آفاق الحوار الوطني الفلسطيني ـ الفلسطيني “الشامل” في مدينة نابلس

بقلم ممدوح نوفل في 17/05/1997

مقدمات الحوار، وقائع ونتائج الجلستين، قراءة للبيان الاول، هل سيتواصل الحوار ؟
حقائق لابد من أخذها بعين الاعتبار اذا تجدد الحوار، اولويات الحوار في الظرف الراهن.
مقدمات الحوار الوطني
في اكثر من محطة من محطات النضال الوطني الفلسطيني الطويل والمرير، اعتبر اعداء الشعب الفلسطيني التناقضات والخلافات التنظيمية والسياسية والفكرية الداخلية، كافية لرؤية البيت الفلسطيني يحترق من داخله. وفي احيان كثيرة، راهنوا عليها في تفجير اوضاع الثورة والمنظمة والسلطة لاحقا. وعمل الخصوم والاعداء بشتى السبل والوسائل على تعميقها وتأجيجها. واذا كان لا مجال لمراجعة شاملة ومعمقة في هذا البحث لمسيرة ثلث قرن من عمر الثورة ومنظمة التحرير الفلسطينية، فالقراءة السريعة لها تظهر ان الوحدة الوطنية والعلاقات الوطنية في اطار م ت ف كانت تتعرض بين فترة وأخرى الى خضات سياسية او تنظيمية ما لاسباب متنوعة، كانت تغرق بعدها الساحة الفلسطينية في صراعات وحرتقات جانبية تطول او تقصر، وفقا لاسباب الخضة وطبيعتها وعدد القوى المشاركة فيها. فاحيانا كانت تستمر بضعة اسابيع او بضعة شهور تتخللها حروب كلامية وبيانات تحمل اتهامات متبادلة، واحيان أخرى امتدت سنوات طويلة وتخللها اتهامات بالخيانة واشتباكات مسلحة سقط فيها ضحايا ابرياء.
لا شك في ان التباين في التوجهات الفكرية والسياسية وفي البنى التنظيمية وفي المصالح الحزبية الخاصة بين التنظيمات، تجعل من هذه ظاهرة، في الحالات التي لم ترق لمستوى التأثير على المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، ظاهرة طبيعية ومفهومة تماما. والتجربة التاريخية اكدت ان الوعي الوطني والاحساس والالتزام بالمسؤولية الوطنية، والحرص على بقاء المصالح العليا للشعب فوق الاعتبارات التنظيمية الخاصة، كانت دوما سريعة التدخل، وكان تدخلها يحاصر الخلافات الداخلية، وتدفع بالقوى الوطنية الى طاولة الحوار الداخلي، ويجمد الاشكالات المباشرة لصالح العمل الوطني المشترك ضد الاحتلال. وان هذه العوامل ومعها الوعي الشعبي الفلسطيني العام خذلت في معظم الاحيان كل الخصوم والاعداء الذين رغبوا في رؤية الفلسطينيين، شعبا وتنظيمات، يغرقون في بحور من التدمير الذاتي، كالتي تمر بها الان كثير من الشعوب الافريقية والشعب الجزائري. والتجربة ذاتها تؤكد ان الخروج عن هذه القاعدة الذي وقع داخل حركة فتح عام 1984، وتخلله اشتباكات مسلحة عنيفة دامت قرابة اربع سنوات 1984ـ 1988، ضربت فيها المخيمات في لبنان، وراح فيه ضحايا ابرياء، كانت اقرب الى محاولة انقلابية ضد قيادة حركة فتح وضد قيادة م . ت . ف . قامت به مجموعة من كوادر وقيادة فتح لصالحها الخاص، ولصالح انظمة عربية. وكان هدفها السيطرة التامة على اوضاع حركة فتح وعلى اوضاع منظمة التحرير، والامساك بالورقة الفلسطينية والتحكم في سياساستها، ومقدراتها المادية، وتوظيفها لحساب مصالها القطرية على أكثر من صعيد وفي أكثر من اتجاه.
وامام كل انعطافة حادة عبرها النضال الوطني الفلسطيني، وامام كل ازمة كبيرة داخلية او خارجيية واجهتها الحركة الوطنية الفلسطينية، اعتادت القوى والتنظيمات والشخصيات الوطنية الفلسطينية ان تلتقي، وتدخل في حوارات وطنية شاملة او مصغرة. وتجربة العلاقات الوطنية اكدت ان تلك اللقاءات والحوارات الداخلية كانت دوما مفيدة للقضية وللاطراف الوطنية قاطبة. حيث كان يتم استخلاص العبر والدروس المستفادة، وايجاد القواسم المشتركة للعمل الفلسطيني المشترك. وبالرغم عن كل الملابسات التي احاطت ومازالت تحيط بتجدد الحوار، يمكن ادراج جلستي الحوار الوطني الشامل اللتين عقدتا في مدينة نابلس في 28 نيسان و27 شباط 1997ضمن هذا الاطار، ويمكن اعتبارهما امتداد لذلك التراث. فالحوار بدء بعد فترة انقطاع طويلة. وقعت خلالها احداث وتطورات كبيرة هزت اوضاع المنطقة كلها. ومست اوضاع القيادة الفلسطينية واوضاع منظمة التحرير. وهو الاول من نوعه منذ عبور غالبية قيادة م ت ف ومعظم كوادر الثورة الى الضفة الغربية وقطاع غزة. ومنذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية واستلابها دور منظمة التحرير وحلولها عمليا محلها. لقد توجه الجميع الى مدينة نابلس وفي ذهن كل طرف قضايا محددة يرى ان لها الاولوية على سواها. وكان هناك من هو متحمس للحوار ويبسط الامور ويرى فيه البلسم الشافي للازمة التي التي تمر بها منظمة التحرير ويريده محطة اساسية لاجراء مراجعة شاملة لكل الاوضاع الفلسطينية ولكل النشاطات والتحركات السياسية التي قامت بها السلطة الفلسطينية نيابة عن م. ت. ف. يقابله من كان لا يرى املا يرجى من الحوار، ويعتقد بأنه سوف يضيف على المشكلات القائمة في العلاقات الوطنية مشكلات ومشكلات اضافية ويرى ان الشعب الفلسطيني في غنى عنها الان ولديه من الهموم الصغيرة والكبيرة ما يكفيه وما يزيد عن طاقته .
فهل سارت حوارات نابلس على ذات الدرب؟ وهل حققت الاهداف التي من أجلها عقد الحوار، أم أن أسس وقواعد العمل الوطني الفلسطيني المشترك في مرحلة السلطة المكبلة بقيود باتفاقات كثيرة، تختلف عنها في مرحلة الثورة المحررة من مثل هذه القيود؟ وما هي العوامل الذاتية والموضوعية التي دفعت بالسلطة والمعارضة التوجة الى مدينة نابلس للحوار مرتين؟ وماذا دار قبل وخلال الجلستين؟ وهل ستتكرر وتتلوهما جلسات حوار أخرى، أم ان ردود الافعال الاسرائيلية والدولية والاقليمية عليها جعلتهما دون أفق؟ هذه الاسئلة وسواها سأحاول الاجابة عليها في هذا البحث، ويمكن ثبيت التالي كوجهة نظر شخصية:
سياسة الليكود توحد الفلسطينيين
قبل الدعوة الرسمية التي وجهها ابوعمار، رئيس السلطة الفلسطينية، للفصائل والشخصيات الوطنية للمشاركة في الجلسة الاولى للحوار الوطني الشامل، كانت الدعوة التي طرحتها قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أواخر العام الماضي على ابواب ذكرى انطلاقتها حول ذات الموضوع قد ماتت. فالاوضاع الفلسطينية الداخلية لم تكن ملائمة، والظروف السياسة المحيطة لم تسمح بذلك. فعملية السلام الفلسطينية الاسرائيلية بدأت في حينه بالتحرك ببطئ بعد “معركة النفق”. ورغم ان حركتها كانت بطيئة لكنها كانت للامام. ولم يكن نتنياهو قد افصح كرئيس للوزراء بعد بصورة واضحة وحاسمة عن مواقفه من الاتفاقات الموقعة في عهد حكومة العمل مع قيادة م ت ف والسلطة الفلسطينية. ولم يبدأ بالمجاهرة في الاستهتاره بالشراكة معهم، ولم يفصح عن نيته في اتباع سياسة الاملاءات. ولم يكن قد اعلن حتى ذلك التاريخ عن عزمه الشروع في بناء حي استيطاني ضخم في جبل ابوغنيم (هار حوماة). ولم تكن العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية متوترة كما هي الان. وكان الجميع فلسطينيون واسرائيليون وامريكان منهمكون في المفاوضات الدائرة حول ترتيب وضع مدينة الخليل، وتنفيذ استحقاقات الانسحاب الاسرائيلي من الارياف الفلسطينية، وفتح الممر الامن بين الضفة والقطاع، وتشغيل المطار وبقية القضايا العالقة من عهد حزب العمل. وكان في القيادة الفلسطينية من يعتقد ان ما تراكم من مصالح وعلاقات مع الاسرائيليين لا يمّكن الحكومة الاسرائيلية الجديدة ورئيسها التلاعب بالاتفاقات الموقعة مع السلطة و م ت ف وكانوا يعتقدون ان نتنياهو في السلطة غير نتنياهو في المعارضة، وان الادارة الامريكية لن تسمح بذلك.
في حينه، لم يكن ابوعمار ولا قيادة حركة فتح ولا أركان السلطة الفلسطينية متحمسين للحوار مع المعارضة الفلسطينية. فالحوار معها له ثمنه على الصعيدين الاقليمي والدولي، ويلحق خسائر متنوعة بالسلطة وبمنظمة التحرير. وقد يلحق اذى مباشرا بعلاقة القيادة الفلسطينية مع الادارة الامريكية، ومع عدد آخر من الدول الاوروبية ومع عدد من دول المنطقة. ويؤثر على موقفها في المفاوضات الجارية مع الحكومة الاسرائيلية، ويضعفه امام الموقف الاسرائيلي وكل من يشايعه ويدعمه. وبخاصة موقفها من مسألة التطرف والارهاب، المتهمة به المعارضة الفلسطينية ككل، خاصة وأن بعضها مصنف “حماس والجهاد الاسلامي” كقوى ارهاب. وبذات الوقت لم يكن في الافق ما يشير الى امكانية الوصول الى قواسم سياسية واقعية مشتركة بين السلطة بقيادة حركة فتح والمعارضة، لاسيما وان المعارضة كانت تضع شروطا مسبقة للتعاون يستحيل تلبيتها. فهي ما زالت تعارض عملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي من اساسها، وتتطالب تارة بوقف المفاوضات واخرى بتعليقها. وتناهض الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية العداء بدء من اتفاق اوسلو مرورا باتفاق طابا، وانتهاء بآخر اتفاق توصل له الطرفان. وتطالب بالغائها وتسعى لاسقاطها بشتى الوسائل والسبل السياسية والعسكرية المتاحة لها. وتطالب رسميا بتبني الكفاح المسلح كخيار استراتيجي، وتدعو علنا لتصعيده بكل صنوفه واشكاله ضد الاحتلال ومرتكزاته في الضفة والقطاع وداخل اسرائيل. في وقت تلتزم فيه السلطة والمنظمة رسميا وفقا للاتفاقات بمكافحة الارهاب، ومنع وقوع عمليات عسكرية ضد اسرائيل، وملاحقة منفذيها ومحاكمتهم.
في تلك الفترة كانت استفتاءات الرأي العام الفلسطيني في الضفة والقطاع تشير الى قوة السلطة. وكان الواقع المرئي والملموس للجميع، يبين احكام سيطرتها الامنية في الضفة والقطاع، ويؤكد امساكها بزمام الامور السياسية كاملة. وتحسن صورتها في الشارع الفلسطيني، ويشير الى تراجع نفوذ المعارضة ككل. وكانت الازمات والمشكلات الداخلية التي تعانيها بعض اطراف المعارضة تطفو على السطح امام الناس العاديين، وأمام جميع المراقبين والمحللين السياسيين. وكان في السلطة من يرى ايضا ان لا ضرورة للحوار مع المعارضة، انطلاقا من أن مفهوم الوحدة الوطنية قد تبدل بعد انتهاء مرحلة الثورة وبعد عبور النضال الفلسطيني مرحلة السلطة. واصبحت وحدة الشعب في الداخل والخارج هي الاساس، بدلا من وحدة فصائل وتنظيمات غير مستقلة.. ادت مهامها في مرحلتها، وتعيش الان مرحلة احتضار حقيقي. وهي مشتتة الولاءات، وقراراتها تتأثر بمواقف القوى الاقليمية المعارضة لعملية السلام والمعادية لمنظمة التحرير. وسبق لها ان اتخذت موقفا سلبيا غير مفهوم من الحوار الوطني خلال وبعد انعقاد دورة المجلس الوطني الحادية والعشرون في غزة. وبعضها “الشعبية والديمقراطية” قاطع بسبب ضغوط خارجية، اعمال اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بعد المجلس الوطني مباشرة، علما بأنهم هم الذين طالبوا في حينه بالمشاركة فيها.
لاحقا، وبخاصة بعد اتفاق الخليل (منتصف ك2 الماضي) كثر الحديث في اسرائيل عن احتمال قيام حكومة وحدة وطنية تضم حزب العمل وحزب الليكود برئاسة نتنياهو. وبرزت على سطح الحياة السياسية في اسرائيل مبادرة تصب في هذا الاتجاه، عرفت بوثيقة يوسي بيلن ـ ايتان. طرحت على رئيس الدولة، وعلى العديد من الهيئات الرسمية والحزبية الاسرائيلية. وخلال ذات الفترة بينت المفاوضات حول تنفيذ اتفاق الخليل ان الاحزاب اليمينية المؤتلفة في الحكومة ماضية في تنفيذ برنامجها وتوجهاتها الايدلوجية والسياسية الاساسية. وبخاصة ما يتعلق منها باستكمال تهويد مدينة القدس، وتوسيع الاستيطان وتطوير المستوطنات. وبينت ايضا ان موافقة اركان الحكومة على اتفاق الخليل وملحقاته المتعلقة بالانسحاب من المنطقة “ب” و “ج” لم تكن انعكاس لتغيير جوهري في القناعات الفكرية والتوجهات السياسية، بقدر ما كانت انحنائة مؤقتة امام عاصفة الضغوط الدولية عامة، والامريكية على وجه الخصوص، التي هبت لانقاذ عملية السلام بعد “معركة النفق”. وعبارة عن انحنائة محدودة وآنية امام الضغوط الداخلية، وبخاصة ضغط الراسماليين الاسرائيليين الذين حمّلوا سياسية حكومة الليكود مسؤولية اغلاق الابواب العربية والاسلامية التي فتحت امامهم في عهد حزب العمل. واكدت المعلومات الرسمية ان نسبة ليست بسيطة في الحكومة الاسرائيلية، وفي صفوف قادة وكوادر وقواعد الأحزاب الحاكمة تعارض اتفاق الخليل ذاته، وتعارض بصورة اشد واعنف الاتفاق على اعادة الانتشار وانسحاب الجيش الاسرائيلي من اراضي الضفة الغربية المعرفة في الاتفاق بمنطقتي “ب” و “ج”، وانها ما زالت تعتبرها جزء من ارض اسرائيل الموسعة، وتسميها ارض يهودا والسامرا، التي وهبها الرب لبني اسرائيل. وبلغت معارضة الاتفاق في حينه درجة تصويت سبعة وزراء ضد الاتفاق. ونزول المستوطنيين وجمهور المتطرفين للشوارع. هاجموا سياسة حكومة نتنياهو واتهموه بالتخاذل والرضوخ للضغوط الفلسطينية والاقليمية والدولية، وبخداعهم وتخليه عن مواقفه بشأن الاستيطان والمستوطنيين، التي اعلنها خلال حملته الانتخابية، وانتخبوه على اساسها. وطالبوه بالاستقالة والذهاب الى بيت امه. وفي حينه استقال الوزير بني بيغن من الحكومة، وشرع بالتعاون مع شامير “شيخ الليكود” ومع عدد من اقطاب الاحزاب اليمينية الاخرى في تشكيل كتلة من كل قوى اليمين أشد تطرفا، للضغط على اعضاء الحكومة ورئيسها، ومنعهم من تنفيذ اتفاق الخليل ومن تنفيذ اعادة الانتشار في الضفة الغربية.
