النكبة

بقلم ممدوح نوفل في 25/05/1998

بعد خمسين عاما من قيام دولة اسرائيل اعترف المؤرخون الاسرائيليون “الجدد” بان الدولة العبرية لم تقم على “ارض بلا شعب لشعب بلا ارض”، بل قامت على حساب وجود ومصير شعب فلسطين. واعترفوا بان كفاح الحركة الصهيونية العالمية من اجل انقاذ يهود اوروبا من مذابح النازيين، و”حرب الاستقلال” التي خاضتها، كانت حربا شرسة مدمرة ضد مجتمع آخر متكامل. ارتكبت خلالها مجازر متنوعة بشعة، قتل فيها الوف المدنيين الابرياء من الفلسطينيين، ودمرت مئات القرى والبلدات الفلسطينية، وتم اقتلاع وتهجير وتشريد و”نكبة” شعب آخر وتبديد هويته الوطنية. وكأن الفلسطينيين هم الذين ارتكبوا المجازر بحق اليهود في اوروبا وساقوهم الى معسكرات الاعتقال الجماعي وأوقدوا لهم المحارق.
والواضح ان رواية مآسي “النكبة” وتأثيرها على حياة الفلسطينيين جماعات وأفراد ليس بالامر الهين، ولعل تحديد نقطة البداية وتاريخها هو الاصعب. فهل بدات “نكبة” الفلسطينيين في 15 أيار 1948 حين استكملت الحركة الصهيونية العالمية خطواتها العملية الضرورية ونجحت في تحويل حلمها التاريخي الى حقيقة سياسية، واعلنت عن قيام اسرائيل كدولة يهودية في “أرض الميعاد التي وهبها الرب لبني اسرائل” ؟ أم انها بدأت بالوعد الذي قطعه وزير الخارجية البريطانية “بيلفور” في 2 تشرين الثاني 1917 لللورد روتشيلد باقامة دولة يهودية على أرض فلسطين ؟ أم في 29 تشرين الثاني 1947 عندما أقرت الجمعية العامة للامم المتحدة باغلبية ثلثي الاصوات تقسيم فلسطين الى دولتين يهودية وعربية ؟ ام بفقان مزيد من الارض والهجرة الواسعة التي حصلت نتيجة الهزيمة المرة التي لحقت عام 1948 بالحركة الوطنية الفلسطينية ومعها الجيوش العربية التي زحفت عام 1948 لنجدة الفلسطينيين ولانقاذهم من المجازر وتحرير أرضهم من الصهاينة.
ربما ليس مهما الآن بعد خمسين عام ترجيح تاريخ محدد او حادث او قرار على سواه للبدء في تأريخ “نكبة” الفلسطينيين، الا ان الاحداث الرهيبة التي تعرضوا لها في الفترة الواقعة ما بين تشرين 1947 وايار 1948 كانت حاسمة في تحديد مستقبلهم وتقرير مصير ارضهم وهويتهم وتوجهاتهم. حيث أدت الى بدء مرحلة مؤلمة وقاتمة من تاريخهم، وقادت بتواطئ من سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين الى تدمير مجتمعهم واقتلاعهم من ارضهم ومدنهم وقراهم، وتسليمها لمجتمع جديد من المستوطنيين المهاجرين اليهود. تم استحضارهم على مدى ثلاث عقود من الزمن “العشرينات والثلاثينات والاربعينات” من مجتمعات وثقافات ولغات وعادات مختلفة ووطنتهم في فلسطين.
واذا كانت الاحداث السياسية والعسكرية الكبرى التي وقعت بين خريف 1947 وصيف 1948 حاسمة في خلق وتشكل ما اصطلح على تسميته بالمسألة الفلسطينية وبقضية الصراع العربي الصهيوني، وكانت مصيرية في تحديد نمط حياة ومستقبل الفلسطينيين وكل اوضاع الشرق الاوسط على مدى نصف قرن من الزمن، فمن الطبيعي ان يكون الخيال الفردي والجماعي الفلسطيني قد أسهم في نسجها وتضخيمها، خاصة اذا كان الراوي من مواليد عام 1943، وابن بلدة تبعد عن مياه البحر الابيض المتوسط 14 كلم وترتفع 60 ـ70 متر عن سطحه فقط. شاءت “الاقدار” لها ان “تنتكب” في تلك الفترة، وان تدفع ثمن الهزيمة وثمن الاتفاقات التي انبثقت عنها. وكان نصيبها من ظلم العالم، ممثلا بهيئة الامم المتحدة، للفلسطينيين مدمرا، ومن القهر والهزيمة التي الحقتها قوات الحركة الصهيونية الصهيونية بالجيوش العربية مأساويا. فقرار التقسيم عام 1947، والتوسع الاسرائيلي اللاحق في منطقة المثلث عام 1948، واتفاقات رودس عام 1949 جردت بلدتي “قلقيلية” أكثر من 90% من مساحة أراضيها السهلية مصدر رزقها الرئيسي ولم تحتل. وتحولت الى محطة اساسية لاستقبال اللاجئين من ابناء كفرسابا، عرب ابو كشك، مسكة، بيارعدس، الشيخ مونس، الطيرة. وبقيت حتى عام 1967، بلدة حدودية ضمن المناطق العربية التي سميت لاحقا بالضفة الغربية للاردن. فصلها عن اسرائيل خط سكة الحديد الواصل بين تركيا وسوريا وفلسطين ومصر، الذي كان يمر وسط بساتينها وبمحاذاة بيوتها السكنية. واصبحت اراضيها الواقعة غرب السكة والمتداخلة مع اراضي كفار سابا وجلجولية وراس العين والطيرة ورعنانا ورمات غان، محتلة وصارت جزء من أرض دولة اسرائيل.
