الدولة الفلسطينية المستقلة على أرض الضفة والقطاع ممرا إجباريا للسلام وللدولة الديمقراطية الموحدة على أرض فلسطين التاريخية ولأي صيغ أخرى من التعايش المشترك في ظل نظام سياسي موحد، أو نظامين متداخلين وتجاورين ومنفصلين في آن واحد. فالوصول لمثل هذه الحلول المثالية يتطلب وقوع تحول جذري نوعي في الفكر السياسي الإسرائيلي وفي بنية المجتمع الاسرائيلي، باتجاه تخلي أغلبية اليهود الإسرائيليين عن صهيونيتهم، وعن الأفكار العنصرية التي ترعرعت عشرات السنين في أذهانهم. وتخلصهم من عقدة الخوف من العرب الراغبين في “إبادتهم”، التي زرعت في أذهانهم وتثقفوا بها طيلة حياتهم في إسرائيل. ويتطلب بالمقابل إشباع جوع الفلسطينيين وعطشهم للدولة المستقلة، وإستكمال بلورة وتوحيد هويتهم ومجتمعهم وكيانهم السياسي في إطارها، والتخلص من رواسب تمزيق وطنهم وتبديد هويتهم لسنوات طويلة. وأيضا التخلص من عقدة الخوف من اليهود والحقد على إسرائيل التي تسببت في نكبتهم وفي المآسي التي حلت بهم منذ قيامها وحتى الآن.
ورغم الملاحظات الكثيرة التي يمكن تسجيلها على هذه الأفكار، يبقى إشغال الذهن فيها مفيد لجهة تنوير وتثقيف الاجيال من الفلسطينيين والاسرائيليين بحلول مثالية. ولا بئس من الاستمرار في طرحها في سياق سرد وتعداد أنواع الحلول لقضايا الصراع بين الشعوب، شريطة عدم التشويش على فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعلى جهود مواقف القوى الاقليمية والدولية المؤيدة لها، وعدم التأثير على الفعل الفلسطيني في الاتجاهات الواقعية ممكنة التحقيق وبخاصة فكرة الدولة المستقلة.
مقومات وأسس الدولة المستقلة متوفرة
بصرف النظر عن مواقف اليمين الإسرائيلي التي ما زالت تعتبر الضفة الغربية “أرض الميعاد التي وهبها الرب لبني إسرائيل”، فعملية السلام التي انطلقت من مدريد وما إنبثق عنها من إتفاقات ومن خطوات عملية ملموسة على الأرض أنهى هذه المقولة التي بنت عليها الحركة الصهيونية إستراتيجيتها على مدى قرن من الزمن. حيث أقرت الحكومة الإسرائيلية بوجود كيان خاص على ذات الأرض، للشعب الذي أعتبره البعض يوما ما شعبا زائدا في المنطقة. وسلمت بسيادته الكاملة على أجزاء منها، وبسيادة ناقصة على أجزاء أخرى. وإذا كان عدد من زعماء العالم قد إحتفلوا يوم 13/9/93 في حديقة البيت الأبيض بالنجاح الذي حققته الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط، فألد أعداء الشعب الفلسطيني وأعداء الدولة الفلسطينية المستقلة لا يستطيعون إنكار بأنه كان أيضا احتفال بميلاد الكيان الفلسطيني. وجديد الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية كان الإعلان عن “قيام سلطة فلسطينية إنتقالية” على جزء من الأرض الفلسطينية، وتعهد القوة العظمى “الولايات المتحدة” الراعية للإتفاقات والمهيمنة على السياسة الدولية، ومعها أربعون دولة تمثل القارات الخمس، بدعم هذا الكيان ومساعدته ماديا ومعنويا. أما ما عداه فكان تكرار لأمور قديمة، وتثبيت لقضايا موجودة عملياً منذ سنين طويلة. فالإعتراف الفلسطيني بدولة إسرائيل لم يضف إلى الوقائع الموجودة على أرض الشرق الأوسط شيئاً جديداً. وبعد الشروع في تنفيذ اتفاق اوسلو أصبح الكيان الفلسطيني حقيقة مادية، من حقائق الجغرافيا السياسية الشرق أوسطية، قائمة على جزء من الأرض الفلسطينية، لا يمكن لأحد إنكار وجودها. فعلى أرض الضفة والقطاع والقدس يعيش الآن ما لا يقل عن ثلاثة ملايين من الفلسطينيين معظمهم يخضعون للسيادة الفلسطينية. والفلسطينيون داخل الوطن وخارجه يزيدون الآن على ثمانية ملايين إنسان، كلهم موحد حول هدف الدولة المستقلة، ولهم الآن كيانهم الخاص بهم على “28%” من أرضهم. وكيانهم له “برلمان” وله “وزارة” وجهاز إداري قوامه أكثر من 100 ألف موظف ثلثهم قوة أمنية مسلحة، شرطة وجيش ومخابرات. ناهيك عن إمتلاك الشعب والكيان للقضايا الرمزية الأساسية، علم، ونشيد، وجواز سفر، وإذاعة وتلفزيون.