وبجانب هذه التطورات الداخلية في اسرائيل، أكدت المعلومات الواردة للقيادة الفلسطينية في حينه ان نتياهو لا يريد احترام توقيعه، ويماطل في تنفيذ التزاماته. وانه ينوي التلاعب بالاتفاق وبخاصة اعادة الانتشار. ويتجه لتنفيذ انسحاب محدود جدا من المنطقتين “ب” و “ج” يتعارض مع الاتفاقات الموقعة. وبينت المفاوضات التفصيلية حول القضايا العالقة منذ عهد بيريز ـ فتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع، تشغيل مطار غزة، استكمال بناء مينائها، واطلاق سراح المعتقلين..الخ ان المفاوض الاسرائيلي يعمل على قتل الوقت، ويحاول اعادة المساومة على كل واحدة منها ويحاول قبض ثمنها من جديد. وانه يستهتر بالشراكة مع الفلسطينيين. ويسعى جاهدا لاضعاف السلطة الفلسطينية في كل المجالات، ويرفض أخذ اوضاعها ومصالحها بعين الاعتبار. ويرفض التشاور معها حول آلية تنفيذ الاتفاق، وينوي اتباع سياسة الاملاءات وفرض الامر الواقع. فقد رفض المفاوض الاسرائيلي اطلاع المفاوض الفلسطيني على خرائط اعادة الانتشار. ولم يتردد المفاوض الاسرائيلي في القول للمفاوض الفلسطيني هذا شأن تقرره حكومة اسرائيل وحدها، وعندما يحين الوقت المناسب يتم ابلاغكم بما قررناه وبالمطلوب منكم. في تلك الفترة، ختم نتنياهو واركان حكومته مواقفهم الاستفزازية للسلطة ولكل فئات الشعب بالاعلان عن عزمهم البناء في جبل ابو غنيم “هارحوماة” ، وتسريع عملية تهويد مدينة القدس. وترافق ذلك مع تنامي حركة القلق والتذمر في الشارع الفلسطيني. وصار واضحا ان الوجهة العامة للعلاقة مع حكومة نتنياهو تسير باتجاه التوتير والتصادم وليس الاتفاق. خاصة وان الاتصالات الفلسطينية والعربية اظهرت انها لا تفكر في ممارسة ضغوط حقيقية على حكومة الليكود لردعه عن التطاول على الاتفاقات واحترام توقيعه وتواقيعهم، وارغامه على احترام الشراكة مع الفلسطينيين، وتنفيذ اعادة الانتشار في الضفة الغربية وفقا للاتفاق الخليل وملحقاته.
في تلك الفترة ظهر أيضا ان قضايا الخلاف السياسي الفلسطيني ـ الفلسطيني “سلطة ومعارضة” لم تعد موضوعة في رأس سلم اولويات المعارضة الفلسطينية. حيث أظهرت بعض اطراف المعارضة مواقف اكثر واقعية من عملية السلام. ولم تتطالب بوقف المفاوضات كشرط مسبق للمشاركة في الحوار الوطني،. ولم تعد تطرح الغاء الاتفاقات الفلسطينية ـ الاسرائيلية، ولم تعد تثير اسقاطها بكل الوسائل. وصارت تولي مهمة مواجهة الاحتلال والتصدي للمخاطر الكبيرة المحيطة بالقضية الوطنية وبمصالح الشعب، وبخاصة الاستيطان، اولوية على سواها من قضايا الخلاف حول عملية السلام، وحول الاتفاقات التي تمخضت عنها ـ اسلو وطابا ـ وما تلاهما من اتفاقات وخطوات اخرى.
المداولات التمهيدية تشجع وتسّرع الحوار:
في ظل كل تلك الظروف والتطورات السياسية، والاوضاع الداخلية عادت فكرة الحوار الوطني الشامل للظهور من جديد على سطح الحياة السياسية الفلسطينية. وعلى ابواب ذكرى انطلاقتها في 22شباط 1969، طرحت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين مبادرة للحوار الوطني الشامل، وأجرت الاتصالات اللازمة مع الاطراف المعارضة ومع السلطة، ونجحت في تأمين موافقة الشعبية وحركة حماس على المشاركة فيها. وسعت في حينه لعقد جلسات الحوار في القاهرة. واجرت الاتصالات الرسمية اللازمة مع السلطات المصرية. الا ان ابوعمار رفض الاقتراح، وأصر على عقده في الوطن. بعدها حاولت الجبهة الديمقراطية ترتيب لقاء خاص بين ابوعمار وأمينها العام “نايف حواتمة” في القاهرة قبل بدء جلسات الحوار، الا ان ظروف ابوعمار والتزاماته السياسية المسبقة حالت دون ذلك. او انه لم يرغب في عقد مثل هذا اللقاء في تلك الفترة، ولم يحبذ منح الجبهة الديمقراطية برستيج بدء الحوار.
في حينه التقط ابوعمار مبادرة الجبهة الديمقراطية، وبادر لاجراء الاتصالات وعقد اللقاءات التمهيدية مع كل قوى المعارضة التي رحبت فورا بالفكرة وبالدعوة، ومن ضمنها قيادة حركة حماس. وأظهرت المداولات في حينه ان هناك ارتباك وليونة في مواقف المعارضة ككل من المسائل السياسية العامة والداخلية. فلم تطرح شروطا سياسية او عملية مسبقة للدخول في الحوار. ولم تشترط حضور او عدم حضور اية شخصية فلسطينية لهذ الحوار. وظهر ان هناك تلاق واسع في المصالح بين المعارضة والسلطة، وتقاطع في مواقفهما من سياسة الليكود وتوجهاته، واجماع على رفضها ومقاومتها. وانها “اي المعارضة” لم تعد متشنجة كما السابق من المفاوضات ومن الاتفاقات. وفي الحوار التمهيدي لم تتخذ المعارضة موقفا سلبيا من مسألة الانسحاب من الخليل واعادة الانتشار والانسحاب المفترضة من مناطق في الضفة حسب اتفاق الاخير. وبعضها اعتبره مكسب وطني. اذ لايمكن لاي فلسطيني ان يعارض الانسحاب الاسرائيلي من اراض فلسطينية حتى لو كان ذلك من خلال بوابة المفاوضات.. وان بعضها يطالب بالعودة للجنة التنفيذية، وبالمشاركة في مفاوضات الحل النهائي. وكأن هذه المفاوضات قادمة من السماء ولاعلاقة لها بمدريد واوسلو وطابا.. ولم تعد تطرح الاسقاط والالغاء لاوسلو وطابا وما تلاهما من اتفاقات اخرى..فهي تعرف، وقيل لها، ان نتنياهو يريد نسف عملية السلام، ونسف الاتفاقات والتحلل منها، فهل نسهل عليه خطواته ام نتمسك بهان ونطالبه بدفع الاستحقاقات التي تفرضها عليه كاملة، ونفزّع العالم ضده؟
وبينت المحادثات التمهيدية ايضا ان المطالب العملية المباشرة للمعارضة متواضعة، ويمكن تلبيتها كلها ولو على دفعات. حيث تمحورت حول اطلاق سراح كوادرهم وعناصرهم من السجون الفلسطينية. ومعالجة مشكلات وقضايا ادارية ومالية للتنظيم، واستيعاب وتوظيف عدد من الكوادر في اجهزة السلطة. في حينه لم يتم التوقف مطولا امام اقتراح قدمته بعض فصائل المعارضة “ج.ش، ج.د” خلاصته ان يتم عقد جلسات الحوار او الجلسة الاولى منه في الخارج باعتباره اقتراح غير واقعي وغير منطقي، ومفهوم انه مطروح لاعتبارات حزبية فقط لا غير. وترك لابوعمار تحديد الزمان والمكان المناسبين لعقد الجلسة الاولى من الحوار الوطني الشامل. وترك له تحديد اعداد واسماء المدعوين للحوار. وكان واضحا في تلك الفترة ان ابوعمار يريد حشد اوسع اصطفاف وطني في مواجهة توجهات نتنياهون واستحقاقات المرحلة الجديدة. واظن ” ولو ان اغلب الظن اثم” انه فكر في استخدام الحوار مع المعارضة كورقة ضغط على على نتنياهو والحكومة الاسرائيلية لارغامها على الالتزام بالاتفاقات الموقعة بينهما، واحترام الشراكة مع القيادة الفلسطينية. واستخدامها ايضا في العلاقة مع القوى الاقليمية والدولية المساندة لعملية السلام عامة، وبخاصة مع الادارة الامريكية لاسيما وان موعد زيارته الرسمية لواشنطن للقاء مع الرئيس كلينتون كان على الابواب.
بعد تلك اللقاءات والاتصالات التمهيدية المكثفة، وبناء على دعوة من ابوعمار والسلطة الفلسطينية، عقدت القوى الوطنية الفلسطينية المؤيدة والمعارضة لعملية السلام، بتاريخ 27 شباط 1997، جولتها الاولى من الحوار الوطني الشامل في مدينة نابلس، بجدول اعمال مفتوح. وافتتحت الجلسة باجواء شبه احتفالية، غلب عليها طابع الجدية والقلق. ولعل اختيار ابوعمار مدينة نابلس مكانا للحوار لم يكن صدفة. وتدخل في الاعتبارات المذكورة اعلاه. ففيها وقع اعنف صدام مسلح بين السلطة والجيش الاسرائيلي في ايلول الماضي. في حينه اقتصرت جولة الحوار على جلستين فقط في نفس اليوم. استغرقت كل منهما حوالي اربع ساعات. وشارك فيها ما يزيد عن 80 شخصية وطنية اجتماعية وحزبية من اعضاء المجلسين الوطني والمركزي، يمثلون مختلف التيارات الفكرية والسياسية في الساحة الفلسطينية. بعضهم دعي كمثل عن الفصائل والاحزاب المنضوية تحت راية م ت ف المعترف رسميا بها، وبعضهم الآخر دعي كمستقل. منهم المستقل الحقيق غير المنتمي لاي حزب او فصيل من فصائل الحركة الوطنية. وهم قلة قليلة، ومنهم من حضر كممثل عن الاحزاب والحركات السياسية الجديدة التي لم يتم الاعتراف بها بعد كجزء من الفصائل والقوى المشكلة لمنظمة التحرير الفلسطينية. وتغيبت حركة الجهاد الاسلامي ” تنظيم الشقاقي” عن الحوار، رغم ان الدعوة وجهت لها. ولا ادري اذا كان احد فكر في دعو “منظمة الصاعقة” الموالية لسوريا، او الجبهة الشعبية “القيادة العامة” التي يتزعمها احمد جبيريل. وبالتأكيد لم يفكر احد في دعوة المنشقين عن حركة فتح بزعامة ابو موسى وابو خالد العملة. ولوحظ اقتصار هيئة رئاسة الجلسة على ابوعمار، وابو الاديب وابو العلاء رئيسي المجلس الوطني والتشريعي. كما لوحظ قلة عدد الشخصيات الوطنية من الداخل والخارج “المستقلة فعليا” عن التنظيمات. وغياب ممثلي التجمعات الفلسطينية الرئيسية في الشتات. وغياب بعض القيادات الحزبية الاساسية “مثلا جورج حبش” بسبب عدم قدرتها عبور والاقامة في الوطن. وفي هذا السياق تجدر الاشارة الى ان بعضها أضاع فرصة عبوره الوطن والاقامة الدائمة فيه، وقت انعقاد جلسة المجلس الوطني، لاعتبارات ذاتية وحزبية ضيقة ثبت خطأها لاحقا.
في بداية الاجتماع، توقع الجميع، مشاركون ومراقبون سياسيون ورجال صحافة واعلام، ان يفتتح ابوعمار الجلسة الاولى بكلمة سياسية شاملة. الا انه لم يفعل ذلك رغم ان الكلمة كانت جاهزة في ملفاته. افتتح ابوعمار الجلسة بجمل قصير، وتحدث عن خطورة المرحلة وأهمية الحوار في هذا الظرف بالذات وختم حديثه المقتضب : بالطلب من رجال الصحافة مغادرة القاعة لان ما سيطرح خطير، ويستحسن عدم نشره في وسائل الاعلام. بعد خروجهم قال: في هذه الجلسة ارغب في الاستماع اكثر من الكلام. لا وقت للكلام الطويل. الوقت يداهمنا والاخطار تحيط بنا من كل اتجاه، المهم ان نقول للعالم اننا موحدون، ولن نسكت على ما يقوم به نتنياهو ضد ارضنا ومقدساتنا. اترك الحديث للاخ ابوالاديب رئيس المجلس. بعد ابوعمار تحدث ابوالاديب (سليم الزعنزن) عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ورئيس المجلس الوطني الفلسطيني، ثم ابوالعلاء، (احمد قريع) عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ورئيس المجلس التشريعي. كانت كلماتاهما افتتاحية ارتجالية ومختصرة جدا. تركزت حول المخاطر المحيطة بالقضية الوطنية وبعملية السلام. وابرزتا مسؤولية نتنياهو وحكومته عن ذلك. واشادا بالوحدة الوطنية وباهمية الشروع في الحوار الوطني الشامل، وبتجاوب الجميع مع الدعوة التي وجهت لهم، وتمنيا للاجتماع النجاح في تحقيق اهدافه الكبيرة.
في كل اجتماعات الحوار الوطني السابقة، جرت العادة ان تتفتح الجلسة الاولى بتقرير غالبا ما يكون شفويا يقدمه ابوعمار بصفته رئيسا للجنة التنفيذية. كان يراجع فيه المسيرة ويتوقف امام محاطتها الابرز. وكثيرا ما كان يستعين خلال تقديم تقريره بهذا الاخ او ذاك من الاخوة اعضاء اللجنة التنفيذية والقيادة الفلسطينية. وفي العادة كان تقرير ابوعمار ـ او تقرير اللجنة التنفيذية ـ يعطي بعض الحيوية للاجتماع، ويقدم مادة دسمة للحوار وللمتحاورين، حيث كان يتعمد استفزاز البعض واستمالة آخرين. وغالبا ما كان اصحاب وجهات النظر المتباينة وحتى المتناقضة من مختلف الاتجاهات يجدون ما يعتمدون علية في تقرير ابوعمار. وكان آخرون يحملوه اكثر مما يحتمل، ويفسرون بعض ما يقوله بما يخدمهم ويخدم اهدافهم ولا علاقة لها بما قاله اطلاقا.
في هذه الجولة من الحوار خرج ابوعمار عن العادة المتبعة، وكسر التقليد الفلسطيني المحبب لدى القوى. فالتقليد الفلسطيني هو ان تكون جلسات الحوار الوطني صاخبة، ويتخللها مقاطعات للمتحدثين، وتنقل بين المواضيع المطروحة على الاجتماع دون نظام. وكان واضحا لاعضاء السلطة واللجنة التنفيذية، ولمن يعتبرون من اركان المطبخ الفلسطيني ان اقتراب موعد سفر ابوعمار الى واشنطن للقاء مع الرئيس كلينتون، وحساسية العلاقة مع نتنياهو وحكومته، ودقة المواقف التي تواجهها المسيرالفلسطينية، وهدفه من عقد لقاء الحوار بذاك التوقيت، وطبيعة الحضور، اضافة لحساسية المواضيع المطروحة على طاولة المباحثات الفلسطينية الاسرائيلية ومع الامريكان..الخ دفعته كلها الى عدم الكلام وعدم كشف اوراقه مبكرا، وآثر الصمت، وترك الآخرون يتكلمون دون ان يتدخل ودون مقاطعة أحد. في حينه توقع الحاضرون ان تكون جلسة الحوار الثانية المسائية هي الاسخن والامتع. وعلق بعض المخضرمين في العمل السياسي الفلسطيني قائلا : حضروا انفسكم لسهرة طويلة حامية. فالقيادة الفلسطينية مشهورة بالسهر وبعملها الليلي. وكل توجهاتها وقراراتها الاساسية في مرحلة الثورة، اتخذت “في الظلام” بعد منتصف الليالي، وبعد مساومات عسيرة يتم فيها جلد الذات وتعذيب الاخرين ساعات طويلة. اما البعض الآخر فقد استذكر منظمة التحرير، وتذكر القادة الشهداء ابواياد وابوجهاد وابوالهول وابو الوليد فرسان الحوار الوطني، وقال سبحان مغيرالاحوال، وصدق من قال، لكل مرحلة رموزها ورجالها، والثورة يفجرها مجنون ويقودها مغامر ويقطف ثمرتها انتهازي .

