وقائع ليلة اعلان الاستقلال وقيام الدولة ـ الحلقة الرابعة

بقلم ممدوح نوفل في 10/11/1997

الحلقة الرابعة

بالرغم من كل الاشكالات التي وقعت في مناقشات المجلس الوطني للقرارات السياسية، وبخاصة حول الفقرة المتعلقة بالقرار 242، فمع مع إطلالة فجر الخامس عشر من تشرين أول 1988 كان كل شيء جاهزا للاعلان عن الاستقلال، والاعلان عن قيام دولة فلسطين لكل الشعب الفلسطيني على الأراضي الفلسطينية التي أحتلت في عام 1967. فمشروع وثيقة الاعلان كان منجزا بشكل كامل، وكان جاهزا للتلاوة الرسمية على أعضاء المجلس. فقد سلمه الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، الى أبوعمار منذ عدة ايام. والتدقيق الأول والثاني والعاشر في النص تم. وعرض بصيغته النهائية قبل وخلال أعمال الدورة التاسعة عشر على جميع القوى الوطنية الفلسطينية، وعلى عدد من الشخصيات الوطنية المستقلة الفاعلة في العمل السياسي الفلسطيني، ولا ملاحظات عليه. وترجمتة الى الانجليزية هي الأخرى أنجزت خلال أعمال المجلس، على يد فلسطينيان ضليعان في السياسة وفي الأدب الانجليزي، هما البروفسوران إبراهيم أبو لغد وإدوارد سعيد. وصارت الوثيقة جاهزة للتوزيع على الصحافة، وعلى وكالات الأنباء بنصين انجليزي وعربي. وقبل منتصف تلك الليلة كان جميع أعضاء المجلس دون إستثناء مهيئين لاعلان الاستقلال، ومتشوقين لسماع النص. الكل متلهف والكل ينتظر بشوق وأمل وألم. من قرأ الوثيقة من أعضاء المجلس ومن لم يقرأها كان واثقا من أن النص العربي سوف يكون قطعة أدبية جميلة، محبوكة بدقة سياسية. فالكل يسلم بالابداع، وبقوة الحدس السياسي، وجمال اللغة للشاعر محمود درويش. وذات الشيء ينطبق على النص المترجم. فالثقة في القدرات السياسية والأدبية لأدوارد سعيد وأبو لغد عالية جدا. صحيح أن القليل من أعضاء المجلس الوطني والقيادة كانوا على تماس مباشر مع هذان البروفسوران الفلسطينيان اللذان دعكتهما النكبة والحياة السياسية الفلسطينية، إلا أن سمعتهما وشهرتهما الأدبية والسياسية عند الغرب، وفي أوساط المثقفين العرب كانت كافية لمنحهما الثقة الكاملة.

مع إقتراب عقارب الساعة من إشارتها دخول البشرية الدقائق الأولى من فجر 15/10/1988 إلتأمت الجلسة الختامية للمجلس الوطني الفلسطيني بحضور كامل الأعضاء. في حينه ورغم تأخر الوقت استجابت الحكومة الجزائرية دون تذمر لطلب القيادة الفلسطينية بحضور الجلسة الختامية، ولبى أركان السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي في الجزائر الدعوة لحضور تلك الجلسة، دون انزعاج كبير. فجميعهم يعرفون نمط حياة القيادة الفلسطينية وآلية اجتماعاتها، وماراثونية مجالسها الوطنية. ويعرفون بان التوجهات والقرارات السياسية والتنظيمية الفلسطينية الاساسية تؤخذ في العادة بعد منتصف الليل.

