حرب حزيران وضعت شعب اسرائيل أمام الحقيقة الفلسطينية

بقلم ممدوح نوفل في 05/06/1997

(الحلقة الثالثة)
ـ هزيمة حزيران انزلت سقف المطالب العربية والفلسطينية في الصراع
ـ الحركة الاسلامية رفضت الانخراط في الكفاح المسلح ضد الاحتلال
ـ معركة الكرامة كرست دور الفصائل المقاتلة في قيادة منظمة التحرير
قبل حزيران 1967 كان الوجود والنشاط العسكري الفلسطيني لحركة فتح وللقوى الفلسطينية الاخرى سري ومطارد من قبل معظم الدول العربية، بما في ذلك سلطات الحكم العسكري المصري في قطاع غزة. بعد الهزيمة تراجعت الانظمة العربية عن مواقفها من حركة فتح ومن النشاط العسكري الفلسطيني. ووجدت في الحديث عن حرب التحرير الشعبية وعن العمل الفدائي الفلسطيني ما يسلحها في مواجهة غضبة الجماهير وذهولها. ووجدت في النشاط العملي لفصائل الكفاح المسلح الفلسطينية ورقة ضغط يمكن استخدامها في مواجهة اسرائيل وفي العلاقة مع الادارية الامريكية. وعبر بنشاطاتها العسكرية تمكنت حركة فتح في تلك الفترة من استقطاب قطاعات واسعة من الشباب الفلسطيني المثقف، وبخاصة الطلاب المنتشرين في شتى جامعات العالم. ونجحت وبسرعة في استقطاب فئات واسعة من ابناء المخيمات الفلسطينية في الاردن وسوريا ولبنان. وتحرك عدد من قيادتها الاولى للضفة الغربية، وكان من ضمنهم ياسر عرفات، لتنظيم العمليات القتالية ضد الاحتلال وبناء القواعد والخلايا المسلحة حيث أمكن ذلك. وأرست الاسس السياسية والتنظيمية والجماهيرية للاستيلاء على الهيئات القيادية في م ت ف “لجنة تنفيذية ومجلس وطني فلسطيني”. في حينه تخلفت الحركة الاسلامية في فلسطين ممثلة بحركة الاخوان المسلمين في الاردن ومصر، وحزب التحرير الاسلامي، عن تبني هذا الشكل الجديد من اشكال النضال، وشككت في جداوه. وشكك علماؤها في الحالة الاعتبارية لشهداء العمل الفدائي. وشككوا في النزاهة الوطنية لحركة فتح كتنظيم. علما بان نسبة كبيرة من قادة حركة فتح الاوائل والمؤسسيين جاءوا من صلب الحركة الاسلامية ذاتها. اما الاحزاب الفلسطينية ذات التوجهات القومية “حركة القوميين العرب بزعامة جورج حبش، وحزب البعث الاشتراكي بزعامة ميشيل عفلق” فقد حاولت اللحاق بركب حركة الكفاح المسلح. وشكلت لاحقا منظمة حزب البعث العربي الاشتراكي “الجناح السوري” منظمة طلائع حرب التحرير الشعبية “قوات الصاعقة”. اما فرع العراق فقد شكل جبهة التحرير العربية. اما قيادة حركة القوميين العرب فقد اهتزت اوضاعها الداخلية هزة عنيفة، وتعمقت الخلافات الفكرية والسياسية داخلها، وراح بعض كوادرها وقياداتها يطالب بمراجعة شاملة وبالمحاسبة على التبعية المطلقة بنظام عبد الناصر وتخلفها عن ممارسة الكفاح المسلح. ووجد بعضهم في الهزيمة فرصته لتصفية بعض الحسابات التنظيمية والشخصية. وازدادت حدة المطالبة داخل قواعد وكوادر الحركة بالاعلان الرسمي عن سقوط دور الانظمة العربية وجيوشها الرسمية في تحرير فلسطين، وتبني فكرة حرب التحرير الشعبية الطويلة الامد، والشروع الفوري في الكفاح المسلح كطريق رئيس لتحرير فلسطين بدلا عن الاعتماد على الانظمة العربية الرسمية. ولم يتأخر الوقت كثيرا حتى تبنت القيادة هذا الموقف وراحت تعمل على تسريع تدريب معظم اعضائها في مختلف الساحات على حمل السلاح. وارسلت العديد من كوادرها الطلابية للضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، وكانوا في غالبيتهم من اتحاد طلاب فلسطين وممن يدرسون في الجامعات المصرية واللبنانية والاوروبية. وشرعت في مراجعة موقفها من الكفاح المسلح. وتخلت عن شعار “الكفاح المسلح فوق الصفر ودون التوريط” الذي تبنته قبل حرب حزيران 67 بدفع من الرئيس عبدالناصر. وفي خريف 1967 بدات حركة القوميين العرب باعادة تنظيم اوضاعها على الساحة الفلسطينية. وعملت على اعادة ما يمكن اعادة من طلبة الجامعات من ابناء الضفة الغربية وقطاع غزة لاعادة لملمة اوضاعها التنظيمية، والتحضير للشروع في العمل العسكري داخل الضفة والقطاع. كما عملت على تجميع ما امكن تجميعه من كوادرها العسكرية القليلة. وراحت تبحث عن مصادر للتسليح. في حين كانت حركة فتح قد شرعت في تنفيذ ما أمكن تنفيذه من العمليات القتالية ضد قوات الاحتلال وراحت تعمل على اقامة القواعد العسكرية المقاتلة في احراش أرياف الضفة الغربية، وبناء خلايا سرية مسلحة في القطاع.