واعترف بان ذاكرتي لا تستطيع اليوم وبعد مرور خمسين عاما على “النكبة” الفصل بين ذكرياتي الشخصية والذاكرة الجماعية لاهل البلدة. ففي ذاكرتي يتداخل ما هو شخصي مع ذكريات الاهل والاقارب والجيران والاصقاء ورفاق مدرستي الابتدائية عن المآسي والكوارث التي لحقت بالبلدة، وعن الحنين الجماعي لبياراتها وسهولها، والمعارك الدفاعية المتنوعة التي خاضها أهل بلدتي وابناء القرى المجاورة لها، في مواجهة هجمات التشكيلات العسكرية اليهودية واهمها معارك : الطيرة، بيارعدس، قلمانيا، كفار سابا، رامات هاكوفيش، وعين ورد، وفلامية، ومعارك البيارات وبخاصة بيارة الداعور. وكيف صمدوا في اطار الجهاد المقدس والفتوة والنجادة وجيش الانقاذ مع القوات العراقية التي كانت ترابط في محيطها، مثلهم مثل العديد من ابناء قرى وبلدات المواجهة. وكيف شرع شباب البلدة في الانتظام في اطار الحرس الوطني بعد تكريس الحدود مع اسرائيل وبدأوا تنظيم الحراسات الليلة والنهارية في محيطها. واذا كان آلاف الرجال والنساء والاطفال الفلسطينيين استشهدوا في تلك الفترة على مختلف جبهات القتال دفاعا عن ارضهم وممتلكاتهم ومدنهم وقراهم، وكان ضمنهم عدد من القادة البارزين امثال عبدالقادر الحسيني وحسن سلامة وآخرون من قادة جيش الجهاد المقدس، فنصيب بلدتي من الشهداء كان كبيرا .
وتختزن ذاكرتي عن تلك الفترة، عجز الجيوش العربية عن وقف المجازر ضد الفلسطينين، وكيف فشلت في حماية المدن والقرى والبلدات المجاورة والقريبة من بلدتنا. مما دفع بمعظم اطفالها وشيوخها ونسائها الى الهرب نحوها وهم يحملون ما خف حمله وغلى وزنه، على أمل العودة بعد فترة وجيزة الى بيوتهم واراضيهم. واتذكر الان كيف اضطربت اوضاع اهل البلدة مثلها مثل كل القرى والبلدات والمدن الفلسطينية المنكوبة. فمسجدها الوحيد الملاصق لبيتنا ومدرسة البنات ومدرسة الذكور التي كان يختلط فيها الابتدائي والاعدادي والثانوي تحولت كلها الىملاجئ للمهاجرين الهاربين من المعارك ومن المجازر. حقا لقد قلبت النكبة اوضاع وحياة رجال ونساء واطفال بلدتنا راسا على عقب. كان نصيبها من اللاجئين كبيرا فاق طاقتها على استيعابهم في بيوتها. فقد حل فيها من ابناء القرى والبلدات المجاورة لها مايزيد على نصف عدد سكانها البالغ عددهم في حينه 7000 نسمة. بعضهم استقر وما زال يعيش فيها حتى الآن، والبعض الآخر مر بها ورحل عنها بسبب قلة الرزق وشحة موارد المياه فيها وتابع طريقه نحو المدن الداخلية الاخرى وباتجاه دول الشتات. فأهل البلدة كانوا يعتمدون بالاساس على ما كانوا يجنوه من بياراتهم ومن زراعة ارضهم الواقعة غرب سكة الحديد، ومن تربية المواشي، ومن التجارة مع الطيرة والطيبة ويافا وتل ابيب واللد والرملة. لكن الهزيمة افقدتها كل هذه الموارد، وأصبحت حالة اهلها متساوية في الفقر الشديد الى حد كبير مع حالة اللاجئين الذين وفدوا اليها. لكنهم كما يقول بعض اللاجئين لم يتساووا معهم في نوعية وكميات المياه التي كانوا يحصلون عليها. فأهل البلدة الاصلين كانت لديهم مياه شرب نقية اما اللاجئون فقد اضطروا الى شرب مياه الآبار المخصصة للمواشي. ومنذ ذلك التاريخ ولسنوات طويلة ظل اللاجئون عاتبون على اهل البلدة بسبب هذه المسألة.
في تلك الفترة ظهر جوع حقيقي في بيوت اهل البلدة وفي صفوف اللاجئين. ولولا كميات التمر الكبيرة التي قدمتها الحكومة العراقية لهلك قسم من السكان. واذا كان فوج القوات العراقية الذي وصل اليها بقيادة سعيد القرشي لم يفعل الكثير في الدفاع عن اراضيها فالتمر العراقي الذي قدمه بكميات كبيرة للبلدة ساهم في انقاذ فقرائها، مهاجرين وانصار، من موت شبه محتم. وأتاح لصغارها فرصا للعمل. فقد اشتغل اولاد البلدة في جمع بزور”عجم” التمر وبيعها للافران، التي صارت تشتغل على تلك البزور بدلا من الحطب. وكنت واحدا من اطفالها الذين باعو “قفة” التمر بقرش واحد فقط. وممن اشتغلوا في جمع الحطب واغصان الاشجار وجذور الخضروات الجافة للطبخ على نيرانها. واهتموا بتربية الدجاج والارانب كمورد رزق للاسرة وجمعوا الحشائش والاعشاب البرية الخضراء لاطعام الارانب والاغنام التي كثرت تربيتها في البيوت. ويسجل لهيئة لامم المتحدة.. بانها راعت الموقع الحساس لبلدتنا واقامت فيها عام 1950 مستشفى كان مبناه مركزا للاسعاف يشغله الجيش العراقي. واخت بعين الاعتبار الحالة البائسة لاهل بلدتنا بعد تشكيل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين عام 1950. وصرفت لهم بطاقات اعاشة “كروت مؤن” ومساعدات تموينية طارئة وثابتة، رغم انها كانت تختلف عن بطاقات اللاجئين الاصليين الحقيقيين لجهة انواع وكميات التموين المصروفة. فحصة المواطن من اهل البلدة كانت تساوي نصف حصة اللاجئ الاصيل وذات الشيء كان ينطبق على صنوف المواد المصرفة. وحصلت عائلتي على بطاقة تموين “كرت مؤن لاجئيين” اسوة بالسكان الآخرين حمل رقم 58610405، ومثلت تلك المساعدات الدولية المورد الرئيسي لرزق الناس وتموينهم. وحسد اهل البلدة الاصليين اللجئيين على كميات التموين المصروفة لهم. ولن انسى زحمة طوابير استلام الاطفال حليب الصباح، والمشاجرات التي كانت تقع في طوابير استلام التموين يوم توزيعه على السكان.