بعد إعتلائه المنصة، إفتتح الشيخ عبد الحميد السائح رئيس المجلس الوطني الجلسة. وطلب من أبوعمار رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الصعود للمنصة، وتلاوة نص وثيقة إعلان الاستقلال. ولم ينسى “سيدي الشيخ” رئيس المجلس تنبيه الأعضاء الى ضرورة الاصغاء الجيد لكل كلمة في الوثيقة، قال: “هذه وثيقة هامة جدا وتاريخية، ولا يجوز أن تخرج للعالم وللاجيال اللاحقة وهي ناقصة، وفيها أخطاء سياسية أو لغوية. نهض أبوعمار من مقعدة في الصف الامامي من القاعة. ونهض معه جميع أعضاء المجلس الوطني وأعضاء السلك الدبلوماسي دون استثناء. صعد ببطأ وهدوء الى المنصة، ووقف في المكان المخصص لالقاء الكلمات، فجلس الاعضاء. أخذ أبوعمار يتلو الاعلان بتأن ووضوح. قرأ المقدمة: “بسم الله الرحمن الرحيم…على أرض الرسالات السماوية الى البشر، على أرض فلسطين ولد الشعب العربي الفلسطيني، نما وتطور، وأبدع وجوده الأنساني والوطني عبرعلاقة عضوية لا إنقسام فيها، ولا إنقطاع بين الشعب والأرض والتاريخ”…الخ. خلال تلاوة الفقرة الأولى، كان الصمت الكامل يخيم على القاعة الرئيسة لقصر المؤتمرات الواقع في منطقة حرشية جميلة، الذي بناه الجزائريون في عهد الرئيس بومدين لاستقبال قمة عدم الانحياز. ورغم ضخامة القاعة، ورغم كثافة الحشد، فقد كان بالامكان سماع صوت سقوط الابرة على الأرض. كان ذلك الهدوء غريبا على الفلسطينيين، ولم تشهده أي من الدورات السابقة للمجلس الوطني الفلسطيني. واصل أبوعمار القراءة، وتلى الفقرة المتعلقة بالانتفاضة: “إن إنتفاضة الشعب الفلسطيني الكبرى المتصاعدة في الارض المحتلة، مع الصمود الأسطوري في المخيمات داخل وخارج الوطن، قد رفعا الادراك الأنساني بالحقيقة الفلسطينية، وبالحقوق الوطنية الفلسطينية، الى مستوى أعلى من الاستيعاب والنضج. وأسدل ستار الختام على مرحلة كاملة من التزييف، ومن خمول الضمير. وحاصرت العقلية الرسمية الاسرائيلية التي أدمنت الاحتكام الى الخرافة والأرهاب في نفيها الوجود الفلسطيني”…الخ. خلال تلاوة هذة الفقرة قوطع بالتصفيق والهتاف بحياة الانتفاضة، ووقف جميع الأعضاء والمدعويين تحية للانتفاضة وللمنتفضين. ثم تابع القراءة وإقترب من الجملة التي تتضمن النص المباشر على أعلان الاستقلال وقيام دولة فلسطين. توقف أبوعمار للحظة، وتظاهر بالرهبة والانفعال..ثم تابع القراءة وقال : “إستنادا الى الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني للشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين، وتضحيات أجياله دفاعا عن حرية وطنهم وإستقلاله. وإنطلاقا من قرارات القمم العربية، ومن قوة الشرعية الدولية التي تجسدها قرارات الأممم المتحدة منذ عام 1974، وممارسة من الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير، والاستقلال السياسي والسيادة فوق أرضه، فإن المجلس الوطني الفلسطيني يعلن بإسم الله، وبإسم الشعب العربي الفلسطيني، قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف”.

بالكاد أنهي أبوعمار هذه الجملة، حتى وقف جميع الأعضاء، ودوت قاعة قصر الصنوبر بالتصفيق والهتاف وبالصراخ بأعلى الأصوات “الله اكبر، عاشت فلسطين حرة عربية”. رددها الحاضرون بصوت، واحد وبدون تحضير مسبق، ثم إرتفعت الأصوات وتداخلت الهتافات. البعض إستمر يصيح بأعلى صوته “الله أكبر عاشت فلسطين عربية” والبعض الآخر راح يهتف “بالروح بالدم نفديك يافلسطين”. وآخرون راحوا يرددون بأعلى أصواتهم ومن أعماق حناجرهم نشيد “بلادي بلادي لك حبي وفؤادي”. جميع الحاضرين نساء ورجالا، أمناء عامين وأعضاء لجنة تنفيذية، ومكاتب سياسية ولجان مركزية للفصائل، هتفوا وصفقوا كالأطفال، وبعضهم إستعاد أيام شبابه، وذكريات المظاهرات من أجل فلسطين. دموع الفرح سالت من عيون الكثيرين. الرجال قبل النساء بكوا فرحا، صرخوا الله أكبر، المجد لفلسطين..الله أكبر المجد للانتفاضة، والنصر للثورة ولمنظمة التحرير. والبعض هتف بحياة القائد العام أبوعمار .

