مراجعة للمفكرة الفلسطينية عن حرب حزيران 1967 – مقدمات الحرب حلقة 1

بقلم ممدوح نوفل في 05/06/1997

(1) مقدمات تاريخية مهدت الطريق لتلك الحرب وجعلتها حتمية
ـ ذكرى حزيران مناسبة لمراجعة الحسابات العربية والفلسطينية
ـ العرب والاسرائيلييون كانوا وقودا للحرب الباردة بين العملاقين عام 67
ـ كل المبادرات الامريكية طرحت ونيران الحرب الباردة مشتعلة في المنطقة
في الخامس من حزيران الجاري تمر الذكرى الثلاثون لحرب حزيران المشؤومة. ومنذ اندلاعها وحتى الآن كتب عنها وفيها الكثير. وهناك اجماع بين المؤرخين السياسيين والعسكريين، عرب واجانب، على ان تلك الحرب المأساوية مثلت بنتائجها المباشرة واللاحقة محطة حاسمة في تاريخ المنطقة وفي تطور مسيرة الصراع العربي ـ الصهيوني. حيث أدخلت الشرق الأوسط، شعوبا ودول، فصلا جديدا من فصول قصة الحرب والسلام التي بدأت قبل أكثر من خمسين عام. ودفع جيلان كاملان من العرب “والحبل على الجرار” وبخاصة الفلسطينيين، ثمن هزيمة الانظمة العربية في تلك الحرب. وبالمقابل حسّن الانتصار الذي حققته اسرائيل حياة جيلين من الاسرائيليين، وأنعش الاهداف الاستراتيجية للصهيونية. حيث تحولت الضفة الغربية وقطاع غزة الى سوق رئيسي للمنتوجات والصناعات الاسرائيلية
ومستودع كبير للعمالة الرخيصة، وقوّت الافكار والقوى المتطرفة في المجتمع الاسرائيلي التي تعتبر الضفة الغربية ارض الميعاد التي وهبها الرب لبني اسرائيل.
اعتقد بأن ذكرى حرب حزيران 1967 كانت وما زالت مناسبة مفيدة للجميع: كتاب وقراء تاريخ ومفكرين وقادة سياسيين لاستذكار تلك الهزيمة المرة والقاء نظرة أعمق وأشمل على مقدمات ومجريات ونتائج تلك الحرب، ووضعها في حسابات الاستراتيجيا والتكتيك عند تحديد المواقف العربية في اطار ما تبقى من عملية السلام الجارية منذ عام 1991. وبخاصة عند تحديد التوجهات الفلسطينية والعربية البديلة لعملية السلام الجارية والمجمدة في آن واحد، عند الاعلان الرسمي عن وفاتها. لاسيما وان الشركاء في العملية ورعاتها ومآزريها يجمعون على انها فقدت اسسها التي قامت عليها، وضيّعت بوصلة التوجيه التي كانت توجهها. وان اتفاق اوسلو، الذي تم التوصل قبل قرابة اربع سنوات يعيش حالة احتضار منذ اكثر من عام، وحالته صارت ميئوسة منها تماما. اما اركان البيت الابيض فقد بدأوا يحضرون اهل “الميت” لاستقبال الخبر بأقل قدر من الانفعال، وتلقي العزاء بأقل قدر ممكن ردود الفعل.
واذا كان تاريخ الشعوب والدول عبارة عن حلقات متلاحقة من افعال الاجيال، وأن هذه الحلقات متداخلة ومترابطة بعضها ببعض، وتؤثر واحدها في الاخرى، فحرب حزيران 1997 لها جذورها التاريخية العميقة في ارض فلسطين المتصارع عليها. وكان لها مقدماتها التي سبقتها وحركتها. وكان للقوى الدولية والاقليمية اهداف استراتيجية وتكتيكية دفعتهم لاشعالها. واستذكار الهزيمة المرة التي نتجت عنها، واستخلاص، او اعادة تذّكر دروسها تفرض بالضرورة عودة للوراء واعادة نبش كل ذلك والتحقق من : هل كانت تلك الحرب حرب عربية اسرائيلية أم أن الطرفين كانوا أدوات لعمالقة كبار، وكانوا وقودا لنيران الحرب الباردة التي كانت مشتعلة بينهم؟ وهل كان بامكان الدول العربية تجنب خوضها بالطريقة التي خاضتها في الزمان والمكان اللذين وقعت فيهما؟ وهل كان بامكانهم تجنبها نتائجها المؤلمة؟.. الخ من الاسئلة التي كانت وما زالت مطروحة. اذا كان جيلنا قد واكب بصورة وأخرى تلك الهزيمة وتجرع نتنائجها المرة، فلا شك في ان من حق الجيل الحالي والاجيال اللاحقة الاطلاع على تفاصيل ذلك، ومن حقه طرح الكثير من الاسئلة حول التاريخ القريب والبعيد. ومن حقهم انطلاقا من نتائجها عليهم، إدانة المواقف العربية في تلك الفترة. واذا كان نزع الأحداث من سياقها والتسرع في الإجابة يقودان إلى الوقوع في الأخطاء واصدار احكام وظالمة، فاعادة تسليط الاضواء على الاوضاع العربية والفلسطينية خلال تلك الفترة، واعادة استعراض مقدمات ومجريات تلك الحرب يساعد على اصدار أحكام موضوعية وعادلة:
قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت الحركة الصهيونية العالمية قد استكملت عام 1947- 1948 بتواطىء مع سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين كل التحضيرات الضرورية لانجاز مشروعها التاريخي في إقامه دولة يهودية على أرض فلسطين. فقد نجحت على مدى عقدين من الزمن “الثلاثينات والاربعينات” بتواطىء مع سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين في نقل مئات ألوف المهاجرين اليهود الاوروبيين الى فلسطين. وكان شعارها انقاذ اليهود من مذابح النازيين الاوروبيين، وأسست منهم جيشا كبيرا ومسلحا باسلحة حديثة. وفي العام 1947 ـ 1948 وجدت الحركة الصهيونية فرصتها الذهبية لانطلاق قواتها: جيش الوكالة اليهودية قوات الهجناة، وقوات شتيرين ومنظمة الارغون” لشن هجمات قوية بربرية ضد الفلسطينييين وأرضهم. وكأن الفلسطينيين هم الذين أوقدوا المحارق لليهود ..