في حينه لم يتأخر بعض اهل البلدة كثيرا حتى ادركوا بان القصة قد تطول، وتضامنوا مع بعضهم في توفير الممكن من فرص العمل. ولم يبق بابا للرزق الا وطرقوه. وفكر بعض رجالها في الهجرة، وعقد شبابها المتعلم العزم على السفر للعمل في دول الخليج، وهاجر وسافر من استطاع ودخلوا بعض الدول بطرق غير شرعية. واشتغل بعض شبابها في “الحرس الوطني” الذي تم تشكيله بهدف حماية البلدة. وكانت وظيفتهم الرسمية المرابطة ليل نهار في خنادق حفرت في محيط البلدة حراسة حدود الدولة الجديدة “اسرائيل”. وكنا نحن الاطفال نمضي وقتا طويلا في التجول بين المواقع الموجودة في اطراف الحارات. وكان بعض رجال الحرس يكلفنا الذهاب لبيته لاحضار حاجة ضرورية، واحيانا شراء بعض المواد الناقصة وبخاصة السجاير وعلب الكبريت. ومع تحول محيط بلدتنا الى حدود رحنا نحن الاطفال نتبارى في تجاوزها والتسلل بين البيارات القديمة، وفي الوصول الى سكة الحديد، ووضع الحجارة او سكب زيوت السيارات ومضخات آبار المياه عليها، معتقدين بانها ستؤدي الى انزلاق قطار اليهود الذي ظل يتحرك على السكة يوميا وبانتظام وكان يطلق صفاراته المزعجة في كل مرة يصل فيها مواجهة بلدتنا. واشتغل بعض رجال البلدة في بيع بطاقته كلاجئ لجهات دولية، وبادر آخرون الى استصلاح ما تبقى لهم من ارض جبلية. فقلعوا الصخور وردموا ارضها بالتراب وزرعوا ما كسبوا من مساحات. بمختلف انواع الخضروات. وشرعوا في حفر العديد من الآبار الارتوازية بطرق يدوية بدائية، سنحت لنا نحن الاطفال التسكع حولها ساعات طويلة. وباع كثيرون حلي نسائهم وساهموا في مشاريع حفر الآبار. واشتروا المولدات والمضخات والانابيب لري البساتين والبيارات الجديدة، وشكلوا ما يشبه الجمعيات التعاونية الزراعية الصغيرة بعضها مازال قائما حتى الآن.
وعلى مدى سنوات طويلة ظل أهل “قلقيلية” ومن لجأوا اليها يحلمون بالعودة الى اراضيهم ومدنهم وقراهم. وكان حلمهم في السنين الاولى مليئا بالكوابيس المؤرقة حول فقدان الارض والهوية، وتآمر الدول العربية عليهم، وتواطئ العالم ضدهم وظلمه لهم، وعن مطاردة اليهود لهم. وظل القدر يحوّل ما يروه في مناماتهم الى حقائق وعذابات ملموسة، قال عنها رجال الدين في البلدة هذا امتحان من الله، “والله يحب ان يمتحن عباده الصالحين”، وعزاها بعضهم الى غضب الله على الفلسطينيين لانهم ابتعدوا عن دينه، وكانوا يستشهدون بنقص عدد المصلين في المساجد، وتقليد الشباب لليهود والانجليز الكفار، وسفور الصبايا، وتعاطي المنكر، والافطار في شهر رمضان..الخ. ومع الايام والسنين تحولت النكبة تدريجيا الى ذكرى يتذكرها اهل البلدة واللاجئين وظلوا يحتفلون بها بتعطيل الدراسة في المدارس وتسير المظاهرات في شوارع البلدة وبالقرب من الحدود مع اسرائيل. وكنا نحن الاطفال نجوب الشوارع فرحين بيوم العطلة نسير في مجموعات، وكنا نرفع الاعلام ويافطات تندد بالتقسيم وتطالب بعودة اللاجئين الى بيوتهم وكان بعضنا يهتف خلف الكبار “تسقط بريطانيا واسرائيل”، “وسيف الدين الحاج أمين”. ومع ازدياد عذاب وآلام اهل البلدة واللاجئين كان الفقراء منهم يكثرون من التوسل الى الله للتخفيف من معاناتهم، ويلجأون للدين اكثر فأكثر. وكانت قلة قليلة تشكك بوجود الله وتكفر بدينه، لانه تخلى عنهم ولم يدافع عن مقدساته في أرض فلسطين المباركة. في حينه انضم والدي غير المتعلم لتيار الملحدين، والتحقت والدتي الامية دون دعوة بتيار المتديين. وراحت تحثني واخي الاكبر على الصلاة والصيام والاكثار من قراءة القرآن الكريم وحفظ آياته، ونجحت بسرعة في ضمنا لتيارها المؤمن، والتزمت التزاما شديدا بتوجيهاتها. وانضبطت لاداء الصلوات الخمس في اوقتها في المسجد الملاصق لبيتنا، وحفظت بسرعة “آية الكرسي” لانها كما تقول امي تقي حافظها من الشياطين وتحميهم من اعتداءات الاسرائيليين..وبقيت لسنوات طويلة أتسابق مع امام البلدة في الوصول الى المسجد بعد رفع المؤذن آذان الفجر. وكثيرا ما سبقته وكنت اصطف خلفه مباشرة في اول صف للمصلين. ونلت رضا أحد الاقارب من المؤمنيين الميسورين. ولم يبخل عليّ، فكثيرا ما كافأني بقطعة حلوى، وتحولت مكافئآته لاحقا الى أقلام وكتب ودفاتر مدرسية، خاصة في الفترات المتعددة التي امضاها والدي في السجون الاردنية بسبب “التسلل” الى ارض البلدة في اسرائيل جني ما أمكن من محصولاتها ومن ثمار بيارتها، و”سرقة” ما امكن سرقته من موجودات وممتلكات المستعمرات القريبة من بلدتنا.