اواخر عام 1967 نجحت قوات الاحتلال بتوجيه ضربة أمنية قوية للتنظيم الحزبي غير المسلح للحركة، وطالت الضربة أعدادا قليلة من الكوادر العسكرية القليلة اصلا. ولاحقا دخلت قياد الحركة في حوار مع جبهة التحرير الفلسطينية “بقيادة احمد جبريل” للتوحد في اطار تنظيمي عسكري واحد. وفي11/12/67 توحدت في اطار تنظيم اطلق عليه اسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وشكل الطرفان قواعد مقاتلة موحدة. وكان للتنافس على قيادة النضال الفلسطيني المسلح وبروز حركة فتح كقوة رئيسية دورا اساسيا في سرعة توحد التنظيمين. وخلال ذات الفترة ظهر في الساحة الفلسطينية العديد من الحركات والتنظيمات الصغيرة التي تبنت الكفاح المسلح. بعضها كان مؤسس قبل الحرب وبعضها الاخر تأسس بعدها. وتصاعدت أعمال المقاومة المسلحة في الداخل، واصبح الكفاح المسلح الامل الوحيد لابناء فلسطين. في تلك الفترة طلب مني الخروج الى عمان للقاء مع قيادة التنظيم العسكري “شباب الثأر” لمناقشة توجهات العمل الجديدة السياسة والعسكرية، وعرض صورة الوضع.
وخلال ذات الفترة وقعت تطورات دراماتيكية في اوضاع م ت ف حيث اصبح الفلسطينيون في الضفة والقطاع يرزحون تحت نير الاحتلال. وارتفع صوت الفصائل المسلحة واصوات شعبية فلسطينية تطالب بضرورة اعادة النظر في تركيبة م ت ف، وطالبت باستقلالها عن الانظمة العربية المهزومة، وبضرورة تحرير ارادتها وتمكينها من تحمل مسؤولياتها الوطنية ومواجهة متطلبات المرحلة الجديدة. وتحرير ارادة جيش التحرير الفلسطيني من الارتباط بالجيوش العربية وتمكينه من النهوض بمهامه القتالية. في حينة ارتفعت بعض الاصوات تطالب بدمج وحدات جيش التحرير الفلسطيني في اطار التشكيلات الفدائية الفلسطينية. وتجاوبا مع تلك الاصوات قامت قيادة الجيش بفرز اعداد كبيرة من ضباطها للعمل في اطار التنظيمات الفدائية وتولى بعضهم مهام تدريب الكوادر والمقاتلين وشارك بعضهم في قيادة العديد من العمليات القتالية. وبدات فصائل المقاومة المسلحة وبخاصة حركة فتح بالتحرك باتجاه العمل في اطار منظمة التحرير. وكنتيجة لتلك التطورات تقدم احمد الشقيري رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة في نهاية عام 1967 باستقالته الى الشعب الفلسطيني. ولاحقا اجتمعت اللجنة التنفيذية واختارت عضو اللجنة يحيى الحمودة ليكون نائبا لرئيس اللجنة التنفيذية، واسندت اليه مهمة قيادة المنظمة لحين انعقاد دورة المجلس الوطني الرابعة.
وفي اواخر عام 1967 واوائل عام 1968 تسابقت المنظمات الفلسطينية على تنفيذ عمليات عسكرية ضد الاحتلال الاسرائيلي. وسهلت اجراءات غض النظر، التي اتخذتها الحكومة الاردنية، على الفدائيين تنفيذ العديد من العمليات العسكرية من الاغوار الاردنية. ومكنتها من بناء العديد من القواعد القتالية بصورة مكشوفة وشبه علنية على امتداد الحدود الاردنية الاسرائيلية. وتحولت عدة بلدات في الاغوار الاردنية ـ الكرامة، الشونة الجنوبية، المشارع، الوهادنة، وقاص، الشونة الشمالية..الخ الى مراكز لتجمعات الفدائيين ونشاطاتهم العسكرية المختلفة. بما في ذلك التدريب والامداد ونقل السلاح والافراد من الخارج للداخل.