الحلقة الثانية الجلسة الاولى: قضايا ساخنة، وحوار هادئ اكثر من اللازم
في حينه اثارت الدعوة لعقد جولة من الحوار الوطني الشامل تساؤلات عديدة في صفوف المراقبين السياسيين، وفي صفوف المواطنيين الفلسطينيين العاديين، وفي اوساط الكوادر الفلسطينية. بعضها يتعلق بالتوقيت والهدف، وبعضها دار حول ما يمكن ان يسفر عن هذا الحوار، وحول ردود الفعل المحتملة علية. فالحوار انعقد والمفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية وكل العملية السياسية تمر في ازمة عميقة وحادة، وبالكاد قادرة على التواصل والاستمرار في الحياة. و م ت ف وكل فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف اتجاهاتها ومواقعها تعيش ازمة فكرية وسياسية وتنظيمية عميقة، رافقتها منذ خروج قيادة وقوات م ت ف من بيروت عام 1982. وهذه الازمة تعمقت أكثر فأكثر بعد المشاركة الفلسطينية في مؤتمر مدريد الذي انعقد في اكتوبر1991من اجل البحث عن صنع السلام في المنطقة وصارت مكشوفة للجميع، واستفحلت وتدهورت بعد اتفاق اوسلو، وبعد انتقال قيادة م ت ف ومركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية من الخارج للداخل، وتشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية. وتولي اجهزتها الامنية والادارية والمالية كافة مناحي حياة الفلسطينيين الذين وضعتهم الاتفاقات مع الاسرائليين تحت سلطتها، واخضعتهم لسيطرتها. فما هي الاجابات التي قدمها الحوار للاسئلة المطروحة؟ وكيف كانت مواقف مختلف القوى الفلسطينية وبخاصة المعارضة داخل الاجتماع الاول؟
افتتح ابوالاديب باب المناقشة العامة، وطلب من راغبي الكلام تسجيل اسمائهم. تناوب بعدها مندوبوا الفصائل الرسمية وغير الرسمية المعارضة وغير المعارضة على القاء كلمات مكتوبة. وذات الشيء فعل عدد من المستقلين. والكلام المكتوب في الاجتماعات الفلسطينية الموسعة والمصغرة تقليد غير شائع بصورة عامة، وبخاصة في لقاءات الحوار التي انعقدت على مدى السنوات الماضية. الا انه لاشك اسلوب جيد للتعبير الدقيق عن المواقف. ولاختصار الزمن. ويساعد على قراءة المواقف وتلخيصها بدقة اكبر. وفي هذا السياق يمكن تلخيص كلمات قوى المعارضة الفلسطينية على النحو التالي، مع تثبيت الخاص قدر الامكان:
اولا/ حول الحوار الوطني:
ثمن البعض مبادرة ابوعمار ودعوته لعقد الجلسة الاولى من الحوار، وثمنت الجبهة الشعبية استجابة القوى الفلسطينية للدعوة. وطالبت بان يكون الحوار الوطني الشامل علني يتمتع بالشفافية امام الشعب، كي يشارك فيه باعتباره الرقيب والحكم والضمانة الاكيدة لمواجهة التحديات، “وهذا ضمان جديته والتعاطي المسؤول مع نتائجه”. واجمعت كل الاطراف ـ سلطة ومعارضة ومستقلين ـ بما فيها حركة حماس على اهمية الحوار الفلسطيني، واكدت حرصها على نجاحه والوصول به الى نتائجه المرجوة. وان يكون شاملا بان يطال كل الشأن الوطني الفلسطيني. واعتبرته ضروريا في ظل الظروف التي تمر بها القضية الفلسطينية لبلورة قواسم مشتركة وبرنامج حد ادنى مشترك يجمع الجميع في مواجهة استحقاقات المرحلة التي يمر بها النضال الوطني الفلسطيني. واكد الجميع انه لا يمكن انجاز الحوار بقضاياه المتعددة بجلسة او جلستين وانه لا بد من مزيد من الوقت لاستكماله. وقالت ورقة الجبهة الشعبية “نحن جميعا في قارب واحد رغم الخلافات الناشئة عن اجتهادات حول التسوية”. وقال مندوب حركة حماس ( لطالما نادينا بحوار وطني مسؤول يعزز الوحدة الوطنية. ايمانا منا بان الحوار هو الوسيلة الحضارية للتفاهم وحل الخلافات والتباينات على الساحة الفلسطينية “ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن. وها نحن نشارك في الحوار، أملين ان يكون جادا وفاعلا في رسم ملامح خلاص شعبنا وقضيتنا مما تشهده من مخاطر وتحديات.. خطورة المرحلة التي نعيشها تفرض علينا ان نكون صرحاء ـ وهذا لم يحصل كما سيتضح لاحقا ـ وان نستشعر المسؤولية الملقاة على عاتقنا جميعنا. ومن واقع حرصنا على توحيد الصف الفلسطيني فسنعمل جاهدين على انجاح الحوار. وندعو السلطة الى التعامل مع هذا المنهج باستمرار). وقال مندوب جبهة العمل الاسلامي “لا جدوى من مصالحة عشارية بين السلطة والتنظيمات المعارضة، او بين الفصائل بعضها بعض. وطالب باشتراك خبراء في المجالات الخاصة بالاضافة للسياسين”.
اما بشأن صيغة الحوار وآليته فلم تقدم ورقة حركة حماس اي اقتراح محدد. اما ورقة حزب “فدا” فقد اقترحت تشكيل لجنة مصغرة تتولى تحضير ثيقة القواسشم المشتركة تستخلص من الاوراق والمداخلات التي طرحت في الاجتماع. وطالبت بتشكيل سكرتاريا دائمة للتنسيق بين القوى السياسية. واقترحت الجبهة الديمقراطية “ان يشارك في جلسات الحوار اللاحقة مندوب واحد مقرر عن كل فصيل من فصائل م ت ف وحركتي حماس والجها الاسلامي ورئاسة المجلس الوطني”، ولم تتطرق لمشاركة رئاسة المجلس التشريعي. واقترحت الجبهة الشعبية “تشكيل لجنة متابعة تتمثل فيها الفصائل والقوى الاساسية ورئاسة المجلس الوطني وعدد من الشخصيات الوطنية المستقلة البارزة تتولى تحديد جدول اعمال الجلسات اللاحقة واماكنها” ولم تتطرق هي الاخرى لمشاركة رئاسة المجلس التشريعي..وهذا يشير الى انهما ما زالتا على موقفها السلبي من الانتخابات النشريعية التي تمت ومن نتائجها. واتفقت الشعبية مع الديمقراطية ايضا على “ضرورة استكمال الحوار الوطني خارج الوطن، لتمكين بعض القيادات الفلسطينية المغيبة او الغائبة من المشاركة فيه”. وطالبت ورقة الجبهة الشعبية “بان يستمر الحوار وان يستكمل في الخارج لمشاركة القيادة المحرومة من العودة في الحوار”. وطالبت المجتمعين “بالاتفاق من جديد على الزمان والمكان الملائمين للجميع”.
ثانيا/ المراجعة السياسية:
حسب التقاليد والعادات الفلسطينية كان هذا العنوان دوما هو الاكثر اثارة في الحوارات الفلسطينية الداخلية. فالنقاش حول المواقف والخطوات العملية التي نفذتها القيادة كان يشتد ويسخن اكثر من نقاش التوجهات الجديدة. وكان كل طرف يحاول التذكير بمواقفه، واثبات صحة وجهة نظره من هذه القضية او تلك من القضايا الخلافية. وكثيرا ما كان يتخلل جلسات الحوار توترات حادة، كانت تصل في بعض الاحيان الى الصراخ والخروج من الاجتماع. ومعظمها ان لم يكن كلها كان ينتهي بتبويس اللحى وتقبيل الرؤوس. وعودة من خرج، بعد مصالحة يتدخل فيها وسطاء لهم مآربهم الخاصة، وآخرون لهم مآرب وطنية صرفة. في جلسة الحوار الولى التي جرت في نابلس غاب هذا المشهد المثير. وقطعت رزقة البعض وبخاصة المتزلفون والتملقون. وفقدت الجلسة نكهتها المميزة.. فابوعمار لم يتحدث، لا حول ما مضى ولا حول المستقبل. ومداخلات المعارضة تناولت المراجعة من مداخل توفيقية، وكانت منتقاة بدقة، كما سيتضح لاحقا. وتحاشت الكلمات والجمل الاستفزازية والمثيرة. وكانت كلمة حماس هي الاكثر هدوءا. ويمكن القول انها تجنبت بوعي الحديث في الموضوع كليا. واكتفت بالحديث حول”عدم شرعية الوجود الصهيوني في فلسطين، وان ما اخذ لا يسترد بغير القوة””.
اما كلمات الجبهتين الشعبية والديمقراطية ومعهم آخرون فقد اجمعت على : ضرورة مراجعة المسيرة الوطنية، واكدت أنها ليست بهدف محاكمة احد او تسجيل النقاط، بل “لاستخلاص الدروس والعبر المفيدة، وتوظيفها في خدمة نضالنا في المرحلة القادمة”. “المراجعة يجب ان تطال نهج التسوية، واسس وآليات وادوات التفاوض”. وكذلك الوضع الذي وصلت اليه مؤسسات العمل الوطني. “لسنا بصدد مراجعة الموقف من اوسلو، قناعتنا انه لم يلبي الحد الادنى المطلوب، والحق اجحافا بحقوق شعبنا”. ” ندرك انه امر واقع ونتعاطى مع نتائجه على هذا الاساس ـ وغاب الحديث عن اسقاطه والغائه ـ. وطالبوا في اوراقهم وكلماتهم “باعادة الاعتبار لبرنامج الاجماع الوطني، العودة وتقرير والدولة المستقلة. والتمسك بالثوابت الوطنية”. “واعادة بناء العملية التفاوضية على اسس جديدة”. “اعادة الاعتبار للبعد العربي التفاوضي ضمن صيغة مشتركة تضمن استمرار ترابط المسارات والتنسيق الدائم مع الاطراف العربية وبخاصة سوريا ولبنان”. وخلال مناقشة هذا البند حرص حزب “فدا” ان يميز نفسه عن السلطة، وتضمنت كلمته نقدا لمسيرة التفاوض وللاداء الفلسطيني فيها. علما بان هذا الحزب يشارك في السلطة، وفي قيادة المنظمة وفي ادارة المفاوضات من خلال ياسرعبدربه نائب السكرتير العام لحزب “فدا”، وعضو اللجنة التنفيذية ووزير الثقافة في السلطة الفلسطينية.
ثالثا/ الوحدة الوطنية والعلاقات الفلسطينية ـ الفلسطينية:
اجمعت الكلمات كلها، معارضة وسلطة مستقلين وحزبيين، على اهمية الوحدة الوطنية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال وسياسته الاستيطانية التوسعية. وتميزت كلمة حركة حماس بالايجاز الشديد في الحديث حول هذا الموضوع. واكتفت بالتأكيد على اهمية العمل من اجل وحدة الشعب. وتضافر الجهود الناجعة من أجل تحرير الارض والمقدسات. وشددت على اطلاق سراح المناضلين المعتقلين في سجون السلطة الفلسطينية. اما بقية قوى المعارضة فقالت فيما قالت: “مصير شعبنا لا يحتمل الانقسام والاختلاف، فنحن جميعا في قارب واحد ومصيرنا واحد”. “نحن نمر في مرحلة تحرر وطني، والتناقض الرئيسي مع الاحتلال”. “انقاذ المسيرة يتطلب لم شمل البيت الفلسطيني”. “ضرورة الانشداد للمصالح الوطنية العليا بعيدا عن الاعتبارات الفئوية الضيقة او مصالح ومكاسب آنية قصيرة الامد”. “التحديات كبيرة ولا يمكن لطرف واحد منفردا مواجهتها، فهي بحاجة الى طاقات الجميع”. “المسؤولية الوطنية تستدعي التفاهم وايجاد القواسم المشتركة، والتمسك بالثوابت وتحديد الخطوط الحمراء التي لا يجوز تجاوزها”. “حل الخلافات والتناقضات يجب ان يتم باللحوار وبالاساليب الديمقرطية. ويجب تحريم استخدام السلاح وادانة اللجوء اليه في حل الخلافات”. وطالبت الكلمات “بضرورة ان تضمن السلطة للقوى الوطنية حقها في التنظيم والنشاط العلني، والنقد والمعارضة في اطار سيادة النظام والقانون على الجميع”. “واحترام التعددية السياسية والتنوع وحق المعارضة في التعبير عن وجهة نظرها وحقها في الوصول الى المعلومات التي تهم الشأن الوطني” واحترام الرأي والرأي الآخر،. وأكدت على “ضرورة اشراك الجميع في صنع القرار الوطني”. “وضرورة صياغة وثيقة سياسية تنظيمية تنظم العلاقة بين مختلف القوى الوطنية الفلسطينية، وبين السلطة والمعارضة. وبناء اطر تنسيق وطنية لمعالجة القضايا الوطنية”
رابعا/ قضايا النضال الوطني المشترك:
شدد الجميع على اهمية التعاون والنهوض بقضايا النضال الوطني المشترك في مواجهة الاحتلال. وشددوا على اهمية وضع برنامج نضالي مشترك وضرورة توحيد الجهود للدفاع عن عروبة القدس، ومواجهة الاجراءات الاسرائيلية لتهويدها. والتصدي للهجمة الاستيطانية الجديدة في سائر المناطق وبخاصة في القدس. وتم التأكيد على ضرورة العمل من اجل اطلاق سراح الاسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية. وتعميم لجان الدفاع عن الارض في كل المواقع. اما الجبهتين الشعبية والديمقراطية ومعهم آخرون فقد ابرزوا “عدم اشتراط اجماع وطني سياسي كاساس للنضال الميداني المشترك وللوحدة الميدانية في النضال ضد الاحتلال”. واستشهد البعض بتجربة النضال المشترك في “معركة النفق”. وابدوا ” الاستعداد للتجاور والتنسيق الميداني والتعاون والوحدة الميدانية مع الجميع”. وشددت الديمقراطية على ضرورة التمسك بحقوق اللاجئين كما نصت عليها قرارات الامم المتحدة، ورفض التوطين وعدم المساس بوضع المخيمات الفلسطينية.
خامسا/ الموقف من العمل العسكري:
باستثناء حركة حماس، لم يتطرق اي من المشاركين في الحوار، لا من الفصائل ولا المستقلين، الى الكفاح المسلح او العمل العسكري باعتباره احد اشكال النضال ضد الاحتلال. وحتى مداخلة حركة حماس فقد مرت على الموضوع مرور سريعا. وكان واضحا انها تريد ان ثبت وجهة نظرها المعروفة للجميع وليس اكثر. حيث ورد في كلمتها: “ضرورة الدفاع عن ارضنا ومقدساتنا بكل السبل”. وفي موضع آخر قالت “العدوان الصهيوني المسلح وبالقوة على ارضنا وشعبنا لا يرد بغير القوة”. وبصرف النظر عن حقيقة مواقف الجبهتين الشعبين والديمقراطية من الموضوع ـ لم تلغه ولم تثبته في الاجتماع ـ فقد فسر البعض موقفيهما بانه مجرد مرونة هدفها عدم احراج المجتمعين. وهناك من قال ان لدى التنظيمين موقف جديد غير معلن. وانهما تخليا عن الكفاح المسلح دون اعلان رسمي، “كالعادة”، ودون مراجعة صريحة، وهذا جزء من التقاليد الفلسطينية وليس بجديد اطلاقا على من واكبها. فكم من محطة حاسمة عبرها وتجاوزها النضال الفلسطيني دون مراجعة جريئة وعلنية !
