هل ستنجح اولبرايت باستعادة الثقة بنزاهة دور الرعي الامريكي ؟

بقلم ممدوح نوفل في 08/11/1997

مدلولات وآفاق الحركة الامريكية الجديدة

اذا لم تقع مفاجئات، ونجح منسق عملية السلام “دينس روس” في مهمته، فستقوم وزيرة الخارجية الامريكية “مادلين اولبرايت” بزيارة منطقة الشرق الاوسط لاول مرة منذ توليها هذا المنصب الرفيع. فبعد طول انتظار من قبل اهل المنطقة، وتردد وتمنّع غير مفهومين من قبلها، عقدت عزمها على معالجة اوضاع عملية السلام، واحيائها على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي واعطائها دفعة جديدة من الحيوية والنشاط. وقررت اداء الزيارة، وحددت اواخر الشهر الجاري موعدا لها. وحددت علنا، ومن بعيد، رؤيتها لأسس اعادة عملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي الى مجراها الطبيعي، ولاعادة المفاوضات بين الجانبين لداخل الغرف المغلقة، بدلا مواصلة التفاوض عبر وكالات الانباء وفي الصحف والجرائد وفي الشوارع. ولم يتأخر منسق عملية السلام “دينس روس” في الوصول للمنطقة والشروع في استطلاع مواقف الطرفين، وتحضير الاجواء المناسبة للزيارة. كما لم يتأخر الرئيس الامريكي بيل كلينتون عن تقديم دعمه الشخصي الكامل لمهمة وزيرة خارجيته “اولبرايت” ولما تحمله في جعبتها من مشاريع وافكار امريكية، تم استخلاصها من الاتصالات والمشاورات الموسعة والمكثفة التي اجرتها الادارة الامريكية مع العديد من زعماء المنطقة بمن فيهم اطراف النزاع. فهل سينجح “دينس روس” عبر جولاته الكوكية بين القدس ورام الله في تحضير الحدود الدنيا من الاجواء الملائمة لزيارة اولبرايت ؟ ام ان اعداء السلام من الجانبين والمتضررين الاقليميين، سينجحون في تعطيل الزيارة وافشالها ؟ وهل ستنجح وزيرة الخارجية الامريكية في استعادة الثقة المفقودة بعملية السلام وبدور الراعي الامريكي..؟
لقدت رفضت السيدة اولبرايت طيلة عهدها، القصير نسبيا، الاستجابة لاي نداء من النداءات الكثيرة التي اطلقها انصار السلام في المنطقة. ورغم سفك الدماء وتدهور الاوضاع في المنطقة فقد آثرت التريث وعدم التسرع ورفضت على مسمع ومرآى كل شعوب المنطقة رؤية التدهورالمتواصل في اوضاع مسيرة السلام على مساراتها الثلاث. وهذا الرفض العنيد دفع باهل المنطقة شعوبا وحكومات، بما في ذلك بعض قوى السلام الاسرائيلية، الى تحميل الادارة الامريكية قسطا كبيرا من المسؤولية عن تآكل واهتراء عملية السلام، وتوتر العلاقة العربية الفلسطينية ـ الاسرائيلية ووصولها ادنى واسوء مستوياتها. ولا شك في انها تتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية ايضا عن صعود التطرف في شتى انحاء المنطقة بما في ذلك داخل اسرائيل، وعن تبدد غيمة السلام وتلبد غيوم الحرب مكانها في سماء الشرق الاوسط. فاغلاقها أذنيها طيلة عام كامل في وجه كل الدعوات الفلسطينية والعربية والاوروبية التي طالبتها مرارا وتكرارا بالتحرك لانقاذ ما يمكن انقاذه من عملية السلام، شوه صورة رعاتها، وبخاصة صورة الراعي الامريكي، امام الشعب الفلسطيني وكل شعوب المنطقة المتطلعة للعدل. وأضعف قوى وحركات السلام، وانعش المتطرفين ومكّنهم من ترويج بضاعتهم في كل ارجاء المنطقة. ومنح نتنياهو فرصة ليفعل ما يشاء وليظهور بمظهر الزعيم الوطني المدافع الامين عن مصالح اسرائيل المباشرة والاستراتيجية. وساهم في تكريس التقييم الاستراتيجي للاوضاع الدولية، القائل بان الادارة الامريكية لم تعد تتعامل مع عملية صنع السلام في الشرق كمهمة استراتيجية تستحق الرعاية والاهتمام المتواصل، ولم يعد لها الاولوية على سواها من القضايا الدولية الاخرى. بعدما تيقنت من ان مصالحها الاستراتيجية في الشرق الاوسط ليس معرضة للخطر من الان وحتى اشعار آخر. اما توقيت زيارة السيدة اولبرايت للمنطقة بعد الانفجار الدموي الذي وقع في القدس وراح ضحيته قرابة 200 من المدنيين الاسرائيليين الابرياء، وبعد وصول العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية على حافة الانفجار الدموي، فقد كرس الانطباع الموجود عند اهل المنطقة بانه لو لم تسخن اجواء المنطقة، ولم تتدهور العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية، ولم تقع عملية سوق محنا يهودا، ولم تسفك دماء على ارض المنطقة، لما تحركت ادارة كلينتون ولما تمت زيارة روس واولبرايت للمنطقة.