في حينه عهد لي بعد وصولي الى عمان مهمة بناء قاعدة مقاتلة جديدة لابطال العودة على نهر الاردن بالقرب من قرية جسر الشيخ ومن مشروع الكهرباء الذي بني في عهد الانتداب البريطاني والمعروف باسم المشروع. على ان تكون نواتها من اعضاء خلية قلقيلية الذين وصلوا الى عمان مع عائلاتهم. وامام ابداء الرغبة بالعودة للداخل والعمل هناك قيل لي في حينه كلنا سننتقل للداخل ووجودنا في الاغوار وسائر المدن الفلسطينية وجود مؤقت. ونحن ضد العمل على القشرة، ونحرص على ان تكون عملياتنا في عمق ارضنا المحتلة عام 1948 وعام 1967. واسندت للقاعدة مهمات نقل السلاح والافراد للداخل، واستقطاب مقاتلين جدد، واستطلاع مواقع الجيش الاسرائيلي وخطوط مواصلاته، وتنفيذ عمليات قتالية ضد الاحتلال في عمق الضفة الغربية ومناطق بيسان وطبريا وصفد. وللتمويه على وضعي في تلك المنطقة كلف احد الرفاق من قيادة الحركة في الساحة الاردنية ومن كبار الموظفين في وزارة التربية والتعليم باعادتي للوظيفة “معلم”، واستصدار قرار بنقلي من مدرسة عبد القادر الحسيني في وادي الجوز بالقدس الى مدرسة جسر الشيخ حسين الابتدائية في الاغوار الشمالية الاردنية، التي لم يكن فيها سوى صفين احدهما للبنات والآخر للاولاد. وبالفعل ثبت نفسي في القيود كموظف، واستأجرت بيتا في قرية وقاص المجاورة ليكون بمثابة نقطة استراحة خلفية للقاعدة المقاتلة التي بنيناها على نهر الاردن. والتي ضمت في صفوفها بعض اعضاء خلية قلقيلية ممن عثرت عليهم في عمان واربد والزرقاء. ومنذ بداية التشكيل أظهر المحاربون القدامى حماسا منقطع النظير للعمل العسكري. وبرز دورهم كمقاتلين وكرجال استطلاع وكمرشدين للدوريات المكلفة بنقل الافراد والسلاح الى داخل الضفة الغربية. لكنهم اصروا لاحقا على العودة للبلدة والعمل من هناك. اما عملي كمدرس في مدرسة جسر الشيخ حسين فلم أمارسه، ولم اعرف حتى الان طبيعة الاجراء الذي اتخذته الوزارة بحقي. ومارست بدلا عنه مهمات قائد قاعدة مقاتلة ومفوض سياسي لعدد من قواعد الجبهة الشعبية في الاغوار الشمالية.
اواخر عام 1967 اشتد الصراع الفلسطيني الداخلي حول دور منظمة التحرير الفلسطينية كأطار جامع وموحد للنضال الفلسطيني، وحول علاقتها بالانظمة العربية. وتعرضت قيادتها المشكلة من مستقلين لانتقادات شديدة من قبل الفصائل المقاتلة. وبتاريخ 25/12/1967 اصدرت اللجنة التنفيذية للمنظمة بيانا اعلنت فيه انها ستعمل بالتعاون مع جميع القوى الفلسطينية المقاتلة على بناء مجلس وطني فلسطيني جديد تنبثق عنه قيادة فلسطينية جماعية تعمل على تصعيد النضال المسلح ضد الاحتلال وتوحيده وتحقيق الوحدة الوطنية، وتعبئة الجهود القومية، وتطوير اجهزة م ت ف بما تتطلبه المرحلة الجديدة.
معركة الكرامة حسمت وضع المنظمة
ومع تصاعد العمليات القتالية الفلسطينية من الاغوار الاردنية خشيت الحكومة الاسرائيلية من تنامي العمل الفدائي الفلسطيني، ومن تحوله الى قوة مزعجة، وتحول الاراضي الاردنية الى قاعدة لهذا الشكل من النشاط العسكري. ورغم استصغار دايان وزير الدفاع الاسرائيلي وتبسيطه لدور المنظمات الفدائية، حيث وصفها “ببيضة دجاج يسهل كسرها” الا انه رفع من وتيرة تهديداته للحكومة الاردنية، وحذرها من مغبة فتح اراضيها امام نشاط المخربيين “الفلسطينيين”. ولاحقا قرر اخذ زمام المبادرة بتوجيه ضربة عسكرية قوية لتجمعاتها التي تمركزت في بلدة الكرامة. وقبل بدء الهجوم بأيام قليلة كان واضحا للجيش الاردني ولجميع الفصائل الفلسطينية ان الهجوم الاسرائيلي قادم لامحالة. فالحشودات الاسرائيلية غرب نهر الاردن كانت واضحة للجميع، وهدفها العسكري كان واضحا ايضا. في حينه جرى نقاش فلسطيني حول التكتيك الذي يجب اتباعه في مواجهة القوات المهاجمة، وكان السؤال المطروح: هل يتم اعتماد تكتيك حرب العصابات في مواجهة القوات المهاجمة؟ اي تجنب المواجهة المباشرة والانسحاب من البلدة وابقاء قوات رمزية فيها، وتوجيه ضربات لها من الخلف والاجناب بعد توغلها في البلدة. ام اتباع اسلوب الدفاع الثابت بالتحصن في البلدة والتصدي للقوات المهاجمة. في حينه كان موقف قيادة قوات العاصفة اقرب للخيار الثاني. اما قيادة الجبهة الشعبية فكانت أميل للاخذ بالخيار الاول. وبالرغم من هذا التباين فقد اتفق الجميع على التنسيق في المواجهة، واجراء الاتصالات اللازمة مع القوات الاردنية المرابطة في المنطقة، وتشجيعها على اخذ دورها في التصدي للقوات الاسرائيلية في حال وقع الهجوم. في حينه حشدت قيادة العاصفة وقيادة الجبهة الشعبية اعداد اضافية من المقاتلين. ونقلتهم من المدن والمعسكرات الخلفية الى المرتفعات الواقعة بين اضلع مثلث دير علا ـ الكرامة ـ السلط. وزجت قيادة العاصفة بعضهم الى داخل بلدة الكرامة. واستنفرت كل القواعد المقاتلة المتواجدة في الاغوار الاردنية الواقعة بين الشونة الشمالية والشونة الجنوبية.