سادسا / اوضاع منظمة التحرير الفلسطينية:
خلت كلمة حركة حماس من اية اشارة الى موضوع م ت ف ـ لا سلبا ولا ايجابا ـ ولا اذكر ان من تحدث باسمها قد نطق اسم منظمة التحرير. وهذا الموقف هو استمرار لموقفها القديم المعروف من م ت ف والذي لم تشأ ان تكررة صراحة في جلسة الحوار. فحركة حماس لا تعتبر نفسها جزء من القوى الوطنية المشكلة لمنظمة التحرير. وانما جزء من الحركة الوطنية الاسلامية الفلسطينية وقائدتها. وفي مرحلة سابقة وبخاصة “خلال فترة الانتفاضة” كانت تعبر نفسها حركة بديلة للمنظمة. وعلى ابواب الدورتين التاسعة عشر والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني حاولت قيادة م ت ف ضم “حماس” لصفوف المنظمة، وادخالها في هيئاتها ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية واشراكها في صياغة القرارالوطني الفلسطيني، لكن مواقف قيادة حماس اقفلت الطرق امام تلك الجهود. حيث طرحت مطالب “حصة” كبيرة في مؤسسات م ت ف، وساوت نفسها بحركة فتح. وتشكل في حينه انطباع لدى القيادة الفلسطينية ان قيادة حركة حماس تريد السيطرة على اوضاع المنظمة بقرار فلسطيني، ظنا منها ان تنامي ثقلها في الشارع الفلسطيني وبخاصة في قطاع غزة وتضعضع اوضاع المنظمة في تلك الفترة تمكنها من ذلك. واذا تعذر انتزاعة، فهي تفضل عدم الانخراط في صفوف المنظمة. مراهنة على تآكل اوضاع منظمة التحرير والقوى المؤتلفة داخلها. وعلى امكانية تحقيق غايتها من خلال تطوير وتفعيل ثقلها في الشارع الفلسطيني. ولا اعرف اذا كانت قيادة حركة حماس قد ادركت الان خطأ تحليلها وتقيرها للموقف، وبخاصة بعد التطورات الكبيرة التي طرأت على بنية الحركة الوطنية الفلسطينية بعد مؤتمر مدريد. وبعد التطورات الهائلة والمذهلة التي وقعت في المنطقة بعد الاتفاقات التي تم التوصل لها بين السلطة الفلسطينية واسرائيل برعاية دولية شاملة. وحسب معرفتي ومطالعاتي لتصريحات وبيانات قيادة حركة حماس استطيع القول انها ما زالت على موقفها السابق، الا اذا بدّلته دون اعلان رسمي “تمشيا مع التقاليد” ودون مراجعة صريحة مع الذات وجمهورها؟ وهذا السؤال يبقى موجه لقيادتها..وأظن ان خطأها في تقدير الموقف كان له دوره في تصدع اوضاعها القيادية في قطاع غزة، وفي خروج عدد من كوادرها صفوفها.
اما الجبهتين الشعبية والديمقراطية، فقد استنتج الحاضرون من موقفيهما في جلسة الحوار وخارجها ان لديهما تبدلا محدودا وخجولا في الموقف برغم ان كلمتيهما لم تقولا ذلك علانية وصراحة. والثابت ان الطرفين يسعيان لتشغيل اكبر قدر ممكن من كوادرهما في اطار مختلف اجهزة السلطة بما في ذلك الامنية منها. وان الاولى “اي الشعبية” ترغب في هذه المرحلة في العودة للعمل في اطار اللجنة التنفيذية فقط، ولا نية لديها للمشاركة في السلطة. اما الجبهة الديمقراطية فترغب في العودة للجنة التنفيذية، وترغب ايضا في المشاركة في الوزارة. وبصرف النظر عن حقيقة موقفيهما، فالطرفان لم يجريا حتى الآن اية مراجعة علنية وصريحة لمواقفهما من مقاطعة اللجنة التنفيذية. فاذا كان بالامكان تفهم عدم مشاركتهما في الوزارة الفلسطينية فمن المستحيل تقبل موقفهما الانسحابي من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحريرالفلسطينية. وأظن ان عودتهما او مشاركتهما في التنفيذية او الوزارة لن يكون سهلا في هذه المرحلة وهذه الظروف الصعبة والحساسة. ومن الصعب ان يتم ذلك بسهولة ويسر ودون ان يدفعا ثمن ذلك سياسيا.
في جلسة الحوار لم يطرح اي من الفصائل والقوى الفلسطينية مراجعة جدية تخرّج المنظمة من مأزقها الحقيق الذي تعيشه منذ سنوات طويلة، والذي تفاقم بعد تشكيل السلطة الفلسطينية، وبعد الغاء الميثاق الوطني الفلسطيني في الدورة الحادية والعشرين التي عقدت على ارض غزة. وابرز ما طرحته المعارضة في الحوار، وقوى اخرى غير معارضة، حول موضوع المنظمة يمكن تلخيصه بما يلي: “منظمة التحرير انجاز وطني كبير يجب الحفاظ علية، وحمايته من التصفية والتبديد. فهي الممثل الشرعي والوحيد لكل الشعب الفلسطيني في مختلف مناطق تواجده، وهي مرجعيته العليا، ومرجعية المفاوضات. ويجب المحافظة عليها حتى قيام الدولة المستقلة وعاصمتها القدس”. وطالبت “باعادة الاعتبار لجوهر ميثاق المنظمة المناهض للصهيونية وتطويره، لجهة الاستمرار بالتمسك بالحقوق التاريخية والاخذ بعين الاعتبار المتغيرات التي طرأت على العالم والمنظمة وكل الوضع الفلسطيني خلال العقود الثلاث الاخيرة”. العمل على “تطوير النظام الاساسي واللائحة الداخلية للمنظمة، ووضع نظم ولوائح جديدة للهيئات المختلفة”. “اعادة بناء مؤسسات م ت ف على اسس ديمقراطية، بما يضمن مشاركة الجميع والتخلص من التفرد والاستئثار. وتفعيل دورها وبخاصة في الشتات”. “فصل هيئات المنظمة عن هيئات ومؤسسات السلطة. والبحث عن صيغ تضمن وضوح الفواصل في الصلاحيات والمهام والاشخاص”. تفعيل مكاتب المنظمة ومؤسساتها على الصعيدين العربي والدولي، واعادة الاعتبار لمكانتها وعلاقاتها. وانفرد حزب “فدا” بالحديث عن تفعيل دور المجلس المركزي الذي كاد الجميع ان ينسوه. وانفردت الجبهة الديمقراطية بالمطالبة “بتصحيح الخلل الذي اصاب تشكيلة المجلس الوطني، بما يضمن استعادة التوازن في تعبيره عن تكوين للحركة الوطنية الفلسطينية، وفي تمثيله لمختلف تجمعات شعبنا في الوطن والشتات، كما وشموله لجميع القوى الوطنية والاسلامية الفاعلة”. وطالبت “باجراء انتخابات حرة لعضوية المجلس الوطني الفلسطيني في مختلف تجمعات الشعب في الوطن والشتات”.
سابعا / حول البناء الديمقراطي:
اجمعت القوى الاساسية والشخصيات الوطنية المستقلة على وجود ثغرات كبيرة في عملية بناء المجتمع الفلسطيني، وبخاصة مسألة الديمقراطية. واكد مداخلات ومذكرات الجميع [باستثناء حركة حماس التي قفزت عن الموضوع] على ضرورة : اجراء مراجعة مع الذات على صعيد البناء الوطني وانجاز المهام المجتمعية باتجاه تعزيز الديمقراطية، واحترام الحريات وحقوق الانسان. ووقف تدخل الاجهزة الامنية الفلسطينية في الحياة المدنية، ووضعها تحت اشراف القانون. وتعزيز بناء المجتمع المدني واحترام استقلالية هيئاته. وقف عسكرة المجتمع اللسطيني، وتقليص تضخم الجهاز الاداري البيروقراطي، ومحاربة الفساد، وتطبيق القانون على الجميع. وتطبيق المساواة والتكافؤ في الحقوق بين المواطنين. احترام التعددية السياسية وصون حق الجميع في التنظيم والعمل العلني دون قيود. اصدار التشريعات والقوانين الوطنية للتخلص من آثار الاحتلال. صيانة واحترام استقلالية القضاء ونزاهته وفصل السلطات والحد من تدخل الاجهزة التنفيذية في شؤونه. تحريم الاعتقال السياسي والافراج عن جميع المعتقلين السياسيين دون استثناء. احترام حرية الصحافة والراي والرأي والآخر. اعتماد سياسة اقتصادية تسرّع في الخلاص من الاحتلال ومن التبعية للاقتصاد الاسرائيلي. تحسين الاداء الوظيفي في مؤسسات السلطة. وانتهاج سياسة ثقافية وتربوية وتعليمية سليمة تلبي احتياجات المجتمع المدني، وتساعد في نشر قيم الديمقراطية الحقيقية.
ثامنا / مفاوضات الوضع النهائي:
عند مناقشة مفاوضات الحل النهائي كان واضحا للجميع ان قيادة حركة حماس غير معنية بالموضوع فمداخلتها لم تتطرق له اطلاقا. وفهم منها انها ما زالت ضد كل العملية السياسية الجارية منذ أكثر من خمس. وانها ليست بصدد مراجعة موقفها، ولا تنوي المشاركة باية صيغة في مفاوضات الحل النهائي. ولخصت موقفها بالقول ” نؤكد تمسكنا بثوابتنا الوطنية وعدم شرعية وجود الاحتلال”. اما الجبهة الشعبية فقد بقي موقفها ملتبسا. فهي من جهة تضع اسسا تراها ضرورية وضمانة للحفاظ على الحقوق الوطنية الفلسطينية، لكنها من جهة اخرى دعت الى “العمل على اعادة بناء الطواقم المفاوضة بحيث تضم خيرة كفاءات شعبنا”. والى “ايجاد مرجعية عليا جماعية تشرف على التفاوض وادواته، بروح المؤسسة الجماعية المؤتمنة على احترام الثوابت الوطنية والخطوط الحمراء، وتنفيذ ما يتفق علية وطنيا وقوميا، وتحترم القرار المشترك”. اما الجبهة الديمقراطية فقد فهم من مداخلتها في جلسة الحوار ومن المداولات التي سبقتها انها ترغب في المشاركة في مفاوضات الحل النهائي. ومذكرتها قالت “ما زالت مهمة انجاز وحدة وطنية حقة تنتظر الانجاز. وهي الان اكثر الحاحا.. بفعل اقتراب استحقاقات مفاوضات الوضع الدائم بما تتناوله من قضايا مصيرية لا يمكن لفريق فلسطيني واحد ان ينفرد بالبت بها”. اما حول بعض اسس مفاوضات الحل النهائي فقد تلاقت مواقف الجبهتين مع مواقف حزب فدا حول” ضرورة تحديد الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها”. “التعاون والتنسيق مع الاطراف العربية المشاركة في المفاوضات”. التمسك بالثوابت الوطنية” وشددت الجبهة الشعبية على “ان تكون مرجعية هذه المفاوضات قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بحقوقنا الوطنية”. “وان تجري في اطار الامم المتحدة، وبمشاركة دولية واسعة تستبعد التفرد الامريكي..”. واتفقت مع الجبهة الديمقراطية على وقف المفاوضات مع اسرائيل حتى يتم وقف الاستيطان وتوقف عمليات مصادرة الاراضي وشق الطرق الالتفافية.
بعد انتهاء المداخلات جرت مداولات حول ضرورة صدور بيان عن الاجتماع، ولم تبرز اية معارضة لذلك. وتم تشكيل لجنة صياغة شاركت فيها المعارضة. وفي نهاية الاجتماع أصدر المجتمعون بيانا تحت اسم “هيئة الحوار الوطني الفلسطيني” تضمن في الجانب التنظيمي الاعلان عن تشكيل سكرتاريا دائمة حددت مهمتها: (متابعة الحوار الوطني واغنائه، ولدعوة القوى القلسطينية في كافة اماكن تواجدها الى لقاءات دورية منتظمة لتعزيز القواسم المشتركة بين القوى والاحزاب والشخصيات، وصولا الى وثيقة عمل تحدد اهداف النضال الوطني، وتوحيد كل قوى شعبنا في جبهة وطنية واحدة موحدة لدحر الاستيطان والاحتلال عن ارضنا. وتحقيق اهداف شعبنا في العودة وتقرير المصير واقامة دولته اللسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف). كما تضمن البيان ( تصميم وعزم المشاركين على مواصلة العمل والحوار بكل صبر وأمانة وروح يمقراطية، لتحقيق الوحدة الوطنية الشاملة التي تضم جميع الفصائل والقوى والاحزاب والهيئات والشخصيات الوطنية والاسلامية في الداخل والخارج، على قاعدة الحوار الديمقراطي والتعددية السياسة وروح الفهم الخاص للقضية الفلسطينية). اما في الجانب السياسي فقد ركز البيان، الذي شاركت في صياغته الاطراف المعارضة على: “1” ادانة الاستيطان باعتباره عمل غير شرعي وينتهك العهود والمواثيق الدولية، ويستهدف تهويد الارض، وطمس التاريخ الفلسطيني، وتحد للقرار الدولية، ولخطاب الضمانات الامريكي، والاتفاقات المعقودة. “2” الزام اسرائيل بقرارات الشرعية الدولية، والاتفاقات المعقودة وتطبيقها تطبيقا كاملا ودقيقا وامينا. “3” التأكيد على اهمية استمرار عملية السلام على المسارين اللبناني والسوري. “4” اعتبار ضم القدس وتهويدها عدوان صارخ على قرارات الشرعية الدولية، وعلى حقوق الشعب الفلسطيني. “5” رفض محاولات اسرائيل فرض امر واقع في القدس، وادانة اقامة حي استيطاني في جبل ابو غنيم. واعتبار مواجهة الاستيطان، ومقاومة عملية تهويد القدس عمل مشروع. “6” مطالبة الامم المتحدة، وراعيي عملية السلام، والمجموعة الاوروبية، والقمة العربية، والقمة الاسلامية، ودول عدم الانحياز، فرض عقوبات على اسرائيل. وعند هذا الحد انتهى البيان الذي صدر عن الجولة الاولى. وتفرق الجميع على امل ان يتم تشكيل السكرتاريا الدائمة بسرعة وان تباشر عملها بسرعة. انشغلت بعدها كل الفصائل الفلسطينية بتشكيل هيئة السكرتاريا الدائمة. وبعد تداول ثنائي قادة الطيب عبدالرحيم امين عام الرئاسة، وسكرتير هيئة السكرتاريا تم الاتفاق على تشكيلها. ضمت بالاضافة لابوعمار رئيسي المجلس الوطني والمجلس التشريعي، وممثل واحد عن كل فصيل من فصائل م ت ف المشاركة وغير المشاركة في السلطة، وكذلك ممثل واحد عن الاحزاب الاسلامية التي شكلت بعد عودة المنظمة للوطن. وعدد من اعضاء اللجنة التنفيذية، وعدد قليل من الوزراء، وعدد اقل من المستقلين. وسمت حركة حماس ممثلها في هيئة السكرتاريا، وامتنعت حركة الجهاد الاسلامي “تنظيم الشقاقي” عن تسمية مندوبها وكان موقفها استمرار لمقاطعتها جلسات الجولة الاولى. وكانت اطراف المعارضة تعول على ما سوف تقوم به هذه الهيئة. فهل كانت الآمال واقعية؟ وكيف عملت هيئة السكرتاريا؟ وماذا تم في الجولة الثانية التي عقدت في “28/4/1997″ وتغيبت عنها حركتي حماس والجهاد الاسلامي؟

الحلقة الثالثة آمال وطنية وفصائلية كبيرة ونتائج محدودة
وبالرغم عن التشكيل المبكر للسكرتاريا الدائمة الا انها لم تعمل كهئية، ولم تعقد اي اجتماع على مدى شهرين كاملين “28/2/ـ 28/4/1997″. في حينه زادت شكوك المعارضة في نوايا السلطة من الدعوة للحوار. ولاحقا، بعد قيام الاجهزة الامنية الفلسطينية باعتقال بعض افراد حركة حماس المتهمة بعلاقتها بعملية صوريف زادت شكوكها اكثر. وعبر عبدالرحيم ملوح عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية، والمسمى ممثلا لها في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، عن رؤية المعارضة حين قال “لا نريد حوارا من اجل اهداف تكتيكية، او من اجل توجيه رسائل سياسية هنا او هناك، بل حوارا يفتح آفاقا وخيارات أخرى جديدة في العمل الوطني الفلسطيني”. اعتقد ان هذا التصريح وما قالته بعض رموز المعارضة علنا لسكرتير الهيئة مباشرة وفي اللقاءات الخاصة، يؤكد ادراكها لحقيقة الاسباب التي ادت لتأخير اجتماع السكرتاريا فترة شهرين. فتأخير اجتماع السكرتاريا تم بوعي ولاعتبارات سياسية. وذات الشيء ينطبق على دعوتها اواخر شهر شباط. فقد آثر ابوعمار انتظار تبلور نتائج زيارة الرئيس مبارك والملك حسين وزياراته لواشنطن ولقائه مع الرئيس كلينتون الذي تم في آذار. وحبذ ايضا انتظار ما قد تسفرعنه جولات المبعوث الاوروبي والمنسق الامريكي لعملية السلام في المنطقة ، وكذلك نتائج التحقيق الذي كان يجريه مدعي عام الدولة في اسرائيل في قضية الغش والفساد السياسي التي عرفت بقضية بارعون ـ الخليل.