وإذا كان من الضروري تعريف هذا الكيان وتسميته بإسمه الحقيقي، فهو الآن حكم ذاتي في صيغة “دويلة فلسطينية” على جزء بسيط من الأرض الفلسطينية. وهذا “الكيان حديث التكوين” ناقص السيادة، ومحدود الصلاحيات. لكنه يملك مقومات الحياة وقابل للنمو والتطور بسرعة، خاصة إذا أجاد الفلسطينيون إستغلال المواقف الدولية المؤيدة لحقهم في الحرية والإستقلال، وأحسنوا استخدام إمكاناتهم وشبكة علاقاتهم الدولية في بناء ما هو بأيديهم الآن. وسرعة نمو الكيان الفلسطيني وثبات تطوره وتحوله إلى دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة، رهن الى حد كبير بالدور الذاتي الفلسطيني وبدعم العرب والعالم له. وأظن أن نعت الكيان الفلسطيني الآن بابشع النعوت والصفات من نوع، دويلة مسخ، دويلة هزيلة ناقصة السيادة، أو تابعة سياسياً واقتصادياً وأمنياً لإسرائيل..الخ لا يلغي حقيقة وجوده ككيان منفصل سياسيا وجغرافيا وسكانيا عن إسرائيل، وعن الدول الأخرى المجاورة له والمحيطة به. ولا يقلل من قدرته على التطور لاحقا الى دولة مستقلة طال الزمن أو قصر، خاصة وأن مطلب الدولة المستقلة كان ولا يزال هدفا لكل الشعب الفلسطيني. وما وقع من اتفاقات بين إسرائيل ومنظمة التحرير لم يلغ هذا الخيار، ولم يقفل الطريق أمامه. وهناك ما يقارب ثمانين دولة تعترف بدولة فلسطين التي أعلنتها م ت ف عام 1988، الأم الشرعية للدويلة الناشئة. وباستعراض سريع لقائمة دول العالم وتاريخ نشوءها وتطورها، نجد أن العديد ممن كان مستعمراً في النصف الأول من هذا القرن، ومن ضمنها معظم الدول العربية، قد مر في مرحلة الحكم الذاتي قبل الوصول إلى الاستقلال الكامل. ونجد أيضاً عدداً آخر تنطبق عليه الآن بصيغة أو أخرى بعض هذه النعوت أو كلها التي يطلقها البعض على “الدويلة الفلسطينية”، علماً بأنها دول معترف باستقلالها وبسيادتها وممثلة في الجمعية العامة للامم المتحدة
لا شك في أن المقومات الأساسية لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على الأرض الفلسطينية متوفرة وموجودة منذ زمن طويل، وزادت بتسارع كبير بعد الانسحاب الإسرائيلي من المدن الفلسطينية وبعد انتخابات المجلس التشريعي. وسوف تزيد في المستقبل أكثر فأكثر وبخاصة بعد تنفيذ المرحلة الثانية من إتفاق إعادة الإنتشار، “إذا نفذ”. فالإنسحاب من 9 ـ10% من مساحة الضفة الغربية، كما تعرض الحكومة الاسرائيلية على الفلسطينيين، تعني أن يصبح 93 % من المواطنيين الفلسطينيين في الضفة والقطاع تحت السيادة الفلسطينية. أما إعادة الإنتشار من13,5% من مساحة الضفة الغربية، كما إقترحت الادارة الامريكية، فيعني رفع نسبة منهم تحت السيادة الفلسطينية الى 94,5% من إجمال السكان. ويفترض أن لا يكون هناك خلاف فلسطيني على أن تحرير هذه النسبة من السكان والارض يزيد من الوقائع والحقائق التي تؤدي الى دولة مستقلة. وبغض النظر عن الخيار النهائي الذي سترسو عليها مواقف القيادة الإسرائيلية من مسألة تنفيذ إعادة الإنتشار ومساحات الإنسحاب، فالثابت أن الاستمرار في التفاوض، وفي تنفيذ الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين، ولو بالتقسيط وعلى دفعات متأخرة، ونجاح السلطة الوطنية في النهوض بمهـامها، وتقدم المفاوضات على المحاور العربية الأخرى كلها عوامل تساعد على إبعاد خيار تجميد الأوضاع تحت سقف الحكم الذاتي، وتقرب الفكر الاسرائيلي من التعاطي مع خيار الدولة المستقلة. واستمرار تمسك الفلسطينيين بهدف الدولة المستقلة وتركيز طاقاتهم باتجاهها، وتطوير ما تراكم بأيديهم، وصب إمكاناتهم في بناءه خير لهم ألف مرة من بعثرة جهودهم وهدر وقتهم بالركض خلف أفكار أقرب الى سراب. واذا كان تطور الكيان الفلسطيني الموجود على أجزاء من أرض الضفة والقطاع يحتاج الى وقت قد يكون طويلا، فالوصول الى الدولة الديمقراطية أو الدولة ثنائية القومية يحتاج لوقت أطول بكثير، ودونهما صراع إسرائيلي داخلي شرس ومعارك طاحنة مع العرب والفلسطينيين.
وبصرف النظر عن كل الملاحظات التي يمكن تسجيلها حول شعار الدولة الديمقراطية وثنائية القومية، يبقى صحيح ومفيد إستمرار “عرب اسرائيل” رفعه لمعالجة أوضاعهم في اسرائيل، وتنظيم علاقاتهم بالقوى السياسية الاسرائيلية، وإنتزاع ما يمكن إنتزاعه من حقوقهم. لكن فوائده تتبخر وتكون عكسية اذا شمل كل الفلسطينيين المقيمين على كل أرض فلسطين التاريخية.
الوصول الى الدولة قدره المرور في مخاض مؤلم وعسير
من البداهة القول ان بقايا الفكر الصهيوني اليميني العنصري الاستعماري التوسعي، يحاول جاهدا تأخير حركة التاريخ وإعادة عقارب ساعة الزمن إلى الوراء. واستمرار هذا الفكر مؤثر في المجتمع الإسرائيلي، ويسيطر على القرار السياسي الرسمي، سيجعل طريق التعايش والسلام بين الشعبين طويل ومعقد ومؤلم. فهذا التفكير الاستعماري العنصري هو المسئول تاريخياً عن نشوء جبال من الحقد والكراهية بين الشعبين، وهو الذي دفع الإسرائيليين الى رفض قرار التقسيم عام 1947، وحقن الشعوب العربية بالعداء لإسرائيل. وفجر أربع حروب كبيرة بين العرب وإسرائيل 56، 67، 73، 82. وأخر الإعتراف الإسرائيلي بوجود شعب إسمه الشعب الفلسطيني قرابة خمسين عاماً، وأخر الاعتراف بوجود م ت ف كممثل شرعي لهذا الشعب قرابة ربع قرن. وأوصل الشعب الفلسطيني إلى الانتفاضة الشاملة. وهو ذاته الذي يحرك الآن قوى الائتلاف الحكومي باتجاه تسريع الإستيطان وتوسيعه وقتل عملية السلام. ويبعث النشوة الآن في نفوس بعض القادة الإسرائيليين كلما نجحوا في طعن الكرامة الوطنية الفلسطينية. واستمرار هذا الفكر موجه للقرار السياسي الاسرائيلي سيجعل طريق تطور “الكيان” إلى دولة مستقلة طريقا دمويا، خاصة إذا استمر حزب الليكود على مواقفه وأعادته الانتخابات الإسرائيلية القادمة إلى الحكم من جديد. فنتنياهو وأركان حكومته ما زالون يؤكدون مواقفهم المعروفة “لا لدولة فلسطينية مستقلة”، ولا يقدمون بديلا مقبولا للشعب الفلسطيني يقنعهم بالتخلي عن هدف الدولة. ولن يسلموا بسهولة باعلان السلطة الفلسطينية العام القادم تحويل “دويلة الحكم الذاتي” الى دولة مستقلة. فم يعتبرونها مصيرية لهم، ومسألة حياة أو موت لدولة إسرائيل .
