في الذكرى الخمسين للنكبة

بقلم ممدوح نوفل في 25/05/1998

مسيرات في ذكرى النكبة سيف الدين الحاج أمين +
منذ مطلع القرن تلاقت تطلعات الحركة الصهيونية في اقامة دولة يهودية في فلسطين، مع مصالح الدول الاوروبية في استعمار المنطقة العربية واستغلال ثرواتها. وجاء وعد وزير خارجية بريطاني “بلفور” لليهود في 2/تشرين ثاني/ 1917 باقامة وطني قومي لهم في فلسطين، ليجسد هذا التقاطع في المصالح، وليكرس تجاهل الطرفين لمصالح شعوب المنطقة وبخاصة مصالح الشعب الفلسطيني وحقوقه في العيش بأمان في ارضه.
وانتهاء الحرب العالمية الثانية كانت الحركة الصهيونية العالمية قد استكملت عام 1947- 1948 بتواطىء مع سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين، كل التحضيرات الضرورية لانجاز مشروعها التاريخي في إقامه دولة يهودية على أرض فلسطين. ونجحت على مدى عقدين من الزمن “الثلاثينات والاربعينات” بتواطىء مع سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين، في نقل مئات ألوف المهاجرين اليهود الاوروبيين الى فلسطين، وفي توفير كميات كبيرة من الاسلحة المتنوعة لهم. وكان شعارها انقاذ اليهود من مذابح النازيين الاوروبيين، وأسست منهم ومن يهود فلسطين جيشا قويا مسلحا باسلحة حديثة. في تلك الفترة، وجدت الحركة الصهيونية فرصتها الذهبية لانطلاق قواتها: جيش الوكالة اليهودية” قوات الهجنا”، وقوات شتيرن ومنظمة الارغون، لشن هجمات وحشية ضد الفلسطينيين وأرضهم. وكأن الفلسطينيين هم الذين ارتكبوا المجازر بحق اليهود وأوقدوا لهم المحارق.
ومنذ العقد الثاني من هذا القرن تصدى الفلسطينيون لمطامع الحركة الصهيونية، وقاوموا وعد “بلفور”، وقاموا بعدة ثورات وانتفاضات واضرابات شعبية ومسلحة لمنع تنفيذه، بدأت في عام 1919 وتواصلت بصورة متقطعة حتى عام 1948. وعلى امتداد عقدي الثلاثينات والاربعينات بلور المجتمع الفلسطيني حركته السياسية، وخاضت القوى الوطنية الفلسطينية نضالا سياسيا وعنيفا ضد التوجهات البريطانية والصهيونية الاستعمارية. وتصدى بمختلف الوسائل لقوافل المهاجرين اليهود بعدما اصبحوا يشكلون خطرا على ارضهم وعلى أمنهم. وخاضت الحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف اتجاهاتها الفكرية والسياسية صراعا غير متكافئ باتجاهين: الاول مع القوات البريطانية المنتدبة من عصبة الامم المتحدة لادارة شؤون فلسطين وشؤون جميع المقيمين على ارضها، وتعاملوا معها باعتبارها قوات استعمارية متواطئة ومنحازة لجانب المشروع الصهيوني. والثاني ضد “العصابات” المسلحة للحركة الصهيونية التي لم تكن تخفي نواياها في الاستيلاء على الارض الفلسطينية وطرد سكانها الاصليين، وكانت تعمل جاهدة على التسلح وتشكيل جيش يهودي قوي معتدي قادرعلى حماية التجمعات اليهودية في فلسطين، وتنفيذ مخططات الصهيونية العالمية.
وبعد سلسلة معارك واشتباكات مسلحة واسعة وعنيفة بين الفلسطينيين واليهود، دامت شهور طويلة، أصدر مجلس الامن الدولي في تشرين ثاني 1947 قراره رقم 181 الذي دعى الى تقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية. في حينه أيدت الولايات المتحدة الامريكية وروسيا والدول الاوروبية مشروع تقسيم فلسطين. ومارست الادارة الامريكية ضغوطاً شديدة على وفود الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة للحصول على ثلثي الأصوات من أجل اصدار شهادة الميلاد للدولة الجديدة، ولإقرار قرار التقسيم. وجاء قرار التقسيم في حينه ليرسّم وجود الكيان اليهودي على ارض فلسطين، وليكون بمثابة اشارة لبدء قوات “الهجناة” وشتيرين والارغون في شن هجمات قوية وحشية على القرى العربية لارغام سكانها على الهرب من بيوتهم وهجرة وطنهم، وللانطلاق لاستكمال سيطرتها على المناطق التي أعطاها لها قرار التقسيم وتوسيعها بأكبر قدر مستطاع من الارض. وتحولت الهجمات في كثير من الاحيان الى مذابح قامت بها قوات الارجون بقيادة مناحم بيغن، وارتكبت مجازر بشعة بحق العديد من القرى العربية وسكانها المدنيين الفلسطينيين. وحرصت السلطات البريطانية في تلك الفترة على عدم التدخل لوقف تلك المذابح، وسهلت بصيغة وأخرى وقوع بعضها.(1)