واذا كان من غير المفيد لشعوب المنطقة وبخاصة شعب فلسطين الدخول الآن في متاهات البحث عن سر اهمال السيدة اولبرايت لعملية السلام وكل قضايا الشرق الاوسط منذ توليها مهمتها وحتى الان، فلعل من المفيد للسيدة وزيرة الخارجية الامريكية ان تعرف قبل ان تصل الى المنطقة بان الشعب الفلسطيني وقواه الواقعية فقدوا، منذ فترة زمنية طويلة، الامل في الوصول الى عشر سلام عادل مع حكومة نتنياهو بواسطة الادارة الامريكية الحالية. وفقدوا الامل حتى بهدنة امنية سياسية طويلة يرتاحون فيها، ولايسمعون اصوات الجرافات الاسرائيلية وهي تبلع ارضهم. وهم لا يعولون كثيرا على زيارتها للمنطقة، رغم ترحيبهم بها وشكرهم مقدما لكل جهد تبذله من اجل صنع السلام في المنطقة.
لقد شدد الرئيس كلينتون ووزيرة خارجيته على أهمية استعادة الثقة المفقودة بين الطرفين. اعتقد بان الكلام الامريكي حول هذا الموضوع غير واقعي ولا معنى له في الظرف الراهن وينطلق من ارضية مهزوزة. فجبال من الشكوك في النوايا والاهداف القريبة والبعيدة لا تزول في اسبوع او شهر. فقبل الحديث عن استعادة الثقة بين الفلسطينيين والاسرائيليين لابد للادارة الامريكية من استعادة ثقة شعوب ودول المنطقة، وبخاصة المكتوين بنار الاحتلال الاسرائيلي، المفقودة كليا، بدورها وبقدرتها على حماية الاتفاقات التي يتم توقيعها في البيت الابيض. ومطالبة باستعادة ثقة دول المنطقة بجدية ونزاهة وعدالة رعايتها لعملية السلام. فالادارة الامريكية متمهة بالانحياز الكلي والتام لاسرائيل، ومتهمة “بتدليل” نتنياهو الى درجة الانغرام. واذا كانت شعوب المنطقة قادرة على استيعاب وتفهم بان تكون الادارة الامريكية منحازة جزئيا لاسرائيل كي تستطيع التأثير وديا على مواقفها، لكنها بالتأكيد لا تستطيع استيعاب بان يكون انحيازها كاملا ومطلقا وعلى حساب مبادئ العدل، وعلى حساب القوانين والاعراف الدولية. فغالبية الشعب الفلسطيني، ان لم يكن كله، مقتنعون بان هذه الادارة ،لاعتبارات امريكية داخلية صرفة، صمّت اذنيها واغلقت عينيها عن تدهور اوضاع عملية السلام، وعن كل ممارسات نتنياهو المتعارضة مع الاتفاقات التي تم توقيعها في البيت الابيض. وتجنبت بوعي ممارسة اي ضغوط على نتنياهو كي لا تصدم بالحكومة الاسرائيلية وقوى الصهيونية العالمية التي تساندها وتدعمها. وأظن بان لا احد يستطيع ضمان وقوع تبدل في موقف الادارة الامريكية الحالية من سلوك وممارسات نتنياهو، وتجربة عام كامل من عمر حكومة نتنياهو اكبر برهان. واعتقد بان غياب التضامن العربي الحقيقي وغياب الموقف العربي الموحد شجع ويشجع الادارة الامريكية على عدم التفكير بالضغط على نتنياهو، والصمت عن التنكيل الوحشي الذي يلحقه يوميا بالفلسطينيين ارضا وشعبا وقيادة، وبعملية السلام وقواعدها، وباتفاق اوسلوا وما تلاه من اتفاقات أخرى، والتساهل معه في تطاوله على السلطة وسعيه لهرجلة اوضاعها. فالصمت على مواقف وممارسات نتياهو المتطرفة، وبيع العرب والفلسطينيين كلاما معسولا داخل الغرف المغلقة، اسهل على الادارة الامريكية من مواجهة حكومة الليكود ومواجهة القوى الكبيرة التي تساندها داخل وخارج امريكا .