وبصرف النظر عن الاسباب الحقيقية لتأخر انعقاد الجلسة الاولى للسكرتاريا الدائمة، فقد دعى ابوعمار أعضائها لعقد اجتماعهم الاول في نابلس. وقبيل دخول قاعة الاجتماعات فوجئ الجميع “كما قالوا” بتغيب مندوب حركة حماس. وحاول البعض ان يعزوا ذلك لاسباب ادارية وفنية تتعلق برفض السلطات الاسرائيلية منح ممثل حركة حماس تصريح مرور للضفة الغربية ومنعه من الوصول الى مدينة نابلس. الا ان محمود الزهار، عضو مكتبها السياسي، كشف لاحقا عن تداول تم بين ممثلين عن حركة حماس وممثلين عن قيادة الجبهتين الديمقراطية والشعبية حول مقاطعة الاجتماع. وأنهم بحثوا الوضوع بسبب عدم قيام السلطة الفلسطينية باطلاق سراح معتقلي المعارضة حسب الوعود. وايضا بسبب سلوك اجهزة امن السلطة الفلسطينية في قضية القاء القبض على افراد خلية صوريف. فحركة حماس تتهم الاجهزة الامنية بأنها ساعدت الاجهزة الامنية الاسرائيلية في القاء القبض على الخلية، وفي الكشف عن جهثة الجندي الاسرائيلي. أما الاجهزة الامنية الفلسطينية فتنفي هذه التهمة، وتحمل قيادة حركة حماس واعترافات اعضاء الخلية انفسهم مسؤولية ما حصل. وهناك في السلطة من يعتقد بأن خروج الرنتيسي من المعتقلات الاسرائيلية في تلك الفترة كان له دوره في مقاطعة حماس لجلسة الحوار. فالمعروف عن الرنتيسي انه من المتشددين في قيادة الحركة ازاء العلاقة مع السلطة الفلسطينية. وبصرف النظر عن الاسباب الجوهرية التي دفعت بحركة حماس للمقاطعة فالثابت ان تغيبها تم على خلفية تجدد الازمة في العلاقة بينها وبين السلطة. وان هذا التغيب احرج قيادتي الجبهتين الديمقراطية والشعبية لاسيما وانهما لم تفلحا في تجاوز خلافاتهما القديمة حول الدور القيادي، ولم تنجحا في تشكيل نواة قطب ديمقراطي حقيقي في الساحة الفلسطينية. ووضعتهما امام احد خيارين: امام التضامن مع حركة حماس، اي الالتحاق بها ومقاطعة جلسات الحوار القادمة، واما الاستمرار في المشاركة في جلسات الحوار في حال انعقادها، والاقرار مسبقا باتساع الهوة بينها وبين حركة حماس. والالتحاق التدريجي بالسلطة، ومحاولة القيام بدور معارض من داخلها على غرار المحاولة الفاشلة التي قام بها حزب “فدا”. والذي تحول بسبب فشل قيادته في تمييز نفسها الى فصيل صغير معزول عن الناس. ولم تتوقف تأثيرات غياب حركة حماس عن جلسة الحوار عند حدود التأثير على مواقف الجبهتين، بل طال الحوار ذاته وافقده مضمونه. فاذا كان الهدف من الحوار هو ايجاد قواسم مشتركة بين السلطة والمعارضة فغياب حماس والجهاد الاسلامي ” المعارضة الاسلامية” القوتين الاساسيتين في المعارضة يجرد الحوار من امكانية تحقيق هذا الهدف. خاصة وان القيادة الفلسطينية تعتبر حركة حماس القوة الرئيسية في المعارضة، وتتعامل مع المعارضة على هذا الاساس. وتحسب لثقلها الميداني ولمواقفها ودورها الحساب. ولا يستطيع اي طرف فلسطيني ان ينكر بأن حركة حماس استطاعت، بثقلها الجماهيري، ونشاطها الميداني، ان تفرض نفسها قائدة للمعارضة الفلسطينية، وقطب منافس للسلطة. صحيح ان غياب حماس عن المشاركة في الحوار قد خفف عن السلطة عناء قسم من الضغوط الامريكية والاسرائيلية بشأن علاقتها بحركة حماس، الا ان غيابها فرض ذاته على جلسة الحوار وعكس نفسه بصورة فورية على جدول اعمالها. حيث اقتصر على نقطتين فقط: الوضع السياسي، وآليات تعزيز الحوار. واضطر المجتمعون تركيز مناقشاتهم حول موضوع تغيب حركة حماس، وتم تكليف لجنة مصغرة بالاتصال بقيادة حماس ومناقشتها في اسباب غيابها ودعوتها مواصلة المشاركة في الحوار الوطني الشامل.
بعد الانتهاء من بحث موقف حماس، انتقل المجتمعون لبحث الوضع السياسي. وقدم ابوعمار عرضا مختصرا عن التحركات الفلسطينية التي تمت في المجالين الاقليمي والدولي بعد انعقاد الجولة الاولى للحوار. وحرص على ان يبقي الحديث في اطار ما نشر في الصحف وما تناقلته وكالات الانباء. وتحاشى الحديث في القضايا السياسية الحساسة من نوع المبادرة الامريكية والاتصالات الدولية والاقليمية بشأن استئناف المفاوضات على المسار الفلسطيني الاسرائيلي، والعلاقات الامنية الاسرائيلية. وفي سياق عرضه ابدى استعداده لعقد جلسة للحوار في الخارج “كي يتسنى للاخوة في القيادة غير القادرين على عبور الوطن المشاركة المباشرة في الحوار”. بعد مداخلة ابوعمار تكلم عدد قليل من اعضاء السكرتاريا. وكان واضحا ان ممثلي المعارضة “الشعبية والديمقراطية” غير راغبين في الكلام. وانفض الاجتماع دون بحث النقطتين المدرجتين على جدول اعماله بصورة جدية ومعمقة، ودون اصدار بيان. وتم الاتفاق على عقد جلسة أخرى خلال فترة قصيرة بعد اجراء الاتصالات مع حماس.
وبصرف النظر عما حصل في الجلسة الثانية فاني اعتقد بان اي تقييم موضوعي لبدء الحوار الوطني الفلسطيني الشامل، وللبيان الذي صدر عن الاجتماع الاول على ابواب لقاء رئيس اللجنة التنفيذية مع الرئيس كلينتون في واشنطن والقمة الاسلامية واجتماع لجنة القدس، لا يمكنه القفز عن كون الحوار كان وما زال له ضروراته الوطنية الملحة، لمناقشة ومعالجة الاوضاع الوطنية المعقدة. ولا يمكنه ايضا تجاهل النتائج والآثار الايجابية السياسية والتنظيمية “المحدودة” التي انعكست على الوضع الفلسطيني العام، في اكثر من اتجاه ومجال داخلي وخارجي. ولعل التفاعلات السياسية والعملية التي خلقها الحوار وبيان الجولة الاولى على الاوضاع الداخلية والعلاقات الخارجية مؤشرات على انه كان خطوة سياسة في الاتجاه الصحيح وفي التوقيت الصحيح. حتى لو كان متأخر من وجهة نظر البعض، وناقصا من وجهة نظر البعض الآخر. فالولايات المتحدة الامريكية ومعها الكثير من الدول الاوروبية تسائلت حول دوافع السلطة من اجراء الحوار، وحول ما يمكن ان يتمخض عنه. اما اسرائيل فقد ادانته واعتبرته خروجا على روح الاتفاقات، وتسامحا من قبل السلطة الفلسطينية ورئيسها مع “منظمات الارهاب”.
والتدقيق في مدلولات بدء الحوار وفي ما تضمنه البيان يمكن من تسجيل عدد من الاستخلاصات والاستنتاجات الهامة منها:
اولا/ ان اجتماع القوى الوطنية الفلسطينية على ارض نابلس المحررة، بالرغم من التباين والخلاف حول عملية السلام وما انتجته، هو انتصار للتراث النضالي الفلسطيني في تنظيم العلاقات الوطنية، الذي يصر على حل الخلافات والتناقضات الداخلية بالحوار وليس بالاقتتال. ويؤكد انتصار العقل والارادة الخيرة على العواطف والانفعالات، والحزازات والآلام المتراكمة في النفوس. وانتصار مصالح الشعب والوطن على ما عداها من قضايا تفصيلية اخرى. وان ما وقع خلال المسيرة الطويلة من خروج على هذا الركن كان شذوذا محدودا عن القاعدة. فاللقاء بحد ذاته اكد ان جميع القوى الوطنية الفلسطينية تحرص في اشد لحظات الخلاف واقساها على الالتزام بالوحدة الوطنية. وان الوحدة في اطار م.ت.ف كانت وما زالت ركنا اساسيا من اركان العمل الوطني الفلسطيني عند جميع قوى الشعب باستثناء “حركة حماس” التي لها مفهومها الخاص. ويؤكد ايضا انه ما زال بالامكان تكريس تعددية الآراء والمواقف السياسية والفكرية داخل البيت الفلسطيني، وتوظيف الخلاف الفكري والسياسي لصالح القضية الوطنية ولصالح تعزيز وحدة العمل لجلاء الاحتلال عن الارض الفلسطينية.
ثانيا/ بصرف النظر عن النوايا والرغبات الذاتية للاطراف التي شاركت في الحوار التمهيدي والرسمي، فاللقاء بين السلطة والمعارضة وصدور بيان عن الجولة الاولى بالصيغة التي صدر فيها، كان من ضمن مسائل اخرى، بمثابة رسالة فلسطينية ارادها ابوعمار ان تكون من نصين مختلفين. الاول تحذيري موجه لنتنياهو واركان حكومتة اليمينية. اما الثاني فكان موجه للقوى الاقليمية والدولية عامة والادارة الامريكية على وجه الخصوص. خلاصتها انه ممسك بالاوراق الفلسطينية بما فيها ورقة المعارضة. وقادر على كل ضبط كل المواقف السياسية والعملية الفلسطينية بما فيها مواقف المعارضة. وان لدى الفلسطينيين خيارات أخرى غير التي يطرحها نتنياهو، اي الاستسلام لمشيئته والرضوخ لاملاءاته والقبول بما يقرره لهم ولعملية السلام. ولعل ردود الفعل الاسرائيلية المتشنجة على الحوار والبيان وما تلاهما من خطوات فلسطينية عملية، وبخاصة التوحد في مواجهة الاستيطان في جبل ابوغنيم وسواه من المواقع، واطلاق سراح عدد “ولو قليل” من معتقلي حركة حماس والجبهة الشعبية، مؤشر على ان الرسالة الفلسطينية وصلت للقوى الدولية والاقليمية وبخاصة للاسرائيليين كما اريد لها ان تصل. وفهمها نتنياهو واركان حكومته كما أريد لهم ان يفهموها.
ثالثا / ساهم الحوار والبيان في تسليط الاضواء على المخاطر الكبيرة المحيطة بعملية السلام. وابرزا امام العالم وبخاصة القوى الدولية المهتمة بصنع السلام في المنطقة، حالة اليأس والاحباط التي يشعر بها الفلسطينيون، بعد خمس سنوات من المفاوضات ومن التضحيات التي قدموها من اجل صنع السلام العادل والشامل والدائم في المنطقة. وبينا للعالم حجم المخاطر التي تحيط بعملية السلام. ولفتا نظر القوى الدولية والاقليمية الى ضرورة التدخل بسرعة وحزم لردع نتنياهو عن المضي قدما في سياسته المدمرة لجهودها التي بذلتها من اجل صنع السلام والاستقرار في المنطقة لسلام. والمدمرة ايضا للاتفاقات الموقعة بين الطرفين بحضورها. واكدت لها ان اوضاع المنطقة قابلة للعودة السريعة الى عهودها السابقة.
رابعا/ تم تسليط الاضواء، داخليا وخارجيا، على المخاطر الحقيقية التي تتعرض لها مدينة القدس، بسبب سياسة الاستيطان وعملية التهويد التي تتعرض لها. ودعى البيان الشعب الفلسطيني بصورة مباشرة للتحرك ضد الاستيطان ودفاعا عن القدس. وحفز قواعد وكوادر القوى الوطنية والاسلامية على التحرك. حيث قال بوضوح ان “هيئة الحوار تعتبر مواجهة الاستيطان ومقاومة عملية تهويد القدس عمل مشروع”. وخرج الجميع سلطة ومعارضة من جلسة الحوار الاولى وهم متفقون على مقاومته. واظن ان الحوار واطلاق سراح بعض المعتقلين وتلبية بعض طلبات المعارضة الادارية والعملية الاخرى اسهم بنسبة او اخرى في ترطيب الاجواء، وفي فكفكة ازمة العلاقة القائمة بين السلطة والمعارضة. وسهل عملية تنسيق التحركات الميدانية التي تمت بين القوى الوطنية والاسلامية في معظم انحاء الوطن في مواجهة الاستيطان وبخاصة في جبل ابوغنيم. وشجعت بعض كوادر فتح باتجاه التنسيق المشترك مع حركة حماس ومع كل القوى الفلسطينية المعارضة لعملية السلام.
ثغرات ونواقص في الحوار والبيان
وبجانب النقاط الايجابية المذكورة اعلاه اعتقد ان المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، ومصلحة السلطة والمعارضة، ومن ضمنها انجاح الحوار الوطني الشامل، تفرض رؤية النواقص والثغرات الاساسية التي رافقت الحوار، وايضا تلك التي لم يعالجها البيان.