اما اعتراف الامم المتحدة وبخاصة الدول الكبرى “امريكا، روسيا، بريطانيا، فرنسا” السريع بدولة اسرائيل، فقد جاء، في حينه، ليكرس وجود الدولة اليهودية الناشئة كحقيقة من حقائق منطقة الشرق الأوسط على حساب أرض فلسطين ومصير شعبها وتطلعاته نحو الاستقلال والتحرر من الاستعمار البريطاني، وعلى حساب المصالح الاستراتيجية للشعوب العربية الاخرى. لاحقا طلب الرئيس الامريكي “ترومان” من بريطانيا، دولة الانتداب، بالانسحاب من فلسطين قبل 15 ايار 1948. ولم تعارض بريطانيا هذا الطلب بالرغم من الاوضاع المضطربة فيها. واعلنت في 8/كانون اول/1947 قرارها بانهاء الانتداب، وحددت يوم 15 أيار موعدا لسحب قواتها من فلسطين قبل تنفيذ قرار التقسيم. وكان من ضمن اهدافها تمكين اسرائيل من الاستيلاء على أراض اضافية خارج الحدود التي رسمها القرار. في حينه طالبت الدول العربية الحكومة البريطانية “دولة الانتداب” بعدم سحب قواتها من فلسطين قبل قيام سلطة شرعية تضمن سلامة السكان العرب الا انها رفضت الطلب العربي، ولم تنفع كل الاتصالات العربية مع الحكومة البريطانية لثنيها عن موقفها، وأصرت على الانسحاب. وسحبت قواتها في الموعد الذي حددته لنفسها ليلة 14ـ 15/ايار 1947، وفسحت في المجال للحركة الصهيونية لاستكمال مشروعها، وهيأت الظروف لقواتها لارتكاب مزيد من المجازر وعمليات التهجير المنظمة ضد الفلسطينيين. ونسيت القيادة البريطانية كل اعمال العنف التي قامت المجموعات الصهيونية المسلحة ضد القوات البريطانية، وضمنها قيام منظمة “اتسل” بقيادة مناحم بيغن بنسف فندق الملك داود قي القدس، المقر الرئيسي للادارة البريطانية المدنية في فلسطين. وقتله في تلك العملية 91 موظفا وزائرا من المدنيين الابرياء بينهم 28 بريطاني و41 عربي و17 يهودي.
في السنوات الاخيرة من الاربعينات، لم يكن أمام شعب فلسطين وقيادة حركته الوطنية من خيار سوى رفض الاقرار بالأمر الواقع السياسي والميداني الذي صنعته الصهيونية العالمية والاستعمار الغربي فوق ارضهم، ورفض القبول بنتائجة المأساوية “الكارثة”. ولم يكن بأمكان القيادة الوطنية الفلسطينية ممثلة “بالهيئة العربية العليا” بزعامة الحاج أمين الحسيني، والشعب الفلسطيني المطرود من أرضه ومن تبقى عليها، الاعتراف بقرار تقسيم ارض فلسطين بين العرب واليهود. فمعظم الأرض كانت لهم (90%ـ95%) وكانت تحت سيطرتهم. وكانو هم الاكثرية واليهود أقلية. اما الخيار الآخر، أي الاعتراف بذلك القرار والتسليم بالأمر الواقع، فكان يعني في تلك الفترة تسليمهم بإغتصاب أرضهم وتاريخهم وبيوتهم وممتلكاتهم التي ورثوها عن الآباء والأجداد. وكان يعني الرضى بالعيش الذليل في المنافي، أوتحت إستبداد الحكم العسكري الاسرائيلي في إسرائيل. في حينه تفرد “الحزب الشيوعي” من بين اطراف الحركة الوطنية بالدعوة للقبول بقرار التقسيم، وحذر من تآمر الدول الكبرى الداعمة لمطامع الصهيونية التوسعية التي تطال كل الارض الفلسطينية. الا ان دعوة الحزب الشيوعي لم تجد آذان فلسطينية او عربية صاغية. في حينه آزرت شعوب الدول العربية وحكوماتها مواقف القيادة الفلسطينية الرسمية ومواقف الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني، وساندت موقفهم السياسي، وبرزت ظاهرة المتطوعين العرب للدفاع عن فلسطين والاماكن المقدسة فيها، لكن جامعة الدول العربية رفضت تشكيل جيش الجهاد المقدس، وقررت حشد جيوش الدول العربية على حدود فلسطين. (2)
*وامام تصاعد هجمات القوات المسلحة للحركة الصهيونية، وارتفاع صرخات الفلسطينيين بطلب النجدة، وتحت ضغط الزعمات الوطنية الفلسطينية ومبادراتها العملية للدفاع عن شعبها وارضها، وافقت جامعة العربية بعد صراع قاسي ومرير على تشكيل جيش الجهاد المقدس، بقياد عبدالقادر الحسيني، من المجاهدين وكان تشكيله اقرب الى المليشيا الشعبية منه الى الجيش النظامي. واقام الحسيني مقر قيادته العامة في بيرزيت. وظهرت فعاليات هذا الجيش فالدفاع عن منطقتي القدس بقيادة عبد القادر الحسيني ومنطقة يافا بقيادة حسن سلامة. لاحقا اتخذت الجامعة قرارا “اكتوبر 1947″ بتشكيل جيشا آخر من المتطوعين قوامه اربعة آلاف محارب أكثريتهم من الفلسطينيين ومن ابناء الدول العربية المجاورة لفلسطين، سمي لاحقا “بجيش الانقاذ”. واسندت مهمة قيادته للمناضل فوزي القاوقجي الذي تمتع بسمعة طيبة خلال ثورة عام 1936. وبعد الاعلان عن قيام دولة اسرائيل قررت الجامعة العربية في “1/12/1948″ تشكيل حكومة عموم فلسطين