لا أمن ولا سلام في المنطقة دون استقرار اوضاع القدس

بقلم ممدوح نوفل في 21/03/1997

رغم اجماع رؤساء الاجهزة الامنية الاسرائيلية على أن توقيت الشروع في بناء الحي الاستيطاني الجديد في جبل ابوغنيم خاطئ. ورغم تحذيراتهم التي قدموها للحكومة بان الاقدام على هذه الخطوة يلحق اضرارا بالاوضاع الامنية لاسرائيل، ويؤثر على علاقاتها الدولية والاقليمية وبخاصة مع الدول العربية والاسلامية. ويؤثر على مسيرة المفاوضات مع الفلسطينيين. الا ان نتنياهو مضى في تنفيذ المشروع، وأرسل الجرافات الى جبل ابو غنيم “هارحوما” يوم 18/3/1997، ورفض التجاوب مع التمنيات الامريكية والاوروبية والمصرية والاردنية بتجميده. واعلن الاستنفار في صفوف الجيش والاجهزة الامنية الاسرائيلية. معتقدا ان بامكانه استغلال فترة التمزق والضعف التي يمر بها العرب والفلسطينيون.وأكثر من تهديداته وتحذيراته للفلسطينيين سلطة وشعب بان الرد سوف يكون قاسيا وشاملا، على اية محاولات اعاقة للجرافات عن العمل، اواذا تم “الاخلال بالأمن”. وحّمل السلطة الفلسطينية وبخاصة رئيسها مسؤولية أية عمليات ارهابية يتم تنفيذها لاحقا. “. ناسيا ان التعنت والتطرف والاستهتار بالفلسطينيين شعبا وقيادة يقوي التطرف وينعشه ويولد ردود افعال عنيفة.
ويعتقد نتنياهو ان بامكانه، بالصلابة المبدئية وبالقوة العسكرية، حسم وضع هذه المدينة المقدسة، وفرض تهويدها كامر واقع الامر بسهولة ويسر. وفقا لنظريته القائلة “ان ما يرفضه العرب اليوم يقبلوه غدا شريطة رفض مطالبهم والصمود في وجههم”. متجاهلا ما هو معروف للقاصي والداني بان هذه المدينة المقدسة لها موقعها الخاص والمميز عند العالمين المسيحي والاسلامي وضمنهما العرب. ويرفض الاقرار بان مصيرها يهم اصحاب الكتب السماوية الثلاث، وبان التطورات التي شهدتها المدينة والمنطقة والعلاقات الدولية في السنوات الاخيرة، تفرض اشراك الجميع بصيغة واخرى في تقرير مستقبلها. والسيرة التاريخية للمدينة تؤكد، ان اشتراك كل الاطراف الاقليمية والدولية في البحث عن حل مقبول من الجميع، بالكاد يستطيع معالجة قضية القدس. واذا كانت قضايا الحل النهائي معقدة وشائكة، فقضية القدس هي اصعبها. اما مواقف وسياسات فرض الامر الواقع التي تقوم بها حكومة نتنياهو فقد تجعلها مستعصية عن الحل بالطرق السلمية. ولا ادري اذا كان نتنياهو يدرك انه باللجوء الى لغة العنف، وباستنفار قواته وحشدها وتحريكها حول المدن الفلسطينية يؤكد للعالم نهاية عملية السلام. وأنه باستعراضاته العسكرية المتلفزة يستبدل، من حيث يدري او لا يدري، امام شعوب المنطقة والعالم، صور المفاوضين وهم يجلسون خلف الطاولات. بصور الدبابات والجنود المدججين بالسلاح التي حاولها ان ينسوها. ويذّكر الفلسطينيين والمراقبين باجواء الحرب والعداء والمقاطعة التي كانت سائدة قبل بدء المفاوضات، ويعيد لاذهانهم صور الصدامات والاشتباكات العنيفة والحروب التي دارت قديما بين الفلسطينيين والاسرائيليين.