حالة هستيرية سادت المجلس، العواطف تغلبت على كل شيء. الحلم تحول الى حقيقة على الورق. فلأول مرة في تاريخ الشعب الفلسطيني يطلع الفجر الفلسطيني حاملا نور الحلم بالاستقلال. بعض الحاضرين لم يصدق أنه صار لشعب فلسطين دولة أسوة بشعوب الأرض. تعانق الأعضاء بحرارة وهنئوا بعضهم البعض. الجميع ردد “واللقاء حتما في القدس إنشاء الله”. وبعضهم قال “اليوم على الورق وغدا على الأرض إنشاء الله”. الكل فرح من الأعماق رغم معرفته الأكيدة أن الثمن المدفوع باهظ وباهظ جدا. فمن أجل هذا الاعلان عن الاستقلال وعن قيام الدولة الفلسطينية على 17% من أرض فلسطين فقط، تنازل ممثلوا الشعب الفلسطيني عن بقية الأرض الفلسطينية، وأقروا أن إسمها صار إسرائيل. أما الشعب الفلسطيني فقد قدم في الربع الاخير من القرن العشرين، مئات الألوف من الشهداء والجرحى والمعوقين. وبالحساب النسبي فهذا الرقم يفوق ما قدمه أي شعب آخر من أجل مثل هذا الهدف النبيل والمقدس.

جلسة ليلة الاعلان إستمرت حتى الفجر. النوم طار من العيون. المخيمات والمدن والقرى الفلسطينية سهرت مع أعضاء المجلس طيلة تلك الليلة بإنتظار مخاض الولادة. سهروا قلقين فرحين متأهبين للصدام. فالمخاض عسير، والعدو يتربص المولود الجديد، فإذن لا بد من السهر وإبراز الوحدة وإقامة الأفراح، وجعل ليلة الاستقلال ليلة الليالي الملاح. هذا ما تم منتصف ليلة 15 تشرين ثاني في كل أماكن تجمع الشعب الفلسطيني، داخل الوطن وخارجه. في الضفة والقطاع زغردت النسوة في البيوت والشوارع وعلى الأسطح. كبر المشايخ من على مآذن الجوامع، ودق الرهبان والقساوسة أجراس كنائسهم ورددوا ترانيم الأدعية. دعو الرب في الأعالي أن يصون المولود الجديد. الشباب والأطفال والشابات والشيوخ نزلوا الى الشوارع حاملين المشاعل متحدين قوات الاحتلال. غير آبهين الموت. وفي حينها ذعر الاحتلال وصدم من هدير حناجرهم، وبقي مصدوما الى حين. في الجليل والنقب شربوا الأنخاب. في لبنان إحتفلوا بالرصاص وبإطلاق قذائف المدافع على الطريقة اللبنانية. لم يبق مكانا إلا واحتفلوا فيه. في القارات الخمس إحتفلوا، وفي المحيطات والبحار إحتفلوا، في باطن الأرض إحتفلوا وفي أعالي السماء إحتفلوا. وفي العراء والخيم والقصور إحتفلوا أيضا .