برئاسة الحاج امين الحسيني مفتي الديار الاسلامية. وفي أواخر كانون الثاني دخل الاراضي الفلسطينية اقسام من قوات جيش الانقاذ من الجبهتين السورية واللبنانية. ووصلت بعض مجموعاتها مشارف طبريا وبسان وحيفا وصفد. وتم التعامل مع فصائل الجهاد المقدس باعتبارها جزء من جيش الانقاذ. ولاحقا اتخذت الدول العربية قرارا بدخول قواتها النظامية الاراضي الفلسطينية لمساعدة سكانها الفلسطينيين وحمايتهم وضمان مصالهم وحقوقهم. في حينه وصلت القوات العراقية الى عدد من المدن والبلدات الفلسطينية القريبة من الساحل وضمنها بلدتي قلقيلية التي تبعد عن مياه البحر14 كلم فقط. ورابطت غربها ومعها المقاومون من ابناء البلدة القرى المجاورة، في مناطق قريبة من قرى كوفيش ومسكة والطيرة وجلجولية والنبي يامين وبيار عدس ومضارب عرب ابوكشك وسواها من القرى والكثبان والتلال الواقعة غربها والمشرفة على البحر باتجاه يافا وتل أبيب. ووصلت القوات المصرية الى قرية الفالوجة الواقعة بين غزة والخليل، والى المجدل الواقعة على طريق غزة ـ يافا. ووصلت القوات الاردنية مدينة القدس ومدينتي اللد والرملة، واحتلت الحي اليهودي في القدس، ومستوطنة كفار عتصيون الواقعة على طريق القدس ـ الخليل. اما القوات السورية فقد تأخرت في عبور الاراضي الفلسطينية، وبعد عبورها توقفت عند خط سمخ طبريا، ولم تستطع تجاوز التحصينات الصهيونية. ومع دخول الجيوش العربية ارض فلسطين تراجع دور الحركة الوطنية الفلسطينية لصالح الدور القومي.
اثر تصاعد النزاع المسلح بين جيوش الدول العربية واسرائيل اتخذت الامم المتحدة عدة قرارات بوقف اطلاق النار، وتنفيذ قرار التقسيم. الا ان اسرائيل لم تلتزم بتلك القرارات وواصلت هجماتها على القرى العربية. وبعد معارك عنيفة الحقت التشكيلات العسكرية الاسرائيلية هزائم مؤلمة، على كل الجبهات، بجيش الانقاذ وجيش الجهاد المقدس، وبالجيوش العربية التي هبت لنجدة الفلسطينيين “ولانقاذ فلسطين”. وفي تلك المعارك استشهد آلاف الفلسطينيين على مختلف جبهات القتال وكان من ضمنهم عدد من القادة البارزين امثال عبدالقادر الحسيني قائد جيش الجهاد المقدس وحسن سلامة آخرون. واستولت القوات الاسرائيلية على مزيد من الاراضي وكان من ضمنها اقسام واسعة من اراضي بلدتي قلقيلية وبخاصة الاراضي القريبة من كفار سابا ورعنانا ورمات غان وتل أبيب، وعجزت الجيوش العربية عن وقف المجازر ضد الفلسطينيين، مما دفع بالكثير من أبناء المدن والقرى للهرب الى الدول العربية المجاورة لفلسطين على أمل العودة بعد فترة وجيزة الى بيوتهم واراضيهم.
في حينه كان لتلك الهزيمة المرة نتائجها وآثارها المدمرة على الوضع في المنطقة وبخاصة على الفلسطينيين. فقد أحيت الحلم الصهيوني باقامة دولة يهودية وحولته الى حقيقة عملية على ارض فلسطين. وجعلت من اسرائيل دولة ذات قوة عسكرية لايستهان بها. ومزقت ارض فلسطين. وشردت شعبها، وشتته في شتى انحاء المعمورة. وانهت عمليا وجود قيادة وطنية مستقلة للشعب الفلسطينين ونقلت مسالة البت بالمصير الفلسطيني للدول العربية ولجامعة الدول العربية. وأراحتها من كابوس وجود أكثرية عربية في فلسطين. فاستقبلت الاردن وسوريا ولبنان ومصر مئآت ألوف اللاجئين الفلسطينيين الذين اضطروا لمغادرة بيوتهم، وهم يحملون ما خف حمله وغلى وزنه. ووصل بعضهم الى العراق والى دول اوروبا وامريكا. وتحول ما تبقى من الارض الفلسطينية بيد الجيوش العربية “الضفة الغربية وقطاع غزة” الى تجمع كبير للاجئين. اما بلدتي قلقيلية التي ولدت فيها في شهر آب 1944 وتلقيت تعليمي الابتدائي والثانوي فيها، ولم يكن عدد سكانها يزيد على سبعة آلاف نسمة، فقد كان نصيبها من اللاجئين ما يعادل نصف سكانها او أكثر. بعضهم استقر فيها وما زال فيها حتى الآن، والبعض الآخر رحل عنها بسبب قلة موارد الرزق شحة موارد المياه فيها في تلك الفترة. فأهل البلدة كانوا يعتمدون بالاساس على ما كانوا يجنوه من زراعة الارض ومن تربية المواشي ومن التجارة مع يافا واللد والرملة، لكن الهزيمة افقدتها كل هذه الموارد، وأصبحت حالة اهلها اقرب الى حالة اللاجئين . فقرار التقسيم والتوسع الاسرائيلي اللاحق في منطقة المثلث، جرداها اجزاء واسعة 80% من اراضيها الصالحة للزراعة. وكانت ضمن القرى والبلدات التي كانت تطمح اسرائيل في ضمها لها، الا أن