وبعد أندلاع الاشتباكات المسلحة والواسعة بين الفلسطينيين واليهود أصدر مجلس الامن الدولي عام 1947 قراره رقم 181 الذي دعى الى تقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية. في حينه أيدت روسيا وأمريكا والدول الاوروبية مشروع تقسيم فلسطين. ومارست الادارة الامريكية ضغوطاً شديدة على وفود الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة للحصول على ثلثي الأصوات من أجل اصدار شهادة الميلاد للدولة الجديدة، ولإقرار قرار التقسيم. وجاء قرار التقسيم في حينه ليكون بمثابة اشارة لبدء قوات “الهجناة” جيش الوكالة اليهودية، في الهجوم على القرى العربية والانطلاق لارغام سكانها على الهرب من بيوتهم وهجرة وطنهم، ولاستكمال سيطرتها على المناطق التي أعطاها لها قرار التقسيم وتوسيعها باكبر قدر مستطاع من الارض. وتحولت الهجمات في كثير من الاحيان الى مذابح قامت بها قوات الارجون بقيادة مناحم بيغن، وارتكبت مجازر بشعة بحق العديد من القرى العربية وسكانها المدنيين الفلسطينيين. وحرصت السلطات البريطانية في تلك الفترة على عدم التدخل لوقف تلك المذابح. وعجزت الجيوش العربية ايضا عن وقفها، مما دفع بالكثير من أبناء المدن والقرى الفلسطينية للهرب الى الدول العربية المجاورة لفلسطين وبخاصة الاردن وسوريا ولبنان ومصر، ووصل بعضهم الى العراق والى دول اوروبا وامريكا.
اما اعتراف الدول الكبرى السريع بدولة اسرائيل، فقد جاء في حينه ليكرس وجود الدولة اليهودية الناشئة كحقيقة من حقائق منطقة الشرق الأوسط، على حساب أرض فلسطين ومصير شعبها وتطلعاته نحو الاستقلال والتحرر من الاستعمار البريطاني. لاحقا طلب الرئيس الامريكي ترومان من بريطانيا، دولة الانتداب، بالانسحاب من فلسطين قبل 15 ايار 1948 بالرغم من الاوضاع المضطربة فيها. في حينه لم تعارض بريطانيا هذا الطلب، وانسحبت قبل تنفيذ قرار التقسيم بهدف تمكين اسرائيل من الاستيلاء على أراض اضافية خارج الحدود التي رسمها القرار. ولم تنفع كل الاتصالات العربية مع الحكومة البريطانية لثنيها عن سحب قواتها قبل قيام سلطة شرعية تضمن سلامة السكان العرب. وأصرت على الانسحاب في الموعد الذي حددته لنفسها. وبهذا تحمل المجتمع الدولي وبخاصة الحكومتين البريطانية والامريكية مسؤولية تاريخية مباشرة عن المآسي التي لحقت ببعض العرب وكل الفلسطينيين منذ ذلك التاريخ وحتى الان. ويقع على عاتقهما قسطا كبيرا من المسؤولية عن النزاعات، المسلحة الكثيرة والمتنوعة ومن ضمنها حرب حزيران 1967، التي وقعت لاحقا بين اسرائيل من جهة والفلسطينيين والدول العربية من جهة اخرى.
في تلك الفترة لم يكن بأمكان القيادة الوطنية الفلسطينية بزعامة الحاج أمين الحسيني، والشعب الفلسطيني المطرود من أرضه ومن تبقى عليها، القبول بهذه النتيجة المأساوية “الكارثة”. ولم يكن أمام شعب فلسطين وقيادته الوطنية من خيار سوى رفض الاقرار بالأمر الواقع الذي صنعته الصهيونية العالمية والاستعمار الغربي. فرفضوا الاعتراف بالقرار رقم 181 الذي صدر عام 1947 ورفضوا القبول بتقسيم ارضهم الى دولتين عربية ويهودية. فمعظم الأرض كانت لهم وكانت تحت سيطرتهم. وكانو هم الاكثرية واليهود اقلية. اما الخيار الآخر، أي الاعتراف بذلك القرار والتسليم بالأمر الواقع، فكان يعني في تلك الفترة تسليمهم بإغتصاب أرضهم وتاريخهم وبيوتهم وممتلكاتهم التي ورثوها عن الآباء والأجداد. وكان يعني الرضى بالعيش الذليل في المنافي، أوتحت إستبداد الحكم العسكري الاسرائيلي في إسرائيل. في حينه آزرتهم شعوب الدول العربية وحكوماتها وساندت موقفهم السياسي. وطالبت بريطانيا بعدم سحب قواتها من فلسطين قبل قيام سلطة شرعية تضمن سلامة السكان العرب. الا ان الحكومة البريطانية اصرت على موقفها وسحبت قواتها في الموعد الذي حددته، وفسحت في المجال للحركة الصهيونية لاستكمال مشروعها، وهيات الظروف لقواتها لارتكاب مزيد من المجازر وعمليات التهجير المنظمة ضد الفلسطينيين.