فخلال السنوات الاولى من قيام دولة اسرائيل 1948ـ 1956 لم يسلم كل سكان بلدتنا رجالا ونساء مؤمنيين وملحدين مواطنيين ولاجئين بنتائج الهزيمة. واحتفظوا باسلحتهم النارية وحاول من لم يكن يملك سلاحا امتلاكه، واخفوها عن عيون رجال المباحث والشرطة الذين وصلوا لاحقا للبلدة كممثلين للحكومة “الاردنية” وركزوا عملهم مع حاميتها العسكرية في البحث عن السلاح وجمعه. ولم يقتنع اهل بلدتي بان ثمار بياراتهم وارضهم الواقعة امام نظرهم لم تعد ملكا لهم. وقام الكثير من رجالها باعمال كثيرة متنوعة وخطرة، لانقاذ اطفالهم من الجوع ومقاومة الواقع الجديد وتحدي كل ما فرضته الاقدارعلى اهل البلدة. وامتهن بعضهم العمل العسكري ضد المحتلين. وبعد ثورة يوليو بقيادة عبد لناصر عام 1952 اقاموا صلات مع رجال الاستخبارات المصرية. واشتهرت اسماء ودخل السجون الاردنية كثيرون، وكان والدي واحدا منهم وكان له مجوعة اشتهرت في البلدة بجرأة أفرادها ونجاح غاراتها. وامتهن آخرون مهنة التسلل لداخل “اسرائيل” لجني ثمار بياراتهم التي حرموا من وصولها. وقتل كثيرون من ابناء البلدة كان بينهم اقارب لي واصدقاء والدي وهم ذاهبون “لسرقة” بقرة او حصان او بعض الملابس ومواسير المياه، ونهب كل ما كانت تطاله ايديهم داخل المستعمرات ومن قلب بيوتها. وكانوا يبيعوها باعتبارها مسروقة بابخس الاثمان بالكاد كانت تساوي ثمن كمية طحين تكفي لسد جوع الاطفال بضع ايام او اسابيع. وطبعا لم تكن مهمة التسلل الليلي الى اسرائيل سهلة على الاطلاق ولم تكن دائما موفقة وناجحة. فهي ممنوعة من السلطة الاردنية ويعاقب عليها القانون بالسجن. يزداد عدد ايام الحبس وشهورها اذا كان المتسلل يملك السلاح وكانت العقوبة تصل الى بضع سنين اذا تم استخدمه. وكثيرا ما فاقت البلدة على اصوات اشتباكات مسلحة بين ابنائها المتسللين مع كمائن القوات الاسرائيلية وحرس المستعمرات. كانت البلدة في مثل تلك الليالي تصحوا بكاملها من نومها للتضامن مع من حلت به الكارثة وللبقاء على اهبة الاستعداد للتحرك باتجاه المسجد او البيوت الطينية القديمة القوية لحماية الذات من رد فعل الاسرائيليين وقصفهم البلدة بالقذائف. فاهلها كانوا وما زالوا يؤمنون “بان لبيوت الله رب يحميها”. ويؤمنون بان الله قادرعلى منع قذائف المدفعية والطائرت من اصابة بيوت العبادة اذا أراد. وكان الجميع رجالا ونساء يرددون داخل بيوتهم وعلى ابوابها “الله يستر، ويا رب يا رحيم اعمي عيون الاسرائيليين وارحم الشباب ونجيهم”. وكان البعض يقف على باب داره بانتظار مار في الشارع يتقصى منه الاخبار. وكثيرا ما كان والدي احد الذين كانوا بحاجة ماسة لمثل هذا الدعاء. فهو احد الذين احترفوا مهنة التسلل لاسرائيل وكان يملك رشاش ستين اشتراه قبل النكبة واحتفظ به بعدها. وكان عمي خلال وجود والدي في السجن يؤجرة للمتسللين ويقاسمنا اجرته.
اما خبر سقوط شهيد او جريح او تأخر احد افراد المجموعة فكان يعرف فورا من قبل كل ابناء البلدة عبر اصوات البكاء والعويل الذي كان يتردد في سماء البلدة قاطعا صمتها القلق. كانت تطلقه النساء والاطفال بتواصل ودون انقطاع. وعند سماعه كان الجميع يقف على باب الدار وكان الكبار من الرجال يتوجهون فورا باتجاهه. وكنا نحن الاطفال نصحو قلقين مضطربين نتمسك باطراف ثياب امهاتنا اذا تعرضت البلدة للقصف ونخرج للازقة في حال عدم تعرضها لذلك. كنا نسير في الازقة بين الرجال، وكان قلقنا يهدأ قليلا ونحن نستمع لاقوالهم ونسرق الاخبار منهم ونعود بها لامهاتنا ونحن خائفين ومضطربين وننقلها ناقصة او مضخمة. وفي حال التيقن من وجود جريح نجحت مجموعته في نقله الى المستشفى كان جميع الرجال يتوجهون مباشرة الى المستشفى لتقصي مزيد من الاخبار والاعراب عن التضامن مع الجريح واسرته التي تكون في العادة سبقت الجميع. اما في حال وقوع شهيد فكان خبره ينتشر في البلدة سرعة انتشار النار في الهشيم في عز ايام الصيف. وكان الجميع يشرعون في تنفيذ ترتيبات العزاء واداء واجبهم المتعارف عليه. تبدء النسوة فورا بتحضير طعام “الخروجية” من الموجود لتقديمه للعائلة المنكوبة، وكثيرا ما كان عبارة عن تشكيلة صحون من المتوفر من الجبن والزيت والزيتون والبيض ودبس العنب اوالخروب. اما الرجال فكان بعضهم يتوجه الى المقبرة للمساهمة في حفر القبر وتامين كل مستلزمات الدفن، والبعض الاخر الى المستشفى وآخرون الى مضافة العائلة لتحضيرها لاستقبال اهل الشهيد والمعزين. وكانت النسوة التي تربطها صلة قربى مباشرة بالشهيد يتوجهن الى منزل مسرعات الخطى يبكين بصوت خافت او صوت عال مسموع تحدد درجته مستوى القرابة وسمعة الشهيد وموقعه الاجتماعي. كانت البلدة بكاملها اهلها الاصليين او اهلها الذين لجأوا اليها يعيشون حالة حزن حقيقي مع وبعد كل حالة استشهاد وكانوا يحرصون على اظهار التضامن بالسير في الجنازة بعد الصلاة جثمان الشهيد، والتردد على مجالس العزاء مدة ثلاث ايام متواصلة لاخذ خاطر اهل الشهيد واقاربه. فالمصاب في البلدة كما يقال عادة في هكذا مناسبة “مصاب الجميع” والشهيد رحمة الله عليه ابن الجميع “وكان طيب وبطل” حتى لو يكن كذلك. وكان هذا النمط من الحياة يوفر لنا نحن الاطفال على مدى بضعة ايام بنهارها ولياليها فرصة سماع قصص وروايات عن التسلل للمستعمرات وعن المعارك مع اليهود وعن الشجاعة والجبن الحياة والموت والجنة والنار ومقام الشهداء عند الله وعن سلوك الجيش والشرطة والمباحث الاردنية، كانت اقرب الى الرويات البوليسية وكان لها مفعولها في ذاكرتنا وكان خيالنا يفعل فعله فيها ايضا.