صمود المدافعين عنها، وعلاقة بعض وجهائها ببعض الزعامات العربية والبريطانية حالت دون ذلك. وفي تلك الفترة تساوى أهل البلدة واللاجئون اليها في حالة الفقر الشديدة، ولم يتساووا في نوعية وكميات المياه. فأهل البلدة الاصلين كانت لديهم مياه شرب نقية اما اللاجئون فقد اضطروا الى شرب مياه الآبار التي كانت مخصصة للمواشي. ومنذ ذلك التاريخ ولسنوات طويلة لاحقة ظل اللاجئون عاتبون على اهل البلدة بسبب هذه المسألة. وظهر جوع حقيقي في بيوتها. ولولا كميات التمر الكبيرة التي قدمتها الحكومة العراقية لهلك قسم من السكان بسبب الجوع. حقا لقد انقذ التمر فقراء البلدة من موت محتم، وأتاح لصغارها فرصا للعمل فقد اشتغل اولاد البلدة في جمع بزور”عجم” التمر وبييعها للافران، التي صارت تشتغل على البزور بدلا من الحطب. وكنت واحدا من اطفالها الذين باعو “قفة” التمر بقرش واحد فقط، وممن جمعوا الحطب وجذور الخضروات الجافة لطبخ على نيرانها. ومن كانوا يجمعون الحشائش والاعشاب البرية الخضراء لاطعام الارانب التي كثرت تربيتها في البيوت. وفي حينه اشتغل معظم رجال البلدة في التسلل لداخل “اسرائيل” لنهب كل ما كانت تطاله ايديهم من داخل المستعمرات ومن ثمار بياراتهم التي حرموا من وصولها. وكثيرون منهم قتلوا خلال تسللهم من اجل شوال برتقال او ليمون حامض. ولا حقا بعد تشكيل الامم المتحدة وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين تمت مراعاة الحالة البائسة لاهل البلدة، وصرفت لهم بطاقات اغاثة ومساعدات تموينية ثابتة، لكنها كانت تختلف عن بطاقات اللاجئين الاصليين لجهة كميات التموين المصروفة، فحصة المواطن من اهل البلدة كانت تساوي نصف حصة اللاجئ الاصيل. وحصلت عائلتي على بطاقة تموين “كرت لاجئيين” اسوة بالسكان الآخرين يحمل رقم ؟؟؟؟؟؟. ومثلت تلك المساعدات الدولية المورد الرئيسي لرزق الناس وتموينهم. ولم يكن امام اهل البلدة سوى استصلاح ما تبقى لهم الارض. فقلعوا الصخور وردوا ارضها بالتراب وزرعوا ما كسبوا من مساحات. وحفروا الآبار الارتوازية بطرق بدائية. وشكلوا ما يشبه الجمعيات التعاونية الزراعية الصغيرة، وباعوا حلي النساء واشتروا مضخات والانابيب لري البساتين والبيارات الجديدة. ولم يتركوا بابا للرزق الا وطرقوه. فسافر شبابها للعمل في دول الخليج ودخولها بطرق غير شرعية، وتضامنوا مع بعضهم في المسكن وتوفير العمل.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ لاحقا في الاول من كانون ثاني 1965 اعلنت حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” عن نفسها حركة فلسطينية مستقلة تعتمد الكفاح المسلح كاسلوب وحيد لتحرير فلسطين. واتخذت موقفا سلبيا من م ت ف ومن الصيغة التي تم تشكيلها فيها. واعتبرتها اداة بيد الانظمة العربية. وسارعت في بدء ممارستها الكفاح المسلح. ونفذت اولى عملياتها العسكرية في منطقة الاغوار الاردنية الشمالية في 1/1/1965. وكان للاعلان عن تشكيل منظمة التحرير دور في اندفاع عدد من قادتها ومنه ياسرعرفات الى حرق مرحلة الاعداد العسكري التي حددتها لنفسها. اما حركة القوميين العرب التي انتميت عام 1962 لصفوفها فقد آثرت التريث، وتعاملت ايجابا مع قرار تشكيل منظمة التحرير. وبدأت بفتح قنوات اتصال مع اللواء وجيه المدني عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة مسؤول الشؤون العسكرية. وعلى امتداد عامي 1965و 1966 نجحت حركة فتح في استقطاب اعداد من الشباب الفلسطيني في كل اماكن التجمعات الفلسطينية وبخاصة في الضفة الغربية وقطاع غزة. ونفذ فدائيوها عددا من العمليات العسكرية الناجحة ضد المنشئات الاقتصادية الاسرائيلية. وفي تموز 1966 شنت الطائرات الاسرائيلية هجوما مركزا ضد مواقع العمل السورية لتحويل نهر الاردن واستغلاله عربيا. وفي 13 تشرين ثاني 1966 قامت بشن هجوم بري واسع على قرية السموع. وهي قرية صغيرة من قرى قضاء الخليل في الضفة الغربية. وانزلت بسكانها ومعظمهم من اللاجئين خسائر جسيمة في الارواح والممتلكات. واعلنت اسرائيل انها قامت بتلك الغارة ردا على اعمال “تخريبية” فلسطينية نفذت من الاراضي السورية. في تلك اهتزت صورة القيادة العربية الموحدة التي شكلتها القمة العربية، وتسائل الشارع الفلسطيني والعربي وبعض الزعماء العرب عن جدوى وجودها وعن دوافع لتشكيلها.