وامام صرخات الفلسطينيين بطلب النجدة اتخذت الدول العربية قرارا بدخول قواتها الاراضي الفلسطينية لمساعدة سكانها الفلسطينيين وحمايتهم وضمان مصالهم وحقوقهم. وفي حينه وصلت القوات العراقية الى بلدتي قليقيلية التي تبعد عن البحر 14كلم فقط. ورابطت غربها في مناطق كوفيش ومسكة والطيرة وجلجولية والنبي يامين ومضارب عرب ابوكشك وسواها من القرى والكثبان والتلال الواقعة غربها والمشرفة على البحر باتجاه يافا وتل أبيب. كما وصلت القوات المصرية الى قرية الفالوجة الواقعة بين غزة والخليل. وعلى اثر النزاع المسلح بين جيوش الدول العربية واسرائيل اتخذت الامم المتحدة عدة قرارات بوقف اطلاق النار وتنفيذ قرار التقسيم. الا ان اسرائيل لم تلتزم بتلك القرارات وواصلت هجماتها على القرى العربية، واستولت على مزيد من الاراضي وكان من ضمنها اقسام واسعة من اراضي بلدتي قلقيلية. والحقت هزائم مؤلمة بالجيوش العربية التي هبت لنجدة الفلسطينيين.
اثر تدهور الموقف في المنطقة اصدر مجلس الامن الدولي عدة قرارات لوقف القتال. وفي الوقت الذي كانت فيه الدول العربية تأمل بتدخل دولي فعال لدعم قرار السلام وتنفيذ قرار مجلس الامن كانت اسرائيل تسعى لتوسيع رقعة الارض التي خصصها لها قرار التقسيم لاقامة الدولة اليهودية. ورفض بن غوريون وقف المعارك ورفض تحديد حدود دولة اسرائيل. وما زالت اسرائيل من الناحية الدولية حدودها هي الحدود التي رسمها قرار التقسيم. لاحقا وافقت اسرائيل على توقف القتال وتوجه وفدها الى جزيرة رودس للتفاوض مع الوفود العربية وتوقيع اتفاقات هدنة. وعندما بدأت مفاوضات رودس 13/ كانون الاول 1949 كانت اسرائيل قد استولت على اراض تتجاوز الحدود التي رسمها قرار التقسيم للدولة اليهودية. وفي المفاوضات رفضت اسرائيل الانسحاب منها. واية دراسة متانية للاتفاقات التي وقعتها الدول العربية مع اسرائيل في تلك الفترة في رودس تبين انها كانت اقرب الى اتفاقات سلام. فقد نصت على عدم استعمال القوة العسكرية من اي طرف في تسوية مشكلة فلسطين. واكدت على منع قوات الفريقين من القيام باي عمل حربي ضد الفريق الاخر. ولاحقا شكلت الامم المتحدة في كانون اول 1948 لجنة توفيق من الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا وكان من ضمن واجباتها العمل على تنفيذ قرار الامم المتحدة الخاص بمسألة اللاجئين الفلسطينيين والذي ينص على حقهم في العودة الى ديارهم او تعويض من لا يرغب في العودة.
اما الهزيمة العسكرية التي لحقت، في تلك الفترة بالفلسطينيين “جيش انقاذ ومقاومين”، وبجيوش الدول العربية التي هبت لنجدتهم “ولانقاذ فلسطين”، فقد جعلت من اسرائيل دولة ذات قوة عسكرية لايستهان بها، ومزقت ارض فلسطين، وخلقت في الشرق الاوسط اعقد قضية دولية عرفها القرن العشرين. وشتت شعبها فاستقبلت الاردن وسوريا ولبنان ومصر مئات ألوف اللاجئين. الذين غادروا ارضهم وديارهم وهم يحملون فقط ما خف حمله وغلى ثمنه. وفي العام 1948 اصدر مجلس الامن الدولي قراره رقم 194 الذي تتضمن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى بيوتهم وممتلكاتهم او تعويضهم عنها. وتحملت تلك الدول مع الامم المتحدة مسئولية تامين لقمة العيش لهم. ولا شك ان الحكومة البريطانية باعتبارها الدولة المنتدبة على فلسطين يقع على عاتقها مسؤولية كبيرة عن النزاع بين اليهود والفلسطينيين والعرب الذي بدأ عام 1948 ولم يتوقف حتى يومنا هذا، وعن تهجير مئات ألوف الفلسطينيين من أرضهم وعن خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.