منتصف ليل 31/اذار/1968 بدأت المدفعية الاسرائيلية التمهيد للهجوم بقصف مدفعي كثيف ومركز، طال كل أحياء بلدة الكرامة والبساتين والمرتفعات المحيطة بها وبمدينة السلط. وقبل بزوغ الفجر تقدمت مدرعاته والياته الميكانيكية واجتازت نهر الاردن من اكثر من معبر، وتقدمت داخل الاراضي الاردنية على أكثر من محور بهدف تطويق البلدة من الشمال والجنوب والغرب. خلال تقدمها واجهت اشكال متنوعة من المقاومة. وبرز دور قاذف ال قاذف آر بي جي المضاد للدروع ودور الالغام المضادة للدبابات في المواجهات التي تمت بين القوات الاسرائيلية المحمولة المهاجمة، والفدائيين الفلسطينيين المدافعين عن الكرامة. بعد اقتراب القوات الاسرائيلية من اطراف البلدة فتحت المدفعية الاردنية نيران مدافعها، واشتركت بفعالية في المعركة. وكان لمشاركتها دورا كبيرا ليس فقط في الحاق الخسائر بالقوات الاسرائيلية، بل والاهم في خلق لاحقا نوع من الانسجام والتعاون بين قطعات الجيش الاردني والفدائيين. وكانت النتيجة عكس ما تمناها الجنرال ديان. فبدلا من القضاء علي المنظمات الفدائية، كما كان يعتقد، مثلت معركة الكرامة نقطة تحول في حياه العمل الفدائي الفلسطيني. فقد ارتفع شأن العمل الفدائي في العلاقة مع الانظمة العربية، وارتفعت اسهمها في صفوف الشعوب العربية وبخاصة الشعبين الاردني والفلسطيني. وهبت جماهير المخيمات الفلسطينية في الاردن وكل المدن والقرى الاردنية لتقديم اشكال متنوعة من التبرعات المادية والعينية للفدائيين. واندفع آلاف الشباب للالتحاق بالعمل الفدائي الفلسطيني. وغصت قواعد ومعسكرات مختلف الفصائل الفدائية بالمتطوعين. وانهالت المساعدات العربية المادية والعسكرية من بعض الدول العربية على منظمات العمل الفدائي الفلسطيني. وتولدت لدى المقاتلين الفلسطينيين ثقة كبيرة بانفسهم وباسلحتهم وبقدرتهم على الحاق خسائر كبيرة بالجيش الاسرائيلي الذي هزم الجيوش العربية. وراح الجميع يتحدثون عن نجاح نظرية حرب التحرير الشعبية، وأنها تصلح لمنطقتنا العربية وان بالامكان خوضها ليس فقط في الاحراش والادغال بل وايضا في المدن والارياف على غرار تجربة التوباماروس في امريكا اللاتينية.
مع بدء الهجوم حاولت مع عدد من كبار ضباط جيش التحرير الفلسطيني الذين التحقوا بالجبهة الشعبية الوصول الى اطراف البلدة، الى أن احتدام المعارك على الشارع الرئيسي في نقطة مثلث ديرعلا السلط الكرامة حالت دون ذلك. واضطررنا الى اللجوء الى احد الجسور الصغيرة، اتقاء من غارات الطيران وقذائف المدفعية التي كانت تنهال على الطرق ومرتفعات المنطقة. ولم نستطع تجاوز المثلث الا بعد انسحاب القوات الغازية وسحبها قتلاها وجرحاها ومعظم معداتها التي دمرت في المعركة. وفي مساء ذات يوم المعركة وصباح اليوم التالي عاد الفدائييون للبلدة وبكثافة اكبر من السابق، واحتفلوا باول نصر ملموس يحققوه على الجيش الاسرائيلي. وتم تجميع الشهداء ونقل الجرحى الى المستشفيات في السلط وعمان. ومنحتهم معركة الكرامة حرية العمل العلني، وبرز التنافس على أشده بين التنظيمات على كسب مجد ونتائج تلك المعركة. وفي اطار التنافس جرى تراشق بعض الاتهامات بين التنظيمات المقاتلة. الا انها توحدت حول ضرورة تثوير اوضاع منظمة التحرير الفلسطينية، وبخاصة تفعيل دور قوات جيش التحرير الفلسطيني واشراكه في العمل الفدائي ضد الاحتلال الصهيوني.