في حينه عزز النشاط العسكري موقع حركة فتح في صفوف المواطنيين الفلسطينيين، وشاع اسمها كتنظيم للفدائيين. ورفعت حركة فتح شعار الكفاح المسلح طريقا وحيدا لتحرير فلسطين. وقالت “من فوهة البنادق تنبع السياسة”. ودعت الشعب الفلسطيني في بياناتها الاولى للانخراط في الكفاح المسلح والالتحاق بصفوفها ودعم هذا الشكل النضالي، باعتباره البديل للنضال السياسي الذي جرب ولم ينفع. كما دعت الاحزاب والحركات السياسية الفلسطينية لانتهاج ذات الطريق، ورفعت شعار “وحدة البنادق على ارض المعركة”. في حينه تعرض هذا التنظيم الجديد للملاحقة من قبل النظامين المصري والاردني، باعتباره يسعى لتوريط العرب في حرب مبكرة مع اسرائيل. وتم التعامل مع ياسرعرفات باعتباره عنصرا مطلوب اعتقاله. واصدر ضابط مخابرات منطقة الخليل ” شوكت محمود ” مذكرة بتاريخ 25/1/ 1965 موجهة الى قائد مقاطعة الخليل وضابط شرطة المدينة تطالبهما باعتقاله(8)، صنفت تحت بند مكتوم وعاجل، وحملت رقم 1/25/183نصت على: ارجو القاء القبض على المدعو ياسرعرفات وسوقه الينا مخفورا للعمل على ارساله لعطوفة مدير المخابرات العامة حسب طلبه.. اوصافه، العمر ما بين 40ـ 45 سنه، الطول 160سم، قمحي اللون، الشعر أصلع قليلا..
اما النظام السوري فقد تعامل مع حركة فتح بشكل ايجابي، وسهل لافرادها الاقامة بصورة غير رسمية في دمشق، والانطلاق من الاراضي السورية للقيام بعمليات عسكرية ضد اسرائيل. وكانت الحكومة الجزائرية قد سبقت السوريين في تقديم التسهيلات لفتح. وانشأت لها المكاتب، وكان خليل الوزير “ابوجهاد” اول من تولى ادارة مهام المكتب، وفتحت لها المعسكرات على أرضها لتدريب اعضائها على حرب العصابات وعلى استخدام الاسلحة والمتفجرات. وقدمت لها مساعدات مادية ومعنوية، كان من ضمنها اقامة علاقة عملية مع الصين الشعبية، وترأس ابو جهاد اول وفد فتحاوي للصين، وكان ابوعمارعضوا في الوفد(9). وخلال ذات الفترة شهدت التجمعات الفلسطينية في خارج وداخل الاراضي الفلسطينية، وبخاصة في قطاع غزة حركة سياسة نشطة، وظهر في الساحة وبخاصة في القطاع العديد من الحركات والتنظيمات الصغيرة تبنت الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية طويلة الامد.
في تلك الفترة، واستجابة لمواقف عبد الناصر رفضت قيادة حركة القوميين العرب بزعامة جورج حبش، توجهات حركة فتح السياسية والعسكرية، ورفضت ممارساتها العملية وبخاصة شروعها في تنفيذ عمليات عسكرية. واتهمتها بانها تسعى لتوريط مصرعبد الناصر في حرب غير مدروسة وغير معد لها بصورة جيدة. واستجابة لمواقف عبد الناصر رفعت قيادة الحركة في تلك الفترة شعار الكفاح المسلح على ان يكون “فوق الصفر ودون التوريط”. والشعار كان يعني في التطبيق العملي: التحضير للعمل العسكري وعدم الشروع في تنفيذ عمليات قتالية حتى لا يتم توريط مصر في حرب مبكرة مع اسرائيل، وغير مخطط لها جيدا. وواصلت العمل في اعداد كوادرها عسكريا. وتعاونت مع تنظيم ابطال العودة الذي اسسه الجنرال وجيه المدني تنفيذا لقرار المجلس الوطني، والحقت كوادرها العسكرية به. وشكلت لهم اطارا تنظيميا خاصا بهم داخل تنظيم ابطال العودة اطلقت عليه “اسم شباب الثأر”. وراح هذا التنظيم يقوم ببعض الاعمال العسكرية التحضيرية، من نوع اقامة المعسكرات السرية في الاردن للتدريب. وتخصيص مدربين لتدريب الاعضاء في البيوت. واستطلاع المواقع العسكرية، والمنشئات الاقتصادية الاسرائيلية الاستراتيجية. وكانت تلك المعلومات تصب في قنوات الاستخبارات المصرية وتوظف في خدمتها. واستشهد في احدى العمليات التي نفذها شباب الثأر في الجليل الاعلى عام 1964 كل من رفيق عساف من كفر لاقف احدى القرى المجاورة لمدينة قلقيلية، و؟؟؟؟؟اسم الشهيد شقيق بو ماهر اليماني عضو قيادة حركة القوميين العرب في تلك الفترة وعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لاحقا.