ومن موقع التضامن مع شعب فلسطين والدفاع عن الذات رفضت الدول العربية في حينه الاعتراف بدولة اسرائيل، والتزمت بمحاصرتها ومقاطعتها سياسيا واقتصاديا. وصارت قراءة الكتب عنها، والاستماع الى اذاعتها احدى المحرمات العربية. ورفعت شعار تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، وتدمير الكيان الصهيوني الدخيل على المنطقة العربية. ومنذ عام 1947ـ 1948 عاش من تبقى من الشعب الفلسطيني في وطنه ” قرابة170 ألف” ومن رحل منه قرابة “700ألف” سنوات طويلة على أمل العودة. وراحوا يرقبون التطورات السياسية وينتظرون التحرير، تارة على يد الجيوش العربية التي راحت تستعد لهذا اليوم الموعود، وأخرى عبر النشاطات والتحركات الدولية وبخاصة اجتماعات هيئات الامم المتحدة وقراراتها السنوية. واذا كان حكم التاريخ ليؤكد خطأ ذلك الموقف الفلسطيني العربي في تلك الفترة ، تكتيكيا واستراتيجيا، خاصة بعدما قبلوا في التسعينات اقل مما كانوا يرفضوه سابقا. فهل كان ممكنا قبول العرب والفلسطينيين قرار التقسيم في تلك الظروف والأوضاع التي عاشوها، وهل كان للنتيجة ان تتغير لو قبلوا بالتقسيم ؟ هذا السؤال وسواه من الاسئلة التاريخية تبقى مطروحة على المفكرين والبحاثة الاستراتيجيين..
الحركة الصهيونية اجادت ركوب رياح الحرب الباردة
منذ تاريخ نشوء القضية الفلسطينية كقضية سياسية دولية وقضية لاجئين حاول العالم مرارا وتكرارا عبر مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة، إيجاد صيغة ما لحلها، وتسوية النزاع العربي ـ الإسرائيلي الذي نشا عنها. وطرحت الدول الكبرى عبر السنين مبادرات كثيرة ومتنوعة، وجال ممثلوها في المنطقة ايام واسابيع كثيرة، واتخذت الامم المتحدة “جمعية عامة ومجلس أمن دولي” قرارات عديدة، إلا أن كل تلك المحاولات وتلك الجهود باءت بالفشل لاسباب كثيرة ومتنوعة. وكان لانقسام العالم بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة إلى معسكرين متصارعين، دورا كبيرا في تعطيل وإفشال المحاولات والجهود الدولية السابقة. صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي قطبي الحرب الباردة تقدما خلال سنوات الصراع الطويل بالعديد من المبادرات، لمعالجة أزمة الشرق الأوسط. لكن كل من يراجع تلك المحاولات والمبادرات، يلحظ أنها طرحت في سياق صراعاتهما المشتعلة في نطاق الحرب الباردة الطاحنة التي دارت بينهما. فالشرق الأوسط، وخصوصاً المنطقة العربية، كانت بموقعها الاستراتيجي وثرواتها الكبيرة وبخاصة نفطها واسواقها الواسعة موضع صراع بين العملاقين، وهي ما زالت للآن موضع تجاذب بين الدول الصناعية الكبرى. واظن انها سوف تبقى كذلك لفترة لاحقة طالما بقيت متخلفة اقتصاديا ومنقسمة على ذاتها سياسيا.
ويسجل للحركة الصهيونية والقيادة الاسرائيلية بأنها أجادت منذ مطلع الخمسينات ركوب رياح الحرب الباردة لحظة بدء هبوبها على المنطقة. وحددت موقعها فيها بجانب المعسكر الغربي. وعملت بكل السبل على تأجيج الصراع بين اقطابها لانها لم تستكمل اواخر الاربعينات مشروعها باقامة دولة اسرائيل الكبرى. ولعل ما رواه “كريستيان بينو” وزير خارجية فرنسا في مذكراته يؤكد ذلك. قد ذكر انه التقى بن جوريون قبل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وأبلغه أنه قابل عبد الناصر، وانه يحمل له اخبارا سارة فقد سمع من عبد الناصر ان المشاكل مع اسرائيل سوف يحلها الزمن، وأنه يركز كل جهوده على التنمية ورفع مستوى المعيشة في مصر. وكان رد بن غوريون ان هذا خبر سيئ جدا لاسرائيل. فقد كان بن غوريون يرغب في اشعال نار الحرب في المنطقة لان تعطيل الحرب وقيام السلام معناه بقاء اسرائيل داخل المناطق التي حددتها اتفاقات الهدنة.
لاحقا أمدت الحرب الباردة اسرائيل بكل مقومات الحياة، وزودتها بكل متطلبات القوة اللازمة لمواجهة الامة العربية كأمة واحدة وكشعوب. ولعل رصد ابرز المبادرات الامريكية بشأن حل ازمة المنطقة وربطها بالردود السوفيتية عليها يساعد على تلمس الآثار المباشرة للحرب الباردة بين المعسكرين على قضايا وازمات المنطقة، وفي تفهم الظروف التي احاطت بنضال شعب فلسطين من اجل العودة وتقرير المصير واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