بعد معركة الكرامة اهتزت اوضاع قيادة المنظمة اكثر فأكثر، وراحت تتحرك متفاعلة مع التطورات التي شهدتها الساحة الفلسطينية بعد تلك معركة. فقد برز دور الفصائل المقاتلة ولاحقا اعلنت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بانها قامت بعدة باجراء عدة اتصالات مع كل القوى الفلسطينية لعقد دورة جديدة للمجلس الوطني، ولوضع أفضل الاسس لتشكيل المجلس الوطني الجديد. واعلنت ان الاتصالات اسفرت عن تأليف لجنة تحضيرية تمثلت فيها جميع القوى والمنظمات الفلسطينية المقاتلة. وتولت هذ اللجنة بعد عدة اجتماعات عقدتها في مكتب منظمة التحرير في عمان تسمية 100 من ابناء فلسطين أعضاء في المجلس الوطني واعتمدت اللجنة هذه التسمية، ووجهت الدعوة لعقد المجلس الوطني الجديد. وعقدت الدورة الرابعة في القاهرة في الفترة 10ـ 17 /7/ 1968. ويلاحظ ان عدد اعضاء المجلس الجديد قليل بالمقارنة بعدد اعضاء المجلس السابق. في حينه قيل ان ذلك بسبب الظروف المستجدة ومن اجل اعطاء المجلس الوطني مرونة في الانعقاد ومرونة في مناقشة القضايا المطروحة عليه، وتسهيل اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية المناسبة بشأنها. وتألف المجلس الرابع من ممثلين عن جميع المنظمات الفلسطينية المقاتلة، ومن عدد من الضباط كممثلين جيش التحرير الفلسطيني. وعدد من المستقلين غير المنتمين للتنظيمات،على النحو التالي:
1) 38 عضوا من المكتب الدائم للمنظمات الفلسطينية التالية: حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، طلائع حرب التحرير الشعبية، جبهة التحرير الفلسطينية، الهيئة العاملة لدعم الثورة، جبهة ثوار فلسطين، جبهة الشباب الثوري الفلسطيني، منظمة طلائع الفداء.
2) عشرة اعضاء من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي تضم كلا من : شباب الثأر، ابطال العودة، جبهة التحرير الفلسطينية بزعامة احمد جبريل وهو احد الضباط الفلسطينيين الذين خدموا سنوات طويلة في الجيش السوري، وزعيم القيادة العامة حاليا.
3) عشرون ممثلا لجيش التحرير الفلسطيني وقوات التحرير الشعبية.
4) اثنان وثلاثون عضوا من غير المنتمين الى الفئات السابقة.
سابقة في تعديل الميثاق الوطني
بدأ المجلس دورته بانتخاب هيئة مكتبه من : عبد المحسن قطان رئيسا، وديع حداد نائب للرئيس، زهير محسن نائب للرئيس، وسليم الزعنون امينا للسر. واستطاع المجلس ان يحقق العديد من النتائج الايجابية منها تجميع التنظيمات المسلحة في اطاره، وموافقتها جميعها على قراراته. واكد المجلس ان الكفاح المسلح هو وحده طريق التحرير، وان ابناء فلسطين ملتزمون بسلوك هذا الطريق. وشدد على ضرورة المحافظة على الشخصية الفلسطينية المتمثلة في م ت ف ، وشجب المجلس الدعوات المشبوهة لانشاء كيان فلسطيني مزيف واعطاء شرعية الوجود “لاسرائيل”. واعتبر كل فرد او جهة عربية او فلسطينية تدعو لها عدوة للشعب الفلسطيني. وقرر اعتماد المجلس الجديد بديلا للمجلس السابق. واجرى تغييرا في اسم الميثاق من “الميثاق القومي الفلسطيني” الى “الميثاق الوطني الفلسطيني”. وعدل عددا من مواد الميثاق والنظام الاساسي وحذف بعضها واضاف اليهما مواد أخرى. منها: ان تكون مدة ولايه المجلس سنتان بدلا من سنة، المجلس وحده المخول ضم اعضاء جدد حسب ما تمليه متطلبات المعركة، وذات الشيء بالنسبة لملئ المقاعد الشاغرة، انتخاب رئيس مجلس ادارة الصندوق من المجلس مباشرة، وان يتألف مجلس ادارة الصندوق من 11 عضوا يعينون بقرار من اللجنة التنفيذية. وبشأن الجيش عدل المجلس النظام الاساسي وثبت “تنشئ م ت ف جيشا من ابناء الشعب الفلسطيني يعرف بجيش التحرير الفلسطيني. وتكون له قيادة مستقلة تعمل تحت اشراف اللجنة التنفيذية وتنفذ تعليماتها وقراراتها”. وقرر المجلس ان هدف النضال الفلسطيني يتجاوز ما اصطلح على تسميته ” ازالة آثار العدوان”. ورفض المجلس قرار مجلس الامن الدولي رقم 242 لعدة اسباب منها ان القرار يضمن انهاء حالة الحرب بين الدول العربية واسرائيل، وفتح الممرات العربية المائية للملاحة الاسرائيلية، ولانه يلزم الدول العربية بانهاء المقاطعة لاسرائيل، ويضمن اقامة حدود آمنة وهذا ينطوي على الاعتراف الواقعي باسرائيل. واكد المجلس ان الثورة الفلسطينية جزء من الثورة العالمية على الاستعمار والامبريالية الامريكية بشكل خاص. وفي نهاية اعمالة قدمت اللجنة التنفيذية استقالتها، وقرر المجلس تجديد ولايتها وكلفها باختيار عضوا جديدا بديلا للشقيري المستقيل وليصبح عددها 11 عضوا. وبعد انتهاء اعمال المجلس اجتمعت اللجنة التنفيذية الجديدة وانتخبت يحيى حمودة رئيسا لها، واختارت الدكتور يوسف صايغ ليكون العضو11.
في تك الفترة لم ترم حركة فتح ولا الجبهة الشعبية بكامل بثقليهما القيادي داخل المنظمة واطرها القيادية، وبقيتا تتعاملان معها بتحفظ باعتبارها اطارا شكلته الدول العربية. وجيشها بني من قبل الانظمة العربية وعلى اسس نظامية كلاسيكية ومرتبط بها. وكان واضحا انها تخشى من الاندماج فيها، واكتفت بالسيطرة تدريجيا على هيئاتها القيادية. وراحت تعزز مواقعها في صفوف الشعب الفلسطيني وعلى المستويات العربية الرسمية. ومع حلول اوائل عام 1968 كرست التنظيمات الفلسطينية المسلحة نفسها كممثل للشعب الفلسطيني. وحسمت حركة فتح موقفها باتجاه تحمل المسؤولية الكاملة عن قيادة م ت ف. وقررت زج كل ثقلها في المنظمة والعمل من داخلها. وراحت تضغط من داخل اطر المنظمة وخارجها باتجاه عقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني. وبوحي من هذه التوجهات ومن قرارات الدورة الرابعة قامت اللجنة التنفيذية للمنظمة باجراء الاتصالات اللازمة من اجل اعادة تشكيل المجلس الوطني. وجرت اتصالات بقيادة حركة فتح والجبهة الشعبية ومنظمة طلائع حرب التحرير الشعبية “الصاعقة” وتقرر تأليف المجلس من 105 اعضاء. ووزعت على النحو التالي: حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” 33 عضو. الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 12 عضوا. طلائع حرب التحرير الشعبية” الصاعقة” 12عضوا. جيش التحرير الفلسطيني وقوات التحرير الشعبية 6 أعضاء. المستقلون عن الفصائل 42عضوا. في حينه تحفظت الجبهة الشعبية على النسب واعتذرت عن تقديم أسماء الاعضاء. ورفض جيش التحرير المشاركة ولم تقدم قيادته أسماء ممثليه في المجلس. ورغم هذه التحفظات وجهت اللجنة التنفيذية الدعوات الى اعضاء المجلس الجديد. وعقدت الدورة الخامسة في القاهرة في الفترة 1ـ4 / 2/ 1969. واتخذت جملة من القرارات السياسية لا تختلف في جوهرها عن قرارات الدورة الخامسة. واكدت على ضرورة اعتماد الشعب الفلسطيني على نفسه بصورة رئيسية لتزويد الكفاح المسلح بكل المستلزمات الضرورية. وعملا باحكام المادة 20 من النظام الاساسي للمنظمة قدمت اللجنة التنفيذية استقالتها, ووافق المجلس على الاستقالة وقام بانتخاب لجنة تنفيذية جديدة تألفت من : 1) ياسر عرفات 2) فاروق القدومي 3) خالد الحسن 4) كمال ناصر 5) ابراهيم بكر 6) حامد ابو سته 7) ياسر عمرو 8) محمد يوسف النجار 9) يوسف البرجي 10) احمد الشهابي. واعادت انتخاب عبد المجيد شومان رئيسا لمجلس ادارة الصندوق القومي وعضوا في اللجنة التنفيذية.
وبعد انتهاء اعمال المجلس عقدت اللجنة التنفيذية المنتخبة اجتماعها الاول وانتخبت ياسرعرفات رئيسا لها وقائدا عاما لقوات الثورة الفلسطينية، كما انتخبت ابراهيم بكر نائبا لرئيس اللجنة التنفيذية. وتبين تركيبة اللجنة التنفيذية الجديدة انها كانت عبارة عن ائتلاف سياسي بين حزب البعث العربي الاشتراكي ـ الجناح السوري ـ وبين حركة فتح، ومعهم ثلاثة مستقلين. اما الجبهة الشعبية فقد بقيت خارج هذا الائتلاف. في حينه تلاقت المصالح التنظيمية لحركة فتح مع المصالح السياسية والامنية السورية. فحركة فتح كانت تعتبر الجبهة الشعبية منافسا قويا ولها مصلحة مباشرة في اضعافها سياسيا وتنظيميا. اما حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سوريا فكانت صراعاته طويلة عريضة مع قيادة حركة القوميين العرب. فقيادة الحركة كانت تطمح منذ اوائل الستينات في القيام بانقلاب للاستيلاء على نظام الحكم في سوريا عبر فرعها السوري وبخاصة جناحه العسكري. وسبق لها ان شاركت في تدبير اكثر من حركة انقلابية ضد حكم البعث. وفي تلك الفترة كان جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية معتقلا في السجون السورية.