ولكن كتم الاسرار لايعفي الذهن من التفكير بالامر المكتوم ، بل يبقيه حيا وحاضرا في كل لحظة، فاخفاء الامور عن الناس،، يستنفر الحواس كلها ويحصر التفكير في المخفي ولاشيء سواه، خاصة اذا كانت الامور المخفية كبيرة والمخفي عنهم مقربين وأعزاء. هكذا حصل معي قبل ربع قرن من الزمن عندما أخفيت عن والدي ووالدتي انتظامي في صفوف تنظيم حركة القوميين العرب، التي من رحمها ولدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد هزيمة عام 67، وعنها انشقت الجبهة الديمقراطية في 22 شباط 1969. وقبل هذا الربع قرن عشت في صراع مع نفسي سبب لي صداع وشرود ذهني لم يزل الا بعد أن صارحت والدي بالموضوع. هذه هي الطبيعة البشرية كما أعتقد، وعلى الاقل، هذا ما فعله بي من جديد اخفاء قرار الانسحاب من مغدوشة عن الرفاق. كابوس تلبسني أينما توجهت وكيفما تحركت. طاردني في كل لحظة، في السيارة، في غرفة العمليات، في الصعود الى مغدوشة وفي النزول منها. في اللقاءات الوطنية، وفي الاجتماعات الحزبية الداخلية. كنت أحاول الهرب منه لكنه كان يطاردني ويجرني في كل لحظة الى أسئلة حول قضايا كثيرة قديمة وحديثة. وكان يعرض أمام عيني مشاهد عديدة لي وللرفاق في قيادة الجبهة الديمقراطية وللشهداء والجرحى في معركة مغدوشة وسواها من المعارك القديمة وتلك التي كانت جارية على أشدها في محيط البرج وشاتيلا والرشيدية. شاهدت نفسي أثناء الغارات الجوية الاسرائيلية على مواقعنا في الاردن. وشاهدت رفاقي القدامى وهم يستشهدون في الاغوار وفي أحراش جرش والجولان وجنوب لبنان وكأنهم في لحظة استشهادهم وأحياها الآن، رغم انها كانت قبل عشرين عام .

في حينه كنت أحد أعضاء الحركة الذين أبدوا رغبتهم في الانتقال من العمل الحزبي السياسي للعمل العسكري(9). ولعل بؤس حالة اللاجئين الذين التجأوا الى بلدتي قليقيلية، واحاديث الاهل عن أراضي العائلة التي احتلها اليهود، والواقعة امام النظر وعلى بعد مئات الامتار من البلدة، واعتقال والدي مرات متكررة، وحالة البؤس والشقاء التي عاشها اهل بلدتنا بعدما فقدوا 90% من اراضيهم، والاعتداءات المتواصلة التي تعرضت لها البلدة خلال طفولتي 1944-1956، وبخاصة هجومها على مقر قيادة المنطقة ومخفر الشرطة في المدينة، وقتل اعداد من شبابها وتدمير آبار المياه فيها كانت كلها الدافع الخفي لتلك الرغبة وذاك الاختيار الشخصي. وكان سروري كبيرا عندما أبلغت بموافقة قيادة التنظيم على نقلي من الجناح السياسي الى الجناح العسكري للحركة، وترشيحي لدورة عسكرية “وحدات فدائيين” في مصر في معسكر انشاص. وحزنت كثيرا عدما منعتني المخابرات الاردنية من مغادرة الاردن لسبيين أولهما شبهات حول انتمائي لتنظيم محظور”حركة القوميين العرب” والثاني دخولي السجن لفترة قصيرة عام 1963 بسبب المشاركة في تحضير وقيادة المظاهرات التي اندلعت في تلك الفترة في بلدتي وفي معظم أنحاء المدن الاردنية الاخرى، وبخاصة مدن الضفة الغربية، تأييدا لمشروع الوحدة الثلاثية “مصر سوريا العراق” التي لم ترى النور. وخلال فترة زمنية قصيرة تمكنت بمساعد أعضاء في القيادة المحلية من تنظيم خلية عسكرية سرية في منطقة قلقيلية. كان عددها 12 عنصرا معظمهم من كبار السن وممن اشتهروا في بلدتنا نتيجة ادوارهم في المعارك التي خاضها اهل البلدة عام 1947- 1948 مع جيش الانقاذ ومع القوات العراقية التي كانت ترابط محيط البلدة، ضد قوات الهجناه وشتيرن والارغون، وأهمها: معركة الطيرة، معركة بيار عدس، معركة قلمانيا،معركة كفار سابا، معركة رامات هاكوفيش، معركة بيارة الداعور. واظن ان حديث والدي واصحابة عن فترة النضال في الاربعينات ضد اليهود والانجليز، وعن المناضلين الذين برزوا وعن الشهداء من ابناء البلدة ومن الجيش العراقي الذين سقطوا ألهب حماسي في تلك الفترة للعمل العسكري، وساعدني على تحقيق هذا النجاح السريع في تشكيل خلية عسكرية قوية وذات خبرة. اما تعليق بعض كبار السن من امثال والدي على عملنا الحزبي السياسي فقد زادني تصميما على السير في درب العمل العسكري، وكرس قناعتي به كوسيلة للتحرير. فقد كان