عام1947- 1948 تلاقى الموقف السوفيتي داخل الامم المتحدة وخارجها مع الموقف الأمريكي حول المسألة الفلسطينية، وكان لكل منهما منطلقاته وحساباته الخاصة. في حينه لم يختلف الأمريكان مع السوفيات حول الاعتراف بدولة إسرائيل، وحول الاعلان عن قيام دولة فلسطينية بجانب الدولة اليهودية. لكنهم اختلفوا حول أهداف وجود اسرائيل في قلب المنطقة العربية. فالاتحاد السوفياتي نظر لها باعتبارها عنصر تحريك وتثوير لشعوب المنطقة ضد الامبريالية العالمية، وتصور انها سوف تكون ذات توجهات اشتراكية. أما دول اوروبا الغربية والولايات المتحدة فقد رات فيها استجابة ضرورية لطموحات الحركة الصهيونية، وحلا عمليا للمسألة اليهودية في اوروبا التي تفاقمت قبل وخلال الحرب الثانية، ولمشكلة من تبقى من اليهود الذين اضطهدوا على يد النازية الالمانية ونجو من محارقها. وأرادتها بذات الوقت عنصر حماية لمصالحها “وبخاصة النفطية” المتزايدة في الشرق الاوسط. وعامل ضبط واستقرار لاوضاعه. وقاعدة متقدمة تعتمد عليها في قمع حركة التحرر الوطنية العربية المناهضة لتوجهاتها واهدافها الاستعمارية. وعلى مدى سنوات طويلة كان القلق من الشيوعية والاتحاد السوفيتي يتحكم الى حد كبير في سياستها ازاء النزاع العربي الاسرائيلي. وإذا كان وزير الخارجية الامريكي الاسبق “بيكر” لم يجد على أبواب مؤتمر مدريد أية ضرورة لأن يضّمن أهداف مبادرته وتحركاته، هدف تقليص النفوذ السوفياتي في المنطقة، لانه كان غير موجود من الناحية الفعلية، فمراجعة المبادرات الكثيرة والمتنوعة التي أطلقها أسلافه في الإدارة الأمريكية تبين أن كل مبادراتهم لمعالجة قضايا المنطقة كانت تستهدف من ضمن استهدافاتها الرئيسية طرد السوفيات من المنطقة وتقليص نفوذهم فيها، وتحويلها إلى بحيرة أمريكية، وقاعدة استراتيجية. وحلقة في سلسلة الطوق والحصار الذي عملت مع دول الناتو على بنائه حول الاتحاد السوفياتي وحلفائه في دول وارسو. وعلى امتداد نصف قرن قدمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، جمهوريون وديمقراطيون، العديد من المبادرات بشأن معالجة النزاع العربي ـ الإسرائيلي وحل القضية الفلسطينية. وعارضت بصورة لامبدئية عشرات القرارات الدولية التي أعدت أو صدرت عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. لأنها كانت تعتبرها متعارضة مع مصالحها في المنطقة، ومع مصالح إسرائيل، ومع مصلحة العلاقة الأمريكية ـ الإسرائيلية المشتركة. ولم تتورع عن استخدام حق النقض “الفيتو” مرات كثيرة لمنع مرور بعض تلك القرارات ضاربة عرض الحائط مبادىء العدل، ومصالح دول وشعوب المنطقة.
وعلى امتداد قرابة خمسة عقود من الزمن عملت الادارات الامريكية المتعاقبة، انطلاقا من مصالحها الخاصة، على توثيق علاقاتها بإسرائيل. ووطدتها وطورتها أكثر فأكثر حتى بلغت إلى مستوى التحالف الاستراتيجي. ومن يراجع تاريخ الصراع الفلسطيني العربي ـ الإسرائيلي يجد ان الادراة الامريكية حاولت مرارا وتكرارا معالجة القضية الفلسطينية، ويرى أن كل المبادرات الأمريكية السابقة اختيرت وطرحت ونيران الصراع مشتعلة إما في كل أنحاء المنطقة أو في بعض أجزائها على الأقل. واختيار توقيت طرح المبادرات الدبلوماسية المتعلقة بفض النزاعات عنصر هام ومقرر في مدى تقبل الأطراف المعنية لهذه المبادرات، ولمدى تجاوبهم وتفاعلهم معها. وفي تحديد نوعية وشكل الخطوات العملية الأولى الحاسمة التي يتوجب على أية مبادرة أن تجتازها، لتؤمن لنفسها المقومات الضرورية للانطلاق وللتواصل بثبات، والتوصل الى أفضل النتائج الممكنة. ومبادرة الثنائي بوش وبيكر في 6 آذار1991 والتي توجت بانعقاد مؤتمر مدريد، لم تكن المبادرة الأمريكية الأولى التي تحاول فيها الإدارات الأمريكية المتعاقبة “ضرب حديد المنطقة” وهو ساخن على أمل تطويعه، وإيجاد الحلول لأزماتها بما يخدم أهدافها، ويتلائم مع مصالحها ويعزز مواقعها فيها:
انحياز أمريكي متواصل لاسرائيل
في عام 1947أيدت الادارة الامريكية مشروع تقسيم فلسطين. ومارست ضغوطاً شديدة على وفود الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة للحصول على ثلثي الأصوات من أجل اصدار شهادة الميلاد للدولة الجديدة، ولإقرار مشروع التقسيم وإقرار القرار رقم 181 الذي دعا الى تقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية. وفي العام 1949 وبعد التوقيع على اتفاقية الهدنة المصرية الاسرائيلية دعمت الولايات المتحدة اهداف اسرائيل في الوصول الى خليج العقبة، وفي الاستيلاء على منطقة ام رشاش “ايلات” بالرغم من الرغبة بريطانيا في ابقائها تحت السيادة العربية للمحافظة على اتصال بري بين قواتها المرابطة على ضفاف قناة السويس وقواعدها العسكرية الموجودة في الاردن. وبهذا اعطت الولايات المتحدة وبريطانيا اسرائيل منفذا على البحر الاحمر. استخدمته لاحقا في اقامة الصلات التجارية مع الدول الافريقية والاسيوية، وتهديد الدول الواقعة على هذا البحر.