حقا لقد ازعج المجاهدون والمتسللون من اهل بلدتنا على مدى اكثر من خمس سنوات سكان المستعمرات المجاورة ازعاجا كبيرا وخربوا منشئآتها وقتلوا العديد من سكانها ومن قوات حرس الحدود وبثوا الخوف والقلق والرعب في نفوسهم. في حينه لم تستسلم الحكومة الاسرائيلية امام مواقف وسلوك اهل البلدة العدواني و”التخريبي”. فرفعت من وتيرة ضغطها على الحكومة الاردنية للتحمل مسؤولياتها في حماية الحدود وفقا لاتفاقات الهدنة التي وقعت بين الطرفين. وكانت يوميا تقدم تقاريرها وشكواها للجان الهدنة والرقابة الدولية المنشرة على الحدود بين الطرفين وكانت تطالبها باعادة المسروقات. ولم تكن تتورع عن توجيه نيران مدافعها وشاشاتها الثقلة ضد مراكز الشرطة والجيش بجانب قصفها المتكرر لمنازل البلدة. ولاحقا راحت تتصيد ابنائها عند اقترابهم من الحدود. وقتل قناصتها عددا من شبابها ونسائها واطفالها كان بينهم اقارب وزملاء في الدراسة. ومنعت اصحاب الاراضي في كثير من الاحيان الوصول الى بساتينهم الواقعة على خطوط التماس. ولاحقا اتبعت القوات الاسرائيلية نهجا هجوميا وراحت تطارد المتسليين الى اطراف البلدة قامت بغارات كثيرة على بعض بيوتها وآبارها، وقال ديان عام 1953 سأحرث قلقيلية حرثا. وفي عام 1967 لم ينسى ديان ما فعلته قلقيلية في تلك المرحلة ودفعه حقدة الى تذكر مقولته ومكنه انتصاره من ترجمتها. فقد هجر اهلها وشغّل الجرافات في حرثها ومحوها من الخارطة كما فعل بقرى ابو غوش ويالو وعمواس، وهدم احياء كثيرة منها وأبقي سكانها مشردين ولم يسمح لهم بالعودة اليها الا بعد فترة شهر. وبعدما قرر ديان مع نفسه ضم قلقيلية وكل الضفة لاسرائيل، وبعد تدخل امريكي مباشر بناء على طلب عدد من الشخصيات الفلسطينية كان ضمنها رئيس بلدية نابلس.
ومع ارتفاع وتيرة الضغوط الاسرائيلية في حينه على الحكومة الاردنية الضعيفة حديثة التكوين كان رجال الدرك والشرطة والجيش الاردني يشددون الخناق على المتسللين وزجت بالمشهورين منهم في السجون لفترات طويلة دون ذنب. ولم توفر لعائلاتهم مصدر رزق آخر. ورفعت المحاكم من مستوى الاحكام بحق كل من يلق القبض علية متسللا.
ورغم كل هذه الاجراءات ظلت المناوشات الواسعة بين اهل البلدة وسكان المستعمرات وقوات حرس الحدود الاسرائيلية متواصلة حتى عام 1956. واقتنعت القيادة الاسرائيلية بان هجمات الردع المحدودة التي كانت تقوم بها قوات جيش الدفاع الاسرائيلي ضد البلدة غير كافية لردع اهل قلقيلية ولم توقف اعمالهم. فقررت القيام بعملية هجومية واسعة ضد البلدة وضد مؤسسات الحكومة الاردنية التي لم تقم بواجباتها كما ينبغي ووفق رغباتها. وفي الساعة التاسعة ليلا يوم 10/10/ 1956 شنت القوات الاسرائيلية هجوما واسعا على بلدتي قلقيلية. واشتركت الطائرات في قصفها وتقدمت قواتها من ثلاث اتجاهات وركزت هجومها على مركز البوليس ودمترته تدميرا كاملا وقتلت كل من فيه. ونجحت في تدمير آبار المياة التي حفرها اهل البلدة وصاروا يعتمدون عليها في زراعة ما استصلحوه من الارض. ودخلت دباباتها شوارع البلدة واستبسل الحرس الوطني وافراد الحامية النظامية في الدفاع عن مواقعهم المحيطة بالبلدة واستشهد ما يقارب العشرين منهم. وقتلوا اعداد كبيرة من القوات المهاجمة وضمنهم قائدها “بيرمي” تذكره رفاقه بعد احتلال البلدة عام 1967 واقاموا له في “تلة صوفين” مكان مقتله نصبا تذكريا بسيطا ما زالت بقياه موجودة هناك. وتختزن ذاكرتي عن تلك المعركة صور الشهداء وهم في خنادقهم المحيطة البلدة وبين حطام مخفر المدينة المنسوف. وصورة تشييع الشهداء الى مقبرة البلدة، وصورة امي وهي تتنقل بين بيوت الشهداء لتعزيتهم. وقول طفل قريب لنا “انا وامي واختي زعلانين من الله لانه اخذ ابوي”. وحين طلب منا نحن اصدقائه ان نغضب على الله معه وان نقاطعه.
واظن ان ما ذكر في هذه السطور من سيرة بلدتي قلقيلية ونكبتها وضمنها اسرتي يكفي لتفسير لماذا احترفت العمل السياسي واخترت طريق العمل الحزبي في اطار حركة القوميين العرب عام 1961. ولماذا انخرطت في منظمتها العسكرية “ابطال العودة” عام 1964، واحترفت العمل العسكري في اطار الثورة الفلسطينية وم ت ف بعد عام 1967.