أظن بأن الشعب الفلسطيني رغم استحسانه للاسس التي اعتمدتها السيدة اولبرايت لاعادة المفاوضات الى مسارها الاصلي، فانه لن يأخذها على محمل الجد، وسوف يبقى ينظر لها باعتبارها كلاما معسولا سمع منه ومثله الكثير الكثيرعلى مدى 6 سنوات، ما لم يلمس موقفا امريكيا حاسما من الاستيطان، وملزما لنتنياهو بدفع كل مستحقات المرحلة الانتقالية، وسيبقى يعتبرها كلاما جميلا ينقصه التطبيق. فالعاقل لا يلدغ من الجحر مرتين او اكثر. واعتقد بان مصير بقية الاسس التي حددتها اولبرايت لاعادة عملية السلام الى مجراها الطبيعي واستئناف المفاوضات بين الطرفين، سوف تتبخر ولن يبقى منها سوى ما يقبل به نتنياهو. ويعتقد الفلسطينيون بان مصير الاسس التي حددتها اولبرايت لاعادة عملية السلام الى مسارها الاصلي لن يكون افضل من مصير اتفاق معابر الحدود، او مصير اتفاق باريس الاقتصادي، او مصير الاتفاق حول انسحاب الجيش الاسرائيلي من منطقة “أ “، الذي استحق في آذار الماضي وشطبها نتنياهو فور وقوع عملية محنا يهودا في القدس، قبل ان يتم التحقق من الجهة المسؤولة عن هذه العملية المدانة، وقبل ان تتمكن اجهزة الامن الاسرائيلية والفلسطينية من التعرف على هوية المنفذين، والتي ما زالت مجهولة حتى الان .
وهو مقتنع ما لم يثبت العسكس، بان المتطرفين الاسرائيليين بزعامة نتنياهو سوف يحاصون كلام كلينتون والبرايت كما حاصروا الصحف والمجلات ومنعوها من الوصول اليه. وسوف يطوقون جولة روس واولبرايت تمام كما طوقوا المدن والقرى الفلسطينية، وسوف يحدون من حرية حركتها السياسية تماما كما حدوا من حركته على مدى اكثر من عشرة ايام كاملة. ولا يستبعد الفلسطينيون ان تخرج اولبرايت، اذا اصرت على تنفيذ كلامها وهي متهمة بدعم التطرف والارهاب الفلسطيني، تماما كما اتهمت القيادة الفلسطينية بهذه التهمة وبما هو اخطر منها من التهم الجاهزة عند المتطرفين الاسرائيليين للتصدير، ولتحميلها فورا لكل من لا يوافقهم على كامل مشاريعهم وبرامجهم ومخططاتهم السياسية والايدلوجية. ويريد شعب فلسطين من السيدة اولبرايت ان تلزم نتنياهو وحكومته بتنفيذ الاتفاقات التي وقعت في البيت الابيض وليس اكثر. وبخاصة تنفيذ الانسحاب الاول من الارياف الفلسطينية الذي استحق في اذار الماضي ولم ينفذ حتى الان، وتنفيذ الانسحاب الثاني الذي يستحق في الشهر القادم وهذا مشكوك به. ويريد منها وقف سلب المستعمرون لارضة، ومنعهم من اقامة مستعمرات جديدة. ويريد ان يرى ويلمس افعالا امريكية ملموسة بعد ان شبع من كلامها ووعودها، ويعتقد ان من حقه ان يتذوق طعم ثمار السلام، وان يستفيد من نتائجها السياسية والامنية بعد ان شبع كلاما معسولا وجميلا على مدى 6 سنوات من عمر عملية السلام وما تخللها من مفاوضات.
اعتقد بان المدة التي ستقضيها السيدة اولبرايت في المنطقة، والاسلوب الذي ستتبعه في معالجة قضاياها الشائكة والمعقدة جدا، والنتائج المحدودة جدا المتوقعة لزيارتها لن تكون كافية لاقناع شعوب المنطقة وبخاصة شعب فلسطين بنزاهة وجدية دور الراعي الامريكي وهو لا يطلب المستحيل حتى يقتنع. كل ما يطلبه من الادارة الامريكية حامية العدل والديمقراطية والقانون الدولي.. نصرة الحق ومقاومة الباطل. واذا تعذر ذلك فاقله الدفاع عن كرامة البيت الابيض، وارغام نتنياهو على تنفيذ ما وقع فيه من اتفاقات بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية بشهادة رئيس الولايات المتحدة الامريكية. ومقياس الشعب الفلسطيني هو ما ستحققه السيدة اولبرايت في زيارتها وبخاصة في ما يتعلق بتنفيذ الانسحابات المستحقة من الارياف الفلسطينية وبوقف الاستيطان وانزال الجرافات من جبل ابو غنيم فمن هناك بدأت المشكلة الاخيرة ومن هناك يجب ان يبدأ الحل، اذا ارادت السيدة اولبرايت تغيير صورتها وصورة ادارتها في وجه شعوب المنطقة وكسب ثقتهم. فهل ستنجح في ذلك ؟ الجواب لن يتأخر أكثر من بضعة اسابيع والتعرف سلفا علية لا يدخل في باب التنجيم بالغيب او باب البحث في المحرمات الدولية.