كلام نتنياهو اعلان عن بدء الحرب ضد السلام مع الفلسطينيين

بقلم ممدوح نوفل في 14/12/1996

في جلستها الاسبوعية التي عقدتها يوم 13/12/1996 قررت الحكومة الاسرائيلية اعتبار مستوطنات الضفة الغربية وقطاع غزة مناطق تطوير من الدرجة الاولى. بما يعني منح مساعدات وامتيازات وتسهيلات ضريبية واسعة لمجالس المستوطنات وكل سكانها في مجلات الاسكان والصناعة والتربية. وفي رثائه للقتيلين الذين سقطا في عملية سردة ـ بيت ايل التي نفذتها الجبهة الشعبية في ذكرى انطلاقتها التاسعة والعشرون 11/12/ 1996 قال نتنياهو “ان عيش اليهود الى الابد في مستوطنة بيت ايل “الملاصقة لمدينة رام الله” حق مقدس لن نمكن احدا سلبنا اياه، مثله مثل حق اليهود في العيش في حيفا وهرتزيليا على شاطئ البحر. ومن يظن ان بامكانه اجتثاث الشعب اليهودي من ارضه ومن قلب الوطن اليهودي فليعلم باننا سنقتلعه”.. واضاف جملة اخرى “اننا سنطارد ونلاحق القتلة وسنتمكن منهم بعد يوم او اسبوع او سنة”. اعتقد ان قرارات الحكومة وخطاب نتياهو تؤكد خطأ الاعتقاد بان كلام الجنازات عند نتنياهو يختلف عن كلام الاحتفالات والاجتماعات الرسمية. وكافية لاظهار موقع الاستيطان عند الليكود وشركائه في الحكم. ومن البديهي القول ان اقوال نتنياهو اشارة صريحة لكل القوى اليمينية، بضرورة مضاعفة العمل الاستيطاني في الاسابيع والشهور القليلة القادمة وخلق حقائق جديدة على الارض وفق تصورات واقوال شارون وزير البنية التحتية: “انها ساعة العمل الصهيوني الحقيقي، يجب الحفظ على المناطق المطلة على المستوطنات تحت السيادة الاسرائيلية وخلق تواصل استيطاني في ارض الميعاد “يهودا والسامرا “.
لا شك في ان افكار نتنياهو وتصريحات شارون توضح ايضا مفهوم حكومة الليكود لعملية السلام وموقفها من المفاوضات الجارية بين الطرفين. وتظهر نظرتها الحقيقية لاتفاق اوسلو ولطبيعة علاقتها مع السلطة الفلسطينية. ويستطيع كل من يراجع برنامج نتنياهو الانتخابي وبرنامج حكومته الذي قدمته للكنيست وقراراتها المعلنة وغير المعلنة ان يجد تفاصيلهما اذا شاء. فما طرحاه ليست سوى ترجمة امينة لتلك البرامج في مجالين اساسيين هما: دعم وتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية، بغض النظر ن تأثير ذلك على عملية السلام، والشروع في انتهاج اساليب امنية جديدة اوضحها اسحق مرخاي بقولة “سنقوم بالمطاردة الساخنة في اي مكان اذا استدعت الضرورة ذلك”.. صحيح ان مجلس الوزراء الاسرائيلي لم يقرر نظريا اقامة مستوطنات جديدة، الا ان من يدقق في عدد المستوطنات الموجودة حاليا وفي انتشارها في الضفة الغربية، وفي مشروع شارون الداعي الى تسمينها كلها حتى تتصل بعضها ببعض، يرى ان التوجه الذي اقرته الحكومة الاسرائيلية اخطر بكثير من اقامة مستوطنة هنا واخرى هناك. فهو في جوهره يعني زحف استيطاني لكل المستوطنات في كل الاتجاهات حتى ترتبط بعضها ببعض.
اما التعرف على الترجمة العملية الجارية على الارض، “بصمت وهدوء” قبل الاعلان عن القرارات الرسمية، فجولة ميدانية سريعة في محافظات الضفة الغربية من الخليل جنوبا وحتى جنين شمالا مرورا بالقدس وغرب نابلس ومحيط قلقيلية ومناطق الاغوار تكفي لذلك. وتبين لمن يريد ان يرى الحقيقة ان العمل الاستيطاني جار في كل مكان على قدم وساق منذ الغت حكومة نتنياهو قرار حكومة العمل وقف التوسع في الاستيطان. فالمسافر العادي على اي طريق من طرق الضفة الغربية يصطدم يوميا بالنشاط الاستيطاني، وبمتطلبات حياة المستوطنين وسعادتهم.. وهي لا تعد ولا تحصى، وتسعى حكومة نتنياهو جاهدة لتأمينها بكل السبل، بدء بنقاط التفتيش والحواجز الثابتة والمتنقلة المقامة على مداخل كل المدن الفلسطينية المحررة، مرورا بالدوريات المحمولة والراجلة والتي يفوق نشاطها نشاط خلايا النحل في عز الربيع. وانتهاء باصوات الجرافات التي تعمل ليل نهار لتمهيد الاراضي المصادرة حديثا وتوسيع حدود المستوطنات ومزارعها وحدائقها، وشق مزيد من طرق الالتفافية الجديدة لربطها بعضها ببعض، وربطها كلها بالمدن الاسرائيلية الكبرى البعيدة عنها اوالمجاورة لها. ناهيك عن حركة الناقلات الضخمة المحملة بمواد البناء وبالبيوت الجاهزة “الكرفانات”. واذا كان قرار حكومة نتنياهو التعامل مع المستوطنات باعتبارها مناطق تطوير من الدرجة الاولى يمكن اعتباره ترسيم لامور حاصلة على الارض فخطورته المباشرة تكمن في ما يتضمنه من تصعيد لحالة التدهور والتوتر التي تمر بها العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية منذ فتح النفق تحت مدينة القدس. اما خطورته اللاحقة فستظهر من خلال ما سيجري على الارض في السنوات الاربع القادمة وما يليها. فالاستيطان ناهيك عن كونه يهدم احد الاسس الرئيسية التي قامت عليها عملية السلام، فهو بالشكل الذي يخطط له نتنياهو يهدم امكانية الوصول لسلام حقيقي في المستقبل. وينسف في المدى البعيد كل امكانية للتعايش بين الشعبين. ويؤسس لصراع ديني اثني شبيه بالصراع الجاري على ارض البوسنة والهرسك منذ عدة سنوات وراح ضحيته قرابة ربع مليون انسان حتى الان. او بالذي جرى على ارض الجزائر ضد المعمرين “المستوطنين” الفرنسيين. ويفرض واقعا جديدا في الضفة الغربية وقطاع غزة، يجعل تفكير قوى السلام بدولة ديمقراطية ثنائية القومية على ارض فلسطين التاريخية اكثر واقعية من التفكير بدولتين للشعبين “فلسطينية ويهودية”. فالمستوطنات الموجودة “بدون زيادة عدد وبدون تسمين” تقف حاليا عثرة حقيقية امام اي تقدم جوهري في المفاوضات، ويحاول البحاثة عبثا ايجاد حلول واقعية يقبل به الفلسطينيون في المرحلة النهائية. واظن ان طرق البحث عن حل لوجود المستوطنات سوف تقفل تماما بعد اربع سنوات اذا نفذ نتنياهو وشارون برنامجهم الاستيطاني القديم الجديد. وتصبح مستعصية على الحل مثل القدس.
اما الفكرة الثانية التي طرحها نتنياهو في الجنازة في بيت ايل وفصلها اسحق مردخاي، اي المطاردة الساخنة الحرة في مناطق السلطة الفلسطينية، فهي تكرار لما قاله في المناظرة التلفزيونية التي جرت بينه وبين بيريز ابان الحملة الانتخابية حيث قال في حينه ” سيد بيريز لقد اوصلت وضعنا الامني الى درجة منحطة لم يسبق لها مثيل. وهذه نتيجة مباشرة لسياستك البائسة حيث اودعت محاربة الارهاب وأمن اولادنا بيد عرفات ورجاله. انا سأسير بسياسة مختلفة، سأعيد المسؤولية عن الامن لايدي الجيش والشباك”. والكل يعرف ان هذا المطلب الاسرائيلي كان ومازال احد العقبات الاساسية التي عطلت التوصل الى آلية تنفيذ الاتفاق القديم بشأن الانسحاب من مدينة الخليل. وهو اعادة وتكرار لما يطرحه يوميا المفاوض الاسرائيلي في المفاوضات وزهق سماعه صائب عريقات والوفد الفلسطيني المفاوض. لقد رفض المفاوض الفلسطيني هذا الطلب مرات ومرات واعتبره تعديل جوهري في اتفاق تم التوقيع عليه. هدفه ابعد واكبر من قصة “ابريق الزيت” الحفاظ على امن المستوطنيين. ولا يحتاج الامر لذكاء خارق للقول بانه يرمي الى انهاء مظاهر السيادة التي منحها اتفاق اوسلو وما لحقة من اتفاقات تفصيلية للسلطة الفسطينية. وانهاء اشكال السيادة التي تمارسها الان السلطة وأجهزتها الامنية والمدنية في المنطقة “أ” اي المدن الرئيسية التي جلى عنها الاحتلال.