احترافي في عام 1961 العمل الساسي وانخاطي الحزبي اختياري لاحقا لحديث والدي واصحابة عن فترة النضال في الاربعينات ضد اليهود والانجليز، وعن المناضلين الذين برزوا وعن الشهداء من ابناء البلدة ومن الجيش العراقي الذين سقطوا ألهب حماسي في تلك الفترة للعمل العسكري، وساعدني على تحقيق هذا النجاح السريع في تشكيل خلية عسكرية قوية وذات خبرة. اما تعليق بعض كبار السن من امثال والدي على عملنا

؟؟؟. ومنذ منتصف الخمسينات ظهرت في صفوفهم ميول قوية للقيام بدور عسكري فلسطيني مستقل عن الدول العربية ضد اسرائيل. وقامت عدة تنظيمات فلسطينية في قطاع غزة تبنى بعضها الكفاح المسلح من اجل تحرير الوطن السليب. في حينه لقي بعضها تشجيعا ورعاية شبه رسمية من السلطات المصرية التي كانت تتولى الاشراف على ادارة قطاع غزة

*الحزبي السياسي فقد زادني تصميما على السير في درب العمل العسكري، وكرس قناعتي به كوسيلة للتحرير. فقد كان لكلماتهم لي ولاعضاء التنظيم “الحركة” بعد كل اجتماع حزبي نعقده في بيتنا فعلها في نفسي وفي حركتي اللاحقة، “فلسطين راحت بالسلاح واليهود دفعوا الدم ثمن دولتهم، وفلسطين لا تعود بالعمل السياسي”. فلسطين لن تعود الا بالسلاح وبالدم”. وكم كانت فرحتي وسعادتي كبيرة عندما أبلغت أول مرة بان القيادة العليا لشباب الثأر سترسل لاعضاء الخلية اسلحة تكفي لتسليح الجميع. وفعلا في صيف 1966 وصل السلاح، ووزع على أعضاء الخلية وكان من نوع رشاش “كارلو بورسعيد” المنقول عن رشاش كارلو غوستاف. واقمنا معسكرا للتدريب في احراش وادي قانا بالقرب من قرية كفر لاقف، المقام في منطقتها الان شبكة من المستوطنان الاسرائيلية تعرف باسم خط شمرون، ومن ضمنها مستوطنة “القنا” و”اريئيل” “وعمنويل” و”الفي منشه”. حيث بينت الفحوص الجيلوجية ان نبع وادي وادي قانا الذي كنا نذهب الية في رحلات مدرسية ونحن صغار ولاحقا للتدريب العسكري، ليس الا “تنفيسة” ضغط اكبر حوض ماء في باطن الضفة الغربية، المعروف الآن عند الجيلوجيين وخبراء الماء “بالحوض الغربي”.
؟؟ ومن ذلك التاريخ بدات رحلتي مع العمل العسكري الفلسطيني. ومعها بدات مرحلة جديدة تماما من حياتي اخترتها بمحض ارادتي.
؟؟؟؟؟؟؟

ومن ذلك التاريخ بدات رحلتي مع العمل العسكري الفلسطيني. ومعها بدات مرحلة جديدة تماما من حياتي اخترتها بمحض ارادتي. واخترت لنفسي اسما حركيا “ممدوح”. تيمنا باسم احد ضباط الجيش العراقي الذين رابطوا في محيط بلدتي قلقيلة عام 1948 ت 1949 واظهروا حسب اقوال كبار السن براعة عسكريةة عالية في مقاومة القوات الاسرائيلية وفي قيادة المعارك ضدها
** ولجأ معضهم لمسجدي البلدة كمحطة اولى. آخرون لجأوا للبيوت القديمة “العقود”، اما السكان المقيمون على اطراف البلدة فقد غادروا منازلهم باتجاه البيارات المجاورة والمرتفعات الجبلية المجاورة.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وفي أواخر كانون الثاني دخل الاراضي الفلسطينية اقسام من قوات جيش الانقاذ من الجبهتين السورية واللبنانية. ووصلت بعض مجموعاتها مشارف طبريا وبيسان وحيفا وصفد. وتم التعامل مع فصائل الجهاد المقدس باعتبارها جزء من جيش الانقاذ. ولاحقا اتخذت الدول العربية قرارا بدخول قواتها النظامية الاراضي الفلسطينية لمساعدة سكانها الفلسطينيين وحمايتهم وضمان مصالهم وحقوقهم. في حينه وصلت القوات العراقية الى عدد من المدن والبلدات الفلسطينية القريبة من الساحل وضمنها بلدتي قلقيلية التي تبعد عن مياه البحر14 كلم فقط. ورابطت غربها ومعها المقاومون من ابناء البلدة القرى المجاورة، في مناطق قريبة من قرى كوفيش ومسكة والطيرة وجلجولية والنبي يامين وبيار عدس ومضارب عرب ابوكشك وسواها من القرى والكثبان والتلال الواقعة غربها والمشرفة على البحر باتجاه يافا وتل أبيب.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
في حينه كنت أحد أعضاء الحركة الذين أبدوا رغبتهم في الانتقال من العمل الحزبي السياسي للعمل العسكري(9). ولعل بؤس حالة اللاجئين الذين التجأوا الى بلدتي قليقيلية، واحاديث الاهل عن أراضي العائلة التي احتلها اليهود، والواقعة امام النظر وعلى بعد مئات الامتار من البلدة، واعتقال والدي مرات متكررة، وحالة البؤس والشقاء التي عاشها اهل بلدتنا بعدما فقدوا 90% من اراضيهم، والاعتداءات المتواصلة التي تعرضت لها البلدة خلال طفولتي 1944-1956، وبخاصة هجومها على مقر قيادة المنطقة ومخفر الشرطة في المدينة، وقتل اعداد من شبابها وتدمير آبار المياه فيها كانت كلها الدافع الخفي لتلك الرغبة وذاك الاختيار الشخصي. وكان سروري كبيرا عندما أبلغت بموافقة قيادة التنظيم على نقلي من الجناح السياسي الى الجناح العسكري للحركة، وترشيحي لدورة عسكرية “وحدات فدائيين” في مصر في معسكر انشاص. وحزنت كثيرا عدما منعتني المخابرات الاردنية من مغادرة الاردن لسبيين أولهما شبهات حول انتمائي لتنظيم محظور”حركة القوميين العرب” والثاني دخولي السجن لفترة قصيرة عام 1963 بسبب المشاركة في تحضير وقيادة المظاهرات التي اندلعت في تلك الفترة في بلدتي وفي معظم أنحاء المدن الاردنية الاخرى، وبخاصة مدن الضفة الغربية، تأييدا لمشروع الوحدة الثلاثية “مصر سوريا العراق” التي لم ترى النور. وخلال فترة زمنية قصيرة تمكنت بمساعد أعضاء في القيادة المحلية من تنظيم خلية عسكرية سرية في منطقة قلقيلية. كان عددها 12 عنصرا معظمهم من كبار السن وممن اشتهروا في بلدتنا نتيجة ادوارهم في المعارك التي خاضها اهل البلدة عام 1947- 1948 مع جيش الانقاذ ومع القوات العراقية التي كانت ترابط محيط البلدة، ضد قوات الهجناه وشتيرن والارغون، وأهمها: معركة الطيرة، معركة بيار عدس، معركة قلمانيا،معركة كفار سابا، معركة رامات هاكوفيش، معركة بيارة الداعور. واظن ان حديث والدي واصحابة عن فترة النضال في الاربعينات ضد اليهود والانجليز، وعن المناضلين الذين برزوا وعن الشهداء من ابناء البلدة ومن الجيش العراقي الذين سقطوا ألهب حماسي في تلك الفترة للعمل العسكري، وساعدني على تحقيق هذا النجاح السريع في تشكيل خلية عسكرية قوية وذات