ومنذ مطلع الخمسينات تعاملت الادارة الامريكية بوضوح مع الصراع العربي الاسرائيلي من منطلق صراعها مع السوفيت. وعملت باتجاهين: الاول توطيد دعائم الدولة الجديدة “اسرائيل” وحمايتها ومحاولة إقناع العرب والفلسطينيين بان وجود دولة اسرائيل بات حقيقة. والثاني ابداء الاستعداد للمساهمة الفعالة في معالجة قضية اللاجئين الفلسطينيين كقضية إنسانية افرزها قيام الدولة الجديدة “اسرائيل”. وبعد اقرار مجلس الجامعة العربية لمعاهدة الدفاع والتعاون الاقتصادي تخوفت الولايات المتحدة الامريكية من نتائجه على اسرائيل. وسارعت الى استصدار تصريح ثلاثي امريكي بريطاني فرنسي في ايار1950 حول تعزيز السلام في الشرق الاوسط. واكدت معارضتها لاستخدام القوة بين دول المنطقة. ومنذ ذلك التاريخ قدمت الولايات المتحدة لاسرائيل وبشكل متدرج ومتصاعد دعماً سياسيا اقتصادياً وعسكرياً خيالياً. وكانت مبيعات السلاح لدول المنطقة ترفض او تقبل وفقا للمواقف من الاتحاد السوفيتي. ويمكن القول بـأن دولة اسرائيل بنت نفسها في الخمسينات اقتصاديا وعسكريا بالاعتماد على الاموال التي قدمتها الحركة الصهيونية، والمساعدات الامريكية والاموال التي دفعتها الدولة الالمانيا المهزومة لاسرائيل كتعويض عن عن أملاك اليهود وعن المذابح التي ارتكبتها النازية بحق يهود اوروبا قبل وخلال الحرب العالمية الثانية. وفي هذا السياق من حق الشعب الفلسطيني وكل الغيورين على مصالحه ان يتسائلوا هل ستسطيع القيادة الفلسطينية استثمار المساعدات الدولية التي تقدم في مرحلة للشعب الفلسطيني ويمكن ان تقدم لاحقا في بناء اسس ومقومات الدولة الفلسطينية كما استفادت القيادة الاسرائيلية من المساعادات التي قدمت لاسرائيل في الخمسينات؟ وهل سينهض من الفلسطينيين والعرب “روتشيلد” ؟ وهل سيعطى هذا الروتشيلد الفرصة للمساهمة الجدية في بناء اقتصاد الدولة الفلسطينية؟ هذه الاٍسئلة وسواها مطروحة الان على الفلسطينيين والعرب والتاريخ لا يرحم احد ..
وفي آذار 1953 أعلن وزير الخارجية الأمريكية جون فوستر دالاس: أن الرئيس أيزنهاور كلفه بزيارة الشرق الأوسط من أجل تخفيف حدة التوتر بين العرب وإسرائيل والعمل على إقرار صلح دائم بينهما. في حينه كان العرب واقعين تحت تأثير الصدمة التي أحدثها “اغتصاب إسرائيل لفلسطين”، وطردها لمئات الآلاف من أبنائها. ولم يكونوا في وضع القادر على الدخول في أي بحث جدي لأية حلول. ورفضوا التجاوب مع حركة دالاس، وارتاحت القيادة الإسرائيلية من تحديد موقف من تلك المبادرة غير المتحمسة لها أصلا. وبهذا ماتت مبادرة دالاس قبل أن تدخل الأطراف في بحثها. اما الاتحاد السوفياتي فكان في ذلك الوقت ما زال مشغولاً في إعادة بناء الذات والتخلص من الكوارث التي الحقتها به الحرب العالمية الثانية، وتوطيد بنى الحلف الدولي “وارسو” الذي بناه في حينه.
وخلال ذات العام، وبالتحديد في 6 تشرين الأول “أكتوبر1953″ أصدر البيت الأبيض بياناً قال فيه: إن الرئيس أيزنهاور سيرسل السيد أريك جونسون كسفير شخصي ليبحث مع حكومات المنطقة في الخطوات الممكنة، التي من شأنها المساعدة على تحسين أوضاع المنطقة. وكانت المهمة الرئيسية الواضحة للمبعوث الامريكي هي البحث في مشروع تنمية المياه في المنطقة، واستثمارها بصورة مشتركة وخلق مصالح اقتصادية مشتركة بين عدد من الدول العربية واسرائيل. واقترح جونسون في حينه مشروعاً لتقسيم مياه نهر الأردن. وتشكيل لجنة دائمة من ممثلين عن مصر، سوريا، لبنان، الأردن، وإسرائيل، للبحث في الموضوع. إلا أن نصيب هذه الحركة الأمريكية كان كسابقتها. ولم ينتج عنها سوى وجود مشروع أمريكي لتوزيع مياة المنطقة محفوظ في غرف وملفات أرشيف عدد من الدول العربية وإسرائيل. لاحقا نفضت الأطراف المشاركة في لجنة المياه في المؤتمر المتعدد الأطراف الغبار عنه على امل الاستفادة منه في تسوية النزاع حول المياه الذي لم يسوى بصورة تهائية حتى الان.
وفي عام 1955 إقترح دالاس وزير الخارجية الأمريكي مشروعاً لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في صحراء سيناء. وتضمن اقتراحه توطين بعضهم في عدد من الدول العربية الأخرى. في حينه رفضت الدول العربية والفلسطينيون الاقتراح. وقامت مظاهرات وتحركات شعبية فلسطينية صاخبة ضد المشروع. وندد الفلسطينيون في كل اماكن تواجدهم بفكرة التوطين، وأكدوا تمسكهم بحق العودة الى ارضهم وممتلكاتهم. وفي عام 1961 وجه الرئيس كينيدي رسالة إلى الملوك والرؤساء العرب عرض فيها تصوره لحل المشكلة الفلسطينية، على أساس حق كل فلسطيني بالعودة إلى وطنه إذا شاء، أو تعويضه عن ذلك إذا لم يشأ. الا ان إسرائيل رفضت بشدة أفكار كينيدي، وشنت حملة واسعة ضدها. ولم يوافق العرب عليها لأنها كانت تحمل في طياتها توطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية، والدعوة بصورة مبطنة للاعتراف بوجود إسرائيل كدولة من دول المنطقة.