والجديد في خطاب نتنياهو وفي تصريحات اسحق مردخاي هو اعطاء الضوء الخضر للجيش وللاجهزة الامنية الاخرى للشروع في التطبيق. واعلان النية عن الشروع في التطبيق يساوي في العلم العسكري الاعلان عن الحرب. اما الشروع في تطبيقها فيعني اشعال فتيل الحرب الدموية وبدء الاشتباكات بين الجيش الاسرائيلي وقوات الامن الوطني الفلسطيني والاجهزة الامنية الفلسطينية الاخرى. لاسيما وان تعليمات القيادة الفلسطينية لقوات الامن الوطني وبقية افرع الامن الاخرى واضحة تنص بوضوح على التصدي بالقوة لكل قوة اسرائيلية تحاول الدخول الى المناطق الخاضعة للسيادة والسيطرة الفلسطينية والمحددة في الاتفاقات الموقعة بين الطرفين. ولا يمكن للسلطة ان تقبل باي حال من الاحوال بالتوجهات الاسرائيلية ليس لانها مخالفة للاتفاقات فقط وتقوضها وتنسف اسس عملية السلام، بل لانها تقوض اسس وجود سلطة وطنية فلسطينية، وتحولها الى سلطة عميلة شبيهة بسلطة انطوان لحد في جنوب لبنان. ولانها تثير علامات استفهام كثيرة حول المفهوم الاسرائيلي للأمن داخل مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية: هل هو من واجبات وصلاحيات السلطة الفلسطينية واجهزتها الامنية أم الاجهزة الامنية الاسرائيلية؟ وهل انهاء العنف الفلسطيني ضد اسرائيل والاسرائيليين من داخل مناطق السلطة الفلسطيينية مسؤولية فلسطينية أم اسرائيلية ؟ والاهم من ذلك كله هل إنهاء هذا الشكل من النشاط يتم بالمطارة والملاحقة والقتل أم بالطرق السياسية ومن ضمنها الحوار والتقدم في المفاوضات واحترام الاتفاقات الموقعة بين الطرفين؟
واذا كان من الصعب معرفة متى واين ستبدأ المصادمات القادمة بين السلطة والشعب من جهة والقوات الاسرائيلية من جهة اخرى وعلى اية خلفية ستندلع الا ان الواضح ان نتنياهو لن يتراجع عن موقفه، وقد اعد العدة اللازمة للصدام الجديد منذ هبه النفق. وسيحاول جاهدا الانتقام من اجزة الامن الفلسطينية التي تجرأت واطلقت النار على الجيش الاسرائيلي ابان معركة النفق. ولا اتجنى على احد اذا قلت انه كان ينتظر اللحظة المناسبة ليشعل الضوء الاخضر امام الاجهزة الامنية الاسرائيلية. وان عملية الجبهة الشعبية سقطت عليه من السماء.. صحيح ان اسباب الاحتقان والتفجير في الارض الفلسطينية ينبع اولا من وجود الاحتلال وممارساته اليومية، لكن الموضوعية تفرض رؤية الوجه الاخر المكمل للصورة. قبل العملية كان نتنياهو يواجه مأزقا سياسيا كبيرا على الصعيدين الداخلي والخارجي. وكان متهما بأنه يعرقل تقدم عملية السلام، وكانت كل القوى الاقليمية والدولية ترفض المبررات التي يطرحها. وجاءت العملية لتقدم له هدية كان ينتظرها، يستر بها ذرائعه ومبرراته الواهية. ولتساعده في مواجهة مواقف قوى السلام في اسرائيل التي كانت تضط عليه من اجل الالتزام بتنفبذ تعهدات الحكومة السابق. وايضا مواجهة الضغوط الدولية والعربية التي تضغط بذات الاتجاه. اما على الصعيد الداخلي الفلسطيني فيمكن القول اذا كانت الجبهة الشعبية تسعى لحشر السلطة في علاقاتها مع الجانب الاسرائيلي في زاوية ضيقة، فالعملية لم تساهم تطوير الحركة الجماهيرية التي كانت تسير باتجاه صاعد في مواجهة الاستيطان وأظن انها ساهمت في اضعافها. واضعاف الموقف الفلسطيني اسرائيليا ودوليا وهذا لا يخدم اهداف النضال الكبرى التي يناضل جميع الفلسطينيين من اجل تحقيقها. وبصرف النظر عن نوايا المنفذين والمخطيين لها تبقى عملية بيت ايل فعل خاطئ في توقيت خاطئ تماما. وتشبه في توقيتها ونتائجها الى حد كبير محاولة اغتيال السفير الاسرائيلي في بريطانيا على ابواب حرب 1982 التي وقعت ضد م ت ف على الاراضي البنانية. والمهم الان ان يتعاون الجميع في مواجهة ما هو قادم على الارض الفلسطينية. فكلام الليل عند نتنياهو لا يمحوه النهار. والمستوطنون لن يكتفوا بالانتقام في عهد نتنياهو بقتل وجرح عدد قليل من العمال فلسطيني ألزمهم الفقر الجوع على التواجد في اسرائيل يوم وقوع العملية.