خبرة. اما تعليق بعض كبار السن من امثال والدي على عملنا الحزبي السياسي فقد زادني تصميما على السير في درب العمل العسكري، وكرس قناعتي به كوسيلة للتحرير. فقد كان لكلماتهم لي ولاعضاء التنظيم “الحركة” بعد كل اجتماع حزبي نعقده في بيتنا فعلها في نفسي وفي حركتي اللاحقة، “فلسطين راحت بالسلاح واليهود دفعوا الدم ثمن دولتهم، وفلسطين لا تعود بالعمل السياسي”. فلسطين لن تعود الا بالسلاح وبالدم”. وكم كانت فرحتي وسعادتي كبيرة عندما أبلغت أول مرة بان القيادة العليا لشباب الثأر سترسل لاعضاء الخلية اسلحة تكفي لتسليح الجميع. وفعلا في صيف 1966 وصل السلاح، ووزع على أعضاء الخلية وكان من نوع رشاش “كارلو بورسعيد” المنقول عن رشاش كارلو غوستاف. واقمنا معسكرا للتدريب في احراش وادي قانا بالقرب من قرية كفر لاقف، المقام في منطقتها الان شبكة من المستوطنان الاسرائيلية تعرف باسم خط شمرون، ومن ضمنها مستوطنة “القنا” و”اريئيل” “وعمنويل” و”الفي منشه”. حيث بينت الفحوص الجيلوجية ان نبع وادي وادي قانا الذي كنا نذهب الية في رحلات مدرسية ونحن صغار ولاحقا للتدريب العسكري، ليس الا “تنفيسة” ضغط اكبر حوض ماء في باطن الضفة الغربية، المعروف الآن عند الجيلوجيين وخبراء الماء “بالحوض الغربي”. ومن ذلك التاريخ بدات رحلتي مع العمل العسكري الفلسطيني. ومعها بدات مرحلة جديدة تماما من حياتي اخترتها بمحض ارادتي. واخترت لنفسي اسما حركيا “ممدوح” .
وفي فترة عامين 1966ـ 1967 نفذت خليتنا الكثيرالمهمات الاستخبارية العامة وكان من ضمنها التعرف على تضاريس جغرافيا الضفة الغربية، وان يتم التركيز في البداية على تضاريس ريف قلقيلية والمناطق الريفية الواقعة بين نابلس وقلقيلية. وبالفعل فقد قامت بعدة رحلات اسكشافية على الارجل كلفت بقيادة احدها، وتسببت في متاعب كثيرة للمجموعة بسبب ادعائي بالعرفة الكاملة بالارض وبالطريق. وكانت قرية كفر لاقف نقطة التجمع والانطلاق في كل الرحلات. وكنا ننهي رحلاتنا في مدينة قلقيلية ونتناول وجبة طعام ساخنة، وكنا نحرص على تمويه عملنا بالظهور وكأننا في رحلة كشفية مدرسية جماعية. وكلفت خليتنا ايضا بجمع معلومات تفصيلية عن الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلدة وعن القوى السياسية المتواجدة فيها. وتم التركيز من قبل القيادة على جمع المعلومات الدقيقة والتفصيلية عن تنظيم حركة فتح السري، ومراقبة نشاطات افرادها ضد اسرئيل، وعن تحركاتهم في البلدة وقراها المحيطة. وكان من ضمنها تقارير تفصيلية حول تحركات “وليد العقاب” ابن البلدة والذي عرف لاحقا كعضو في اللجنة المركزية لحركة فتح وباسم “ابوعلي اياد”. حيث كان قد ترك شغله كمدرّس في العربية السعودية وعاد حديثا للبلدة. ونشط في تشكيل خلايا مسلحة تابعة لحركة فتح في بلدتنا وفي القرى المجاورة لها. ونفذت خليتنا ايضا القليل من مهمات الاستطلاع ضد المنشأءات العسكرية والاقتصادية الاسرائيلية، وكان من ضمنها خطوط المواصلات الرئيسية القريبة من بلدتي والجسور الاساسية المقامة عليها، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية في منطقة رأس العين التي تغذي مدينة تل ابيب ومحيطها بالكهرباء، وكنت انا غير الخبير بالارض وغير الملم جيدا بالعلوم العسكرية، أحدد لهم الاهداف بناء على ما كان يرد من القيادة. وكنا نرسل نتائج الاستطلاع في تقارير خطية لقيادة الجناح العسكري في حركة القوميين العرب المقيمة في دمشق. لاحقا عرفت بأن كل المعلومات وتقارير الاستطلاع التي كان ترسل من خلايا العمل العسكري التابعة لحركة القوميين العرب كانت ترسل تباعا للاستخبارات المصرية، بحكم علاقة قيادة الحركة مع نظام جمال عبد الناصر. وفي حينه ارسلت خليتنا الكثير من التقارير التفصيلية والدقيقة حول هذه المواضيع. كنت اكتبها في مسجد قبة الصخرة، حيث كان يتعذر علي كتابتها في المدرسة التي اشتغل فيها او في البيت حيث كنت اعيش مع زميلين آخرين في نفس الغرفة.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
في حينه كنت أحد أعضاء الحركة الذين أبدوا رغبتهم في الانتقال من العمل الحزبي السياسي للعمل العسكري(6)*. ولعل بؤس حالة اللاجئين الذين هجروا من بيوتهم ولجأوا لبلدتي قليقيلية التي ولدت فيها عام 1944، واحاديث الاهل عن أراضي العائلة التي احتلها اليهود، والواقعة امام النظرعلى بعد مئات الامتار من البلدة، وحالة البؤس والشقاء التي عاشها أهل بلدتنا بعدما فقدوا 90% من اراضيهم، والاعتداءات المتواصلة التي تعرضت لها البلدة خلال طفولتي، وبخاصة هجومها على مقر قيادة المنطقة ومخفر الشرطة في المدينة عام 1956، وقتل اعداد من شبابها وتدمير آبار المياه فيها..الخ كانت كلها الدافع الخفي لتلك الرغبة وذاك الاختيار الشخصي
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
اواخر عام 1949وافقت اسرائيل على توقف القتال مع العرب. وتوجه وفدها الى جزيرة رودس للتفاوض مع الوفود العربية وتوقيع اتفاقات هدنة، واستثني الفلسطينيون من المشاركة الرسمية المباشرة في تلك المفاوضات، وتولى ممثلوا الدول العربية التفاوض بالنيابة عنهم. واصرت اسرائيل، في حينه، على التفاوض مع كل طرف على انفراد وكان لها ما أرادت. ومنذ ذلك التاريخ وحتى مؤتمر مدريد عام 1991 اصرت اسرائيل على اعتماد صيغة رودس “مفاوضات مباشرة وثنائية” في العلاقات والمفاوضات مع الدول العربية. ورفضت الاعتراف بوجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني، وظلت ترفض الجلوس مع اي طرف فلسطيني. وعندما بدأت مفاوضات رودس في 13/ كانون الاول 1949 كانت اسرائيل قد استولت على أراض تتجاوز الحدود التي رسمها قرار التقسيم للدولة اليهودية. وفي المفاوضات رفضت اسرائيل الانسحاب منها. واية دراسة متانية للاتفاقات التي وقعتها الدول العربية مع اسرائيل في تلك الفترة، تبين انها كانت اقرب الى اتفاقات سلام بين الدول العربية الموقعة واسرائيل. فقد نصت على عدم استعمال القوة العسكرية من أي طرف في تسوية مشكلة فلسطين. واكدت على منع قوات الفريقين من القيام باي عمل حربي ضد الفريق الاخر.