في تلك الليلة أنست الفرحة كل أعضاء المجلس الوطني، بأن قراءة إعلان الاستقلال لم تستكمل. وأن رئيس اللجنة التنفيذية تلىنصفه فقط لاغير. بعد خمس دقائق من الهتاف المخلوط بالدموع، حاول الشيخ عبد السائح رئيس المجلس الوطني السيطرة على الجو لكن ذلك كان عبثا. بعد عشرة دقائق كرر هو ومساعدوه المحاولة، لكن محاولتهم بقيت دون جدوى ولم يفلحوا وهات من يسمعهم. بعد ما يقارب الربع ساعة إضطر سيدي الشيخ رئيس المجلس إبن ال 85 عاما أن يصرخ بأعلى صوته. الكل يعرف شيخنا، الشيخ عبدالحميد السائح رئيس المجلس الوطني. رجل تجاوز الثمانين، لكن صرخته كانت أقوى من صرخات أبناء العشرين. إعلان الدولة جدد شبابه وأرجعه الى صباه. أعطاه قوة جبارة، نهض من على كرسيه، نسى نفسه واقفا، صفق، بكى، أنشد مع المنشدين، هتف لفلسطين. ثم صاح بصوت جهوري هو ومن بعده مساعدوه قائلين ولعشرات المرات: ” أيها الأخوة الأعضاء هنيئا لكم بإعلان ميلاد دولتكم، ولكن نرجوكم أن تؤجلوا التعبير عن الفرحة الى ما بعد إنتهاء الجلسة الختامية. ثم لا تنسوا أن الأخ القائد العام أبو عمار لم ينته بعد من قراءة إعلان الاستقلال. نرجوكم المحافظة على الهدوء والسيطرة على المشاعر والعواطف. ثم لا تنسوا أن لدينا ضيوفا أعزاء يحضرون معنا هذه اللحظات التاريخية المباركة، وهؤلاء أتعبناهم وعذبناهم. ثم لا تنسوا أن أجهزة الاعلام المحلية والدولية تنقل كل ما يجري مباشرة على الهواء.
صراخ الشيخ ومساعدوه لم يجدي نفعا، فقد نسى الأعضاء أنفسهم. الجميع تصرف كالتلاميذ المشاغبين في الصفوف الابتدائية. بعضهم تنبه للميكروفونات الموضوعة أمامهم، فراحوا يستخدمونها في الهتاف والنشيد وفي قراءة الأبيات الشعرية، وبخاصة مطلع قصيدة ابو القاسم الشابي “إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر”. أحدهم حول الميكروفون الى إذاعة محلية. مذيع فلسطيني عمل سابقا في إذاعات صوت فلسطين، صوت الثورة الفلسطينية الذي تنقل من مكان لآخر هربا من قصف الأعداء وقصف الاخوة ومطارادتهم.

تذكر ربحي عوض نفسه، وتذكر طاقاته كمذيع فقال بصوته الجهوري: هنا صوت فلسطين صوت الدولة الفلسطينية المستقلة. صوت القدس، صوت نابلس صوت يافا والمثلث، صوت عكا وحيفا والجليل، صوت غزة هاشم والقطاع، صوت النقب، صوت الجليل، صوت الخليل، صوت دولة فلسطين الحرة المزدهرة المستقلة، إستمعوا لنا أيها المواطنين في كل مكان، فصوتنا ينطلق على الموجات القصيرة والمتوسطة ليلا ونهارا. وأضاف مازحا، وبثنا يتواصل خلال فترة القيلولة المقدسة عند القيادة الفلسطينية، والتي تستمر في العادة من الثالثة والنصف وحتى السابعة مساء…هنا صوت فلسطين صوت الثورة المنتصرة. وأضاف إذاعتنا تبث بكل اللغات. وأود لفت إنتباه الاخوة الشهداء، كل شهداء فلسطين، من فلسطينيين وعرب وأوروبيين وعجم وبنغال وفليبينيين…بأن إذاعتنا ستبث فقراتها الخاصة بهم في الأوقات المعروفة لهم ولرب العالمين فقط. وعلى الذبذبات التي حددها شيوخ الشهداء جمجوم وحجازي وعطا الزير، أبو جلدة وأبو دية والعرميط، وعز الدين القسام، وعبدالقادر الحسيني وحسن سلامة، وعبد الرحيم محمود، وأبو جهاد وأبو علي إياد، وأبو الوليد وأبو صبري، وخالد نزال، والحاج سامي أبو غوش، وغسان كنفاني.

سيطر ربحي بإذاعته على قاعة المجلس. وبصوته وكلماته المؤثرة أبكى وأسال دموع العديدين من أعضاء المجلس. وقبل أن ينهي بثه، ركض نحوه أحد مساعدي رئيس المجلس الوطني وهمس في أذنه. فجأة أنهى ربحي فقرته الاذاعية بالقول: نهنئكم ونحييكم، ونتمنى عليكم بإسم هيئة رئاسة المجلس أن نفسح للأخ أبوعمار القائد العام للثورة الفلسطينية المجال لاستكمال تلاوة بيان إعلان الاستقلال. وندعوكم بعد ذلك لأمسية تحييها إذاعتنا، إذاعة دولة فلسطين على شرفكم في الساحة الخارجية أمام قاعة المؤتمرات.

