في الذكرى العاشرة لاغتيال ابوجهاد – الحلقة (1):

كنت ومازلت اتمنى ان يبادر طرف فلسطيني لجمع وتوثيق تاريخ ابوجهاد وتاريخ عدد آخر من رموز واعلام الحركة الوطنية الفلسطينية، فسيرة ابوجهاد هي سيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة بحلوها ومرها، بعجرها وبجرها، هي باختصار سيرة الامل والأم الفلسطيني في النصف الثاني من القرن العشرين. في المنافي والشتات قلنا سندون يوما ما التاريخ بصدق، وفي لحظة ما اعتقدنا بان وصولنا ارض الوطن سيمكننا من الشروع بهذه المهمة، لكن وقائع الحياة اكدت ان لكل مرحلة همومها وشجونها، وان التأخر في توثيق التاريخ يعرض بعضه للتبديد والضياع، ويحوله الى ذكريات تاريخية خاصة. وفيما يلي بعض هذه الذكريات المدونة في دفاتر المذكرات الشخصية .

الزمان: صيف 1987

اشتد الخلاف حول العلاقة مع حركة امل وحول الوضع العسكري في بلدة مغدوشة المسيطرة استراتيجيا على مخيمي عين الحلوة والمية ومية، وكثر الحديث في الاوساط الفلسطينية عن ضغوط سورية على قيادة الجبهة الديمقراطية لاجبارها على سحب قواتها من البلدة. ووصل الى صيدا الامين العام المساعد للجبهة الى لبنان للتدقيق في الموقف، وفي تمرد القيادة العسكرية للجبهة ورفضها تنفيذ قرارا الانسحاب من مغدوشة. بعد وصول ياسر الى صيدا اصر ابوعلي عصام اللوح الممثل الشخصي للقائد العام على الاتصال مع ابوعمار وابوجهاد في تونس ووضعهما في صورة تطورات الموقف. تحركنا الى مستشفى الهمشري غير مستكمل التجهيز ومن هناك بدأنا البحث عن ابوجهاد. في حينه كانت الاتصالات بين لبنان والعالم الخارجي صعبة جدا وتكاد تكون مستحيلة بالطرق المدنية العادية. والأصح ان الاتصال من المناطق الوطنية، بيروت، صيدا، صور، الشمال، البقاع هي المتعذرة بينما من مناطق بيروت الشرقية سهلة وشبه طبيعية. فمنذ حرب 1982 لا بل وقبلها ايضا شهدت كل الخدمات المدنية تراجعا وتدهورا شاملا. ولم تبادر الحكومة اللبنانية الى اصلاحها. المطار شبه مخرب ومعداته نهبت اكثر من مرة. البريد الالي وضعه ليس افضل، والدوام فيه حسب التساهيل والسيطرة عليه للقوي الغالب، والموظفون معظمهم حزبيون ونادرا ما تجدهم في مراكز عملهم. الطرق مخربة منذ سارت عليها جنازير الدبابات الاسرائيلية والسورية ولم يفكر احد في اصلاحها، ولم تقصر الامطار والثلوج في توسيع الخراب. والبلديات بالكاد تقوم بجمع الزبالة هذا اذا سمحت لها الظروف الامنية القيام بوظائفها. هذا كله وأكثر منه تعيشه المناطق الخاضعة لسلطة الاحزاب والقوى الوطنية اللبنانية والجيش السوري، اما اصحاب الشرقية فقد اعادوا تنظيم اواضعهم وحسنوا كل مجالات الخدمة البلدية والمدنية.

المقاومة بامكاناتها المالية نجحت في تجاوز بعض هذه الصعوبات، فأقامت لنفسها نظام اتصال تلفوني خاص بها. لديها اجهزة اتصال لاسلكية تربطها في كل انحاء المعمورة. كانت اجهزتها حديثة ومتطورة جدا، ومن الانواع التي تستخدمها أرقى الجيوش واغناها. ولم تكتف بهذا النوع من الاتصالات فهو لا يلبي الحاجة العملية وفقا لنظام حياة وعمل المقاومة الفلسطينية وخاصة بعدما تباعدت المسافات بين مراكزها القيادية وتوزعت على العديد من الدول العربية بعد الخروج من بيروت عام 1982. فبنت المقاومة وبخاصة حركة فتح شبكة اتصالات تلفونية خاصة كانت قاعدتها الاساسية في جزيرة قبرص. حيث أقامت فيها محطة سنترال تلفوني ولاسلكي مركزي. وصار المتحدث من صيدا او اي مكان آخر في لبنان يعتمد على رقم نيقوسيا وليس بيروت، وباتت الاتصالات من لبنان وكأنها اتصالات بين قبرص وتونس أو قبرص وأي بلد آخر في العالم. طبعا هذا النظام مكلف جدا ليس فقط في سعر الاجهزة التي تصل قيمة الواحد منها ما يزيد عن ثلاثين الف دولار، بل وأيضا ثمن المكالمات الهاتفية فهي من ناحية حسب اسعار قبرص والدفع بالدولار حسب حجمها ومدتها. ويمكن تقدير قيمة الكلفة الاجمالية اذا عرفنا ان في مخيم عين الحلوة وحده كان يتواجد ما لا يقل عن خمسة او الستة أجهزة. واحد مع الممثل الشخصي للقائد العام، وآخر مع قائد القوات، وثالث مع مسؤول الامن المركزي، ورابع مع مسؤول التنظيم وخامس مع مسؤول التسليح المركزي..الخ، وطبعا ذات الاجهزة باتت موجودة ايضا في كل مخيم من المخيمات الاخرى الرشيدية والبرج وشاتيلا ومخيمات الشمال. ولم تكتف المقاومة بهذا النمط من الاتصالات عبر محطة قبرص، بل عملت على مواكبة العصر وتكنولوجيته، فقد أقامت نظام اتصالات تلفونية عبر الاقمار الصناعية وبات بامكان الاخوة في قيادة حركة فتح في لبنان التحدث مع القيادة مباشرة وبدون وساطة محطة قبرص، فعبر الاقمار الصناعية يمكن الحديث المباشر من صيدا مع اي مكان في العالم. لا شك ان هذا النظام من الاتصالات له وظيفته وغرضه الوحيد هو تمكين القيادة من احكام سيطرتها على الاوضاع، والتدخل في تفاصيل حياتها ومهامها اليومية وفي كل لحظة. ترى هل هذا الحرص الشديد على هذا النظام المركزي نابع من عدم الثقة بالقيادات الفرعية؟ ام الخوف من الاستقلالية النسبية لهذه القيادات والذي قد يبرزها كقيادات فعلية لها وزن وتأثير في شؤون ما تقود؟ ام الخوف من قيام نظام مؤسساتي يكرس العمل الجماعي وهذا يكون في العادة على حساب الادوار الفردية للقادة؟ ام هو تواصل لذات النمط من العلاقات التي سارت عليه الثورة منذ سنوات طويلة؟. لا شك ان كل هذه الاعتبارات هي التي دفعت لاقامة هذا النمط من الاتصالات المكلفة جدا من الناحية المالية، والتي سوف تكون أكثر كلفة من النواحي السياسية والتنظيمية. فالاصرار على المركزية الشديدة كان نقيضا لبناء المؤسسات الجماعية والافتقار للمؤسسات ستأتي أيام تدفع الثورة والشعب ثمنه غاليا جدا.
ترى ماذا ستكون النتيجة لو أنفقت بعض هذه المبالغ على العمل داخل الارض المحتلة؟ سؤال غاب عن ذهن الجميع، التنظيمات اليسارية قبل الأخرى. الجميع غرق في بناء دولته الخاصة على الاراضي اللبنانية، والجميع ساهم في بناء الدولة الموحدة لدول التنظيمات والفصائل. وحتى بعد عام 82 ورغم تنبه الجميع الى هذا التقصير الاستراتيجي ورغم تأكيد الجميع على أهمية تركيز الاهتمام والجهود على العمل في الداخل، الا ان الجميع عاد وغرق في اعادة اعمار ما تهدم من كيان تنظيمه دولته في حرب 82 أو في الحروب التي شنت على المخيمات. رجل واحد راح يعمل بصمت وبجدية كاملة باتجاه الارض المحتلة هو الاخ ابو جهاد، خليل الوزير نائب قائد العام لقوات الثورة الفلسطينية، عند الاستفسار عنه يقال أنه في تونس او عمان او القاهرة او بغداد هو ومساعديه، جهوده منصبة على الغربي أي الارض المحتلة. نظرته للغربي بعد بيروت تغيرت، ولم يعد الغربي جهاز عمل عسكري مهمته تنفيذ العمليات العسكرية ضد المؤسسات والمنشآت الاقتصادية والعسكرية الاسرائيلية. الرجل هاديء في طبعه، يعمل كثيرا ولكن يعمل بصمت ووفق رؤية محددة وواضحة في ذهنه.

لم يتأخر سنترال قبرص المركزي في ربطنا مع ابوجهاد، ولم نسأل من أين يتحدث هل من تونس ام من عمان، ليس مهم، المهم دق جرس الهاتف وأبلغنا السنترال ان الاخ ابوجهاد على الخط، تحدث ابوعلي عصام، وقصر حديثه على القول تحياتي اخ ابوجهاد، الاخ ياسرعبد ربه والاخ ممدوح نوفل يريدان التحدث معك. واضاف أرجوك أخ ابوجهاد ان تشد شوية عليهم. أمورنا في مغدوشة حتى الان جيدة اذا بقي الاخوة في الديمقراطية على موقفهم. على كل حال قبل ساعة تقريبا تحدثت والاخ علاء وعبد المعطي السبعاوي مع الاخ ابوعمار وأعطانا تعليمات شديدة الوضوح بشأن البقاء في مغدوشة. خذ ياسر. ناول الجهاز لياسر الذي بادر حديثه بالاستفسار عن الصحة، وقال: اشتقنا يا ابوجهاد للقعدة مع بعض، قاتل الله من كان السبب. على كل حال نحن مصممين على استعادة الوحدة الوطنية واستعادة أيام زمان. صمت ياسر ليسمع ما يقوله ابوجهاد، وعاد ليقول وهو يضحك: والله فكرة عظيمة أنت تذهب الى دمشق وانا اتوجه الى تونس، على كل حال أمورنا مع السوريين لم تصل بعد لهذا المستوى. يمكن علاقة الاخ ابوالهول أحسن قليلا من علاقتنا، واقتراحي ان تعمل جلسة نميمة مع ابواياد لعله يقنع ابوالهول ليتوسط لك مع اصحابه في الشام. ثم صمت ياسر، بعدها قال: أخ ابوجهاد أمس بحثنا عنك ولسوء الحظ لم نجدك، تحدثنا مع الاخ ابوعمار، وشعرنا بان هناك تشويش وتشويه.. ابوجهاد خلوا ثقتكم أكبر. والتصريح الذي يجري الحديث عنه حول انسحابنا من مغدوشة مزور وأنت لست غشيم بالاخوان. على كل حال كن على ثقة بأننا سنبقى رجل على رجل مع الاخوان في مغدوشة وفي كل مكان. هذا واجب وطني، والفكرة المطروحة هي تبديل ملابس م ت ف بملابس مصطفى سعد، وتكرار ما حصل معنا في القرية وجنستايا وليس أكثر. واقترح ياسر على ابو جهاد القيام بتحرك سريع مع معمر القذافي لسحب عبد السلام جلود من لبنان لان وجوده اصبح مؤذي. وطلب القيام بمحاولة فتح خط مباشر مع نبيه بري وأكد أن موقف وليد جنبلاط ممتاز. وقال لا تصدقوا التصريحات، والباطنية الدرزية شغالة وهي سيدة الموقف عند صاحبنا ابو تيمور، وأشاد بموقف مصطفى سعد أبو معروف الداعم للشباب. ثم صمت لحظات وقال مفهوم يا شيخ ابوجهاد، صحبتك مع مشايخ حزب الله قديمة ومعروفة للجميع لقاءاتنا معهم كانت مفيدة ومؤثرة، والاخوان هنا ليسوا ضد توريطهم معنا في مغطس مغدوشة. ولا أعتقد أن جماعة حزب الله مستعدين للتصادم المباشر مع حركة امل ولكنهم بالسياسة متصادمين مع السوريين. وأضاف، المهم دورك اخ ابو جهاد مع الاخ ابوعمار لتسهيل المهمة، وتمرير هذا القطوع الخطر. وأضاف استلمت رسالتكم وحتما سنلتقي قريبا، وللعلم الاخوان في الحزب موافقين على اللقاء وعلى استعادة الوحدة وهذه المرة لازم يدخلوا التنفيذية. الشعبية صعب الان تلحق ولكن بدأت لديهم اتجاهات تدعوا للوحدة والى اللقاء. وصاحبك ممدوح موجود بجانبي ويريد التحدث معك.
تناولت سماعة التلفون، تبادلنا التحيات وكانت كلماته حارة ومؤثرة. قال المهم يا ممدوح هو منع أمل من اقتحام مخيم الرشيدية او البرج او شاتيلا. ركزوا مساوماتكم مع امل والسوريين على هذه النقطة. استفيدوا من حزب الله والمشايخ الايرانيين، ونحن من هنا على اتصال دائم معهم. وشخصيا أعمل المستحيل من أجل ارسال بعض المشايخ الايرانيين ليدخلوا الى المخيمات وبخاصة التعبانة، ولعل ذلك يمنع اقتحامها. نحن مستعدين للقاء مع نبيه بري في أي مكان، من المفيد أن تبقوا على اتصال مع كوادر أمل ومع مساعدي نبيه. أبوعلي الديراني تعرفه جيدا وتجديد العلاقة معه قد يفيد فهو اقرب وأميل للايرانيين منه للسوريين. وقال أريد منك ياممدوح صورة عن حقيقة الوضع على الارض في مغدوشة، وحبذا لو تكتب. الخلاف السياسي يجب ان لا يؤثر على الدور العسكري المشترك في الدفاع عن شعبنا، ولا يجب أن يحول دون التفاهم على ما يهم شعبنا. قلت أبوجهاد: عدم الكتابة لا علاقة له بالخلاف السياسي، ثم أين هو الخلاف نحن هنا موحدين تماما، ولا يفصل بيننا الا المحرمات. قال بارك الله جهودكم، كيف الوضع في مغدوشة؟ قلت: عسكريا جيد ولكن سياسيا محشورين الجميع يضغط من اجل الانسحاب.

ابوجهاد: ناوروا، ولكن اذا كان وضعكم في مغدوشة جيد من المفيد مواصلة الضغط من اجل فك الحصار على المخيمات الاخرى، هل استطيع الاطمئنان للوضع العسكري. لماذا لم تنظفوا البلدة بالكامل حتى الان، هل لا زلتم بعيدين عن الكنيسة، هل انجز الطريق..؟ سامحكم الله تأخرتم في شق الطريق. قلت: لا تقلق على وضع مغدوشة، الحسم السريع مكلف يا أبوجهاد وخسائرنا ليست بسيطة. والتأخر في الحسم له علاقة باستشهاد عدد من الاخوة قادة الوحدات. قال: صحيح، تعازينا القلبية لكم ولكل الاخوان، هذا قدرنا، ودم كل شهداء المخيمات في رقبة المجرمين الذين افتعلوا هذه الحروب القذرة، قولوا لنبيه بري الدم الفلسطيني حرّاق، ومن المفيد أن يفكر في المستقبل، ويوما سيندم نبيه على ما فعله بشعبنا. والمشروع يا ممدوح أكبر مما يتصور بعض الاخوان. ما يجري عندكم الان هو استكمال لمشروع تصفية منظمة التحرير الذي بدأته اسرائيل في هجوم 82، ولكن كونوا على ثقة لا أحد يستطيع تصفية الثورة لأنها هي الشعب. أخوانكم في الداخل بدأوا بالتحرك لدعم المخيمات، كل يوم هناك تحرك وهذا مفيد لوضعكم ومفيد في تمرين شعبنا للنزول للشوارع وتحدي الاحتلال. كيف الوضع في الرشيدية وفي البرج وفي شاتيلا. قلت: أوضاع المخيمات الثلاث صعبة كثير، وما تسمعه لا مبالغة فيه. قال أبو جهاد: تحدثت صباحا مع الشباب في المخيمات الثلاث، والله لا اصدق ان من يحاصر المخيمات له علاقة بالعروبة والاسلام. على كل حال استعينوا بجماعة حزب الله وبالاخوان الآخرين، سأرسل لكم رسالة، الرسول يفترض أن يكون قد وصل لطرفكم، استفيدوا من الرسالة وثقوا في حاملها اعطوه ما يريد وهو سوف يساعدكم.

قلت: هل صحيح ما نشر حول البرادين. قال على كل حال اذا مسكوا برادين فقط فهذا يعني خسارتنا لا تزيد عن 10%. وطالما هم محاصرين المخيمات سنواصل ارسال السلاح. وهذه ليست اول محنة نمر فيها، خذوا بالكم من الاغتيالات حقهدهم عليكم كبير، المعلومات تؤكد بأنهم أخذوا قرار بشطب عدد منكم. استفيدوا من الكوادر والعناصر الصغيرة في جبهة الانقاذ، زج جماعة ابو نضال في المعركة خطوة مفيدة، ونحن مستعدين أن ننسى كل ما فعله أبو نضال من أجل أطفال الرشيدية وشاتيلا والبرج، وهذه فرصة امام ابو نضال ليعود للطريق السليم. افتحوا مستودعاتكم وصدوركم لكل اخوانكم دون استثناء، المهم انقاذ المخيمات. وأضاف سؤال أخوي يا ممدوح. ما هي صحة الاخبار التي تنقل حول لقاءات بعض اخوانكم مع السوريين، وما هي صحة الاخبار بأن الديمقراطية ستنسحب من مغدوشة، اذا كان سؤالي فيه اي احراج أرجوك انساه واقفز عنه. اريد رأيك بصراحة. قلت: بجملتين، لدينا خلاف حول الموضوع، ونحن هنا في لبنان ضد الانسحاب بالمطلق، بعض الاخوان في دمشق لديهم وجهة نظر أخرى وساكتب لكم ..