في تلك الفترة طلب مني الخروج الى عمان للقاء مع قيادة التنظيم العسكري للحركة “شباب الثأر”، لمناقشة توجهات العمل الجديدة السياسة والعسكرية. ولعرض صورة الوضع الحزبي والعسكري للحركة في منطقتنا. وقيل لي بان رحلتك ستكون قصيرة. بعد وصولي الى عمان عهد لي مهمة بناء قاعدة مقاتلة جديدة لابطال العودة على نهرالاردن بالقرب من قرية جسر الشيخ ومن مشروع الكهرباء الذي بني في عهد الانتداب البريطاني المعروف باسم “مشروع روتنمبرغ”. على ان تكون نواتها من اعضاء خلية قلقيلية الذين وصلوا الى عمان مع عائلاتهم. وامام ابداء الرغبة بالعودة للداخل والعمل هناك، قيل لي في حينه كلنا سننتقل للداخل ووجودنا في الاغوار وسائر المدن الفلسطينية وجود مؤقت. ونحن ضد العمل على القشرة، ونحرص على ان تكون عملياتنا في عمق ارضنا المحتلة عام 1948 وعام 1967. واسندت للقاعدة مهمات نقل السلاح والافراد للداخل، واستقطاب مقاتلين جدد، واستطلاع مواقع الجيش الاسرائيلي وخطوط مواصلاته. وتنفيذ عمليات قتالية ضد الاحتلال في عمق الضفة الغربية ومناطق بيسان وطبريا وصفد. وللتمويه على وضعي في تلك المنطقة كلف احد “الاخوة” من قيادة الحركة في الساحة الاردنية*، ومن كبار الموظفين في وزارة التربية والتعليم باعادتي للوظيفة “في وزارة التربية والتعليم. واستصدار قرار بنقلي من مدرسة عبد القادر الحسيني في وادي الجوز بالقدس الى مدرسة جسر الشيخ حسين الابتدائية الواقعة في الاغوار الشمالية الاردنية، وتفصلها بضع مئات من الامتارعن نهر الاردن. وبالفعل ثبت نفسي في القيود كموظف. واستأجرت بيتا طينيا صغيرا في قرية وقاص المجاورة ليكون بمثابة نقطة استراحة خلفية للقاعدة المقاتلة التي بنيناها على نهر الاردن. وهناك تعرفت على بساطة وطيبة فلاحي الاغوار ذوي الاصول البدوية. وتعلمت منهم كيفية تمويه الذات على العدو، وتعرفت على طرق آمنة للعبور من الاغوار الاردنية للاغوار الفلسطينية ومنطقة طبريا وبيسان والمرتفعات السورية. ومنذ بداية تشكيل القاعدة أظهر المحاربون القدامى خلية “ابطال العودة” حماسا منقطع النظير للعمل العسكري. وبرز دورهم كمقاتلين وكرجال استطلاع وكمرشدين للدوريات المكلفة بنقل الافراد والسلاح الى داخل الضفة الغربية. لكنهم اصروا على أمرين الاول العودة للبلدة والعمل من هناك. والثاني استمرار حصولهم على المبالغ المالية ” 12دينار” التي كانوا يتقاضوها خلال عملهم في اطار ابطال العودة والتي كانوا يعتمدوا عليها في تأمين قوت عائلاتهم. علما بان الفدائيين الآخرين في الجبهة وفي التنظيمات العسكرية الفلسطينية الاخرى كانوا يعتبرون هذا الامر نقيصة تمس شرف النضال من اجل تحرير فلسطين. فالمفهوم السائد في حينه كان يعتبرالفدائي الحقيقي هو الذي يقدم للثورة ولا يأخذ شيئا سوى الاكل واللباس والسجائر. اما عملي كمدرس في مدرسة جسر الشيخ حسين فلم أمارسه، وتفرغت للعمل النضالي، ومارست بدلاعنه مهمات قائد قاعدة مقاتلة ومفوض سياسي لعدد من قواعد الجبهة الشعبية في الاغوار الشمالية.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ظومنذ قيام دولة إسرائيل ظل الفلسطينيون على إمتداد نصف قرن من زمن نكبتهم متمسكين بحقوقهم التاريخية في فلسطين. ولم يفقدوا الأمل بتحرير أرضهم، وبالعودة الى مدنهم وقراهم وبناء دولتهم، اسوة بالآخرين. ورفضوا الصلح مع إسرائيل أو الإعتراف بها او التعامل معها.
ومنذ عام 1947ـ 1948 عاش من تبقى من الشعب الفلسطيني في “اسرائيل” وطنه ” قرابة180 ألف”، ومن رحل من المدن والقرى التي احتلتها اسرائيل قرابة “650 ألف”، ومن تبقى في الضفة الغربية وقطاع غزة سنوات طويلة على الامل. وراحوا يرقبون التطورات السياسية المحلية والاقليمية والدولية، وينتظرون العودة والتحرير تارة على يد الجيوش العربية التي راحت تستعد ليوم التحرير الموعود، وتارة اخرى على التحركات والنشاطات الدولية وبخاصة اجتماعات الامم المتحدة وقراراتها. وتارة ثالثة على دور ابنائه الفدائيين. ورابعة عبر المفاوضات وبخاصة تلك التي انطلقت من مدريد عام 1991.