والساذج سياسيا هو من يعتقد ان تمّكن الجرافات الاسرائيلية من العمل في التوقيت الذي حدده نتنياهو وبصورة مريحة نسبيا،، وعدم قدرة العرب والفلسطينيين ـ سلطة ومعارضة وشعب ـ على منعها عن العمل قد حسم معركة القدس لصالح نتنياهو. وان ردود الفعل المحدودة التي وقعت حتى الان، على الصعيد الفلسطيني والعربي والاسلامي هي آخر المطاف. ويخطئ من يتصور ان القيادة الفلسطينية قد استسلمت بالكامل لارادة نتنياهو. وسلمت بالامر الواقع الذي خلقه في جبل ابو غنيم او الذي يعمل على تكريسه في كل انحاء القدس. والجاهل بمكانة القدس هو الذي يمكنه ان يتصور ان خطوة سياسية استفزازية كبيرة، من هذا النوع وبهذا الحجم وفي القدس بالذات، يمكن ان تمر دون ان يكون لها تفاعلاتها اللاحقة في الشارعين الفلسطيني والعربي طال الزمن أو قصر. ودون ان تلحق اضرارا فادحة بعلاقات اسرائيل الفلسطينية والعربية والدولية. واذا كان نتنياهو لا يكترث بذلك الان، فمن الضروري ان يواصل الفلسطينيون استثمار موقفه العنجهي، ومراكمة مزيد من الرصيد في صفوف الرأي العام العالمي وفي كل المحافل الدولية، وتجميع مزيد من الاوراق بيدهم. فصعود الجرافات الى جبل ابو غنيم هو البداية لمعركة القدس وليس نهايتها. ومن المؤكد ان هذه المعركة سوف تجري في اكثر من ساحة وميدان ومجال. وانها سوف تكون طويلة وشائكة ومعقدة ومتعددة الاوجه. والضحية الاولى في هذه المعركة هي علاقات السلام الفلسطينية والعربية الاسرائيلية. وتخطئ الحكومة الاسرائيلية وكل من يشايعوها في موقفها اذا اعتقدوا ان بامكانهم ان يجدوا اليوم او غدا قائدا او مواطنا فلسطينيا وطنيا يمكن ان يوافق على التسليم بالامر الواقع الذي يعملوا على فرضه في القدس وسواها من المناطق الفلسطينية. فالجميع مقتنع بان العبث بوضع القدس، يحرق لانسان في “الدنيا والآخرة”. ناهيك عن انها (القيادة الفلسطينية) ليست مضطرة لذلك. فبقاء القدس تحت الاحتلال، وعدم تقديم الغطاء لساسة نتنياهو اتجاهها خير لها من ان تتورط في حلول ترفضها الاديان ويرفضها الانسان…
واذا كان لا لزوم في هذا المقال للاسترسال في الحديث عن تاريخ المنطقة وارتباطه بتطور الاوضاع في هذه المدينة المقدسة، فالمؤكد والمثبت تاريخيا أن اضطراب وضعها أدى دوماً الى اضطراب في كل المنطقة المحيطة بها، بدء من بلاد الشام مرورا ببلاد ما بين النهرين ومصر والجزيرة العربية، وانتهاء ببلاد الفرس. وبصرف النظر عن الخطوات العملية التي يمكن ان تتخذها لجنة القدس ومؤتمر القمة الاسلامية، والجامعة العربية في اجتماعاتها التي ستتم تباعا من الآن وحتى نهاية آذار الجاري، فالمشاورات والمداولات الاولية الجارية تشير الى المشاركين فيها لن يقولوا للفلسطينيين اذهبوا انتم وربكم ودافعو عن القدس وعروبتها. واذا كانوا غير قادرين الآن على الزام اسرائيل باحترام قرارات الشرعية الدولية الخاصة بالقدس، ومنع الحكومة الاسرائيية من المضي قدما في تنفيذ خطواتها الرامية الى تهويد المدينة، فبالحد الادنى لن تبقى علاقة اسرائيل بالدول العربية والاسلامية على ما هي عليه الان. ويفترض ان تصبح القدس وما يدور حولها من الان وصاعدا بارومتر لهذه العلاقة.
وليس عسيراً أيضاً على كل من يراجع تاريخ عمليات البحث عن السلام الفلسطيني-الاسرائيلي والعربي-الاسرائيلي التي جرت طيلة الفترة الماضية أن يتعرف على عدد المرات وعدد المحاولات التي تعطلت فيها عمليات البحث عن السلام بسبب الخلاف حول مسألة القدس. والكل يتذكر كيف أن المباحثات حول الحكم الذاتي الفلسطيني بين مصر واسرائيل عام 79-81 تعطلت، وكانت القدس سبباً رئيسياً في ذاك التعطيل. وان مستقبل وضع هذه المدينة المقدسة كاد أن ينسف مفاوضات واتفاقات كامب ديفيد. وأن الأمر سُوي في حينه مؤقتاً بين الطرفين من خلال رسائل أرفقت بالاتفاقات وأودعت عند الادارة الأمريكية. حيث كتب السادات في حينه رسالة للشريك الأمريكي قال فيها “إن مصر تعتبر القدس العربية جزء من أراضي الضفة الغربية المحتلة وأن ما ينطبق على الضفة الغربية ينطبق على القدس”. وفي حينه رد بيغن في رسالة مماثلة قال فيها “إن قرار الكنيست الاسرائيلي بتاريخ 28 حزيران 67 نص على أن القدس عاصمة دولة اسرائيل، وأنها مدينة موحدة وغير قابلة للتقسيم”. أما رد الرئيس كارتر على رسائل الطرفين فكان “بأن موقف الولايات المتحدة الأمريكية من مدينة القدس باق على ما هو ولا يعترف بضم القدس لاسرائيل”. وفي كتاب التطمينات الذي قدمته للفلسطينيين على ابواب مؤتمر مدريد اضافت ادارة الرئيس بوش ـ بيكر” ان الادارة الامريكية ترى “أنه لا يحق لأي طرف القيام بأية أعمال تؤثر على مفاوضات المرحلة النهائية”. والواضح ان الادارة الامريكية الحالية تريد التخلي عن هذه الالتزامات الامريكية الرسمية، ان لم تكن قد تخلت عنه حتى الان. وانها بصدد ممارسة ضغوط على الدول العربية والاسلامية لتعطيل اتخاذها مواقف واضحة ومحددة ضد سياسة نتنياهو وتوجهاته ازاء القدس. ناسية انها بمواقفها هذه تعزز مواقع القوى المتطرفة في المنطقة، وتساهم في التسبب في قتل عملية السلام التي ترعاها. وتحشر القوى الواقعية وتضعها في زاوية ضيقة امام شعوبها. وتفقدها مصداقيتها امام الجميع كراعية لهذه العملية. لاسيما وانها تعرف اكثر من سواها ان جميع الاطراف اتفقت على ابواب مدريد وفي اتفاقات اوسلو على وضع مصير القدس نقطة رئيسية على جدول اعمال مفاوضات الحل النهائي. وهذا يعني انه لا يحق لاي طرف التفرد في تقرير مصيرها من خلف ظهر الجميع او امامهم.