أعتقد بأن تشجيع المواطن والمفكر وصانع القرار في إسرائيل، على تقبل فكرة التعايش في دولتين متجاورتين مهمة فلسطينية وعربية ودولية من الدرجة الأولى. فلا يمكن لأي حكومة إسرائيلية الأخذ بخيار الدولة الفلسطينية كحل نهائي للصراع، إلا إذا توفرت أغلبية شعبية (51%) إسرائيلية تؤيد مثل هذا الخيار. وإذا كانت إستطلاعات الرأي العام تشير الى زيادة نسبة المؤيدين لقيام الدولة الفلسطينية وللسلام مع العرب، فطمأنه المواطن الإسرائيلي على أمنه ومستقبله من قبل الفلسطينيين والعرب والعالم وازالة مخاوفه يقوي تيار السلام في إسرائيل، ويضعف مواقف القوى الإسرائيلية المتطرفة والمعارضة لقيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي الفلسطينية التي أحتلت عام 1967. وبالمقابل فإن رفض القيادة الإسرائيلية اتخاذ خطوات عملية وجدية تؤدي مستقبلاً إلى دولة فلسطينية مستقلة، يقود الى توليد شعور بالإحباط واليأس عن الفلسطينيين من عملية السلام. والواضح أن تبديد هذا الخوف وذاك القلق الفلسطيني الإسرائيلي المتبادل يتطلب عملا مضنيا، ويتطلب بذل جهود كبيرة من قبل قوى السلام من الطرفين. كما يتطلب خطوات عملية أمنية وسياسية واقتصادية وإعلامية شجاعة من قيادات الطرفين العربي والإسرائيلي. فلغة السلام تختلف عن لغة الحرب، والعلاقات الثنائية الأمنية والاقتصادية في حالة الحرب تختلف عنها في حالة البحث عن السلام.
وإذا كانت مصلحة إسرائيل ومستقبل السلام والتعايش بين الشعبين تفرض على قوى السلام الإسرائيلية السرعة في تجاوز هذه المرحلة الانتقالية من حياتها، ومن علاقاتها مع العرب والفلسطينيين، فالمصالح الوطنية والقومية الفلسطينية والعربية تتقاطع مع هذا الهدف. وأعتقد أن الدخول في البحث عن صفقة تاريخية عربية ـ إسرائيلية تنفذ على مراحل متفق عليها هو أقصر الطرق الموصلة إلى السلام الحقيقي وأقلها ألماً وعذاباً للطرفين. وقاعدة الانطلاق نحو هذه الصفقة يمكن أن تكون هكذا: تعيد إسرائيل للعرب كامل أرضهم التي احتلت عام 1967 وحقوقهم بما في ذلك حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم في إطار دولة مستقلة، مقابل أن يضمن العرب جميعاً حق إسرائيل في الوجود، وأن يضمنوا أمنها، ويطبعوا العلاقات معها. وأعتقد بان شعار الدولة الديمقراطية على ارض فلسطين التاريخية يقوي التطرف والمتطرفين.
في الجولة الأولى من مفاوضات واشنطن التي عقدت يوم 10/12/1991 رفض روبنشتاين رئيس الوفد الإسرائيلي التفاوض مع وفد فلسطيني مستقل، وأصر بناء على تعليمات مشددة من رئيس حكومته “شامير”، على صيغة الوفد الفلسطيني أردني مشترك. وبرر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق “شامير موقفه وقال “الموافقة على الوفد المستقل تعني اليوم غرفة وغدا مدينة وبعدها دولة مستقلة”. واليوم، وبعد مرور قرابة سبع سنوات على انعقاد مؤتمر مدريد “30/10/1991″ واعتكاف شامير عن العمل السياسي، أعتقد بان حركة التاريخ تؤكد بان نبوئته ستتحقق. وبديهي القول بأنه سيمضي وقت طويل قبل قبول الشارع الإسرائيلي بقيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، وقبل قبول الشارع العربي تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وستدفع شعوب المنطقة ثمن هذا التأخير. فطريق الدولة الفلسطينية ليست سالكة وليست مفروشة بالورود، وميلادها سيمر في مخاض دموي مؤلم وعسير جدا، خاصة بعد أن أصبحت المستوطنات تغطي مساحات واسعة من أراضي الضفة والقطاع، وغيرت معالم مدينة القدس، وزاد عدد المستوطنيين في الضفة الغربية، بدون القدس، عن 130 ألف مستوطن.