1) لا بد من الاعتراف الجماعي بأن تبدلا نوعيا وقع في السنوات الأخيرة على الوزن الشعبي، وثقل الدور السياسي والكفاحي لقوى وفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية المنضوية تحت لواء م ت ف ومن ما زال خارجها. فبعضها نما حجمه وثقلة الوطني والاخر تقلص وتراجع وزنه ودوره. وبغض النظرعن التقديرات التي يعطيها هذا المركز أو ذاك الطرف لحجم وثقل هذا الفصيل أوذاك التنظيم، فان الاتفاق أو التباين في التقدير لا يلغي ضرورات اعادة النظر في الاسس التي وجهت على اساسها الدعوات للمشاركة في الحوار. واعادة النظر في تشكيل هيئة السكرتاريا الدائمة. واعادة النظر لاحقا في النسب التمثيلية للقوى المشكلة لمنظمة التحرير الفلسطينية. وفي نظام الكوتا الفصائلية التي مازالت تتحكم في تركيبة هيئات منظمة التحرير. واستبدالها بكوتا لحجوم التجمعات الفلسطينية على اسس ديمقراطية حقيقية، تقوم على الانتخاب المباشر. والتوجه نحو تقليص الهيمنة الفصائلية لحساب الفعاليات الوطنية المستقلة، واعادة النظر في اللوائح الداخلية لكل مؤسسات المنظمة وهيئاتها القيادية لصالح تعزيز العمل الجماعي وتعزيز الرقابة على عملها. ولا بد من توسيع القاعدة الشعبية للحوار واخرجه من دهاليز الفصائلية الضيقة. واشراك اوسع للمستقلين في جلسات الحوار القادمة، ممن لهم وزنهم وثقلهم الاجتماعي في التجمعات الشعبية الفلسطينية في الداخل وفي الشتات. واعطاء الفلسطينيين في الشتات حق البحث في افضل السبل لتمثيل أنفسهم في المجلس الوطني الفلسطيني. اما الاستمرار في التمترس عند المواقف القديمة، واستمرار ادارة الصراع بذات العلقية السابقة، وبذات الأدوات المستهلكة فقد يقود الى كوارث جديدة وعندها لن يفيد الشعب والقضية تبادل الأتهامات حول المسؤولية عن ذلك. والتاريخ لن يرحم أحدا . ومع الاحترام والتقدير لكل الفصائل والتنظيمات والاحزاب الرسمية وغير الرسمية التي دعيت للحوار وشاركت فيه، اعتقد انني لا اتجنى على أحد اذا قلت بان هناك شخصيات اجتماعية فاعلة في المجتمع غير منتمية لهذا الفصيل او ذاك، بعضها اعضاء في المؤسسات التشريعية للمنظمة وبعضها الآخر ما زال خارجها، غابت عن الحوار ولم تدعى له، علما بأنها تتمتع بثقة وبرصيد شعبي يعادلان ما تتمتع به فصائل بكاملها، وقد تزيد في بعض الاحيان عن بعضها. وأظن ان اشراك عدد من الكفاءات الفلسطينية والخبراء من التكنوقراط الاخصائيين في بعض المجالات في الحوار الوطني او الاستعانة بهم، كحد ادنى، ضرورة لا غنى عنها اذا اريد للحوار الوطني ان يكون شاملا وقادرا على معالجة قضايا المجتمع بجانب القضايا السياسية. اما الاستمرار في حصر الحوار الوطني الشامل في اطار القوى السياسة القديمة التي تحول بعضها الى عناوين ويافطات فأظن انه يضعف الحوار ويبقيه يدور في اطار بحث العموميات السياسية، ويجعله ناقصا حتى وصف بأنه وطني شامل. ولا يساعد على الخروج بالنتائج التي تتطلبها المصلحة الوطنية، والتي تتواخها أغلبية المجتمع الفلسطيني، في الداخل والخارج، غير المنتمية للفصائل.
2) واذا كان الحوار والمداخلات وما ورد في البيان اكدت الحقيقة، المعروفة والملموسة، بان هناك ازمة فكرية وبرنامجية حقيقية يعانيها العمل الحزبي الفلسطيني، وان هذه الازمة عميقة وشاملة متعدد الجوانب تطال كل القوى دون استثناء، فلا شك أن هناك مسائل وقضايا وطنية اساسية لها أولوية في العلاج على سواها ويفترض ان يتم التركيز عليها قبل وأكثر من سواها. وأظن ان طرح كل القضايا دفعة واحدة على جدول اعمل الحوار يربك الحوار والمتحاورين، ولا يساعد على الخروج بالنتائج المطلوبة في الاوقات المطلوبة. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف على ان الوقت من ذهب. وان الطبيب يبدأ في معالجة النزيف قبل معالجة الصداع. وفي هذا السياق يمكن القول أنه اذا كان من الخطأ القفز عن المواضيع السياسية الاساسية ومنها حالة عملية السلام، وموضوع الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية، فلا أظن أن من الصحيح ايضا حصر الحوار فيها. أو السماح لها في الطغيان على البحث والنقاش ونصوص البيان. وإهمال أو تهميش القضايا الجوهرية الأخرى التي تساعد الشعب على الصمود داخل الوطن وفي مخيمات اللجوء والشتات. وتحفزهم على الانخراط في النضال، وتوجهه نحو القضايا الرئيسية الهامة. وتبقى وظيفة الحوار حول المسائل السياسية هي تحديد الفواصل بين المواقف وتنظيم التعايش والتعاون في ظل وجود الخلاف. ونتائج العملية السياسية الجارية، لا تملي حتى الآن على أي طرف تغيير قناعاته ومواقفه كاملة، ولا تستوجب الاعتراف الكامل بخطأ مواقفه السابقة كلها. واذا كانت قضية المشاركة في المفاوضات وما نتج عنها محورية، فقضايا الامن الشخصي والاجتماعي وبناء الاقتصاد الوطني، والديمقراطية، وحقوق الانسان الفلسطيني، هي الاخرى محورية.
3) بالمقارنة بين ما طرحه المتكلمون في جلسي الحوار حول المسائل السياسية، “مذكورة اعلاه”. وما ورد في البيان، يمكن تسجيل ملاحظتين اساسيتين. الاولى، ان البيان قفزعن عدد من القضايا الحساسة، ولم يعط اجابات ملموسة على الكثير من التساؤلات المطروحة في الشارع الفلسطيني ومن قبل المراقبين. صحيح ان البيان صدرعن الجلسة الاولى والحوار ما زال في بداياته، ونقاشات الجولة الثانية تركزت حول المسائل الاجرائية، ونقاش القضايا الحساسة وغير الحساسة لم يستكمل. الا ان عدم الاشارة لبعضها ولو بجمل قصيرة، وعدم تحديد اتجاهات واضحة لمعالجتها، اضعف البيان على الصعيد الخارجي والداخلي. واظن انه لم يطمأن الجمهور الفلسطيني بشأن العديد من القضايا الهامة التي تقلقه بصورة يومية ومباشرة، وفي مقدمتها الاطمئنان على أمنه الاجتماعي ولقمة عيشه، ومستقبل العلاقات الوطنية، وقضايا البناء الديمقراطي، ومحاربة المحسوبية والفساد، ومستقبل المفاوضات والاتفاقات. اما الثانية، فهي ان ما ورد في البيان حول الاتفاقات، ومطالبة اسرائيل بالالتزام بها يتعارض مع ما طرحته المعارضة في مداخلاتها واوراقها المكتوبة التي قدمت لجلسة الحوار. ويمكن القول ايضا ان البيان لم يزيل شكوك الشعب في الفلسطيني، في الداخل والخارج، في قدرة الفصائل المشاركة في الحوار على معالجة الازمة التي يمر بها العمل الوطني الفلسطيني. وأظن انه لم يعزز ثقته بالقوى المتحاورة، ان لم يكن قد زادها ضعفا فوق الضعف الموجود. لاسيما وان البيان خلى من اية اشارة للعزم على تصحيح الاوضاع. ولم يتجدد الحوار الا اواخر شهر نيسان. وتجدد دون مشاركة الطرف الرئيسي في المعارضة “حركة “حماس”.
هل سيتواصل الحوار الوطني الشامل؟
بصرف النظر عن البيان الذي صدرعن الجولة الاولى من الحوار، وعن مستوى النقاش الذي دار داخل الجلسة وخارجها، وعن الاسس التي اعتمدت للدعوة، وعن الدوافع الحقيقية المباشر وغير المباشرة التي دفعت بالسلطة والعارضة الى للالتقاء في ظل الخلافات العميقة الموجودة بينهما، فاني أعتقد بان انعقاد الجولة الثانية من الحوار بعد شهرين كاملين من انعقاد الجولة الاولى، وتغيب حركة حماس بقرار مسبق عن الجولة الثانية يجعل من المبرر للناس وللمراقبين والمحللين السياسيين طرح السؤال التالي: متى وفي ظل أية ظروف سيستأنف لاحقا..؟ وهل جولة “نابلس” الثانية هي آخر المطاف في ضوء مقاطعة حماس.. اقله من الان وحتى اشعار آخر؟ خاصة وأن موقف الجبهتين الشعبية والديمقراطية صار اصعب..
في سياق الاجابة على هذه الاسئلة لعل من المفيد القول، صحيح ان الحوار الوطني الفلسطيني الفلسطيني يفترض ان يكون شأنا داخليا، وان لا يتم خلط الامور الداخلية والخارجية بعضها ببعض. الا ان الامنيات والرغبات الذاتية شيء وواقع الحال شيء آخر. فالحركة باتجاه تحقيق المصالح الفلسطينية العامة، وتنظيم الشؤون الداخلية الخاصة، والذي يسميه البعض ترتيب البيت الفلسطيني، تخضع في هذه المرحلة لاعتبارات متعددة ومتنوعة. وتتأثر نسبيا بالكثير من العوامل الخارجية، وفي مقدمتها الاتفاقات مع الاسرائيليين واستحقاقات المشاركة في عملية السلام. وتتشابك في كثير من المحطات مع مصالح القوى الدولية والاقليمية، وبخاصة المصالح الامريكية. وهذا كله يعطي مواقف الآخرين في كثير من الاحيان مواقع وادوار مؤثرة في التوجهات الفلسطينية الداخلية وبخاصة الاقتصادية والسياسية، والامنية. وبصرف النظر عن الرغبات الذاتية للقيادة الفلسطينية، او لقيادات القوى المعارضة فكل هذه العوامل تدخل الحسابات الفلسطينية الرسمية عند اتخاذ القرارات الكبرى والاساسية، ومن ضمنها استمرار الحوار الوطني الشامل او توقفه بصورة مؤقتة او دائمة. واظن انها سوف تبقى لفترة تتحكم فيه، طالما بقي الحوار قائما على ذات الاسس التي انعقد عليها، وبقي الأخرون من القوى الدولية والاقليمية، يعتبروه حوارا بين السلطة كسلطة وبين المعارضة كقوى واحزاب متهمة بالتطرف بالارهاب مطلوب من السلطة ملاحقتها وليس التحاور معها.
ووفقا لهذه القاعدة الموضوعية التي تفرضها موازين القوى على الفلسطينيين في هذه المرحلة يمكن تفسير تأخر انعقاد الجولة الثانية من الحوار شهرين كاملين. وبصرف النظر عن النوايا والرغبات الذاتية فالواضح ان استئناف الحوار الفلسطيني بصيغته الحالية ( سلطة ومعارضة) وبشكله الاحتفالي المكشوف للجميع، وتوصله الى نتائجه المرجوة بات مروبطا : اولا بتخلص القوى الفلسطينية من الارث السلبي، وبتطور مفهوم العلاقة بين السلطة والمعارضة، وبتطور مفهوم الوحدة الوطنية عن القوى الوطنية الفلسطينية الحاكمة وغير الحكومية. ومرهون ثانيا بتطور العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية. فتوترها وتشنجها يقرب القوى الفلسطينية بعضها من بعض ويضغط باتجاه استئنافه، وانفجارها يسرع خطواته باتجاه اهدافه الكبرى غير التكتيكية، ويحوله الى خطوة استراتيجية عند الجميع، وعكس ذلك صحيح ايضا. ومربوط ثالثا، بالحالة الصحية للمفاوضات وكل عملية السلام، فان هي تحسنت وتقدمت، تأخر الحوار الفلسطيني الفلسطيني، والواضح ان تعثرها وتعطلها وتعقدها يعجل بالحوار. ومرهون رابعا بموقف السلطة، والادق بموقف قيادة فتح من مسألة الديمقراطية في العلاقات الوطنية، وبمواقف المعارضة الفلسطينية وسلوكها العملي. فبمقدار ما تتجه نحو الواقعية السياسية، دون التخلي طبعا عن موقعها ومواقفها المعارضة، بمقدار ما تسهل على على نفسها وعلى السلطة استئناف الحوار وتسريعه وعكس ذلك صحيح ايضا. قد يقول البعض ان في هذا الامر خضوع للابتزاز الاسرائيلي الامريكي. وجوابي على ذلك هذا صحيح، ولا أحد يستطيع انكار ذلك. وعلى العقل الفلسطيني ايجاد السبل والصيغ الملائمة التي تحرره من هذا الابتزاز، وتحصنه ضد الانكسار أمامه. دون ان يضطر الى دفع ثمن غال اذا تجاهله، خاصة اذا اندفع باتجاه التصادم المباشر معه. فالسباح الماهر هو من لا يصادم الامواج القوية عندما يهيج البحر. وقديما قالوا ” لا تكن لينا وسهلا فتعصر، ولا تكن عنيدا متشنجا متصلبا فتكسر.
أعتقد ان ارتهان الحوار الفلسطيني الفلسطيني ارتهانا كاملا ومطلقا بالعوامل الخارجية المذكورة اعلاه ليس قدرا لا مفر منه. وان باستطاعة العقل الفلسطيني ايجاد الحلول للمشاكل المذكورة اعلاه. وايجاد الحيز الفاصل بين ضرورات مواصلة الحوار الوطني الشامل والوصول به الى نتائجه المرجوة، وبين الحرص على عدم استنفار قوى اقليمية ودولية ضد السلطة الفلسطينية وضد المعارضة وضد الحوار. وهذه المهمة الوطنية تسلط الاضواء من جديد على الخطأ التكتيكي التي ارتكبته بعض اطراف المعارضة “الشعبية والديمقراطية”، حين جمّدت وضعها في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. ويبرز ايضا خطأها الاستراتيجي “كلها” حين قاطعت انتخابات المجلس التشريعي، ولم تحاول لاحقا تعزيز دوره الوطني. فالنجاح الفلسطيني في اجراء انتخابات حرة في الضفة والقطاع لمجلس السلطة الوطنية المنصوص عليه في اتفاق اوسلو يعتبر، كما اعتقد، مكسبا وطنيا يعزز النضال الفلسطيني في مواجهة الاحتلال. وكان لهذا المكسب ان يتعزز اكثر وان يوظف في حلحلة بعض جوانب الازمة التنظيمية التي تعيشها الحركة الوطنية الفلسطينية فيما لو تواجدت المعارضة داخله، او تعاطت معه باعتباره منبرا للحوار.
الحلقة الرابعة حقائق لا بد من اخذها بعين الاعتبار اذا تجدد الحوار”الشامل”
اولا/ عملية السلام حقيقة من حقائق المنطقة والمفاوضات ممر اجباري
قبل انطلاق عملية السلام من مدريد 1991 شهت الساحة الفلسطينية حوارت ومناقشات موسعة تمحورت حول المشاركة في عملية السلام. في حينه كان من الطبيعي تماما ان يقع تباين داخل المجتمعات العربية والفلسطينية والاسرائيلية وفي صفوف الخبراء والباحثين في قراءة التطورات الدولية وفي تقدير انعكاساتها على اوضاع المنطقة، وحول مستقبلها ومدى تاثيرها على نزاعاتها المتنوعة والعميقة. وكان من البديهي ان لا يتم اجماع فلسطيني حول المشاركة في عملية السلام الجارية. وان يبقى الخلاف منذ ذلك التاريخ وحتى الان، حول مصيرها النهائي وحول مستقبلها. فالمشاركة الفلسطينية في العملية كان فيها خروج عن المألوف، واتت بثابة انقلاب على ثقافة ومفاهيم عمرها عشرات السنيين. وكانت تعني الموافقة على الشروط المجحفة التي فرضتها الادارة الامريكية على مشاركتهم. وكان معروف للجميع ان طريق السلام طويلة وشائكة ومعقدة جدا، ولم يكن في حينه هناك من يستطيع الجزم بان هذا الطريق الجديد غير المجرب سوف يعيد للعرب والفلسطينيين حقوقهم المغتصبة كاملة او حتى اجزاء هامة منها. لا سيما وان مهندس العملية وضع على كاهلها مهمة تسوية علاقات المنطقة العدائية، ومعالجة المشكلة الفلسطينية من اساسها، وأمامها تحطمت محاولات سابقة.
صحيح ان الفكر السياسي الفلسطيني الواقعي هو الذي تغلب في تلك الفترة، وتمّكن العقل الفلسطيني في حينه من اجتياز ذلك الامتحان بنجاح مقبول وقرأ التطورات الدولية والاقليمية التي وقعت اواخر عقد الثمانينات واوئل التسعينات قراءة واقعية صحيحة، وحسم الامر في حينه لصالح وجهة النظر التي كانت تنادي بالمشاركة في عملية السلام وبالتعاطي الايجابي مع التوجهات الامريكية لحل الصراع في المنطقة، وحقق الشعب الفلسطيني ما حقق وفشل في تحقيق بعض ما اعتقد ان بالامكان تحقيقه، وتم استثمار الانتفاضة ولم يتم تضييع تضحيات الشعب، وتم تحويلها الى حركة سياسية ملموسة، وتم التعامل بمسؤولية وواقعية مع التطورت الدولية ومع موازين القوى الاقليمية والمحلية، وتم وضع السلاح جانبا ومواصلة خوض معركة انتزاع الحقوق بالوسائل السلمية بالاستناد لعدالة القضية وللتراثنا النضالي العريق، ولتصميم الشعب على انتزاع حقوقه كاملة. الا انه منذ ذلك التاريخ وحتى الان ما زال البعض يجادل ويناقش في صحة المشاركة الفلسطينية في عملية السلام. واذا كانت هذه القضية ما زالت موضع خلاف، ومن حق كل طرف ان يستمر في التمسك برأيه وان يحتفظ بقناعته، فمن غير المفيد للحوار الوطني الفلسطيني، في كل الاحوال، استمرار نقاش هذه المسألة بعد خمس سنوات من المفاوضات، وبعد هذا الكم الكبير من الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية. ليس فقط لان حقائق الحياة حسمت فيه، بل لان عملية السلام في ظل الاوضاع الدولية والاقليمية باتت حقيقة من حقائق المنطقة، ومن حقائق العلاقات الفلسطينية العربية الاسرائيلية والدولية. وحسمت وقائع الحياة بان المفاوضات صارت ممر اجباريا حتى لو اغلق وتعطل المرور فيه لفترة من الزمن. ناهيك عن كون عملية السلام صارت قادرة بقوة الدفع الدولية وبما راكمته من قوة ذاتية على الاستمرار في الحياة فترة طويلة، والبديل المرئي للجميع هو الخراب والدمار. واذا كان ما تم وما تحقق غير مقنع للبعض بتعديل موقفه فأظن المصحلة الوطنية في انجاح الحوار الوطني تفرض تحويل هذه القضية الخلافية للتاريخ، او لمراكز الابحاث والدراسات اذا اصر البعض على رأيه. واعتقد ان الاوضاع الدولية والاقليمية والذاتية الفلسطينية وموازين القوى السائدة تجعل من استمرار البعض بالمطالبة بالغاء المشاركة في عملية السلام، او تجاهلها والقفز عنها غير واقعية وضارة من الان ولاشعار آخر. واستدراكا لاية تهمة يمكن ان توجه اود القول ان هذا لا يعني للحظة واحدة التسليم بالرؤيا الاسرائيلية لمسيرتها ولآفاقها المستقبلية والنهائية. او التسليم بانها بصيغتها الحالية قادرة على معالجة الصراع اللفسطيني العربي الاسرائيلي معالجة جذرية. فهي ليست اكثر من محاولة دولية لم ولا يستطيع الفلسطينيون التمرد عليها او الغاء الاتفاقات التي انبثقت عنها. فالتمرد وكل الخطوات الشبيهة تمس بوضع السلطة وبمكانتها على الصعيدين الدولي والاقليمي. وتوسع جبهة الاعداء وتقلص جبهة الاصدقاء وتلحق خسائر كبيرة بالارض والشعب. وآمل ايضا ان لا يفهم من هذه الرؤيا على انها دعوة للقوى المعارضة للتراجع عن كل مواقفها من عملية السلام منذ مدريد وحتى الان. بل دعوة للمشاركة في صيانة ما تحقق ” ولو انه قليل” منذ مؤتمر مدريد وحتى الان. ودعوة للمشاركة في اجتياز امتحان مفاوضات الحل النهائي المقبلين عليه في الفترة القادمة، واجتياز الامتحان المصيري المقبل علية العقل السياسي الفلسطيني بشأن القدرة على تحويل الحكم الذاتي الى دولة مستقلة متطورة ومزدهرة. وهو لا يقل عن الامتحان الذي واجهه على ابواب مؤتمر مدريد. ففي هذا الامتحان الفشل ممنوع، والنجاح واجب مفروض على الجميع كما كان الحال في امتحان مدريد. والواضح ان البدائل التي تطرحها بعض اطراف المعارضة عن المشاركة في عملية السلام ليست واقعية، اقله من الان ولاشعار آخر، كالحديث عن الكفاح المسلح وعن الانسحاب من عملية السلام. ويفترض ان لا يكون عسيرا على العقل الفلسطيني ايجاد ارضية لتعاون القوى الفلسطينية في مواجهة التطورات والخطيرة المقبلة. فهناك هامش واسع يفصل ويفرق ما بين المطالبة بالخروج من عملية السلام والغاء الاتفاقات وتجميد المفاوضات.. الخ عن الاقرار واقعيا بوجودها كحقيقة من حقائق المنطقة ومن حقائق العلاقات الفلسطينية مع الاسرائيليين. وهناك ايضا مساحة تفصل الموافقة الكاملة عليها وعلى نتائجها عن التعامل مع نتائجها باعتبارة حقيقة موجودة لا يمكن تجاهلها. وأظن ان السؤال المطروح الان على جميع الفلسطينيين ليس حول وجود اوعدم وجود عملية سلام، وليس حول قدرة هذه العملية على الحياة من عدمها. بل كيف يمكنهم التعايش معها وتطوير نتائجها الايجابة وتقليص ما يمكن تقليصه من سلبياتها. وكيفية مواجهة ما تحمله لهم من صعوبات في المستقبل، وانتزاع ما يمكن انتزاعه في الفترة القادمة من خلالها. وكيف يصونوا ما تحقق، وكيف يتعلموا ويستفيدوا من مواقفهم الصحيحة والخاطئة على حد سواء ؟
لاشك ان الشروع في فكفكة عناصر الأزمة التي تمر بها م ت ف والسلطة وكل القوى الوطنية وفصلها عن بعضها البعض، يساعد في معالجتها واحدة بعد اخرى. اما الاستعداد لمواجهة القادم المنتظر، القريب منه أو البعيد فيفرض على الجميع الشروع في تحمل مسؤولياتهم الوطنية فورا في ادارة المفاوضات القادمة لا سيما وانها ستدور حول قضايا الحل النهائي جوهر الصراع ولب القضية الوطنية. واظن ان المصلحة الوطنية تفرض اعادة تشكيل اللجنة العليا للمفاوضات بما يمكنها من استيعاب كل القوى الوطنية الموافقة على الدخول في عملية السلام، وعلى تحمل المسؤولية، والمشاركة في الاشراف على المفاوضات، بدءً من المشاركة في وضع الخطط التفاوضية و إنتهاءً بالتنسيق مع الأطراف العربية الأخرى المشاركة في المفاوضات. على أن تكون هذه اللجنة مرتبطة باللجنة التفيذية وتابعة لها. وأن تطوير وتفعيل الدور الفلسطيني في المفاوضات الحالية واللاحقة، الثنائية والمتعددة الأطراف، يتطلب بناء طواقم كفؤة ومتخصصة في المواضيع المطروحة على بساط البحث، وتوفير طواقم مستشارين أخصائيين لكل المجالات. ووضع أنسب وأفضل الآليات بما يمكن إشراك أوسع قطاعات من الشعب داخل الوطن وخارجه، ورفع محصلتها الى أعلى أطر الحوار وأعلى أطر القرار.
ثانيا/ ما تحقق عبر عملية السلام كان بالامكان ان يكون افضل
لا يمكن لاي مواطن فلسطيني او عربي او اي مراقب محايد انكار التقدم الذي حققه الشعب الفلسطيني عبر عملية السلام على طريق تحقيق اهدافه الوطنية. فما تحقق حتى الان من تحسين لوضع القضية على الصعيدين الاقليمي والدولي، ومن تحرير ملموس لاجزاء واسعة من الارض، وتحرير لقطاعات كبيرة من الشعب، يؤكد صحة قرارالمؤساست التشريعية الفلسطينية بالمشاركة في عملسة السلام في خريف 1991، رغم المعرفة باجاف الشروط التي فرضت في حينه على المشاركة الفلسطينية. وأظن ان لا ضرورة لعمل جردة في هذا البحث لما حققه الشعب الفلسطيني منذ ذهابه الى مدريد وحتى الان. بدء من تمثيل انفسهم بانفسهم مرورا بما اخذوه من الاتفاقات انتهاء بتشكيل سلطتهم الوطنية واجراء انتخابات حرة لمجلس تشريعي فلسطيني. ولعل مقارنة الوضع الفلسطيني التفصيلي والعام قبل عملية السلام، بالواقع القائم الان يؤكد ذلك. وبذات الوقت يفترض ان لا يكون هناك خلاف فلسطيني فلسطيني انه كان بالامكان للمكاسب ان تكون افضل فيما لو أديرت العملية التفاوضية بصورة أفضل. ولا يستطيع ابرع المفاوضين الفلسطينيين واشد المتحمسين لعملية السلام انكار ان النواقص والثغرات في الاداء في المفاوضات وفي ملاحقة تنفيذ الاتفاقات، وفي الفعل الذاتي الفلسطيني على الارض الداعم والمساند للمفاوضات، وعدم حشد الطاقات بالاتجاهات الصحيحة المطلوبة وفي الوقت المطلوب، وضعف اداء السلطة التنفيذية..الخ هي التي اعاقت ان تكون الحال الفلسطينية العامة افضل بكثير مما هي عليه الان. واذا كان لا مجال في هذا البحث للغوص في الموضوع، فيمكن لاي باحث بجردة موضوعية سريعة تجهيز قائمة طويلة.
ورغم ذلك كله اعتقد بأن الشروط الذاتية والموضوعي لامكانية تحقيق مزيد من التقدم “البطيء والمحدود” باتجاه الاهداف الوطنية الفلسطينية عبر عملية السلام متوفرة، وما زالت تسمح للفلسطينيين بتحقيق المزيد من المكاسب المهمة ” والمتواضعة”، وتحقيق تقدم اضافي باتجاه اهدافهم الوطنية الكبرى. والتعلم من التجربة وتجاوز النواقص والاخطاء السابقة يسرع في تحقيقها ويحسن مستواها ونوعيتها. وبالمقابل لا بد من الاقرار ان درب انتزاع كامل حقوق الشعب الفلسطيني كما يراها هو، او كما اكدتها قرارات الشرعية الدولية طويل جدا ومعقد جدا. وان اجتيازه يفرض تحسين الاداء الفلسطيني سلطة ومعارضة. وحشد طاقات كل الشعب سلطة ومعارضة ومستقلين داخل الوطن وخارجه خلف المفاوض وفي عملية البناء. وتوحيد حركة قواه الفاعلة على اسس ديمقراطية. وتنظيم جهوده في اطر تستوعب طاقات الجميع. ويحتاج ايضا الى نضال شاق وعمل فلسطيني دؤوب لاحداث لتطوير الموقف العربي، وتطوير اشكال تضامنه مع الشعب الفلسطيني في كل المجالات وفي مختلف ميادين الصراع. ويتطلب ايضا جهودا حثيثة لاحداث تغيير جوهري في الفكر السياسي الاسرائيلي وفي موازين القوى داخل المجتمع الاسرائيلي لصالح توسيع جبهة القوى المؤمنة بصنع السلام الحقيقي الشامل بين الشعبين والقائم على العدل. واحداث تغيير جوهري في مواقف الدول الكبرى لصالح الدفاع عن العدل وعن حقوق الشعوب المظلومة والمضطهدة. والواضح ان مثل هذه الخطوات لا يمكن لاي طرف انجازها بمفرده حتى ولو كان ممسك بزمام السلطة. كما لا يمكن لقوى الشعب مجتمعة انجازها بخبطة سياسية واحدة، ولا بفترة زمنية قصيرة، الا ان رحلة الالف ميل تبدأ بخطوه. وأعتقد أن ليس من الحكمة في شيء أن تضع م.ت.ف شعبها وقضيتها لا الآن ولا في المستقبل في مواجهة الأشقاء وأن تستعديهم وتستعدي كل العالم. فالعاقل والمسؤول هو من يحاول تقليص جبهة اعدائه، وتوسيع جبهة أصدقائه وحلفائه وكسب مزيدا من الانصار لقضيته وليس معاداة كل الناس. وقديماً قالوا رحم الله أمرىء عرف قدر نفسه، ونضيف وعرف وضعه وظروفه وقوته ومصلحة شعبه. وتواصل الحوار على ارض الوطن احد السبل لتحقيق ذلك .
ثالثا/ وجود معارضة له مبرراته وضروراته الوطنية
اعتقد ان تعقيدات القضية الوطنية الفلسطينية وما تواجهه من استحقاقات مصيرية، وما يحيط بها من تحركات سياسية عربية ودولية، جعلت وتجعل من وقوع الاجتهاد والتباين في الآراء، داخل صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية، حول مفاوضات السلام مسألة طبيعية وظاهرة صحية وصحيحة. لا سيما وأن المؤيدين والمعارضون لعملية السلام متفقون على أن المعروض على الشعب الفلطسيني في المرحلة الانتقالية لا يلبي الحدود الدنيا من الحقوق الوطنية التاريخية للشعب الفلطسيني. ناهيك عن ان المماطلة الاسرائيلية والتسويف والتلاعب المتواصل بالاتفاقات كما بينتها التجربة العملية تزيد من الشكوك حول قدرة هذه العملية بلوغ الاهداف الاستراتيجية الكبرى التي رسمها لها مهندوسوها.
ويفترض ان لا يكون خلاف على ان وجود معارضة وطنية فلسطينية لعملية السلام الجارية امر طبيعي تماما وغير مفتعل. وان فوائد الاجتهاد والخلاف في الرأي تزداد اذا بقيت تدور في اطار الحرص على وحدة الشعب وعلى الالتزام بالديمقراطية كقاعدة لحل الخلافات، وعدم تجريح وايذاء العلاقات الوطنية، هيئات وأفراد. واذا بقيت ايضا تتحرك على ارضية الدفاع عن المصالح العليا للشعب والوطن، وعكس ذلك صحيح تماماً. فالتباين انعكاس للآراء والاتجاهات السائدة داخل المجتمع الفلسطيني. وعلى كل حال فان وجود المعارضة كان له ضروراته الوطنية للتعبير عن آراء وقناعات قطاع ما من الجتمع الفلسطيني داخل الوطن وخارجه. ولتوفير الرقابة المسؤولة على دور القيادة في ادارة الصراع مع اسرائيل. ويوفر لها من يشعل الضوء الأخضر والاصفر الاحمر عند المنعطفات السياسية الهامة والخطرة.
وأظن ان استمرار وجود معارضة فلسطينية، قوية ونشيطة، للاتفاقات التي وقعتها السلطة والمنظمة مسألة طبيعية تماما وضرورية ايضا. وبئست القوى الفلسطينية اذا كانت ستجمع كلها على ما تم التوقيع عليه، وما قد يوقع عليه لاحقا. فما تم توقيعه لا يعادل في شيء حجم التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب الفلسطيني من اجل السلام. ولا يلبي الحدود الدنيا من مطالبه العادلة والمشروعة، ومن حقوقه الوطنية التي اقرتها قرارات الشرعية الدولية. فاجزاء واسعة من الارض الفلسطينية لم تتحرر حتى الان، والقضايا الجوهرية الكبرى لم تسوى. ومن غير المرئي ان العملية باسسها وقواعدها الراهنة قادرة على معالجة قضايا الحل النهائي التي تم تاخير بحثها بوعي، فهي شائكة ومعقة وبعضها قد يستعصي على الحل. اضف لذلك ان هناك اجماعا على ان العملية الجارية غير مضمونة النتائج كما يتواخاها الشعب الفلسطيني. حيث بينت وقائع الحياة بعد خمس سنوات من المفاوضات ان المجتمع الاسرائيلي لم ينضج بعد للوصول الى سلام حقيقي مع الفلسطينيين والعرب.