اعتقد ان تصميم نتنياهو على تقرير مصير القدس من جانب واحد، وتشجيع الادارة الامريكية له، ومحاولة فرض هذا الموقف بالجرافات كأمر واقع، هو بمثابة اعلان رسمي بأن عملية السلام التي انطلقت من مدريد قد انهت، قبل ان يستكمل تنفيذ الاتفاقات المتعلقة بالحل الانتقالي. وانها دخلت طورا جديدا يختلف عن كل الاطوار التي مرت بها، حتى لو استؤنفت المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية بعد عدة اسابيع او عدة ايام على ذات الاسس السابقة. وأن نتنياهو مصمم على فرض عملية سلام من نوع جديد، من انتاج واخراج حزب الليكود والاحزاب اليمينية المؤتلفة معه. تختلف نوعيا في اسسها واهدافها عن تلك التي اعتمدت في مدريد واوسلو. وجاء اقتراحه الجديد بتجميد تنفيذ المرحلتين الاخريين من الانسحاب والدخول فورا في مفاوضات الحل النهائي ليرسم هذه النتيجة، اي وفاة اوسلو. ويعتقدا أن بامكانه الاستفادة من الموقف الامريكي المنحاز لاسرائيل، ومن الموقف الاوروبي المتخاذل امامهما، ليفرض العملية الجديدة على المنطقة والعالم. فالعالم في نظره يتعامل بايجابية مع موقف القوي ولا يحترم الضعيف. ناسيا ان عملية السلام الاصلية، التي شارك العالم في صنعها وفي وضع اسسها، بالكاد كانت قادرة على التواصل وعلى الاستمرار في الحياة.
واخيرا يمكن القول يخطئ من يعتقد ان حرص الفلسطينين على تنفيذ التزاماتهم المتنوعة، ومن ضمنها الامنية، كافية للسيطرة المطلقة على الاوضاع الفلسطينية في الدخل والخارج خاصة عندما يتعلق الامر بالمعتقدات والمقدسات. لقد عبث نتنياهو بالمقدسات الاسلامية والمسيحية. ولعب بعش الدبابير. ويطالب العالم الان بحمايته من لدغاتها المؤلمة المتوقعة. لقد كان على نتنياهو قبل ان يطلق تصريحاته الابتزازية، وتحميل السلطة الفلسطينية ورئيسها مسؤولية اية اعمال ارهابية قد تقع، ان يدرك بأن من يهيج الدبابير علية ان يتوقع بعض اللدغات المؤلمة منها. وكان علية ان لا يتسرع وان يستخلص العبر من الحكمة التي دفعت مهدنسي عملية السلام (بوش ـ بيكر) الى تاجيل البحث في وضع مدينة القدس عند انطلاقة المفاوضات من مدريد عام 1991. وان يتعمق في دراسة مدلولات معركة النفق، ومدلولات عملية الباقورة التي تمت قبل عدة ايام وراح ضحيتها سبع فتيات اسرائيليات. فهو يعرف ان اجهزة الامن الاردنية العريقة التكوين، والتي لا يشك في قوتها وانضباطها، وفي حرصها على التنفيذ الحرفي لتعليمات قيادتها بحذافيرها، لم تستطع ان تمنع احد افرادها من ارتكاب تلك المجزة. ويخطئ نتنياهو اذا اعتقد ان بامكانه معالجة موضوع القدس وكسر الثقة مع الفلسطينيين بالفهلوة او الرشوات الصغيرة. فلا أمن ولا استقرار ولا علاقات طبيعة في كل المنطقة دون استقرار اوضاع القدس.