وظلت مواقف الادارة الأمريكية منحازة إلى جانب إسرائيل حتى أواخر عهد الرئيس بوش والوزير بيكر “1992”. والاستثناء الوحيد وقع في عهد الرئيس أيزنهاور حين استنكر العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الاسرائيلي على مصر “حرب السويس” وعلى قطاع غزة عام 1956. حيث ضغطت على إسرائيل للانسحاب من قطاع غزة، وضغطت على البريطانيين للانسحاب من منطقة قناة السويس. وعملت بتسارع شديد على توطيد وتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة أكثر فأكثر. في حينه تلاقى الموقف السوفيتي مع الموقف الأمريكي من حرب السويس، وكان لكل منهما منطلقاته وحساباته الخاصة. الإدارة الأمريكية كانت تريد الحلول بالكامل في المنطقة محل الفرنسيين والبريطانيين. أما الاتحاد السوفيتي فبجانب معاداته لاستعمار الشعوب فقد وجد فيها فرصته للتقرب من نظام عبد الناصر ومن كل الحركة القومية العربية. وفرصة لتسويق أسلحته لدول المنطقة وإدخالها في أنظمة تسليح الجيوش العربية. وتقاطعت في تلك الفترة مصالحه مع مصالح مصر حيث اضطر عبد الناصر بعد الهجوم الاسرائيلي على قطاع غزة في 28 شباط 1955على البحث عن مصادر غير امريكية لتسليح الجيش المصري. وفي عام 1956 عقد اول صفقة اسلحة مع الدول الاشتراكية وكسر حصار التسليح الذي فرضته امريكيا والدول الاوروبية على مصر. في حينه عاقبت الولايات المتحدة عبد الناصر على ادخال الاسلحة السوفيتية للمنطقة. واعلنت في 18 تموز 1956 عن وقف استعدادها للمساهم في تمويل بناء السد العالي وتبعتها انجلترا ثم البنك الدولي. وبعد اقل من اسبوع رد عبد الناصر على تلك الخطوة الامريكية البريطانية بالاعلان في 26 تموز عن تأميم قناة السويس. وبدات الاستعدادات البريطانية الفرنسية الاسرائيلية للعدوان على مصر. وليلة10 أكتوبر 1956 شنت القوات الاسرائيلية هجوما واسعا على بلدتي قلقيلية انتقاما للعمليات الفدائية التي كان ينفذها ابناء البلدة ضد المستوطنان والمنشأءات الاقتصادية الاسرائيلية. ونجحت في تدمير آبار المياة التي كانت تعتمد عليها البلدة في ري مزروعاتها، ونسفت مركز البوليس، ودخلت دباباتها شوارع المدينة وقتلت ما يقارب العشرين من ابنائها الملتحقين بالحرس المحلي ومن افراد الجيش الاردني النظامي.
ايزنهاور اضاع فرصة صنع السلام بين العرب واسرائيل
وبعد ثلاثة اشهر فقط من تأميم قناة السويس نفذت قوات الاطراف الثلاث العدوان “اواخر اكتوبر 1956″. وكان هدف القوات الفرنسية والبريطانية هو استعادة السيطرة على قناة السويس. اما الهدف الاسرائيلي من المشاركة في الحرب فقد اوضحه بن غوريون حين قال ” ان هدف اسرائيل من المشاركة في الحرب ومن الهجوم على سيناء هو تحرير هذا الجزء من الوطن. فاسرائيل لم تحصل في حرب 1948 على كل ما تريد”. ولم تدخل دول العدوان الثلاثي في حساباتها الموقف الامريكي المعارض للعدوا. وفوجئت بالموقف السم الذي للرئيس الامريكي ايزنهاور واصراره على انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من منطقة قناة السويس “مدينة بورسعيد”، وارغم القوات الاسرائيلية على الانسحاب من صحراء سيناء وقطاع غزة. ولاحقا عام 1957 تم الاتفاق على تموضع قوات دولية في منطقة شرم الشيخ مهمتها تأمين الملاحة الدولية وتأمين عبور البواخر الاسرائيلية من المضيق. واتيحت لايزنهاور في حينه فرصة لتسوية النزاع العربي الاسرائيلي من اساسه الا ان الادارة الامريكية أهدرت تلك الفرصة الثمينة، وأطالت امد الصراع والنزاع العربي الاسرائيلي.