لكلماتهم لي ولاعضاء التنظيم “الحركة” بعد كل اجتماع حزبي نعقده في بيتنا فعلها في نفسي وفي حركتي اللاحقة، “فلسطين راحت بالسلاح واليهود دفعوا الدم ثمن دولتهم، وفلسطين لا تعود بالعمل السياسي”. فلسطين لن تعود الا بالسلاح وبالدم”. وكم كانت فرحتي وسعادتي كبيرة عندما أبلغت أول مرة بان القيادة العليا لشباب الثأر سترسل لاعضاء الخلية اسلحة تكفي لتسليح الجميع. وفعلا في صيف 1966 وصل السلاح، ووزع على أعضاء الخلية وكان من نوع رشاش “كارلو بورسعيد” المنقول عن رشاش كارلو غوستاف. واقمنا معسكرا للتدريب في احراش وادي قانا بالقرب من قرية كفر لاقف، المقام في منطقتها الان شبكة من المستوطنان الاسرائيلية تعرف باسم خط شمرون، ومن ضمنها مستوطنة “القنا” و”اريئيل” “وعمنويل” و”الفي منشه”. حيث بينت الفحوص الجيلوجية ان نبع وادي وادي قانا الذي كنا نذهب الية في رحلات مدرسية ونحن صغار ولاحقا للتدريب العسكري، ليس الا “تنفيسة” ضغط اكبر حوض ماء في باطن الضفة الغربية، المعروف الآن عند الجيلوجيين وخبراء الماء “بالحوض الغربي”. ومن ذلك التاريخ بدات رحلتي مع العمل العسكري الفلسطيني. ومعها بدات مرحلة جديدة تماما من حياتي اخترتها بمحض ارادتي. واخترت لنفسي اسما حركيا “ممدوح” .
وفي فترة عامين 1966ـ 1967 نفذت خليتنا الكثيرالمهمات الاستخبارية العامة وكان من ضمنها التعرف على تضاريس جغرافيا الضفة الغربية، وان يتم التركيز في البداية على تضاريس ريف قلقيلية والمناطق الريفية الواقعة بين نابلس وقلقيلية. وبالفعل فقد قامت بعدة رحلات اسكشافية على الارجل كلفت بقيادة احدها، وتسببت في متاعب كثيرة للمجموعة بسبب ادعائي بالعرفة الكاملة بالارض وبالطريق. وكانت قرية كفر لاقف نقطة التجمع والانطلاق في كل الرحلات. وكنا ننهي رحلاتنا في مدينة قلقيلية ونتناول وجبة طعام ساخنة، وكنا نحرص على تمويه عملنا بالظهور وكأننا في رحلة كشفية مدرسية جماعية. وكلفت خليتنا ايضا بجمع معلومات تفصيلية عن الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلدة وعن القوى السياسية المتواجدة فيها. وتم التركيز من قبل القيادة على جمع المعلومات الدقيقة والتفصيلية عن تنظيم حركة فتح السري، ومراقبة نشاطات افرادها ضد اسرئيل، وعن تحركاتهم في البلدة وقراها المحيطة. وكان من ضمنها تقارير تفصيلية حول تحركات “وليد العقاب” ابن البلدة والذي عرف لاحقا كعضو في اللجنة المركزية لحركة فتح وباسم “ابوعلي اياد”. حيث كان قد ترك شغله كمدرّس في العربية السعودية وعاد حديثا للبلدة. ونشط في تشكيل خلايا مسلحة تابعة لحركة فتح في بلدتنا وفي القرى المجاورة لها. ونفذت خليتنا ايضا القليل من مهمات الاستطلاع ضد المنشأءات العسكرية والاقتصادية الاسرائيلية، وكان من ضمنها خطوط المواصلات الرئيسية القريبة من بلدتي والجسور الاساسية المقامة عليها، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية في منطقة رأس العين التي تغذي مدينة تل ابيب ومحيطها بالكهرباء، وكنت انا غير الخبير بالارض وغير الملم جيدا بالعلوم العسكرية، أحدد لهم الاهداف بناء على ما كان يرد من القيادة. وكنا نرسل نتائج الاستطلاع في تقارير خطية لقيادة الجناح العسكري في حركة القوميين العرب المقيمة في دمشق. لاحقا عرفت بأن كل المعلومات وتقارير الاستطلاع التي كان ترسل من خلايا العمل العسكري التابعة لحركة القوميين العرب كانت ترسل تباعا للاستخبارات المصرية، بحكم علاقة قيادة الحركة مع نظام جمال عبد الناصر. وفي حينه ارسلت خليتنا الكثير من التقارير التفصيلية والدقيقة حول هذه المواضيع. كنت اكتبها في مسجد قبة الصخرة، حيث كان يتعذر علي كتابتها في المدرسة التي اشتغل فيها او في البيت حيث كنت اعيش مع زميلين آخرين في نفس الغرفة.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
جرائم النازية أسست “للنكبة” والحرب الباردة عمقت مآسيها
1) الحرب الباردة عمقت نكبة الفلسطينيين وجلبت كوارث للعرب