بعد هذه الوصلة المؤثرة جلس الأعضاء في أماكنهم وتابع أبو عمار تلاوة بيان إعلان الأستقلال، وختمه بترتيل فقرته الأخيرة “وفي هذا اليو م الخالد، في الخامس عشر من تشرين الثاني 1988 ونحن نقف على عتبة عهد جديد ننحني إجلالا أمام أرواح شهدائنا وشهداء الأمة العربية الذين أضاءوا بدمائهم الطاهرة شعلة هذا الفجر العتيد. وإستشهدوا من أجل أن يحيا هذا الوطن….إننا ندعو شعبنا العظيم الى الالتفاف حول علمة الفلسطيني، والاعتزاز به والدفاع، عنه ليظل أبدا رمزا لحريتنا وكرامتنا في وطن سيبقى دائماوطنا حرا لشعب من الاحرار”. وأنهى أبوعمار خطابة بتلاوة آية من القرآن الكريم “قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، .بيدك الخير إنك على كل شيء قدير” صدق الله العظيم …

بعد الانتهاء من قراءة إعلان الاستقلال رفعت الجلسة، وعادت الأجواء التي سادت عند بداية الخطاب. وقبل مغادرة القاعة أذاع صوت الثورة صوت الدولة نشرته الاخبارية الاولى جاء فيها على لسان ربحي وبصوته الجهوري: “ما كاد السيد ياسر عرفات رئيس دولة فلسطين يعلن قيام دولة فلسطين على الورق، وبالكاد أنهى تشكيل حكومته حتى أعلن السيد جمال الصوراني إستقلال إقليم بيافرا الفلسطيني، عفوا، إستقلال قطاع غزة عن دولة فلسطين وإلحاقه بجمهورية مصر العربية. وتفيد المعلومات أن الرئيس ياسرعرفات أصدر أوامره لقوات ال 17 وال 21وال 19 والبحرية باغلاق الحدود الدولية الفلسطينية المصرية. هذا ويفيد مراسل إذاعتنا عن هبوط القوة البحرية بالمظلات.. ونزول قوة ال 17 من الزوارق. ونقلت الوكالات أن إسرائيل إعتبرت حركة القوات الفلسطينية خرق للاتفاقات. وتؤكد المعلومات الواردة من قطاع غزة وجود حشودات مربعة الأطراف: مصرية وعرفاتية وصورانية وإسرائيلية، تستعد كلها للدخول في قتال دامي، ولذا فإن صوت الثورة صوت الدولة الفلسطينية سيبقى يبث برامجه بإستمرار. وقد جائنا الآن نبأ عاجلا: تفيد المعلومات أن السيد محمود عباس “أبو مازن” قد تعرض لمحاولة إغتيال، حيث ألقي على سيارته قنبلة يدوية دفاعية حارقة. ومن الجدير ذكره أن السيد محمود عباس سبق وأن تم تعيينه وزيرا لاستيعاب اللاجئين الفلسطينيين في الدولة الفلسطينية. وتفيد المعلومات أن قوات مشتركة من الأمن المشترك والأمن العسكري ومن الأمن المركزي بقيادة أبو الهول توجهت الى مكان الحادث وفرضت منع التجول على المنطقة، وألقت القبض على الفاعل، وتبين أنه فلسطيني لاجىء يتيم قتلت أمه وأباه في المجزرة الشهيرة التي تعرض لها مخيم شاتيلا عام 1982، وأنه إعترف بفعلته، وقال للمحققين إن ما قام به ليس سوى إحتجاج أولي على برنامج السيد محمود عباس المتعلق بعودة اللاجئين الى ديارهم، والذي يؤجل عودة أبناء مخيم شاتيلا عدة سنوات.

بعد إنتهاء النشرة الاخبارية ساد الصمت من جديد، وأكمل أبوعمار قراءة وثيقة إعلان الاستقلال. بعدها رفعت الجلسة للاستراحة ولاستكمال الاحتفال. مباشرة بعد رفع الجلسة عادت الهتافات تدوي داخل القاعة، ورويدا رويدا بدأت الأصوات تتردد في كل أقسام قصر المؤتمرات. فقد خرج جميع الأعضاء من القاعة الرئيسة، وتوجهوا الى الساحة وهم يرقصون ويغنون وينشدون لدولة فلسطين التي ولدت يوم 15 تشرين الأول من عام 1988.