وعلى خلفية الصراعات التنظيمية الداخلية التي عاشتها حركة القوميين العرب قبل حرب حزيران 1967 والخلافات الفكرية والسياسية حول الوطني والقومي، وحول موقف قيادة الحركة سابقا من الكفاح المسلح، وحول تبني الماركسية اللينينية، وحول طبيعة الارتباط بنظام عبدالناصر، وقع في 22 شباط 1969 انشقاق عمودي في منظمة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الجناح العسكري للحركة في الساحة الاردنية، قاده نايف حواتمة احد اعضاء قيادة الحركة في تلك الفترة، وشجعته الاجهزة السورية. ونال الانشقاق دعم وتأييد حركة فتح ومنظمة الصاعقة. وتم تأسيس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. واعلنت عن نفسها فصيل يساري يتبنى علنا الماركسية اللينينية ويعتمد الكفاح المسلح اسلوبا رئيسيا من اساليب النضال ضد الاحتلال. وابرزت قيمة وضرورات اساليب النضال الاخرى ـ العمل الجماهيري والسياسي والنقابي ـ واعتبرتها مكملة للكفاح المسلح ولا غنى عنها. وخلقت اطروحاتها تفاعلا واسعا في الساحة الفلسطينية. ودخلت في صراع مع قيادة الجبهة الشعبية وفي حينه تركز الصراع ظاهريا حول من له الحق في حمل اسم الجبهة الشعبية. وتمسك التنظيم الجديد بالعمل تحت اسم الجبهة الشعبية، ولتمييز نفسه عن الجبهة الشعبية بقيادة جورج حبش اطلق على ذاته اسم “الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين”. وطلب الانضمام لمؤسسات م ت ف. في حينه لم تواجه الجبهة الجديدة اية صعوبات في قبول طلبها. فصراعات الجبهة الشعبية مع القيادة السورية ومع حركة فتح ومنظمة الصاعقة سهلت دخولها في كل الاطر القيادية الفلسطينية. ووقفت قوات التحرير الشعبية التابعة لجيش التحرير الفلسطيني بقيادة الجنرال عبد العزيز الوجيه ذو الميول اليسارية الى جانب التنظيم اليساري الجديد. ودعمته ايضا الجبهة القومية في اليمن الديمقراطي بقيادة عبد الفتاح اسماعيل وسالمين وعلي ناصر محمد، وقيادة فرع حركة القوميين العرب في لبنان بقيادة المفكر العربي محسن ابراهيم. وبقايا فرع الحركة في العراق. ولاحقا اعلن فرع الحركة في لبنان عن خروجه من حركة القوميين العرب، وتم تشكيل منظمة حزبية مستقلة عن التنظيم الام “الحركة” اطلق عليها اسم “منظمة العمل الشيوعي في لبنان”. ويمكن القول ان انشقاق الجبهة الديمقراطية عن الجبهة الشعبية انهى عمليا وجود حركة القوميين العرب التي أسسها جورج حبش ووديع حداد في الجامعة الامريكية في بيروت مطلع الخمسينات.
استخلاصات موجزة وعامة
بعد هذا العرض الموجز لمقدمات ومجريات وتفاعلات حرب حزيران، يمكن تسجيل الكثير من الاستخلاصات الهامة والتي ما زالت مفيدة للجميع فلسطينيين واسرائيليين وعرب ورعاة عملية السلام، رغم مضي ثلاثون عاما عليها. واذا كان من الطبيعي تماما ان لا يكون هناك تقييم فلسطيني عربي موحد فالمفترض ان لا يكون هناك خلاف على :
اولا/ أحيت حرب حزيران 1967 القضية الفلسطينية في المحافل الدولي بعدما نامت عشرون عاما (1948ـ 1967) ، ووضعتها على جدول اعمال الامم المتحدة والدول الكبرى. ومنذ ذلك التاريخ وحتى الان لم ينشغل العالم في النصف الثاني من القرن العشرين كما انشغل بالقضية الفلسطينية وبما نشأ عنها من تفاعلات لاحقة.
ثانيا/ وسعت حرب حزيران 1967 دائرة الصراع في المنطقة واججته بين الشعوب العربية وشعب اسرائيل وعمقت الحقد والكراهية بينهما. ونبهت العرب الى ان الاخطار الناجمة عن المطامع الصهيونية لا تتوقف عند حدود الارض الفلسطينية وما فيها موارد طبيعية بل تتعداها وتطال اراضي عربية بكل ما فيها من خيرات وموارد طبيعية. واضافت بنتائجها ترابطا مباشرا وعمليا بين مصالح عدد من الشعوب العربية ولشعب الفلسطيني بجانب الترابط المعنوي الذي كان قائما قبل الحرب بين العرب والفلسطينيين حول مقاومة اهداف الحركة الصيونية وتحريرفلسطين. وفتحت ميادين وقضايا جديدة لصراع العرب مع اسرائيل ومع الحركة الصهيونية العالمية على الصعيدين الاقليمي والدولي.
ثالثا/ حولت حرب حزيران 1967 منطقة الشرق الاوسط الى ميدان رئيسي للحرب الباردة بين المعسكرين الدوليين اللذين تشكلا بعد الحرب العالمية الثانية ( الاشتراكي والراسمالي). وجعلت منه اكبر سوق دولية للسلاح الغربي والشرقي. واذا كانت اسرائيل والصهيونية العالمية وجدت مصلحتها في التحالف مع معسكر الرأسمالية العالمية، فلم يكن أمام الفلسطينيين والعرب من خيار الا التحالف مع المعسكر الآخر. ووجدوا انفسهم مضطرين لانفاق مبالغ طائلة على التسلح وكان لك على حساب تقدمها وتطورها العملي والاجتماعي والصناعي والحضاري. ويمكن القول ان اطراف الحرب الباردة وقيادة الحركة الصهيونية يتحملون مسؤولية تاريخية عن المآسي التي لحقت بشعوب المنطقة وعن حالة الفقر والتخلف التي تعيشها الآن. وان تواطئ الادارة الامريكية في حرب حزيران مع اسرائيل ومواقفها اللاحقة على العدوان والمساندة لاسرائيل داخل وخارج الامم المتحدة جعلت من الولايات المتحدة الامريكية “العدو رقم” في نظر الشعوب العربية وشعب فلسطين.