رابعا/ توصل الحوار وتطويره ضرورة وطنية ملحة
يفترض ان لا يكون هناك خلاف فلسطيني على ان المصالح الوطنية الفلسطينية العليا كانت وما زالت تستوجب حشد طاقات الشعب من اجل مهمتين رئيسيتين والاصح مهمة مزدوجة هي انجاز مهام التحرر الوطني، وفي مقدمتها مواصلة مواجهة الاحتلال والخلاص منه بأقصر فترة زمنية ممكنة، وبأقل قدر ممكن من الخسائر، واستكمال بناء مقومات الدولة الفلسطينية على اسس علمية سليمة. ولا شك بان الحوار الوطني بين مختلف قوى الشعب الحية والمعادية للاحتلال والحريصة على بناء مجتمع مدني فلسطيني ديمقراطي هو احد المداخل والاشكال الاساسية لحشد الطاقات وتعبأتها وتشغيلها في هذا الاتجاه الرئيسي. واذا كان مجرد لقاء القوى “الموجودة” يقوى الجبهة الداخلية ويدفع بالعلاقات الوطنية الفلسطينية خطوات جديدة على درب تعزيز الديمقراطية الفلسطينية وتفعيل طاقات المنظمة وحشد طاقات الشعب، ويخلق الظروف المناسبة للتقدم نحو اعادة صياغة هذه العلاقات على أسس متقدمة، عن تلك التي عاشتها الساحة الفلسطينية في السنوات الاخيرة، فهو ايضا يعطي للمسيرة النضالية زخما اضافيا عربيا ودوليا.
ولا أحد يستطيع ان ينكر بأن المتغيرات الدولية والاقليمية التي وقعت أواخر عقد الثمنينات ومطلع عقد التسعينات قد حركت الوضعين الاسرائيلي والفلسطيني، وحركت القضية الفلسطينية، ووضعتها على أبواب مرحلة جديدة تختلف نوعياً عن تلك التي جمدت عندها أربع عقود كاملة. فغير العاقل وحده والهارب (للأمام أو للخلف) من مواجهة الحقيقة هو الذي لا يرى التطورات الكبيرة التي وقعت خلال ربع قرن من الزمن على صعيد الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، وفي بنية المجتمع الفلسطيني. وهو ايضا من لا يريد ان يرى البصمات الواضحة التي طبعتها عملية السلام بالتدريج على الأوضاع الداخلية للحركة الوطنية الفلسطينية. فمنذ المشاركة الفلسطينية في عملية السلام وحتى الان اهتزت التركيبة السياسية الفلسطينية، وتزلزلت الارض من تحت اقدام بعض القوى الوطنية الفلسطينية. بعضها حافظ على وجوده في صفوف الشعب وزاد من تماسكه الداخلي وزاد من فعاليته في حركة النضال اليومي، وبعضها الآخر تراجع دوره وضعف ثقله ويكاد ان يتلاشى حتى لو ظلت يافطته مرفوعة وسلط عليها اضواء كاشفة بين فترة واخرى. وهناك ايضا من ما زال يكافح من اجل مواصلة الصعود واثبات الذات. أعتقد أن المتغيرات والتطورات الكبيرة الداخلية والخارجية التي وقت على الوضع الوطني الفلسطيني وضعت كل القوى الفلسطينية فرادى ومجتمعة أمام خيارات صعبة ومعادلات شديدة التعقيد: فإما المبادرة لتطوير الذات في مختلف المجالات وعلى كل المستويات للتمكن من مواكبة الأحداث والتفاعل مع التطورات والمتغيرات الدولية والاقليمية المتلاحقة والجارية بتسارع شديد، واما التحول بشكل تدريجي الى تيارات واتجاهات معزولة تسير في اتجاه والشعب وقضيته الوطنية يسيران في اتجاه آخر. هذا اذا لم يتحول بعضها الى تاريخ، والبعض الآخر الى عقبات تقف حجر عثرة أمام تحقيق مصالح الشعب ووامام تحسين أوضاع الناس العاديين من اغلبية الشعب التي لم تعد تمنح ثقتها للتنظيمات.. فهل ستدرك التنظيمات القديمة الحالة التي تعيشها وتلك التي تنتظرها ام انها ما زالت تعيش في الماضي..؟ فاستفتاءات الشارع الفلسطيني تشير الى ضعف ثقة الشارع بها كلها وهذا يجعل من تجمعها وتوحدها مصلحة ذاتية لها كلها، بجانب كونها ايضا مصلحة وطنية عامة. وذات الاستفتاءات تفرض على القيمين على الحوار الذي انطلق من مدينة نابلس اشراك كل من لم يشترك، وله ثقله في المجتمع الفلسطيني. وتستوجب بذل كل الجهود، وعصر الادمغة الفلسطينية لانجاحه. ولعل العمل على تطويره ليكون شاملا حقا، وتوسيع قاعدته الاجتماعية وعدم الاكتفاء بقاعدته السياسية (الفصائل) التي قام عليها، والالتزام بقاعدة وضع المصالح العليا للشعب الفلسطيني فوق كل الاعتبارات الاخرى يساهم في ذلك، وفي بناء الثقة بين السلطة والمعارضة، وفي ايجاد القواسم السياسية والتنظيمية والنضالية المشتركة بينهما.
وبصرف النظرعن رأي البعض في مدى حيوية وفعالية القوى السياسية الموجودة على الساحة الفلسطينية فهي الموجودة حتى الآن. وهي المعنية بالحديث عن الحوار الوطني الشامل او المقلص. واذا كانت المصلحة الوطنية العامة والمصالح الحزبية الخاصة هي التي دفعت بها للشروع في حوار فيما بينها اواخر شباط الماضي، فالواضح ان هذه المصالح ما زالت موجودة، وما طرأ من تطورات على الارض الفلسطينية وعلى العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية منذ ذلك التاريخ وحتى الان زاد من ضروراته ولم يقلصها، وجعل مهمة استكماله وتطويره اكثر ملحاحية من اي وقت مضى. لاسيما وان التدقيق في الخطوات العملية التي تمت على صعيد تنظيم العلاقة بين الاطراف التي شاركت في الحوار، وفي النتائج غير السياسية، يؤكد ان جل ما تم على صعيد العلاقات الداخلية هو امتصاص التوترات القائمة بين السلطة والمعارضة، ومحاولة مفيدة لتعطيل تصاعد الاشكالات وتأخير اندفاع الخلافات نحو القطيعة الكاملة ومنع وصولها الى الطلاق. لكنه بالتأكيد لم يعالج حتى الان جوهر قضايا الخلاف، ولا القضايا الوطنية الجوهرية.
ولعل من المفيد ان يدرك الجميع بان الحوار لن يكون مفيداً، بل قد يلحق بعض الأذى الوطني، اذا جرى التعامل معه باعتباره مناسبة ثمينة لتأكيد وجود الذات الفصائلية والحزبية. اوسيلة لتحقيق بعض المكاسب التنظيمية الخاصة في هذه المسألة أو تلك، في هذا الموقع أو ذاك. أو اذا كان الهدف من المشاركة فيه هو تقاسم السلطة القائمة أو القادمة وتوزيع المغانم، وإعادة توزيع الكوتات بين الفصائل من خلف ظهر الشعب بطريقة غير ديمقراطية. وايضا اذا تم القفز عن المسائل الجوهرية ذات الصلة بقضايا وهموم ومشكلات الناس. واذا كانت النتائج ـ قرارات أو توجهات ـ بعيدة عن القضايا الجوهرية التي تهم المجتمع وتمس حياة الناس او متعارضة معها. فلا فائدة ولا جدوى من الحوار سواء كان شاملاً أو ناقصاً، مقلصاً أو موسعاً، اذا تحول الى مهرجان تستعرض فيه قوة أوتار الحناجر. أو منبراً للتباري في القاء (فقع) الخطب الرنانة العصماء قصيرة كانت أو طويلة.. أو ميداناً لطرح ديباجات مطولة أو مقصرة عن المواقف القديمة المعروفة، وعن ضرورات الصمود وتقديم المزيد من التضحية والعطاء. أو التشديد والاكثار من تقديم النصائح بقيمة واهمية التمسك بالثوابت الوطنية. أو تنصيب الذات ناطقاً باسم الشعب والاكثار من الحديث عن المزاج الشعبي وتفصيله حسب المزاج وبما يخدم المواقف الذاتية وليس كما يعبر حقيقة عن مصالح الناس.
ولا شك في ان اعتماد أسلوب المكاشفة الصريحة وإجراء مراجعة للمواقف، والخروج من الخنادق، ونبذ التمترس حول هذا الموقف أو ذاك يسهم في حل العديد من الاشكاليات التي ما زالت تعيق الانطلاق نحو حوار مفيد وبنّاء. ولعل مبادرة جهة ما او اكثر لاجراء مراجعة جريئة وصريحة لسياساتها ومواقفها السابقة والاعتراف بالاخطاء التي ارتكبتها يخلق سابقة تشجيع الآخرين على القيام بذات الخطوة، وتسهم في انجاح الحوار القادم عندما ينعقد. وقد تساعد القوى الوطنية في استعادة ثقة الشعب بها، وتعطي للشعب بارقة امل بان قواه الوطنية او بعضها عاقدة العزم على تطوير اوضاعها وتجديد ذاتها، ودمقرطة علاقتها الداخلية والوطنية. ولا ادري اذا كانت الأوضاع الذاتية للفصائل والاوضاع الفلسطينية الداخلية، وما تراكم على امتداد الفترة الماضية من حساسيات، واستمرار هيمنة الاسس التنظيمية والسياسية والعقائدية التي قام عليها الكفاح المسلح الفلسطيني، التي ما زالت تعشعش في فكر الفصائل وتطغى على سلوكها سوف تسمح بذلك، أم أن الجميع سوف يبقى متمترسا في خندقه القديم..؟
أعتقد أن نجاح هذا الحوار وتوظيفه في خدمة قضايا الوطن يفرض عدم الاكتفاء بالدعوة العامة لتواصل للحوار، وتوجيه انتقادات داخلية للمعطلين. وأظن انها تلحق اضرارا بهدف الحوار اذا كانت مطروحة في اطار الاستهلاك الحزبي الداخلي وتسجيل المواقف، واعفاء الذات من المسؤولية وتحميلها للآخرين. واذا كانت الدعوات والمناقشات تظهر (ولو شكلياً) موقفاً قريباً من الاجماع حول ضرورة الحوار الوطني الشامل، فاستئناف الحوار يجتاج الى الى متابعة دؤوبة من المؤمنيين حقا باهميته الوطنية. ويفرض على الجميع العمل على ازالة كل مسببات تأخيره او تجميده وتعطيله. وتوفير كل المقومات السياسية والتنظيمية التي تضمن ليس فقط استئنافه بل وايضا استمراريته وتواصل جلساته دون انقطاع، او تنظيمها في اوقات متقاربة كحد ادنى.
ولعل اعادة النظر في دور السلطة في تنظيم الحوار، وفي مشاركتها الرسمية فيه كطرف رئيسي ومقرر، واستبداله في مراحله الاولى بصيغة أخرى تقوم على استقلالية الحوار عن السلطة. وتحويلة الى حوار حر ومفتوح بين الحركات والفصائل والاحزاب والشخصيات السياسية والنقابية والاجتماعية الفلسطينية من داخل الوطن وخارجه، يسهل من جهة تواصل الحوار وانتظامه، ويحرره من بعض التزامات السلطة المعيقة والمعطلة له. ويحرر السلطة من بعض تبعات الحوار من جهة اخرى، ويعطيها مجالا للمناورة السياسة، ويسهل عليها التخلص من بعض الضغوط الخارجية، وليس كلها. كما ويمكن ايضا ايجاد صيغ اخرى، منها مثلا ان يتولى المجلس الوطني او المجلس التشريعي او الاثنين معا هذه المهمة الوطنية الكبيرة. فهل ستتفاعل القوى الوطنية الفلسطينية مع مثل هذه التوجهات، ام انها كانت وما زالت اسيرة لمفاهيم وتقاليد واسس عمل مرحلة الفصائل التي لم تعد تصلح لهذه المرحلة؟ وان كل واحد منها بحاجة اولا الى حوارات داخله لتجديد ذاته ودمقرطة اوضاعة وبلورة مفاهيم جديدة تتناسب مع المرحلة التي يمر بها النضال الوطني الفلسطيني.. فهناك اجماع في صفوف المفكرين والبحاثة المعارضين والمؤيدين لعملية السلام عرب وفلسطينيين على أن الحركة الوطنية الفلسطينية، بما هي منظمة وسلطة واحزاب وحركات سياسية، تعيش ازمة فكرية وتنظيمية حادة ومتفاقمة. ولا يستطيع اشد المعارضون لعملية السلام وللاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية، والمعارضون للسلطة الفلسطينية، تحميل منظمة التحرير وعملية السلام والسلطة الفلسطينية وحدهما المسولية الكاملة عن وجود هذه الازمة وعن تفاقمها. فالازمة موجودة بصيغة او اخرى عند جميع فصائل العمل الوطني دون استثناء قبل عملية السلام، وقبل الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية بفترة طويلة.
لا شك ان صراعا فكريا وتنظيميا داخليا يجب ان يخاض من اجل تصويب اوضاع الحركة الوطنية وتصويب برامجها. وتصحيح العلاقات الفلسطينية الداخلية الخاطئة السائدة الان. بما في ذلك الاوضاع داخل م ت ف، وعلاقتها مع القوى الوطنية الفاعلة “حماس والجهاد الاسلامي” غير الممثلة في اطرها حتى الان. ويفترض ان يقر الجميع اعتبار الواقعية السياسة والديمقراطية قاعدتان اساسيتان لتنظيم لعلاقات. وان يتعاملوا مع الانتخابات كمخرج ديمقراطي للازمة الوطنية السياسية والتنظيمية التي تعيشها عموم فصائل الحركة الفلسطينية و م.ت.ف. وانها العنصر الحاسم في تحديد موقف الشعب الفلسطيني من القضايا السياسية المختلف حولها (اوسلو والمشاركة في عملية السلام). فالديمقراطية هي السبيل الوحيد لأعطاء كل ذي حق حقه. واعتمادهما يجب ان يعني في الظرف الفلسطيني الراهن الاقرار: بوجود سلطة واحدة ولا مجال للازدوجية. وان استقلالية قوى الحركة الوطنية شرط اساسي للانتماء لها وضرورة وطنية لا غنى عنها. ولا بد من ضمان المقومات الحقيقية للتعددية السياسية والتنطيمية في اطار الحركة الوطنية الفلسطينية باعتبارها مسألة طبيعية وضرورة وطنية كذلك. ولا بد من التسليم العملي للأقلية بحقها في التعبيرعن وجودها وعن مواقفها بكل الاشكال، وعبر منابرها الخاصة ومنابر السلطة ومنظمة التحرير. ووضع الاسس التنظيمية والادارية التي توفر ايجاد الصيغ التنظيمية الكفيلة بالحفاظ على الائتلاف الوطني القوي في اطار م ت ف، والقادرة على تطويره والارتقاء به لمستوى التحديات الدولية والاقليمية الكبرى التي يواجهها الشعب الفلسطينيني. وتمكين الجميع من التساند والتعاضض والتعاون على انجاز المهام الوطنية المتفق حولها. وأن تبقى المصلحة الوطنية العليا وبخاصة مواجهة الاحتلال واستكمال طرده فوق كل الأعتبارات الفئوية الضيقة التنظيمية والعقائدية وفوق الخلافات السياسية التكتيكية. وأن يبقى الصراع بين مختلف التيارات والاتجاهات يدور في اطاره الفكري والسياسي والتنظيمي، والا يتحول الى صراع تناحري عدواني أو لاقتتال داخلي مهما بلغت درجة الخلافات. والألتزام باستفتاء الشعب حول القضايا الأساسية المختلف حولها، والاقرار بأن نتائج الانتخابات التشريعية والبلدية والنقابية هي الحكم القادر على تقدير حجوم وفعالية الجميع، وبالتالي مواقعها وادوارها في السلطة وفي قيادة المجتمع الفلسطيني.