في الساحة الرئيسية وأمام عدسات التلفزيون التي كانت تبث صور الاحتفال على الهواء مباشرة، وأمام كمرات مئات الصحفيين، تظاهر أعضاء المجلس كماكانوا يتظاهرون في الخمسينات والستينات من أجل الوحدة العربية، وضد توطين اللاجئين، وضد حلف بغداد، وضد المشاريع الأمريكية والاستعمارية. ساروا في مظاهرة ضخمة رفع خلالها أبواياد وجورج حبش وأبوالهول على الأكتاف. هتفوا في المظاهرة فلسطين عربية وبالروح بالدم نفديك يا فلسطين، وردد المتظاهرون خلفهم ذات الهتاف. ونظمت حلقات الدبكة على الطريقة الفلسطينية القديمة. الجميع دبك، رقص وكل حسب طاقته ومهارته. البنات شبكن أياديهن بايادي الرجال. ودبكوا معا شمالية وغزواية وغورانية وبدوية. الكل إستعاد شبابه، كبار السن إسترجعوا ذكرياتهم، والشباب أبدعوا في الدبكة وفي الغناء وفي إلقاء الأبيات الشعرية الحماسية. خلعوا مواويل، وميجانا وعتابا، وعلى العين يا أبو الزلف. غنوا للارض غنوا للشجر، غنوا للحجر حتى التأليه والتقديس. إستمرت الحفلة ساعة وساعتان، والكل نشيط وحيوي وكأن الوقت اول السمر. الساعة قاربت الرابعة صباحا والكل يعمل من العاشرة صباحا، ورغم ذلك كان الجميع يتمتع بحيوية كبيرة وبنشاط عال. ولم تتوقف الحفلة إلا بعد تكرار نداء من هيئة رئاسة المجلس عبر الميكوفونات “نرجو من جميع الأعضاء التوجه الى قاعة الاجتماعات لاستكمال الجلسة ومناقشة توصيات اللجان، ونعتذر للاخوة الصحفيين، فالجلسة سوف تكون مغلقة ” .

بعد ساعات الفرح التأمت الجلسة، وجلس الجميع في مقاعدهم. وتناوب رؤساء اللجان السياسية والمالية والقانونية والعسكرية ولجنة الانتفاضة على تلاوة توصيات لجانهم، وتحولت جميعها بسرعة فائقة وبدون جهدكبير الى قرارات. المؤيدون رفعوا أيديهم مع القرارات السياسية، والمعارضون ثبتوا معارضتهم وذات الشيء فعل المتحفظون.فالتوصيات كانت مطبوخة في اللجان سلفا وفقا للعادة الفلسطينية.. وما يختلف حوله يرفع الى القيادة الفلسطينية وهناك تسوى الخلافات وفقا لتقليد التراضي حول المسائل المستعصية. وبفضل ديمقراطية التراضي هذه كثيرا ما صدرت القرارات “مفشكلة“ وبصيغة “لعم”تجمع الشيء ونقيضه. بهدف إرضاء هذا الفصيل بكلمة وذاك بجملة، وثالث بنقطة أو فاصلة، تمكنهم من العودة الى كوادرهم وقواعدهم والأدعاء أمامهم بإنتصار مواقفه وخطهم .
في حينه أصدر المجلس قراراته وأعلن قيام الدولة الفلسطينية. ولم يعلن أي شيء حول رئيس هذة الدولة، وإكتفي بإحالة هذا الموضوع على المجلس المركزي واللجنة التنفيذية. أما بشأن تشكيل الحكومة الفلسطينية المؤقته فالقرارات أشارت الى أن الحكومة على الطريق، وخول المجلس الوطني اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي بتشكيلها في الوقت المناسب، ووفقا للظروف الوطنية العامة وحسب ضرورات ومتطلبات النضال الفلسطيني.

حقيقة لم يجر التوقف لا في الدورة التاسعة عشرة ولا في التحضيرات التي سبقتها أمام موضوع إنتخاب رئيس لدولة فلسطين. ولم يطرح الموضوع على جدول أعمال المجلس الوطني كنقطة رئيسة، فجميع القوى والأعضاء إعتبروها مسألة إجرائية وغير ملحة و يمكن البت بها لاحقا. المهم الآن هو إعلان الاستقلال، والاعلان عن قيام دولة فلسطين، وما عدا ذلك تفاصيل ليس صعبا الاتفاق لاحقا حولها. هكذا كانت المواقف المعلنة وهكذا كان الرأي السائد. أما غير المعلن منها فالشهور القادمة كفيلة بكشفها، خاصة وأن قرارات المجلس منحت اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي صلاحيات إضافية تمكنها من معالجة هذه التفاصيل..ومن ضمنها مسألة تشكيل الحكومة وإنتخاب رئيس لدولة فلسطين.