رابعا/ على مدى نصف قرن ظلت الحركة الصهيونية العالمية تنكر وجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني، وتنكر ان له ارضا اسمها فلسطين. وظلت متمسكة بمقولات ومعتقدات تاريخية قديمة، وعبأت كل يهود العالم بأن ارض فلسطين هي ارض الميعاد التي وهبها الرب لبني لاسرائيل “شعب الله المختار”. وجاء احتلال اسرائيل للضفة الغربية والجولان وسيناء في حرب حزيران 1967 لتضع شعب اسرائيل أمام الحقيقة. فقد بينت له وجود شعب آخر في هذه الارض، وكشفت له عن وجود اصحاب “اللاجئين” لارض اسرائيل في حدود ما قبل 1967، وانهم ما زالوا يحلمون بالعودة اليها، وان هناك دول كثيرة تساندهم وتتفهم قضيتهم.
خامسا/ وبالمقابل ظل الفلسطينيون والعرب حتى حرب حزيران 1967 متمسكين بحقوقهم التاريخية، ورفضوا الحلول المجحفة التي عرضت عليهم، ورفضوا الاعتراف بالتقسيم وباقامة دولتين للشعبين على أرض فلسطين. وجاءت هزيمة حزيران فخفضت سقف المطالب العربية والفلسطينية في الصراع، ودفعتهم باتجاه اعتماد التفكير الواقعي، وأرغمتهم او اقنعتهم لاحقا بنتائجها المرة، على مرحلة اهدافهم، فراحوا يطالبون بعودة اسرائيل الى حدود حزيران 1967، وبانصاف اللاجئين وحل مشكلتهم حلا عادلا. واعترف بعضهم لاحقا بأن شعار”تحرير فلسطين من النهر للساحل” غير واقعي وغير عملي، وان معالجة مشكلة الوجود اليهودي على ارض فلسطين اعقد بكثير من ان تحلها الامنيات والشعارات العاطفية. واعترفوا رسميا بدولة اسرائيل، وتبادلوا العلاقات الدبلوماسية والتجارية معها
سادسا/ فجرت حرب حزيران 1967 الوطنية الفلسطينية. وجاءت نتائجها المأساوية لترغم الانظمة العربية على ابراز الشخصية الوطنية الفلسطينية، ولتتبنى لاحقا فكرة قيام كيان فلسطيني مستقل بجانب الكيانات العربية الاخرى. وعززت تلك الحرب وتفاعلاتها الاحقة المكانة السياسية والعسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية عربيا ودوليا، وكرستها من الناحية العملية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
سابعا/ بالتعمق في البحث عن جذور عملية صنع السلام الجارية الان بين العرب والاسرائيليين، يمكن الاستنتاج بأن حرب حزيران هي التي هيأت المسرح لها. فمنذ عام 1948 وحتى حزيران 1967 كان النزاع بين اسرائيل من جهة والعرب والفلسطينيين من جهة أخرى شبه مجمد، وانه ساكن ولا يتحرك صوب حل ولا صوب حرب. وكانت القضايا الضاهرية للنزاع هي ذات القضايا التي تركت دون حل في اتفاقيات الهدنة التي وقعت بين الطرفين عام 1949، وجاءت حرب حزيران وما تلاها لتؤكد استحالة بقاء الوضع على ما كان عليه، ولتؤكد ايضا ضرورة البحث عن حلول سياسية للنزاع العربي الاسرائيلي. صحيح ان حرب اكتوبر 1973 وقعت بعدها بعدة سنوات لكن الصحيح ايضا ان الاخيرة وقعت على خلفية نتائج الاولى، ولا يمكن لاي باحث موضوعي فصل حرب اكتوبر 73 عن حرب حزيران 67. واذا كان اطراف الصراع والقوى الدولية تلكأوا احيانا وترددوا احيان أخرى في لعب ادوارهم المطلوبهم منهم على خشبة المسرح فنشاطهم في عام 1991 وتحركهم المتواصل امام الجمهور منذ ذلك التاريخ وحتى الآن تم ويتم على ذات الخشبة التي صنعها نصر اسرائيل وهزيمة العرب في حرب حزيران 1967.
المراجع
1) وثائق وقرارات المجلس الوطني الفلسطيني .
2) كتاب مذكرات محمود رياض 1948ـ 1978/ دار المستقبل العربي
3) نحن وامريكا واسرائيل ـ امين هويدي / دار المستقبل العربي
4) كتاب عملية السلام ـ وليام كوانت / مركز الاهرام للنشر والترجمة
5) مذكرات شخصية “رابين” / ترجمة دار الجليل ـ عمان
6) محاربون ومفاوضون ـ كمال حسن علي / دار المستقبل العربي
7) الولايات المتحدة والفلسطينيون ـ د محمد شديد / جمعية الدراسات العربية
8) كتاب بلدية قلقيلية / مطبعة السعادة الزرقاء ـ الاردن
9) مجلات وجرائد التنظيمات الفلسطينية والصحف العربية
10) مذكرات شخصية عن الثورة الفلسطينية