وفي حينه انتهز الاتحاد السوفيتي العدوان الثلاثي، واعلن وقوفه بجانب عبد الناصر. وهدد رئيس الوزراء السوفيتي “بولجانين” 5/11/1956، باستخدام الصواريخ الروسية البعيدة المدى ضد الدول المعتدية. وفي 11من ذات الشهر اعلن استعداد الاتحاد السوفيتي ارسال متطوعين سوفييت الى مصر للمساهمة في انهاء الاحتلال وطرد المحتلين. ولاقت الخطوة السوفيتية صداها في الشارع العربي عامة والمصري على وجة الخصوص. ومع بدء تغلغل نفوذ الاتحاد السوفياتي في المنطقة أضافت الولايات المتحدة عنصراً جديداً على العناصر الأساسية لسياستها الشرق أوسطية. وباتت مهمة طرد السوفيات وتقليص نفوذهم فيها ركناً أساسياً في كل تحركاتها ونشاطاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، حتى لو كان ذلك على حساب مبادىء العدل وحقوق الانسان. وحاولت بناء احلاف عسكرية واقتصادية تضم عددا من دول المنطقة. وفي عام 1957 طرح الرئيس ايزنهاور مبدأ السياسة الامريكية في المنطقة وعرف في حينه باسمه خلاصته توقيع اتفاقات بين دول المنطقة لمواجهة العدوان المسلح من جانب اي دولة تسيطر عليها الشيوعية الدولية. وفي عام 1958 انزلت قواتها في لبنان بناء على طلب الرئيس اللبناني كميل شمعون. وكانت حجتها حماية لبنان من خطر النظام السوري المقرب من الاتحاد السوفيتي والقريب للشيوعية. وفي تلك الفترة تعمقت الروابط بين مصر وسوريا مما دفع بالبلدين الى اعلان الوحدة بينهما في 22 شباط 1958. ومع اعلان قيام الجمهورية المتحدة احتدم الصراع في المنطقة. ورأت اسرائيل في قيام الوحدة المصرية السورية خطرا على وجودها، وعائقا كبيرا امام اهدافها التوسعية. وفي ايلول 1961 انهارت الوحدة بين مصر وسوريا، وانتهت اكبر ركيزة للوحدة العربية.
السوفيت: دعم دائم للموقف العربي ولكن..
وقراءة تاريخ الدبلوماسية السوفياتية إزاء قضايا النزاع في الشرق الأوسط تبين أن الاتحاد السوفياتي حاول من جهته أكثر من مرة أيضا “ضرب حديد المنطقة” وهو ساخن على أمل تحسين مواقعه فيها، وخلخلة مواقع القطب الآخر ممثلاً بدول اوروبا الاساسية والولايات المتحدة الامريكية. ولتحقيق أهدافه الاستراتيجية الأمنية والعسكرية والاقتصادية، تعمد لاعتبارات متعددة لان يكون من أوائل الدول التي اعترفت بقيام دولة إسرائيل عام 1948. وفي فترة لاحقة على قيام دولة إسرائيل، وتحديداً منذ منتصف الخمسينات “حرب السويس”، كثف الاتحاد السوفياتي من تحركاته وأنشطته تجاه دول المنطقة وتجاه قضايا الصراع. ولم تتوقف اهتماماته وتحركاته حتى بعد انهياره كقوة دولية عظمى. وعلى امتداد سنوات 1956-1966 تمكن من توطيد علاقاته مع مصر ومع عدد آخر من الدول العربية. وفرض نفسه طرفاً اساسيا في معالجة قضايا المنطقة، بعدما كرس ذاته كقوة دولية ثانية تقف بالمرصاد لكل التحركات والنشاطات التي تقوم بها الإدارة الأمريكية والحلف الأطلسي. ولاحقا عمل الاتحاد السوفياتي على إبقاء الشرق الأوسط بصفة عامة في حالة من اللاسلم واللاحرب، ولم يزعجه بقاء المنطقة في حالة توتر دائم وحالة قلاقل واضطرابات. فمن خلال هذه الحالة كان يعزز نفوذه ويقوي مواقعه. واعتمد سياسة النفس الطويل، والتدرج الثابت والبطيء في زحزحة مواقف خصومه الامريكان والاوروبيين. والحق يقال أن السوفيات نجحوا منذ أواخر الخمسينات في تعزيز نفوذهم في العديد من الدول العربية وبخاصة في مصر سوريا على حساب الوجود الغربي عامة والأمريكي على وجه الخصوص. ووجد في الحركة الشيوعية العربية وبعض قوى اليسار الاخرى، في تلك الفترة، خير نصير وافضل داعية له. ومنذ ذلك التاريخ تحول الشرق الاوسط الى ميدان للحرب الباردة.
والآن وبعد انتهاء الحرب الباردة، ودخول الشرق الأوسط بداية عهد جديد، لعل من الضروري والمفيد لمستقبل السلام في المنطقة وفي العالم، ومستقبل العلاقة بين الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى والشعب الاسرائيلي إلقاء نظرة أعمق وأشمل لتاريخ الصراع العربي ـ الاسرائيلي ولدور القوى العظمى وحربهم الباردة في تأجيجه وإدامته كل هذه السنين الطويلة. فالحرب الباردة افرزت خلال مسارها الطويل وفي فترات احتدامها، توسع اسرائيل واحتلالها عام 1967 لبقية الأراضي الفلسطين “الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة والحمة”. واحتلال الجولان السوري وصحراء سيناء وأجزاء هامة من جنوب لبنان. ولعبت دوراً كبيراً في تورط العرب والاسرائيليين في ثلاثة حروب كبيرة دامية ومدمرة ( 67، 73، 82). لقد اصاب وزير الخارجية الامريكي السابق “بيكر” مهندس مؤتمر السلام في مدريد وأظهر الحقيقة عندما قال : إن توقيع الاتفاق على إعلان المباديء “اتفاق اوسلو” بين اسرائيل ومنظمة التحرير تم بفضل إنتهاء الحرب الباردة. وأن اعتراف قادة المنطقة بانجرارهم وتورطهم في الحرب الباردة وانجرافهم مع تيارها يساعد في فكفكة العقد التاريخية الكامنة في نفوس شعوب المنطقة وخاصة التي اكتوت بنيران الحروب الدامية التي شهدتها المنطقة منذ عام 1948 وحتى الآن.