في 15 أيار تحل الذكرى الخمسين “لنكبة” الشعب الفلسطيني، وهزيمة حركته الوطنية ومعها الجيوش العربية التي زحفت عام 1948 لانقاذه من المجازر وتحرير ارضه من الصهاينة. وهي ذاتها ذكرى الانتصار التاريخي للحركة الصهيونية ونجاحها في اقامة دولة يهودية في قلب المنطقة العربية. وهذه الذكرى محطة ملائمة للفلسطينيين ولجميع القوى المهتمة بقضايا الحرب والسلام في الشرق الاوسط لمراجعة مواقفها ابان مرحلة الحرب الباردة وتصفية حساباتها القديمة فكريا على الاقل، وإجراء البحوث اللازمة حول دور تلك الحرب في خلق ما اصطلح على تسميته بالقضية الفلسطينية، وفي تأجيج الصراع العربي الاسرائيلي. فهي تساعد العرب على فهم جوانب اساسية من هزيمتهم التاريخية وتساعد الفلسطينيين على فهم عوامل رئيسية تسببت في نكبتهم وفي زيادة مآسيها. واظنها ضرورية لا غنى عنها لاستشفاف آفاق المستقبل ولتحديد خياراتهم واشتقاق طرق ووسائل النضال التي يمكنهم اعتمادها لتحقيق اهدافهم. وضرورية ايضا للوصول الى اجابات علمية صحيحة على عديد من الاسئلة التاريخية التي بقيت دون اجابات شافية منها: هل كان العرب والاسرائيلييون بحاجة ل 45 من الصراع حتى يقتنعوا بضرورة البحث عن حلول لصراعاتهم بالطرق السلمية ؟ وهل كانت القيادة الاسرائيلية بحاجة لكل هذا الزمن حتى تقتنع بأن حل القضية الفلسطينية يجب ان يتم مع أصحابها ؟ وهل كان الطرفان بحاجة لانتظار انهيار سور برلين وزوال أحد القوتين الأعظم حتى يعترفوا بالحقائق التي اعترفوا بها ؟ وهل كان بإمكانهم في بعض مراحل الصراع الطويل الافلات من تأثيرات الحرب الباردة والوصول إلى اتفاقات ما مشابهة أقل أو أكثر مما توصلوا له حتى الآن ؟
إذا كانت الاجابة السريعة على كل هذه الاسئلة ليست سهلة والمختصر منها غير شافي فالمؤكد أن الحرب الباردة لعبت دوراً حاسماً في تقرير مسار أوضاع المنطقة على مدى ما يزيد عن أربعين عاماً. وبانتهائها نضجت الاوضاع الدولية باتجاه ايجاد حلول للعديد من النزاعات الاقليمية وفقا لرؤية الطرف المنتصر، ونضجها ساهم بدورة في إنضاج الأوضاع العربية والاسرائيلية. ودفعت رياح الوفاق الدولي التي هبت على المنطقة مطلع التسعينات بقيادة القطب الاوحد، “الولايات المتحدة الامريكية”، اطراف الصراع لتغيير مواقفهم القديمة تجاه بعضهم البعض، وأجبرتهم على احداث تغيير جوهري في اهدافهم وفي اساليب نضالهم التي اتبعوها على مدى عقود وارغمنهم خفض سقف مواقفهم، واعتماد المفاوضات وسيلة رئيسية ووحيدة لتحقيق اهدافهم الاساسية. والزمتهم بالمشاركة في عملية السلام التي انطلقت من مدريد في 30/10/1991، ولاحقا تمنكوا من التوصل الى الاتفاقات الاولية التي توصلوا لها. صحيح ان تعب اطراف النزاع وبخاصة الفلسطينيون والاسرائيليون من القتال كان له دوره في اعتمادهم مؤخرا الوسائل السلمية لحل نزاعاتهم المزمنة، الا ان تعبهم من الحروب لم يكن وحدة كافيا لدفعهم نحو الجلوس وجها لوجة خلف طاولات المفاوضات. فالارهاق والتعب من الحروب لم يظهر على الطرفين بشكل مفاجىء بعد حرب خليج وبالتحديد في اكتوبر عام1991، بل سبق ذلك التاريخ بسنوات عديدة. وتحميل الحرب الباردة المسؤولية الرئيسية عن عدم جلوس اطراف الصراع في المنطقة خلف طاولات المفاوضات قبل مؤتمر مدريد ليس فية تجني على احد، فكل المبادرات الدولية السابقة الكثيرة والمتنوعة ـ أمم متحدة، أمريكية، سوفياتية، أوروبية، عدم انحيازـ التي سبقت مبادرة بوش ـ بيكر عام 1991 فشلت لانها طرحت في سياق صراع العملاقين حول مناطق النفوذ في العالم. واذا كانت الاتفاقات التي توصلت لها الاطراف تمت بمفاوضات مباشرة بينهم فكلها جاءت متوافقة والوجهة الدولية السائدة ومع استراتيجية الولايات المتحدة الامريكية وبدفع منها. ولعل رصد ابرز المبادرات الامريكية على مدى اربع عقود بشأن حل ازمة المنطقة وربطها بردود السوفيت عليها، يساعد في تلمس الآثار المباشرة للحرب الباردة بين المعسكرين في تأجيج الصراع في المنطقة وتوسيع نطاق أزماتها، وتفجير الحروب بين دولها، وتعميق العداوة بين شعوبها. ويساهم في تفهم الظروف القاسية التي أحاطت بنضال شعب فلسطين من اجل العودة واقامة الدولة المستقلة وبالعرب من اجل تحرير اراضيهم: