قراءة اجمالية لنتائج الاتفاق على الوضع الفلسطيني

بقلم ممدوح نوفل في 01/12/1997

بصرف النظر عن رأي المؤيدين والمعارضين للاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي الجديد، وعن تعرج مسار تنفيذه ـ كما هو متوقع له ـ فتاريخ توقيعه لا يقل اهمية عن التواريخ البارزة الاخرى التي ادخلتها عملية السلام في التاريخ الفلسطيني الحديث، وفي اجندة العلاقات الفلسطينية العربية ـ الاسرائيلية. وانه بالرغم عن العقبات الكبيرة الطبيعة او التي قد تفتعل لاعاقة التنفيذ، والشكوك الواسعة التي تحيط بالالتزام الاسرائيلي الدقيق والامين، وبوفاء الراعي الامريكي بضماناته، فسيكون له ما بعده من نتائج وآثار على حياة الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي وحياة شعوب الشرق الاوسط ككل. اما تفاعلاته اللاحقة فستترك لفترة طويلة بصمات واضحة على مستقبل القضية الفلسطينية، ومستقبل مسيرة السلام الفلسطينية العربية ـ الاسرائيلية، وداخل المجتمعين الفلسطيني والاسرائيلي، وبخاصة في الاوضاع الحزبية والسياسية والاجتماعية والامنية داخل اسرائيل. ولعل الصراعات الحقيقية والحادة التي تفجرت فور توقيعه بالاحرف الاولى داخل الحكومة الاسرائيلية وفي صفوف حزب الليكود والاحزاب اليمينية الاخرى، وردود الفعل السلبية العنيفة عند المستوطنيين عليه اولى هذه البصمات، ومؤشرات على منحى تفاعلاته وانواعها.
وقبل الدخول في تقيم بروتوكول اعادة الانتشار في مدينة الخليل وبقية مناطق الضفة الغربية ونتائجه على الوضع الفلسطيني اعتقد ان المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني ومستقبل الديمقراطية على الساحة الفلسطينية تفرض القول ان على جميع اطراف الحركة الوطنية الفلسطينية التعامل مع هذا الاتفاق وكل الاتفاقات التي تم التوصل لها بصورة موضوعية وواقعية. فالاتفاق نتاج موازين القوى الراهنة والظروف والاوضاع الدولية المحيطة بالصراع العربي الاسرائيلي وبالقضية الفلسطينية وبالسلطة الوطنية وقيادة م ت ف . وسلفا يمكن القول بان الحديث عن الغائه واسقاطه حديث غير واقعي وغير مفيد وطنيا ويلحق اذى جماهيرا باصحابه. فالمواطن الفلسطيني العادي لن يدقق كثيرا في نصوص الاتفاق الجديد كما تفعل القوى السياسية. بل سيتوقف مطولا أمام النتائج العملية التي سيتركها على حياته اليومية. وسيراقب نتائجه على امنه الاجتماعي، وعلى لقمة عيشه. ولن يقبل السير في مظاهرات ترفع شعارات من نوع “لا للاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي الجديد”، “ولا للتنازلات التي تضمنها الاتفاق” فهذه الشعارات تعني بالنسبة له بقاء قهر الاحتلال. وهو يرى ويسمع يوميا ردود الافعال السلبية والعنيفة عليه داخل المجتمع الاسرائيلي وبخاصة في صفوف المستوطنيين المجاورين له والمنغصين عليه حياته وسارقي ارضه.
وفي سياق التقييم اظن ان لا مصلحة لاي طرف فلسطيني تجميله، واخفاء عيوبه ونواقصه. فأشد المتحمسين له يعرفون انه خطوة على طريق طويلة ومعقدة جدا، وانه استكمال جزئي لاطار اتفاق مرحلي في اطار عملية طويلة قطع منها خمس سنوات حتى الان. ولا يستطيعون انكار أنه دون طموحات الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، ناهيك عن اللاجئين والنازحين وفاقدي التصاريح والهويات. وأنه جزّء ومرّحل الحقوق الفلسطينية مدة حدها الادنى 16 شهرا وبخاصة ما يتعلق بالانسحاب من الارياف الفلسطينية وبالسيادة الفلسطينية على الارض. وأجل تنفيذ قضايا جوهرية وحيوية لحياة الناس من نوع تنفيذ فتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع، وفتح مطار غزة وميناءها. ولم يقطع الطريق على سياسة الاغلاق، ولم يحررالاسرى والمعتقلين القابعين في السجون الاسرائيلية منذ سنوات. ولا احد يستطيع ان يضمن التزام الجانب الاسرائيلي تنفيذه بدقة وامانة. فتجربة الاتفاقات الفلسطينية مع الاسرائيليين تؤكد انهم يتعاملون معها وفقا لقاعدة ليكودية عمالية مشتركة تقول لا تواريخ ولا نصوص مقدسة في الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين. اعتقد ان السلطة الفلسطينية واجهزة الاعلام الفلسطينية ترتكب اخطاء جسيمة حين تتردد من تسمية الامور باسمائها. فلا بد من القول صباح ومساء للشعب الفلسطيني وللعرب والعالم بان الاحتلال لم ينتهي، وانه ما زال يتحكم في معظم مناحي الحياة الفلسطينية، وان زواله كاملا يحتاج الى نضال شاق وعسير. وتخطئ أكثر ان هي اشاعت بعد العبور الى مدينة الخليل، او تصرفت بعد تنفيذ المرحلة الاولى من الانسحاب من القرى والبلدات وبعض مناطق الريف وكأن السلام قد تحقق. واذا تراخوا في ملاحقة كل الحقوق التي نص عليها الاتفاق ولم يستطيعوا تثبيتها، او أغمضوا عيونهم عن متابعة تحصيلها كاملة. فخلق مثل هذه الاجواء يؤدي الى تبديد بعض الحقوق، ويقود الى تعطيل وتأخير تنفيذ المراحل اللاحقة من الاتفاق، والتجربة اكبر برهان. لاسيما وأن نوايا اركان الحكومة الاسرائيلية ليست صافية وسيئة، كما أكدتها مواقفهم عند صياغة نصوص الاتفاق. وتفسيرات نتنياهو لاحقا لرسالة الضمانات الامريكية، واقواله بعد اقل من 48 ساعة من التوقيع “اسرائيل وحدها هي التي سوف تقرر مستوى اعادة الانتشار في المرحلة الثالثة” ..الخ. كلها لا تبشر بالخير، وتؤكد ان تراجع نتنياهو لم يكن نتيجة تغيير نوعي في قناعاته بمقدار ما هي رضوخ لضغوط خارجية قوية. وليس عسيرا على كل من يريد البحث عن النواقص والثغرات في الاتفاق ان يضيف على ما ذكر اعلاه.
وبالمقابل لا يستطيع ألد أعداء الاتفاق تلبيسه تهمة اغلاق الطريق أمام الشعب الفلسطيني لمتابعة الصراع من أجل تحقيق حقوقه الوطنية الكثيرة المغتصبة. ويجب انصاف الحقيقة، فتأجيل بحث المسائل المؤجلة لا يعني التنازل عنها وضياعها، كما بينت تجارب اوسلو وطابا. واذا كان للجانب الاسرائيلي تفسيره ومفهومه الخاص لها، فللفلسطينيين ايضا تفسيرهم ومفهومهم لها، ولصنع السلام الحقيقي القابل للحياة استحقاقاته، وبدون دفعها مقدما او متاخرة تتحول العملية الجارية الى نوع من الهدنة او التسوية المؤقتة اوما يشبهها. صحيح ان الاتفاق لا يتضمن كل الحقوق الفلسطينية التي نصت عليها الاتفاقات السابقة، ولا يلبي الطموحات الفلسطينية وبخاصة طموحات اهل الخليل بالخلاص النهائي من وجود قوات الاحتلال ومن وجود المستوطنيين داخل مدينتهم، ولا طموحات اهل قطاع غزة بالوصول بسهولة وأمان الى الضفة الغربية، وطموحات المعتقلين بنيل الحرية والتحرر من الاسر..الخ . لكن الواقعية في تقييم الاتفاق تفرض الاقرار بأن الامنيات والرغبات الذاتية شيء وامكانية تحقيقها الان أو غدا شيء آخر. والتجربة العملية اكدت ان الشعب الفلسطيني وكل الشعوب العربية دفعت ثمنا غاليا، نتيجة هيمنة النزعات الارادية وغياب الواقعية في الفكر السياسي العربي، وبسبب سياسية كل شيء او لاشي. وقراءة الاتفاق بموضوعية ومسؤولية وطنية تبين انه يدفع بالقضية الوطنية خطوات جديدة للامام ويحقق للشعب الفلسطيني مكاسب كثيرة اهمها:
اولا/ وفقا للمقولة السياسية القائلة بأن الأمور تقاس بنتائجها وبمدى تأثيرها على تحقيق الهدف الأساسي، يفرض ان لا يكون هناك خلاف على ان الاتفاق الجديد بنصوصة وتفاعلاته اللاحقة، يقوي نسبيا وضع الفلسطينيين فوق ارضهم، ويحسّنه على الصعيدين العربي والدولي وفي العلاقة مع الاسرائيليين. ويعزز موقع اهدافهم في إطار المساعي الهادفة الى تسوية الصراع العربي الاسرائيلي. ويقوي اوراقهم التفاوضية في المفاوضات اللاحقة سواء تلك المتعلقة بتنفيذ الاتفاقات التي وقعوها مع الاسرائيليين حتى الان، او تلك المتعلقة بالمرحلة النهائية. خاصة اذا وحدوا صفوفهم واحسنوا بناء وتطوير واستثمار ما يعطيه الاتفاق لهم. واجادوا ادارة الصراع في مرحلة ما بعد تراجع نتنياهو تكتيكيا عن مواقفه الايدلوجية. فتنفيذ المراحل الثلاث من الانسحاب واعادة الانتشار يؤدي الى جلاء اسرائيل تدريجيا عن معظم ارضي الضفة الغربية وتحرير غالبية سكانها الواقعين تحت سلطة الاحتلال حتى الان، وينقل أوضاعهم الى حالة جديدة وحياة أفضل، لا يمكن اطلاقا مقارنتها باوضاعهم القائمة الان في ظل الاحتلال، بدءا من ابسط الامور كحرية الحركة وانتهاء بالامور الاساسية الاخرى.
ثانيا/ ينهي الاتفاق ـ نظريا ـ مشروع الحكم الذاتي كسقف للحل النهائي، وفكرة ارض الميعاد. ويكرس عمليا وجود كيان فلسطيني متماسك يقوم على اجزاء واسعة من الارض، ويخلق سلطة فلسطينية تشمل سلطاتها كل سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، ولها كل مقومات الحكم، بما في ذلك مؤسساتها المدنية التنفيذية، والقضائية، والتشريعية والامنية القائدة والممسكة بكل مناحي حياه مليونين ونصف مليون انسان. وسينقل الوضع الفلسطيني برمته الى محطة جديد. ويعرض السلطة الفلسطينية الى اختبار حقيقي ويمتحن قدراتها على بناء وتشغيل مؤسسات المجتمع المدني. وسوف يظهر الحاجة اكثر فاكثر الى الديمقرطية في الحياة السياسية الفلسطينية. وسيدفع في المرحلة الاولى بقطاعات واسعة من السكان لاسباب متنوعة نحو الانحياز للسلطة وللحزب الحاكم. وقد يتسبب في زيادة التشرذم الحاصل في صفوف الفصائل والمنظمات الفلسطينية وبخاصة المعارضة لعملية السلام. ويعمق التناقضات القائمة بين مواقف جسمها التنظيمي داخل الضفة الغربية والقطاع، الذي يحاول التعامل مع الواقع، ومع الوضع الجديد الناشئ، وبين قياداتها الموجودة في الخارج المستمرة في رفض الاعتراف بالحقائق الجديدة، ورفض تكييف مواقفها وممارساتها مع متطلبات الوضع الجديد. وبالرغم من الملاحظات الكثيرة التي يمكن تسجيلها على هذا الكيان وبخاصة وحدته الجغرافية وامكاناته الاقتصادية، وعلى الدور الراهن لاجهزة السلطة المفعم بالاخطاء والنواقص والثغرات، فالواضح انه قابل للتحول بسرعة الى دولة مستقلة وذات سيادة.
ثالثا/ من الواضح ان السلطة الفلسطينية سوف تركز عملها في الفترة الاولى من تنفيذ الاتفاق على ضبط الامن بشقيه الداخلي والخارجي وفقا للاتفاق في مدينة الخليل والقرى والبلدات التي سيجلو عنها الاحتلال. ومنع الاطراف المعارضة لعملية السلام من القيام باي نشاط عسكري ضد اهداف اسرائيلية داخل اسرائيل او داخل الضفة الغربية، وسوف تتعامل مع المعارضة وفقا لسلوكها العملي ازاء هاتين المسألتين. ولن تضع اية عراقيل جدية امام نشاطها السياسي بما في ذلك النشاط العلني ضد عملية السلام وضد اوسلو وضد الاتفاق الجديد، وبذات الوقت لن تتورع عن اعتقال كل قيادات المعارضة اذا تجاوزت الحدود التي تسمح بها ضرورات تطبيق الاتفاق. اعتقد ان تجربة نتائج العمليات العسكرية على الاوضاع الفلسطينية تفرض على المعارضة الفلسطينية التوقف مطولا امام نتائج عملياتها العسكرية على اوضاعها وعلى علاقاتها مع الجمهور الفلسطيني الفلسطيني ومصالحه الوطنية الكبرى.
واذا كانت مقولة العبرة في التنفيذ تنطبق على هذا الاتفاق، وهي المقياس الصحيح لصدق النوايا الاسرائيلية، ولنزاهة وفعالية دور الراعي الامريكي. فاتفاق “الخليل” لن يعود بعد التوقيع عليه ملكاً خاصاً لمن صاغوه أو من وقعوه. وأظنه لن يكون بعد هذا التاريخ ملكاً لا للاسرائيليين ولا للفلسطينيين، بل سيصبح ملكاً للمجتمع الدولي وللقوى الدولية الكبرى، مثله مثل اتفاق اوسلو، وطابا وكل الاتفاقات الدولية. والجميع مسؤول عن التنفيذ، وعن تحويل الشكوك الفلسطينية والعربية في نوايا نتنياهو الى هواجس واوهام تنتمي للماضي وآلامه المرة، وعذاباته القاسية جدا جدا.